قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل مئة وتسعة

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل مئة وتسعة

رواية صرخات أنثى للكاتبة آية محمد رفعت الفصل مئة وتسعة

نزع القفازات الرياضية عن أصابعه ببطءٍ، ومن ثم حرر الصنبور المحاط بالحامل الخشبي الأنيق، شرد عُمران بوابل المياه المنهمر منه، ورأسه يحوم بين متسع من الأحاديث المترددة، للاشخاص الذي سبق له التعرف عليهم، فأنحنى برأسه أسفل الصنوبر، تاركًا المياه تغطي شعره النابت، فإذا بأنفاسه تنسحب تدريجيًا، وكأنه يغرق أسفل المياه!

تحرك جسده بعنفوانٍ من أسفل الصنوبر، وكأنه تناسى أنه يغتسل وبإمكانه رفع رأسه عن الحوض، ولكن الأمر ازداد خطورة، وتحول لبحر هائل من الأمواج، يصارع فيه الغرق والنجاة، وفجأة شعر بكف صلب يسحبه بعيدًا عما قبع به، فسحب نفسًا طويلًا يجدد إحتباس الاكسجين عنه، عدة مرات متتالية، حتى استطاع أن يلتقط صوت إيثان القلق: خواجة مالك؟

هدأت أنفاسه الصاخبة تدريجيًا، وقد استعاد كامل ثباته، باستقامة جسده العضلي، بينما يجذب المنشفة يمسح وجهه وصدره العاري بهدوء لحق نبرته: مفيش. أنا كويس يا إيثان.

لحق به للخزانة المتطرفة بغرفة تبديل الملابس بالجيم، وقال بشكٍ: متأكد؟

هز رأسه بخفةٍ، وسحب ملابسه يرتديها بهدوءٍ مخادع، يضع من خلفه تلك الذكريات القصيرة عن رحلة غرقه بين أمواج المياه، وكأن الحادث كان بالأمس!

انتهى من ارتداء ملابسه، ونثر البرفيوم الخاص به، فإذا بإيثان يجلس على طرف الطاولة الخشبية الفاصلة بين الأحواض، ويهتف بإعجابٍ: تعرف إن شكلك بالشعر المنبت أحلى من وهو طويل، حاسك زي ما تكون مدرب في الجيم بصحيح.

طالعه بنظرةٍ ساخرة وقال وهو يجمع أغراضه بالحقيبة الصغيرة التي وجدها بالخزانة الخاصة به هنا: مش مهم إنت حاببني بأي شكل، الأهم أنا حابب أشوف نفسي على أيه.

تمكنت الدهشة منه بشكلٍ مضحك: يا أخي مهما حاولت أقتنع أنك فاقد الذاكرة مش قادر أقتنع ولا انت قادر تقنعني بطولة لسانك وغرورك ده.

استدار مقابله وأحاطه بنظرة متعالية: وإنت شاغل أمك بيا ليه؟ هتطلع ليا بطاقة ولا جواز سفر؟

زم شفتيه بحنقٍ: لم ريشك يا طاووس، أنا مش عارف أجاريك في أي وضع، مرضي كده؟

رفع نظارته السوداء يرتديها بعنجهيةٍ زادت من جاذبيته: هفكر وأرد عليك.

وأضاف وهو يخرج من الباب ببرود: سلام يا إيثوو.

لوى شفتيه بتهكمٍ، بينما هبط عُمران للاسفل حيث كان آيوب في انتظاره، وما أن رآه حتى هرول إليه مبتسمًا، فانتقلت الابتسامة لوجه عُمران بتلقائيةٍ، وقال: هو أنت متعود كل ما تشوفني تجري عليا زي الطفل اللي بيقابل أبوه كده؟

ضحك آيوب، وشاكسه: طول ما انت ناصفني على إيثووو إنت أبويا وأخويا وصاحبي وكفاءة، إنت عارف أنك الوحيد اللي بتطير جبهته خالص، ده يونس نفسه مبيسدش قدامه.

وأضاف وهو يمشي بمحاذاته: وبعدين إنت أي حد بيجي عندك وبيدوس فرامل لتدوسه.

اتسعت ابتسامته لفرحة آيوب الظاهرة، ولحق به حتى وصلوا لذلك الكشك الصغير، فإذا بسيده تخرج مبتهجة المعالم: يا مرحب يا بشمهندز، ليك وحشة والله.

استراب عُمران من أمرها، وتطلع إلى آيوب الذي همس له: الحارة كلها تعرفك، إنت عشرة عمر يا طاووس!

هز رأسه بخفة، ورسم ابتسامة لتلك السيدة، التي أسرعت تخبره في همةٍ: أنا عارفة طلبك، دقايق وهجهزلك أحلى سندوتشات فول وطعمية.

وتركتهما وعادت تهرول للكشك الصغير، بينما يميل عُمران جوار آيوب في انتظار ما ستعده تلك السيدة.

زرعت الردهة ذهابًا وإيابًا، وهي لا تستوعب ما يحدث لها منذ الصباح، وكلما حاولت الولوج للمرحاض هرولت راكضة للخارج، الحيرة والتردد يسيطران على ملامحها، حتى أنتهت معاناتها فاتجهت صوب الفراش تناديه بعنفوانٍ: آدهم!

فتح عينيه بانزعاجٍ، يطالعها بنعاسٍ، بينما يزيح الغطاء عن جسده: شمس! إنتِ كويسة؟

أجابته ببرودٍ تام: لأ.

أعاد خصلاته المتمردة للخلف، واستقام بجلسته يحاول استعادة اتزانه الغائب عنه، متسائلًا باهتمامٍ: مالك طيب؟

ردت بحيرةٍ وهي تقيد يديها أمام صدرها: مش عارفة، بس تقريبًا مش طايقة ريحة الشامبو ولا الغسول بتاعك، حتى الشاور، بص هو تقريبًا كده أنا مش طايقة الحمام كله، فقوم اتصرف وشيل اللي تقدر عليه عشان محتاجة أخد شاور قبل ما أنزل.

أسبل في دهشةٍ، وهتف بسخرية: طيب ولما أنا هشيل كل ده هتأخدي إنتِ شاور بأيه؟

ردت ببسمة واسعة أضحكته: هعتزل كل المنظفات لحد بعد الولادة!

استقام بوقفته قبالتها بعدم تصديق: معقول!

هزت رأسها تؤكد له، وأضافت بدلال سلب بقايا النوم عنه: ومش بس كده، سيادة المقدم هينزل بنفسه يحضرلي أومليت من صنع إيده.

حك لحيته النابتة بمكر: هو شمس هانم طلباتها أوامر وكل حاجة، بس مش حاسة إن الحوار بدأ بدري، دي نتيجة الحمل لسه جايبنها من يومين يا شمسي!

امتلأت زُرقتها بوميض الغاضب، وسألته: أنت بطلت تحبني يا آدهم؟ كل ده عشان طلبت منك أومليت، خلاص مش عايزة منك حاجة، أنا هنزل أعمل لنفسي ولإبني.

عبث في صدمةٍ: ابنك! بتحاولي تطلعيني أب سييء من بداية الطريق، عايزة الولد يكرهني من قبل ما يشوفني يا شمس!

وأضاف وهو ينحني جاذبًا التيشرت الخاص به، يرتديه وهو يتمتم بسخطٍ: البداية غير مُبشرة بالمرة!

مشط خصلاته بفوضوية، وانطلق ليغادر الجناح، فاذا بها تصيح بغضب: شيل حاجتك من الحمام قبل ما تنزل.

استدار يطلعها بذهولٍ، وتمتم ساخطًا: يعني منظفاتي أنا اللي قالبة معدة شمس هانم! وبالنسبة لمنظفاتك وضعها أيه؟

ردت بتلقائية أبادته: دي براند ومش هقدر أستغني عنها.

ضحك مستهزأ من حديثها: يعني حاجتك براند وحاجتي متصنعة تحت بير السلم يعني!

تأففت بضيقٍ من صدق حديثه، فاذا بها تواليه ظهرها، وبدأت تتمتم بصوتٍ لم يكن مسموعًا له، ولكنه فطن بمراجعتها لقرارها القاس، عادت تستدير له قائلة على مضضٍ: خلاص لم كل حاجة في بوكس كبير لحد ما أتقبل الروايح دي، بس براحة على حاجتي بليز، عُمران نسى كل حاجة وأكيد مش هعرف أخليه يعملي أوردر تاني بيهم.

قالتها بآسفٍ أمطره بوابل من الضحكات، التي تخلت عنه فور أن سددته بنظرةٍ حازمة، فإنحنى بقامته الطويلة هادرًا بخشونة: تحت أمرك شمس هانم، هحسس عليهم بمنتهى الحنان وأنا بحطهم في البوكس حاضر، أي أوامر تانية؟

وأستطرد بصوتٍ هادئ مغري: في شغلي إترقيت وبقيت من أصحاب إصدار الأوامر وهنا عبد مطيع لأوامر شمس هانم!

قالها وانطلق لحمام الجناح، حاملًا حقيبة ضخمة، يضع بها البرفيوم الخاص بها وبه، ومتعلقاتهما الشخصية بحرصٍ حتى لا يقع فريسة لغضب هرموناتها الغير مستقرة الآن!

أغلقت عينيها بانسجامٍ لتلك النسمات الباردة التي لفحت وجهها، بينما تميل بجسدها خارج السور، تترك برودة الاجواء تطفئ نيران ألمها، لقد عانت طوال تلك الأيام حتى تلك اللحظة، مازالت تصمد صمود الجبال رغم أنها كائن هاش ورقيق.

تدفقت عنها دمعة عبرت عن مرارة ما تخوضه بالفترة الأخيرة، وما منها الا أن مسحتها بكل قوة، وجعها الذي ينزف داخل قلبها هي وحدها القادرة على بتره، وإذا بحجابها يتساقط أرضًا، حينما هبت رياح قوية، فتحت مايا عينيها تبحث خلفها عما سقط منها، فاذا بمن تقترب حاملة حجابها المتحرر، تلفه حول رأسها والحزن يلمع بزُرقة عينيها، رسمت مايا ابتسامة مصطنعة وهمست: فريدة هانم!

حررت صوتها المبحوح عنها، وقالت: متخدعنيش بابتسامتك دي، أنا حسيت بوجعك من أول ما عنيا جت عليكي.

استدارت تجاه سور التراس مجددًا، قائلة ببسمة لم تصل لعينيها: وجع أيه بس، أنا كويسة جدًا على فكرة.

وقفت جوارها تميل بقامتها المثالية على السور، وردت بوجعٍ اخترق نبرتها الرقيقة: شكلك نسيتي إنك تربية إيدي يا مايا، لو مثلتي على الدنيا كلها مش هتقدري تمثلي على أمك اللي ربيتك.

وتابعت ببسمة تعاكس حزن عينيها: من لما حملت في على وأنا كنت بتمنى أخلف بنت، بس ربنا مأردش وكرمني بيه، والامنية دي فضلت جوايا حتى في حملي بعمران بس بردو جبت ولد، استسلمت وقولت خلاص لحد ما جيتي إنتِ، كنت فرحانه بيكِ يمكن أكتر من أختي الله يرحمها، أنا اللي اختارتلك إسمك، ولبسك وكل شيء خاص بيكِ.

واستدارت تتطلع لها بآعين تنبع بالحب، فنجحت باخترق قلبها المهزوم: أنتِ كنتِ السبب اللي خلاني أرجع لمصر تاني بعد ما أقسمت إني مستحيل هرجع ليها، كنت بخاف أشوف أحمد وأتوجع من تاني، بس مهمنيش غيرك، أنا اتعلقت بيكِ بشكل خلاني بتمنى إنك تكوني بنتي أنا يا ميسان!

ابتسمت مايا ودموعها مازالت تنزف على وجهها، بينما تستكمل فريدة، وهي تسحب نفسًا ثقيلًا عليها: لما أختي توفت مسؤولياتي نحيتك زادت، وحبي ليكِ اتضاعف بشكل انا متخيلتوش، حتى بعد ولادتي لشمس تعلقي بيكِ مخفش، وكتير طلبت من عثمان يخليكي تعيشي معايا في لندن بس موافقش الا لما دخلتي الجامعة.

وأضافت وابتسامتها تنير وجهها: كنت عارفة إن الايام اللي هتقضيها معانا هتخليكي ترفضي تنزلي مصر، حتى لو حبيتي تنزلي أنا كنت همنعك، لإني خلاص مبقتش قادرة أعيش من غيرك.

انهمرت دمعات مايا تدريجيًا، ومع كل ذكرى تقصها خالتها كانت ترى أفق الماضي يلوح قبالتها، بينما تستطرد فريدة بحبورٍ: خوفي كان بيزيد كل ما معاد تخرجك من الجامعة بيقرب، ووقتها أخدت قرار إنك تكوني لحد من ولادي عشان تكوني جنبي على طول، أفتكر وقتها كان كل تفكيري منصوب على علي، فكنت مرتاحة إن مهمتي هتكون سهلة مش صعبة.

واضافت وهي تطالعها ببسمة مكر، جعلت مايا تبتسم رغمًا عنها: بس إنتِ عيونك مكنتش شايفة غير عُمران!، اختارتي العنيد اللي مطلع عنيا، ومع ذلك دخلت معاه في حرب طويلة كسبتها بجوازه منك، وكلي يقين إنك هتغيري فيه كتير، لإنك تربية ايدي وأنا واثقة إنك مش هتحتاجي حتى لمساعدتي.

وتمتمت بنغزة ضربت قلبها قسوة: أنا حاربت الدنيا بطولي وأنا فاكرة إن شخصيتي قوية، بس في كل مرة كان بيظهر فيها أحمد كانت بتنتهي أسطورة الست القوية اللي كنت مخدوعة فيها، عشت عمري كله موجوعة يا مايا، عشان كده كنت بتمنى من جوه قلبي متعشيش اللي أنا عشته، كنت بعمل كل اللي أقدر عليه عشان أبعد عُمران عن سكة الحية اللي خربت حياته دي، والنهاية كانت معاكي إنتِ، وده ريح قلبي.

رفعت كفها تحيط كتفها بحنانٍ أحاط مايا بحبٍ: الفترة اللي فاتت دي كانت صعبة عليكي، أنا كمان ضغطت عليكي بس والله ده من خوفي عليكي من غير عُمران، تعرفي إني لما هديت فرحت برد فعلك معايا، واتمنيت الزمن يرجع بيا وأعمل نفس اللي إنتِ عملتيه!

واتسعت ابتسامتها الجذابة، وهي تستطرد: كبرتي في نظري أوي يا مايا، وحسيت أن اللي فشلت اعمله زرعته في بنتي، اللي وقفت وحاربت الدنيا كلها لحد اللحظة دي بتحارب عشان حبها، فبعد كل ده يصعب عليا أشوف الحزن جوه عيونك، وأحس إنك معدتيش قادرة تكملي، صعب عليا أتحمل أشوفك كده!

تحرر صوت بكائها أخيرًا، واندفعت صوبها تتعلق برقبتها، وتشكو انكسارها إليها، ضمتها فريدة وقد شاركتها البكاء تأثرًا بها، طبطبت عليها بكلماتها الهادئة: عدينا بالصعب يا مايا، اللي بنعيشه دلوقتي هين عن اللي قبله وهيعدي، صدقيني يا حبيبتي هيعدي.

هدأتها حتى توقفت عن البكاء، وأبعدتها تتأكد بأنها قد ازاحت دموعها، دعمتها فريدة حتى جلست قبالتها على المقعد المحيط للطاولة البيضاوية، وعادت تبتسم في وجهها، فابتسمت فريدة وقالت بفرحة: أيوه كده مش عايزة أشوفك بالضعف ده تاني، والا هروح أجيب الواد ده من ودانه وشوفي هعمل فيه أيه قدامك، وانتي عارفة إن لسانه يطول على الدنيا كلها الا فريدة هانم الغرباوي!

ضحكت بصوتها كله وردت: طبعًا، هو مين أصلًا يجرأ يعلي صوته على حضرتك؟

أرضت غرورها، فرفعت ساقًا فوق الاخرى وهي تبسط تنورتها الراقية بخفة: مفيش طبعًا.

زوت مايا حاجبيها وهمست بخفوت: شوفي حطت رجل على رجل ازاي، ده أنا بحاول من الشهر السادس اعملها مش جاية معايا، هو أنا بطني كبيرة للدرجادي!

استمعت لهسيسها الغير مفهوم، فتساءلت: بتقولي حاجة يا مايا؟

نفت سريعًا، قائلة: ابدًا، هكون بقول أيه يعني!

حركت رأسها بعدم اكتراث، وقالت بفضول: قوليلي بقى أيه اللي مزعلك كده، ومتحاوليش تلفي وتدوري عليا، عشان لو قولتي سبب تافه هقتلك حالًا، أنا بسببك رجعت للبكى تاني ومصدقت بشرتي رجعت لنضارتها تاني بعد رجوع عُمران، فحالًا تذكريلي أسباب تخليني أعفو عنك.

زمت شفتيها بسخطٍ لحق نبرتها الحادة: ابنك بدل ما يفتكرني أفتكر ألكس الحرباية، لا والذاكرة المرادي كانت قوية وجابتله لون شعرها!

تجهمت معالمها بغضبٍ، فاذا بها تهدر بانفعالٍ: هي الحية دي ورانا ورانا، مش هنخلص منها!، انا مش عارفة أعمل في الولد ده إيه عشان ينساها!

عدلت من أطرف حجابها من حول رقبتها، وقالت بتفاخرٍ: لا متقلقيش أنا عملت.

انصاعت لقولها، وتساءلت في فضولٍ: عملتي أيه؟

بابتسامة واسعة قالت: اديته بالشبشب!

توسعت زُرقتها في صدمة، بل تجمدت جمود الموتى بشكلٍ جعل عداد مايا يصفر كالقنبلة التي توشك على الفتك بمن حولها، فاذا بها تبعد المقعد، وتستند على الطاولة حتى استقامت بوقفتها تردد بهلعٍ: طيب عن إذنك يا فريدة هانم، هلحق على قبل ما ينزل المركز، هروح معاه أكشف عند دكتور يوسف، أصل في وجع بعيد عنك هيموتني من امبارح، باينها بوادر شلل رباعي بعد اللي ابنك عمله معايا، يلا سلام مؤقت يا روح قلبي.

خطوتان استطاعت بهما الهروب، وإذا بها تسقط بين يدي فريدة التي رفعت ياقة قميصها الذي ترتديه من فوق تنورتها الفضفاضة، بينما تصرخ في صدمة: إنتِ مسكتي الشوذ ورفعتيه على جوزك! على ابني أنا!

رسمت ابتسامة بلهاء، ورددت: إنتِ مش لسه من شوية كنتِ بتأكديلي أني بنتك وآنك بتحبيني أكتر منهم، في أم ترضى إن جوز بنتها يتغزل في حرباية قدامها؟ لو كنتي أم مصرية جدعه كنتِ إنتِ اللي هتناوليني الشوذ وتقوليلي ربيه!

هزت فريدة رأسها بتأكيدٍ، وانحنت تنزع حذائها ذو الكعب المتوسط، ثم قالت: هو هيترفع فعلًا بس عشان أعيد تربيتك.

راقبت مايا ما تحمله، ثم قالت بضيق: إنتِ في التاسع ولابسة الكعب ده ازاي، ده أنا من الرابع وببص عليه من بعيد وبفكر نفسي إن ممنوع الاقتراب واللمس الا بعد سنتين من الولادة، فريدة هانم إنتي جابوكي في عنبر الحوامل غلط، أنا ببصلك وبحاول اقتنع إنك حامل بس مش جاي معايا غير إنك تشخيص غلط ومش هتطلعي حامل نهائي، الحل إني اشوف البيبي بنفسي عشان أتاكد!

حاولت فريدة تحليل حديثها بأكمله، فإذا بالصدمات تنهال من فوقها مما تستمع إليه، كلما ضاعفت العقاب تزيد منه حتى تيقنت بأنها ستقتلها في الحال.

هرولت خلفها فركضت مايا للمصعد، وأشارت لها قبل أن ينغلق: للاسف معنديش اللياقة أجري على السلالم، إركبي الاسانسير اللي جنبي وحصليني على تحت بقى!

اجتمع الشباب جمعهم بشقة عُمران، وقد أعد إيثان أسياخ لشواء الدجاج، بينما وصل جمال باللحوم، وأتجه به للمطبخ، حيث كان يوسف يجهز الطعام ببراعة.

وضع جمال الاغراض من يديه لآيوب الذي وضعهم على رخامة المطبخ، وشرع كلاهما بسكب الاغراض، بينما على طاولة المطبخ يتابعهم عُمران وهو يقطع طبق الخضروات، وفجأة تعالت ضحكاته وهو يراقب يوسف الذي يقطع البصل بدموع عينيه، فقال يشاكسه: أي مساعدة يا شيف چو!

ترك السكين عن يده، وهدر بعنفوان: على أساس إنك هتتنازل وهتقف تقطع بصل مثلًا!

جذب قطعة الخيار يلتهمها وهو يجيبه: لا بس على الاقل برفع معنوياتك بالسؤال عشان متحسش إنك لوحدك!

ضحك جمال وإتجه يجذب المقعد من جواره، قائلًا: طول عمرك رافع معنوياتنا كلنا.

وتابع ما يفعله بتركيزٍ واسترابة: عُمران الخضروات دي مش هتكفي السلطة، كده هتبقى قليلة، احنا عددنا كبير.

دفع السكين بقطعة الجزر، وتناولها ببطءٍ وهو يخبره: ومين قال إن السلطة دي ليكم! أنا مبعملش غير الحاجة اللي أنا هأكلها، أنا مش متبنيكم أنا!

تحررت ضحكات آيوب ويوسف بينما يتابعه جمال بغيظٍ، ازداد حينما أشار له عُمران: قوم جهز الطحينة يا جمال، أنا عندي احساس إني بحبها!

وضع إيثان الحطب بالشواية، وتمتم بتذمر: قوم هز طولك واعمل حاجة، بدل ما أنت قاعد تتشرط وتتأمر كده.

دفع المقعد للخلف قليلًا، ولف رقبته تجاهه، ثم قال ببرود: أنا أعمل اللي يعجبني ولو كترت في كلامك ده هخليك تقطع البصل بدل يوسف، ده لو عاجب سيادتك يعني!

وأضاف وهو يعود لتناول ما بيده بطرف السكين ونظرة متلاعبة: وبعدين أنا واخد استراحة رسمية من الدكتور بتاعي.

التفت له يوسف يتساءل بجدية: دكتور مين يا عُمران؟

اجابه وهو يلتهم الخيار بتلذذٍ اغاظ إيثان: بابا على قالي ده بنفسه، تحب أرنلك عليه يأكدلك كلامي يا إيثو؟

ضحك يوسف ومال يهمس لجمال: شكل آيوب موصي على إيثان توصية جامدة.

ابتسم وتمتم بسخرية: باين من السعادة اللي ملية عينه، بص جنبك.

التفت يوسف تجاه آيوب، فوجده يغمز لعُمران بفرحة وحماس، ضحك على مشاكساته التي لن تنتهي بينه وبين إيثان، وعاد يصنع ما يفعل حتى انتهى منه، فحمل الدجاج المقطع ووضعه على الشواية التي صنعها إيثان.

توقف المصعد بالطابق السفلي، فاذا بالخادمة تدفع طاولة الطعام، وما أن رأت مايا حتى أشارت له بابتسامة طيبة: الطعام جاهز بغرفة السفرة سيدتي، والجميع بانتظارك.

وكأنها نجاتها تحمل لها بشارة، فاندفعت صوب الغرفة، فوجدت على يجلس جوار أحمد الذي يعتلي رأس الطاولة، وقبالته تجلس فاطمة، التي أشارت لها على المقعد الذي يجاورها قائلة: واخيرًا نزلتي مرة بدري، تعالي.

أغلقت مايا الباب من خلفها، بعدما تفحصت الطريق بالخارج بعناية، وركضت تجاههم بشكلٍ مضحك، تعجب أحمد وعلى من حالتها الغامضة، حيث كانت تدفع المقاعد بعيدًا عن الطاولة، فلماذا ستحتاج للجلوس على كل تلك المقاعد، قطع صوت على الرجولي الصمت المطبق، حينما تساءل باستغراب: بتعملي أيه يا مايا؟

رفعت ظهرها بتعبٍ، وأشارت له لاهثة: إبعد الكرسي ده يا على الله يكرمك ضهري مش قادره.

بثباته الهادئ تساءل: أفهم طيب بتبعدي كل الكراسي دول ليه؟

صاحت بغضب وهي تراقب باب الغرفة بخوف: هتبعده ولا أتصرف أنا.

لكز أحمد على برفق: شيله يا علي، انا قلبي مش مطمن للي بيحصل ربنا يستر.

حمل على المقعد للخلف، فإذا بزوجة اخيه تنحني وتختبئ أسفل الطاولة، مشيرة له: رجعهم مكانهم بسرعة.

مرر على بصره نحوها ونحو المقاعد، ثم انحنى قبالتها يخبرها بهدوء حذر: عملتي أيه يا مايا؟

قضمت ظافرها وهي تحاول إيجاد ما ستخبره به، بينما تكاد فاطمة أن تنهار من الضحك على مظهرها، فاذا به تتمتم بسخط: معملتش حاجة، أنا بس اللي حظي ضلم فجأة، رجع الكراسي وإبقى أفتح جلستك النفسية دي بعدين.

تمتم أحمد بشفقة: لا حول ولاقوة الابالله العلي العظيم، يا بنتي اطلعي القعدة دي مش مريحة لا ليكِ ولا للي في بطنك.

أضافت فاطمة وهي تمد يدها إليها: اطلعي يا حبيبتي واحكيلنا بس مالك وإن شاء الله هنحل الموضوع، صح يا علي؟

ابتسم لها وقال: والله على ما بقى عارف يحل أيه ولا أيه يا فطيمة!

انطلق صوت فريدة الغاضب تنادي من الخارج: مايا، اطلعي قدامي حالًا والا هعرف أجيبك ازاي.

اتسعت المُقل في صدمة، فهمست مايا برجاء: سمعتوا، رجعوا الكراسي بسرعة قبل ما تلاقيني.

اسرع أحمد بإعادة المقاعد قائلًا بصدمة: عملتي أيه يا مايا!

مدت رقبتها من بين المقاعد تخبره ببراءة زائفة: أنا بريئة يا أنكل، مراتك اللي عصبية زيادة عن اللزوم.

منع على ضحكاته بصعوبة، وهو يعيد أخر مقعد جوار المقعد الذي وضعه عمه، وفور ان انفتح الباب عاد ثلاثتهم يتناولون الطعام بهدوء، وكأن شيئًا لم يكن!

اتجهت فريدة صوبهم، تمرر بصرها بين أنحاء الغرفة الواسعة، وبوجومٍ سألت: مايا فين؟

وضعت فاطمة ملعقتها وقالت: مش عارفة.

اتجه بصرها لزوجها الذي ابتلع ريقه بتوتر، وتمتم: مشفتهاش من ساعة ما عُمران رجع، شكلها بتجتهد عشان تساعده يفتكرها ويفتكرنا كلنا.

أحمر وجه على من فرط كبته للضحك، وخاصة حينما اتجهت أعين فريدة إليه، ذاك الخلوق الذي يفشل بالكذب، وقبل أن تستجوبه نهض يجذب كفها برقة للمقعد الذي يصف بنهاية السفرة، أمام مقعد زوجها، قائلًا بلطفٍ: الأكل هيبرد وحضرتك بتحبيه سخن، إتفضلي ارتاحي وأنا هجهزلك طبقك.

أمام عرضه النبيل لم تستطيع الرفض، جلست وبالفعل صنع على لها الطبق ووضعه قبالتها، ثم عاد لمقعده، نهضت فاطمة تعد طبقًا لها هي الاخرى، فاذا بفريدة تخطف نظرة لمحلها، فوجدت طبقها موضوع ويكاد يكون الطعام بأكمله، فسألتها في شكٍ: لمين الطبق ده يا فاطمة؟

ارتعبت نظراتها في خوف، واتجهت لعلي قبل أن تنطق على استحياء مصطنع: ليا يا طنط، حاسة إني جعانه جدًا والأكل اللي معايا مش هيكفيني.

منحته فريدة بسمة حنونة، وقالت: ألف هنا ليكِ وللبيبي يا حبيبتي، ارتاحي مكانك وعلى هيعملك الطبق بنفسه.

قالتها وأشارت لعلي الذي نهض بالفعل، يلتقط الطبق من زوجته، ويسكب لها الطعام، ثم عاد يضعه قبالته، فجذبته واستغلت انشغال فريدة بطعامها، وسربته من أسفل الطاولة لمايا، التي التقطته على مضضٍ، وهي تتمتم من بين اصطكاك أسنانها: فريدة هانم أم ذمتين، فاطمة ألف هنا لقلبك وأنا كرشك دلدل وبان!

وأضافت بغيظٍ: يعني هي حامل في بيبي وأنا حامل في بوبي!

ومالت بنظرات حالمة: فينك يا عُمران، بس بنسختك القديمة، الجديدة دي هتجلطني!

ومالت تجاه ساق فاطمة تهز فستانها وهي تهمس بحنق: فين الشوكة هأكل بايديا!

رفع على المنديل على فمه يتظاهر بمسح فمه من بقايا الطعام، بينما يكاد يسقط من فرط الضحك، ومن حظها أن فريدة تجلس بنهاية السفرة الكبيرة.

سحبت فاطمة شوكة نظيفة ومدتها لها من أسفل المفرش، بينما يجاهد أحمد للتضليل عنها، فاذا به يقول: أجبلك عصير يا فيري؟

هزت رأسها نافية، وقالت بتوعد: أنا مش عايزة أكل أساسًا بس مش قادرة أكسف علي، هأكل حاجات بسيطة وهقوم ألف القصر حتة حتة على مقصوفة الرقبة اللي مش عرفت أربيها دي، مش قادرة أصدق إن بنتي أنا ترفع الشوذ على جوزها!

سقط الكوب من يد أحمد، وتوسعت عيني فاطمة وعلي، بينما تستكمل مايا تناول طعامها بنهمٍ غير عابئة بما يُقال، وكأنها تتحدث عن فتاة أخرى!

ضمت فريدة يديها على الطاولة، ومالت تستند عليهما بذقنها، هاتفة بارتباك: عُمران مستحيل يتقبل بالوضع ده عادي، ده مش ابني لأ!

احتبس الطعام بجوف مايا، واذا بها تسعل، وكلما على سعالها تصنعت فاطمة أنها تسعل، حتى لا تستمع فريدة لها.

سحب على زجاجة من المياه، ودفعها من أسفل الطاولة، فالتقطتها مايا وتجرعتها ببطء، وهي تهتف بتذمر: أنا مكنش لازم أحكيلها على اللي حصل، الندم بدأ يهاجمني.

إدعى أحمد أن الملعقة سقطت منه، وانحنى يجذبها، فتفاجئ بمايا تتناول طعامها بهدوء وكأنها لم ترتكب جناية، فقال ساخرًا: وليكِ نفس تاكلي، ده احنا بنتشاهد على روحك فوق!

ردت عليه بضيق: فريدة هانم كالعادة إنحازت لابنها يا أنكل!

رد عليها بعدوان: دي مش ملحوظة جديدة ليكِ، بتسلمي رقبتك ليها ليه وإنتِ عارفة الكلام ده؟

قالها واستقام بجلسته، يتابع فريدة التي قالت: أنا عايزة أعرف هي راحت فين، صوفيا قالتلي أنها شافتها داخله هنا، وانتوا بتقولوا مشفناش حد!

قال على يشتت عنها الحديث: اهدي بس يا حبيبتي، العصبية غلط عشانك.

أتاهم صوتًا مطلوب حيًا لمن يبحث عنه يصيح باستهزاء: متخافش يا على كل شيء ممكن يأثر على الحوامل مش هيعمل مفعول مع فريدة هانم، اطمن.

اتسعت الأعين صدمة، وخاصة حينما ألقت فريدة المقاعد وانحنت تراقب تلك التي زحفت لمقعد فاطمة التي تحاول اخراجها قبل أن تقبض عليها فريدة.

اختبأت خلف فاطمة، بينما تصيح الاخيرة وهي تحاول الامساك بها: أنا الظاهر أهملتك لدرجة أن كل اللي علمتهولك اتنسى، بقيتي لوكل ومحتاجة إعادة ضبط مصنع.

ضم أحمد كتفيها، وهو يحاول سحبها للخروج، قائلًا: ضبط مصنع أيه يا فريدة البنت حامل حرام عليكي، دي ساعة شيطان وراحت لحالها صدقيني!

أبعدت كفه عنها وقالت باصرار: إبعد يا أحمد، أنا مش هسبها النهارده.

خرج رأس مايا من خلف فاطمة وقالت بعصبية: حضرتك مش فارق معاكي غير تصرفي، ومش همك اللي ابنك عمله، هستنى أيه بقى لما يفصصلي في ملامحها! مهو البداية كانت لون الشعر بعد كده هندخل على أيه بقى؟

قهقه على ضاحكًا، حتى أحمد ضحك بصوت مسموع، بينما تحاول فاطمة تهدئتها قائلة: مايا هدي الدنيا، فريدة هانم هتولع فينا كلنا!

وكأنها اقتنعت بحديثها، فاذا بها تبتعد من خلفها وتتجه صوب فريدة قائلة بمكر: فيري سيبك من خناق الحما العقربة ده لإنك كيوت جدًا ومش لايق عليكي، أنا طلبت أوردر مسكات طبيعية إنما أيه بتصغر الوش عشر سنين، بيقولوا حلوة أوي ما تيجي نجربها؟

ربعت يديها أمام صدرها بغضب: قصدك بكلامك السم ده أيه، إني كبرت عشر سنين وعايزة تصغريني بالمسك بتاعك؟

ضحكت مايا بقوة، وهتفت بسخرية: كبرتي مين صلي على النبي، ده أنا اللي بقيت كركوبة والله العظيم، حضرتك بقيتي أصغر من شمس نفسها، صح يا علي؟

ضحك بصوته كله، وقال بصعوبة بالحديث: صح.

مالت لفاطمة تشهدها على ما قالت: صح يا بطة؟

هزت رأسها عدة مرات، مالت لأحمد: ها يا أنكل، كلامي صح ولا غلط؟

رد ومازال مشدوهًا مما تفعله: صح طبعًا.

أرضت غرورها وإذ فجأة تلف يدها حولها وتقول: تعالي وريني المسك، بس مش هحطه الا لما أقرأ محتوياته وأبحث عنها الأول، أنا مبحطش أي حاجه على بشرتي بدون ما أتحرى عنها!

رحلت كلتهما، وسقط أحمد على المقعد من بعد رحيلهما يستريح من المجهود الذهني المبذول، وهمس بدهشة: مايا نسخة عُمران المفقود يا علي!

اندمج عُمران رفقتهم، وتناسى كل شيئًا كان يزعجه، وجد نفسه في صحبتهم، ولمس قلبه معزة كلًا منهم داخله، لقد مر اليوم سريعًا، والهدوء النفسي كان يقوده في مجلسهم.

توقفت سيارة جمال أمام قصر الغرباوي، وهبط منها عُمران في طريق عودته للداخل، فتح جمال بابه وناداه يذكره: هستناك قدام الشركة بكره، متنساش اتفقنا.

استدار إليه يمنحه بسمة ساخطة: حاضر يا حبيبي مش هنسى، حابب تفكرني بحاجه تانية بدل ما نعيد مشهد نداء الحبيبة ده، لو مش قادر على بعدي تعالى أتفضل قضي السهرة معايا وننزل الشركة بكره مع بعض.

انكمشت ملامح جمال غضبًا، بينما تمايل يوسف على الاريكة الخلفية للسيارة من فرط الضحك، صعد جمال للسيارة يغلقها بعنفٍ، متمتمًا: وقح!

لم يهتم لما قال وتابع المضي قدمًا للداخل، بينما أعاد جمال تشغيل السيارة، وتوجه إلى العمارة السكنيه القابع بها منزل يوسف، قاد والصمت يتراقص بينهما، بدرجةٍ زرعت القلق في نفس جمال، فمال بالمرآة الأمامية، يراقب يوسف، فوجده يميل على زجاج السيارة، وعينيه غائمة بالهموم والحزن.

ناداه جمال بلهفة وقلق: يوسف!

الهالة التي أحاطته عزلته عن سماع صوت جمال القريب منه، مما دفع الأخير أن يصف سيارته جانبًا، ويميل للخلف رافعًا صوته ويده تحرك ذراع رفيقه: يوسف!

انتبه له يوسف، فاعتدل بجلسته راسمًا بسمة باهته: معاك يا جمال معلش سرحت شوية.

تلك البسمة قد تخدع شخصًا غريبًا عنه، ولكنها لا تنطبق عليه، سأله بشكلٍ مباشر: مالك، أيه اللي شاغلك بالشكل ده؟

سؤاله عن ما أصابه كان شيئًا مبهمًا لا يعلم كيف السبيل لاجابته، ربما سيخبره أنه على ما يرام، ولكنه ليس كذلك!

وجد أنه لا سبيل لتصديقه سوى قول الحقيقة، فنطق بما ضاق به صدره: ماما جتلي امبارح.

اندهش جمال لما استمع إليه، وتلقائيًا قال: غريبة!

ابتسم بألمٍ وخز نبرته المبحوحة: فعلًا هي غريبة ومش حاجة متوقعة منها، أنا فرحت إنها حابة تشوف حفيدتها، حتى لما عملت خناقة مع مرات أخويا، وطلبت منها تفضل معايا وافقت، فرحت إنها ممكن تكون حست بالندم ببعدها عني أنا وسيف، بس الحقيقة إني اكتشفت إن السبب في وجودها معانا حاليا إنها عايزة تفرقهم عن بعض، وأخر همها أنا أو سيف.

ثار غضبًا من تلك المرأة، وخاصة وهو يلمس وجع يوسف في صوته الناطق بحجم آلامه، فصاح بغلظةٍ: أنا مش عارف الست دي مخلوقة من أيه!

نهره يوسف بتحذيرٍ: جمال متنساش إنك بتتكلم عن والدتي.

تلاشى وجومه، وبرر بحرج: أنا آسف مقصدش، أنت عارف إني غشيم.

تنهد بحزنٍ وقال: أنا عارف إنك متضايق عشاني، بس أنا خلاص أخدت على كده منهم يا جمال، أنا كنت عايش معاهم مفتقد الحنان وكل المشاعر اللي ممكن تكون من الأهل لآولادهم، ويمكن ده السبب اللي خلاني أحتوي سيف وأحاول أعوضه عنهم الاتنين.

وأضاف وقد نطقت عينيه بالدموع العزيزة التي أبت بالانهمار: كنت بعوضه بحنان أنا انحرمت منه، عملت كل حاجة عشان ميفتقدش حد فيهم، عمري ما أنسى زعله وتعلقه بيا وأنا بالمطار، ولا رجائه ليا أني أبعت وأخده ومسبهوش وسطهم، أنا من أول ما سافرت وأنا بسعى في ورقه كأني بخلصه من الزنزانة اللي عايش فيها.

وابتسم ساخرًا رغم مرارة العلقم في فمه: كنت برجع بليل أتفرج على فيديوهات طبخ كتير عشان أتعلم أعمل أكل بيتي عشانه، كنت عايز أعوضه عن كل اللي اتحرمنا منه، وأبسط حاجة إننا نلاقيها في يوم عملنا أكل بيتي نضيف، مش كل يوم أكل من بره، لدرجة إن سيف كان على طول معدته تعباه.

وأضاف وقد رفع عينيه صوب جمال الذي تمزق لسماعه مدى الوجع الذي يخوضه يوسف: جاية بعد كل ده تتهمني أني اهملت وقصرت في تربيته! جاية وبتحاسبني على اختياره لزوجته! لا يا جمال ملهاش أي حقوق عليه ده ابني أنا، أنا متكفل بيه وبكل اللي يخصه.

وأضاف بابتسامة اصطحبت دمعة خائنة من احدى عينيه: عارف إني مدلعه شويتين، وده أنا حابه فيه، عايزه يتدلع ويعيش حياته كلها بطولها وعرضها، مش عايزه يفتقد أي شيء في بعدهم عنه، أنا الوحيد اللي لامس وجعه، أنا اللي عارف بخوفه من إن أي حد يدخل حياته، سيف أخويا بيخاف يصاحب أو يندمج مع أي حد، سيف مبيثقش غير فيا وفي آيوب وزينب مراته بس، مكون العالم بتاعه علينا احنا التلاتة.

خرج جمال عن صمته، وقال بنبرة تحشرجت: إنت موجوع وبتعاني أكتر منه يا يوسف!

اتسعت ابتسامته وراح يردد في ثقة: ربنا مديني القوة أداوي نفسي يا جمال، ممكن أكون مش محظوظ، وانحرمت من حنان الأم والأب بس ربنا سبحانه وتعالى معوضني بالزوجة الصالحة وبأخويا، وبيك وبعُمران، ومنّ عليا بكرمه ببنتي اللي نورت دنيتي، وأخر حاجه مش بأهميتكم بس تتماشى مع الحياة، شغلي وإسمي اللي بنيته بتعبي، أنا كنت دكتور نسا وفجأة بقيت شريك دكتور على بالمركز وبدون ما أخد قرش واحد من فلوس أبويا.

توسعت بسمته الجذابة وهو يمازحه بلطف: ونسيت كمان دكتور علي، ده لوحده كنز، هطمع أكتر من كده!

وفجأة تلاشت عنه ابتسامته، وقال بانكسار: عارف أيه اللي مزعلني بجد؟

أزاح جمال دمعته المتدفقة، وأجلى أحباله الهادرة: أيه؟

رد عليه وهو يميل على نافذة السيارة باستكانة: إنهم مش هياخدوا حاجة من الفلوس اللي عاشوا يجنوها طول حياتهم معاهم القبر، فشلوا في أهم حاجة ممكن تفيدهم في حياتهم ومماتهم، الابن البار بيكون سند ودعم لاهله طول ما هما عايشين، ولما بيموتوا بيكون عملهم الصالح المتبقى ليهم، الثمرة اللي زرعوها، بس أنا مش هكون وحش زيهم، لو يومهم قبل يومي هدعيلهم بالرحمة وهتصدق ليهم باللي هقدر عليه.

وضحك بصوت مسموع رغم بكائه: ولا اقولك هتبرع بكل الثروة اللي عاشوا عمرهم كله يجروا عليها، وكأنهم هينزلوا بيها القبر.

تساقطت دموع جمال، وبات عاجزًا عن تضميد جرحه، وأي حديث قد يطيب وجعًا أدمى قلبه لدرجة الخذلان!

اعتدل جمال بجلسته ومال برأسه للمقعد، وبصعوبة خرج صوته: يااه يا يوسف كل ده جواك وساكت! أنت ولا مرة اتكلمت عن الموضوع ده.

ازاح دموعه واستعاد ثباته الفعلي: الموضوع مش شاغلني يعني عشان اتكلم فيه يا جمال، يلا اتحرك الوقت اتأخر، عايز أطمن انها معملتش حاجة تزعل بيها مرات سيف، والله لولا اتصال على مكنتش خرجت النهاردة، بس أكيد مش هتخلى عن عُمران وهو في الحالة دي.

فعل جمال المحرك، وقال يجيبه: فعلا عندك حق، عُمران كان محتاجنا كلنا جنبه النهاردة، الحمد لله ان على أجبره يروح للشيخ مهران وخلاه وسطنا النهاردة.

رد عليه وهو يحرر النافذة ليجعل الهواء ينعشه: على دكتور ممتاز، حلل حالة عُمران ببراعة، عُمران مأثر فيه الناحية العصبية، الذكريات اللي بتكون فيها شحنة عاطفية قوية جدا زي العار، الخوف، التهديد، أو الذنب بتتخزن بعمق في أماكن بالمخ زي
‏Amygdala
(المسؤولة عن المشاعر خاصة الخوف والعار)،
وHippocampus
(المسؤول عن ترتيب الأحداث في الذاكرة).

العلاقة الآثمة بتكون زي شحنة نفسية شديدة
خوف + توتر + خجل + كتمان + صراع داخلي
كلها مشاعر بتخلي الذاكرة دي تتخزن كأنها منقوشة على حجر، انما العلاقة الزوجية المألوفة، بتكون هادئة روتينية، وبالتالي الذكريات دي أضعف في قوة استدعائها بعد الإصابة،
الذكريات الحرام أحيانا ترتبط بالهوية القديمة.

واستكمل بوضوحٍ أكثر لجمال: عُمران قبل الحادث كان شخص تاني تمامًا،
والعلاقة الآثمة دي كانت مرتبطة بصورته قبل التغيير، فالمخ أحيانًا لما يحاول يسترجع هو أنا كنت مين؟ يبدأ بأكثر الذكريات تطرفًا وتميزًا
العلاقات الزوجية بتخزن ك ذاكرة خبرية (Episodic Memory)
ودي أكتر نوع ذاكرة بيضيع بعد إصابات الدماغ
فلو عمران فقد ذاكرته الرجعية بالكامل مش هيفتكر تفاصيل علاقته الزوجية.

لكن لو حصل له محفز جسدي أو عاطفي قوي أو مشهد مشابه ممكن تخرج ذاكرة منسية فجأة، واللي بيطلع الأول اللي محفور بالعاطفة والخطر مش المألوف الامن.

وختم بقوله المختصر: طبعًا انا شاكك إن دي حاجة من اللي حصلتله عشان يفتكر بيها اللي عمله، لكن اللي على قاله كان باختصار شديد إن عُمران مش فاكر غير إنه زنى ومش فاكر توبته، وعلى فكرة استعادته لاجزاء من الذاكرة علامة ممتازة إنه هيستعدها كاملة في أي لحظة.

ارتسمت بسمة سعادة على وجه جمال، وقال بتمني: يا ررب يا يوسف، مش قادر أشوفه متلخبط كده.

ابتسم ومد ذراعه على كتفه يدعمه: هترجعله متقلقش.

وقال يمازحه: وبعدين إنت مفتقده في أيه، مهو لسانه لسه وقح زي مهو!

انفجر ضاحكًا وشاركه يوسف الضحك، حتى توقف به قبالة العمارة، أوصله وغادر هو الأخر لمنزله.

تعمد أن يريه ذاته وهو يقف بانتظاره بشرفة جناحه، وما أن اطمئن لوصوله حتى ولج للجناح بعدما شيعه بنظرة غامضة، وتركه بها يكاد يموت غيظًا.

جاب عُمران جناحه ذهابًا وإيابًا، وهو يكاد يموت غيظًا من برود أخيه، لقد تعمد أن يريه نفسه وهو يقف بانتظاره، وحينما رفع يده يشير له تجاهله على وولج لجناحه كانه غير مرئيًا له.

نزع عُمران قميصه وجذب البيجامة الخاصة به، ارتداها وهو مشغول البال بأخيه، عسى ما فعله بالصباح قد أحزنه منه، عساه غاضبًا منه الآن!

حانت منه نظرة تجاه زوجته التي تغفو بالفراش بتعبٍ، فابتسم وهو يميل على الحائط مربعًا يديه أمام صدره، ولوهلة عاد له صراخه على أخيه بأنه فقد الثقة به، فعاد الوجوم إليه مما دفعه للخروج من جناحه، والتوجه لجناح أخيه.

أشمر عن ساعديه القويان، وشرع بالدق على بابه، ولكنه خطف نظرة لساعة يده الباهظة، فوجدها الواحدة بعد منتصف الليل، سحب كفه حرجًا واستدار ليعود لجناحه حزينًا مما ارتكبه بحق أخيه، وبينما يكاد يصل لباب جناحه، حتى استمع لصوت على يوقفه: استنى!

تهللت أساريره، والتفت مسرعًا تجاهه، فوجده يتطلع له بنظرة منتصرة، وكأنه كان يعلم بأنه لن يعفو دون أن يحاول رؤيته، وما لفت نظره ما يحمله بين يديه، والذي لم يكن سوى عُلبة الاسعافات الأولية!

دنى منه علي، وتخطاه وهو يخبره: تعالى ورايا.

ضيق عينيه بانزعاجٍ من طريقته، وهو الذي لم يعتاد أن يأمره أحدٌ، ولج على للمصعد وقال يزيح به غضبه: مش بأمرك يا عم الطاووس، اتفضل سيادتك!

لحق به بتذمر، وهو يشيعه بنظراتٍ طفولية، لا تليق سوى بطفلٍ يود أن يتبعك ولكنه لا يعجبه تفاخرك بتعلقه بك، فأخذ يتطلع له بحنقٍ كاد أن يضحك علي، الذي تمتم وهو يعيد تشغيل المصعد: الأسانسير ضيق للاسف، مش هتعرف تنفش فيه ريشك!

تحرر عن صمته وصاح بعصبية: إنت بتحاول تستفزني يا علي؟

منحه بسمة ثابتة، وباتزان كاد بقتل الآخير قال: ليه، عملت أيه عشان أستفزك بيه؟

مزق شفتيه السفلية، وقال: إنت بتلعب مع الشخص الغلط صدقني!

توقف المصعد بطابق الضيوف، فخرج على وعُمران يلحق به، حتى ولجوا لإحدى الغرف، فإذا بعلي يترك العُلبة على الطاولة، ويستدير وهو يرتدي القفاز الطبي، هادرًا بمكرٍ: أنا ماليش في الألعاب، أنا لو عندي وقت فاضي هقضيه مع أصدقائي المقربين.

قهوتك وكتبك، دول مش أصدقاء مقربين دول أمقت حاجة ممكن أعملها في حياتي.

وأضاف عُمران بسخط: ‏ Ali you re so boring
(علي إنت ممل جدًا! ).

ابتسم، وقال: الملل شيء غالب على حياتنا، مهما حاولنا نبعد عنه بالاشياء المبهجة، اللي يتعلم يتماشى معاه مش هيقصر فيه فقدان أي شيء في حياته.

وأضاف ببحة مؤلمة: أنا متأثرتش بشيء كنت بمتلكه وفقدته قبل كده، فقدانك انت اللي قلب موازيني.

واستطرد وهو يعود لرسم ابتسامته: وريني جرحك اللي هتعامل معاه إنه لحظة تهور وراحت لحالها.

منحه نظرة حائرة، ومن ثم نزع عنه التيشرت، واستدار إليه، فجذب القطنة المبللة وأخذ يقطب جرحه، والصمت طابق على أنفاس عُمران، حتى تحرر منه ينادي: علي.

ابتسم وهو يجيبه من خلفه: متعتذرش أنا مزعلتش منك، وقولتلك ده الصبح قبل ما أمشي من المسجد.

التفت برأسه له وقال بضيق: بس مش حاسس إنك متقبل ده، أنت مش طبيعي معايا يا علي، عامل زي اللي بتعاقبني، أنا بنازع في كل اتجاه، وفكرة إنك ممكن تكون متضايق مني دي مش متقبلها، بحس إني بتخنق ومش قادر أخد نفسي!

انقبض قلبه لسماع ما قال، فأسرع بالقول: عُمران متشغلش عقلك بيا أنا، فكر في نفسك، أنا أخر شخص ممكن تتخيل إني أزعل منك وأقاطعك، أنا لو شايفك اتخطيت حدودك معايا هجبرك تعتذرلي، وأنا واثق انك مش هتكسرلي كلمة، صح ولا أيه؟

لوى شفتيه بتهكمٍ، وقال: وبتسميني مغرور، إنت فيك غرور بس على رقي مش وقاحة!

قهقه على ضاحكًا، ونهض يجمع اغراضه مشيرًا له: طيب يلا يا لمض روح ارتاح، وراك بكره يوم مهم، نزولك الشركة في حد ذاته خطوة ممتازة بهني جمال على اصراره عليها.

منحه ابتسامة صغيرة، وقال بمكرٍ: بتهني جمال! على أساس إني مش هارش إنك اللي ورا الحركة دي!

وتخطاه وهو يتجه للمصعد بعنجهية أسعدت قلب على شوقًا لعودته: ورايا يا دكتور أنزلك في طريقي.

اتبعه للمصعد فإذا به يخرج منه أولًا، ويلوح له بمشاكسة: تصبح على خير يا بابا علي، متنساش تأخد الكتب في حضنك كويس، وتحطلك كام جريدة على صدرك من البرد، ومتقلقش أنا هعرف أسلكك من فاطمة في محكمة الأسرة!

قالها وأغلق باب جناحه، بينما يصفق على كف بالاخر وهو يهتف بصدمة: مفيش فايدة!

انطوى ضوء القمر الخافت، وازدهرت الشمس بأشعتها الذهبية المنيرة، التي شهدها عُمران بنفسٍ صافية، بعد أن قضى ثلث ليله بالقيام وصلاة الفجر، حتى استلم رسالة من جمال تحثه على الاستعداد للقائه أمام الشركة بعد ساعة من الآن، فصعد لجناحه يستعد للذهاب.

ارتدى عُمران بذلة فخمة من اللون الأسود، وقميصًا أسود من أسفلها، وارتدي حذاءًا بني اللون مثل لون ساعته الباهظة، أعاد تهذيب خصلاته القصيرة، ونثر البرفيوم الخاص به، ثم هبط بالمصعد للطابق السفلي، ومنه للخارج حيث كان السائق بانتظاره.

وقف يتطلع للسائق بضيقٍ، وتجاهل وجوده ثم اتجه لچراچ القصر، فلحق به السائق، استدار عُمران إليه وقال باحترام حتى لا يجرحه: شكرًا لتعبك يا أشرف، بس أنا حابب أسوق النهاردة.

بهت وجه السائق، وقال: لا يا بشمهندس، دكتور على منبه عليا مخليش حضرتك تسوق.

نزع نظارته السوداء عن جمال رماديتاه، وأحاطه بنظرةٍ ثاقبة: وأنا بقولك أنا مش محتاج سواق معايا.

هز السائق رأسه وانسحب للخارج، بعد أن أرسل رسالة نصية لعلي، يبلغه فيها بما حدث، وقف عُمران ينظر بين عدد السيارات بحيرةٍ، ولكن لم يعجبه أي منهم، حيث كانت اغلبها من النوع الكلاسيكي والطراز المتوسط، والذي تأكد بأن ولا واحدة منهم تخصه بذوقه.

وإذا به يلمح عدد من السيارات الرياضية الحديثه، مصفوفة بنهاية الچراچ، إتجه إليهم وتنقل بينهم بانبهارٍ، وإذا به يلمح سيارة منفردة بزواية منعزلة، يلفها قماش حريري جذاب اللون، أثارت فضوله وكاد بالتوجه إليها، ولكن قبل أن تتحرك ساقه، واستمع لصوت جهوري يصيح: عُمران.

استدار لمصدر الصوت، حيثما يقف أخيه، الذي هرع إليه والقلق والارتباك يسيطران عليه، وفجأة استعاد كامل ثباته وهو يسأله: واقف عندك بتعمل أيه؟ وأيه اللي أنا سمعته من أشرف ده؟ إنت عايز تسوق انت!

رد عليه بهدوء وعينيه تحتشد بالتمرد: أيوه عايز أسوق، هتفضل مانعني لحد أمته يعني! اللي حصل كان حادث مدبر، وحتى لو مكنش مدبر فده قدري ونصيبي، لكل أجلٍ كتاب، لو ربنا سبحانه وتعالى كاتبلي أموت قدامك حالًا، الأمر نافذ.

صاح بهلعٍ وهو يضمه إليه: لأ، ألف بعد الشر عليك متقولش كداااا.

تعجب عُمران من طريقته، فاحتواه بضمته، وهو يعلم بأنه سيستعيد هدوئه للتو، وبالفعل ما هي الا ثلاثون ثانية وأبعده يحك طرف أنفه بحيرة: طيب تمام، سوق براحتك بس بشرط.

زفر بضجرٍ، فاستكمل على بصرامةٍ: مش هتركب عربية إسبورت، هتركب عربية عادية من دول، ومتحلمش بأكتر من كده!

كز على أسنانه بغيظٍ، ولكنه لم يشئ خلق مشاجرة بينه وبين أخيه، فسحب احدى المفاتيح وقرأ الرقم المدون، ثم بحث عنها وقادها، وغادر بهدوء.

وصل عُمران للموقع الذي تتبعه على هاتفه، حتى وصل إلى جمال، الذي صعد به لمكتبه على الفور، فالتف الموظفون به يهنئون رجوعه بسرورٍ، وعلى رأسهم حسام السكرتير الخاص به، حتى انتهت المقابلات وجلس بمكتبه، برفقة جمال الذي لم يتركه لدقيقة واحدة طوال العشر ساعات التي قضاها داخل الشركة.

كان جواره كالظل المُتبع، حتى أتاه اتصالًا هاتفيًا فخرج للشرفة يجيبه، وترك عُمران يراجع حساباته التي تعرف عنها للتو، وقرر بناءًا على رؤية حجم الاموال والثروة التي يمتلكها أن يشارك جزءًا منها لموسى وصابر، وصباح في يوم سفره بالاسبوع القادم لهم.

وبينما هو منشغل بمراجعة الحاسوب، ولج حسام للداخل يقابله بارتباكٍ وتردد، جعله يتساءل بريبةٍ: في حاجه؟

هز رأسه بتوتر: نعمان الغرباوي برة ومصمم يقابل حضرتك، أنا حاولت أتحجج بس هو مُصر.

أعاد نطق الاسم كمحاولة للتعرف عليه: نعمان الغرباوي!

أكد له بما يستطيع القول به: أيوه، خال حضرتك يا مستر عُمران.

بدى حائرًا هو الاخر، وهتف باستسلامٍ: تمام دخله.

خرج السكرتير يمنح الأذن له بالدخول، فهرول راكضًا للداخل بلهفةٍ وحماس لرؤيته، فاذا به يتطلع له بآعين دامعة، ونظرات غير، مصدقة بأنه يراه.

انقبض قلب عُمران، وشعر بأنه يختنق تدريجيًا، فنهض عن مقعده يتأمل من أمامه بشعورًا غير مريح، اندفع نعمان إليه باكيًا يضمه في عناقٍ غير مصدق، ويهتف بعدم وعي: إنت عايش، أنت ممتش فعلًا، أنا مكنتش متخيل أنك تمشي بالسهولة دي، إنت مينفعش تبقى دي نهايتك إنت.

حاول عُمران أن يرفع يديه ويضمه مثلما يفعل، ولكنه كان بداخله شعور نفور غريب تجاهه، وكره عظيم تجاهه لا يعلم سببه!

ابتعد عنه نعمان يتطلع به بإبتسامة واسعة، فازدرد عُمران ريقه مشيرًا على المقعد: أهلًا بحضرتك، اتفضل.

تراقصت فرحته وتمنى لو فقد ذاكرته للابد، حتى يمنحه مكانة بحياته، بعيدًا عما ارتكبه في ذنبه، وإذا بصوت جمال يحطم طموحات نعمان حينما دخل يهدر بانفعال وثورة: إنت بتعمل أيه هنا؟

ارتبك نعمان حينما رآه يدخل من الشرفة، بينما يحاول عُمران فهم ما حدث لجمال فجأة، الذي بدأ بالصراخ الجنوني: إنت ليك عين تورينا وشك بعد اللي عملته فينا، غور من هنا بدل ما وربي أنسى إنك راجل كبير وأسحلك قدام الموظفين.

ارتعب نعمان من نبرته، وتهديداته الواضحة، فركض للخارج ونظراته الحزينة تحاوط عُمران، والذي ترقب فور غلقه لباب المكتب، وسأل جمال ونظرات الشك تحيطه: أيه الطريقة اللي اتعاملت بيها معاه دي!

طالعه بصدمة من حديثه، وصاح بعنف: طريقة أيه؟ أنت لو بذاكرتك كنت قتلته إنه اتجرأ وجالك مكتبك بعد اللي عمله فينا.

عبث برماديتاه بدهشة، وقال: أقتله! طيب ليه كل ده، هو عمل فينا أيه؟

ارتبك جمال قبالته، وخشى أن ينطق بشيء قد يسييء من حالته، فتمتم بارتباك: لا. مفيش.

نهض عُمران عن مكتبه، ووقف في مواجهته بضيق: هو أيه اللي مفيش، انت مش شايف نفسك عامل ازاي!

زفر جمال بغضب من ذاته، واستدعى سيطرته على انفعالاته بأكملها، قائلًا: عُمران أنا مش هقدر اتكلم عن اللي فات، ولا عايز أفتكره، بالله عليك متسألنيش عن حاجة، أنا مصدقت أنسى ولو صحيت كل الذكريات جوايا هنزل أقتله حالًا.

انفاسه المكبوتة من خلف طلته الهادئة المخادعة، جعلت عُمران يستشف خطورة حالته، فقال بهدوء يمتص فيه عصبيته: خلاص تمام، مش عايز أعرف حاجة بس إهدى.

أشار له بجمود، وعاد لمقعده، بينما شرد عُمران فيما قد يجعل جمال بتلك الحالة الشرسة، التي تكاد تجعل منه قاتل!

بعد الانتهاء من مراجعه حساباته الشخصية، غادر عُمران الشركة برفقة جمال، فصعد كلا منهما سيارته، وأبقى جمال على اتباعه حتى يضمن أنه وصل لقصر الغرباوي بسلامة، تعجب عُمران من خوف الجميع عليه المبالغ فيه، وكأنه طفلًا صغيرًا، فأوهم جمال بأنه يتجه لقصر الغرباوي، وحينما غادر انجرف بسيارته وإتجه بها لمكانٍ منعزل، يود أن يختلي بنفسه فيه.

نزع عُمران جاكيته وألقاه بالسيارة، ثم صعد على مقدمتها وتمدد بالهواء، مربعًا يديه وهو يسند ظهره لزجاجها الأمامي، وعينيه مغلقة بارهاقٍ وتعب مما يمر به.

يشعر وكأنه في حلقةٍ معقدة من الألغازٍ، التي لا نهاية لها، رأسه مشحون بالكثير من الافكار والاسئلة التي لا اجابة عنها، وبينما هو يشرد بذهنًا صافيًا، وعيني مغلقة، فاذا بملمس بارد وحاد يخترق رقبته، وصوتًا غليظًا يهتف: محفظتك وساعتك ومفاتيح العربية بشويش وبدون لابش، بدل ما تتقطع بالمطوة وتتاوى هنا مكانك يا حيلتها.

ابتسم بسخريةٍ، ومازال يجلس بنفس جلسته المريحة، فقط أطلق العنان لعينيه التي فتحت لتنير له ظلمته الحالكة، يتطلع لمن يصوب سكينه إليه، وببرود قال: خد بالك اللي في إيدك دي خاينة، ملهاش ولاء لحد، بتروح مع اللي رايح وبتيجي مع اللي جاي.

وأنا مش ناوي أروح في طريق رجعت منه خلاص!
قالها وهو يقبض على كف المجرم، ويلويه للخلف بقوةٍ جعلت عظام يده تطقطق بشكلٍ، جعله يبكي ويصرخ بصدمة ما تعرض له، فإذا برفيقه الذي يراقب الطريق، ظنًا من أنه سيتمكن من الايقاع بهذا الشاب الأعزل، ظنوه لقمة سائغة كأغلب من نالوا نفس الفعل الدنييء، ولكن حظهم السييء أوقعهم في يد الطاووس!

سقط الشاب أرضًا وبقيت المدة (مطوة)، في يد عُمران، الذي لهى بها بين يده ببراعةٍ واتقان، وهو يشيد بقوله: قولتلك ملهاش ولاء لحد، بس مرفقاني مهما غدرت بيها واستغنيت.

واستطرد باستهزاءٍ: وبعدين حيلتها دي كلمة متأكلش غير مع اللي يقدر يسد معاها، لما ترجع لأمك بوس ايدها ورجلها عشان تخاويك براجل يعرف يجبلك حقك ويعيد تربيتك من تاني.

وانحنى يقبض عليه بقوة، ويسدد لكماته وهو يصبح باستهزاء: ولحد ما الراجل ده تجيبه أمك، أنا سداد وهربيك من أول وجديد!

أتى رفيقه من الخلف، في محاولة للنيل منه، والاخر مطمن بأنه سيتمكن بفعلها، ولكن عُمران كان الاسرع حينما دفع الشاب من يده أرضًا، واستدار يدس المطوة بذراع الآخر، بشكلٍ جعل الدماء تنفجر من ذراعه، فسقطت عنه الحجارة التي كان ينتوي ضربه بها.

ركض الشاب غير عابئًا بسقوط رفيفه، الذي ترجاه الا يتركه يلقى حتفه، فابتسم عُمران ساخرًا وقال: وإنت فاكر إن صاحب السوء هيكون راجل معاك!

وجلس جواره أرضًا مستندًا على اطار سيارته بحمود، بينما الاخر ينزف جواره ويبكي بتوسل، خشية من أن يعود عُمران بطعنه، فتحررت كلماته بعد صمت: اسمك أيه يلا؟

ارتبك الشاب وأزف رعبًا، وبرعبٍ قال: علي، إسمي علي.

وخز قلب عُمران بعنف، وكأن سماع إسمه بذلك الوقت يمنحه هالة من الأمان، والرأفة بذلك الجريح الذي كان يضمر له الشر والسوء، فنهض فجأة وأشار، له: قوم هوديك المستشفى.

جحظت عيني الشاب في صدمة وهلع: لا، لا، هتسلمني للحكومة، والله حرمت يا بيه مش هعمل كده تاني، مسعد اللي غواني بالحرام والله ما هعمل كده تاني.

رمقه عُمران ببرود، وردد ببطء خطير: إركب وإقفل بوقك.

ظل محله يبتلع بتوتر، حتى اتاه صوته الصارم وهو يصعد بسيارته: مبعدش كلامي أكتر من مرة أنا بروح أمك!

نهض الشاب يحتمل على ذراعه السليم، وجلس قبالته بشيء من الاطمئنان، فاذا به يصله للمشفى، وقبل أن يصل له فريق التمريض كان فد فقد الوعي، مما دفع عُمران لحمله، ووضعه على السرير المتحرك.

وعقله يغيب عنه لمظهر الدماء، نزيف يحاوط كتفه، وبطنه، شعور بالألم يخترقه، صداع شديد يقتحم رأسه، دوار عنيف، مال على المقاعد المعدنية، سقط من فواقها وبعض الذكريات السابقة تندفع إليه دون سابق انذار.

أحاط رأسه بعنفٍ، والعرق يبلل وجهه بشدةٍ، حاول الانتصاب بوقفته ولكن ساقه كالهلام ألقته أرضًا، فسقط فاقدًا للوعي!

إلتف من حوله الاطباء، ولا أحد يعلم ماذا أصابه، نقلوه لاحدى الغرف، ودعموه بالفحوصات وقياس الضغط، وقد تسرب لهم ارتفاعه عن المعدل الطبيعي، فتم حقنه بالمحلول والادوية اللازمة لضبطه.

بقى فاقدًا للوعي لثلاث ساعات متتالية، حتى أبصر فيهم عن رماديتاه، مال برأسه جانبًا يتفقد المكان الذي أصبح فيه، فاذا بالممرضة تدلف للداخل تخبره بابتسامة عملية: حمدلله على سلامتك، بقالك 3ساعات مغمي عليك.

شرد بكلماتها وقد أعاد إليه نفس صياغة الجملة على مسمعه من قبل، نهض عُمران يجذب قميصه الأسود، يرتديه بهدوء غامض، ويخرج تجاه الاستقبال، فاذا به يلمح مرآة بالطرقة، وقف يدقق النظر لنفسه ببسمة ساخرة، ومن ثم تحرك للموظفة يتحدث بنبرة ثابتة: من فضلك عايز أدفع حساب الشاب اللي دخل معايا من شوية مع حسابي.

هزت الممرضة رأسها، وقالت: تمام، بس حضرتك مينفعش تخرج من هنا قبل ما الشرطة تأخد أقوالك، كانوا هنا وانت فاقد الوعي وقالوا هيعدوا عليك تاني.

ألقى لها كرت يخصه، وبثقة قال: يقدروا يشرفوني في مكتبي، الموضوع بسيط أصلًا ومش محتاج تحقيقات، خناقة بسيطة وإتعور فيها الشاب اللي هنا واحنا بنحاول نفك الطرفين عن بعض.

قرأت اسمه بصدمة، فهزت رأسه بابتسامة واسعة، يينما يجذب منها قلمًا ويدون شيكًا بمبلغ بقيمة ثلاثمائة ألف جنيهًا، قدمه لها وقال: من فضلك الشيك ده يخص الشاب، لما يفوق إديهوله.

أمأت له برأسها، وقد منحها مبلغًا بسيطًا من المال، ثم خرج يتجه لسيارته ويغادر بها شاردًا، حتى كاد بأن يفتعل أكثر من حادث، لا يعلم كيف وصل للقصر وللچراچ بالاخص.

هبط عُمران من السيارة، وكاد بالخروج ولكنه توقف واتجه ناحية سيارته، متعمدًا قصد تلك السيارة المعزولة، سحب الغطاء عنها ووقف يطالعها بنظرات قوية، غير عابئ لتسرب باقي الاحداث إليه!

كانت نفسها هي تلك السيارة التي لاقى فيها حتفه، وربما عاد للحياة مجددًا بفضل الله عز وجل، ولكن روحه مازالت معلقة بذلك الحادث المأساوي الذي سيظل جحيمه يتلاقفه دائمًا.

مال بجسده المنهك على مقدمتها، والدوار مازال يهاجمه، حارب بتلك المعركة ببسالة حتى هدأت أنفاسه، واستكانت روحه، كأنه حصل على الخلاص، وأخيرًا!

ألقت الهاتف بغضبٍ أرضًا، وأخذت تجوب الغرفة ذهابًا وإيابًا، لقد تمكن منها الخوف لدرجة أنها ستنهار بين لحظة والاخرى، لقد تأخر للغاية وحتى مكالماتها لم يجيبها عليها، وكأنه يستكتر فيها أن تطمئن عليه.

انهمرت دموع مايا وهي تفكر أن تذهب لتوقظ علي، الذي اطمئن من جمال سابقًا بأن عُمران عاد للقصر، وانشغل هو بالمركز طوال اليوم، وفور عودته غفى على الفور.

جذبت مايا اسدالها، ارتدته ووضعت حجابها باهمال، ثم اندفعت لباب الجناح، ودموعها تغرق وجهها الباهت، وما أن حررت الباب حتى وجدته يقف قبالتها!

طالعته ببكاءٍ، وبنظرات تعاتبه، والآخر يتطلع له بنظرات غامضة، تخفق بوميضٍ لم تلاحظة مايا، بل اندفعت تصيح بانفعالٍ وهي تنزع حجابها وتعود للداخل: ممكن تفهمني مبتردش على تليفونك ليه؟

أغلق الباب بيده وأتجه صوبها، حيث كانت تنزع اسدالها وتهدر بعنفوان والبكاء يندمج مع صراخها: إنت مش فارقلك مشاعري ولا اللي بحس بيه لما بتغيب برة شوية، حرام عليك يا عُمران، أنا مش قادرة أتلم على أعصابي.

رفعت الآن عينيها صوبه، وقالت تعاتبه: ده أول مرة تخرج فيها بعربية من وقت الحادثة، أنا آ...

ابتلعت كلماتها وهي تراقب نظراته الغريبة إليها، وكأنه يراها لأول مرة، حتى أنها استشعرت بأنها ولربما بها شيئًا ما، فأعادت النظر لذاتها، وعادت تتطلع له!

دققت النظر في رماديتاه، فإذا بها ترتجف من شدة توترها، نفس النظرات التي كان يغرقها بداخلها بحنانه وعشقه لها، نفس الاحتواء الذي يصل لها قبل أن تصل لها ذراعيه، نفس كل شيءٍ، وما ينقصها من الافاقة من حلمها الوردي سوى كلمة واحدة منه، أتت لتمنحها الخلاص، حينما همس لها بعمقٍ يحمل أسمى مشاعره: وحشتيني!

اعتصرت عينيها تخرج دموعها، تحررهما، تزيحهما عنها، بينما تميل للخلف بأعصاب انفلتت عنها، فاستندت على الطاولة الطويلة من حولها، وهي تجاهد لخروج كلماتها، التي تخلت عنها فجأة!

دنى منها ودموعها أوجعته بدرجة أيقظت دموعه في رماديتاه، بينما هي تستند بذراعيها على الطاولة وبكائها يندمج مع صوت أنفاسها المنفعلة، تراقبه بتركيز وتنتظر أول خطواته بكل لهفة، حتى أتى إليها يضم وجهها بين يديه، يقابل عينيها بنظراته العاشقة، يحكم يده من حول رقبتها، ليضعها بين صدره.

عناق لم يكن روتينيًا مثل المعتاد بينهما بالفترات الاخيرة، بل كان عناق لحبيب ابتعد عن معشوقته لقرون، وقد جمعه الله بها الآن، تعلقت به مايا والفرحة ترفع جسدها عن تربة الأرض، تجعلها ترفرف بالسماء دون أي قيود، فباتت تتساءل بسؤالٍ خرج بكلمة واحدة: عُمران!

ابتسم وهو يميل يشم عبيرها المفقود: روحه وقلبه اللي رجع ينبض من تاني يا مايا!

واستكمل ومازال يشدد من ضمتها: أنا إزاي نسيتك وإنتِ كلي! أنا كنت ميت وحياتي إتردتلي!

ابتعدت عنه تتأمله بسعادة، وضحكات فرحتها أنارت ظلمتها، فركضت صوب حجابها واسدالها تجذبهما وهي تردد بحماسٍ: على وفريدة هانم هيفرحوا أوي.

قالتها وهي تهرول لباب الجناح، فإذا به يمنعها من الخروج، ويعيدها لأحضانه بعشقٍ، يخبرها بفعلته بأن عالمه يبدأ بها، يدمي نفسه ألمًا بأنه كان قاسيًا حينما تناساها، لقد تذكر إسم أخيه، علاقته به كانت مثل ما كانت، ولكنه ماذا فعل بتلك العاشقة التي ضحت وتحملت لاجله؟

تعالى خفقات قلبها شوقًا لمن طرب له، يذكرها بالعالم الذي لم يسمح لمشاعره الانجراف إليه الا بها وسواها، والآن تعود لتدخل برفقته من نفس الباب مجددًا!

ولأول مرة تغفو في راحة وسكينة، وابتسامتها تضيء وجهها المنير، ضمها عُمران إليه والدمع يتلألأ بعينيه، يكره ذاته لما فعله بحقها، وبحق أحبابه، أخيه، والدته، شقيقته!

وعلى ذكر الاحباء، تذكر جمال الذي نحف للغاية في فراقه، يوسف، آدهم، آيوب، إيثان، الجميع يتردد له واحدًا تلو الآخر، وبداخله حرجًا مما سيفعله ليصلح به عن جفاء مشاعره تجاههم حينما كان فاقد الذاكرة.

انخفض كفه لبطن زوجته المنتفخ، يمرر يده على صغيره، وبمرارة قال: حتى إنت اتعذبت بسببي!

أزاح دموعه ومال يقبل جبينها، ثم سحب الغطاء يداثرها به، ونهض يتجه لحمام الجناح، اغتسل وخرج يصعد للدرج السري، هناك ما يخبره بأنه سيجد أخيه بالاعلى، بالمكتبة التي قدمها له قبل رحيله.

ولج عُمران للداخل، فوجده يغفو على الأريكة، والكتاب بين أحضانه، ابتسم وهو يراقب ملامحه كأنه يراه منذ زمنٍ بعيدٍ!

انزعج على في منامته، ففتح أهدابه بانزعاجٍ، ارتسمت ابتسامته وردد بنومٍ: أيه اللي مطلعك هنا بالوقت ده؟

ضمته نظرة حنونة منه، وإتجه إليه يحمل الكتاب الذي سقط منه حينما استقام بجلسته وقال: مستحيل هيجيني نوم في يوم زي ده.

عبس بعدم فهم: يوم أيه مش فاهم؟

وبقلق قال: في حاجة حصلت معاك؟ طمني؟

اتسعت ابتسامته وأخذ يراقبه بنظرة عميقة، جعلت على يستريب لأمره، ويهتف بسرعة: حصل أيه يا عُمران، إتكلم متخبيش عني حاجة!

سحب نفسًا طويلًا، ونهض من جواره يتجه للجدار الزجاجي، يضع كلتا يديه بجيوب بنطاله، ويتطلع للحديقة بنظرة غامضة، انتقلت لعلي الجالس يترقب سماع ما سيقول، فإذا به يستدير ويخبره مبتسمًا: قال قولي يا علي، هو الرمادي منزلكش من هنا بردو؟

توسعت عيني علي، والدموع تلألأت في فهم مغزى حديثه الذي سبق وذكره له قبل حادثه، سقطت دموع عُمران هو الآخر، وتنهد بوجعٍ: مستغربتش إنك الوحيد اللي نطقت إسمه وحسيت بيك من أول ما شوفتك، لإنك أقربلي من روحي!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة