رواية شمس في قلبين للكاتبة مروة نصار الفصل السادس
وقفت شمس في مكانها عاجزة عن الحركة لا تعلم ماذا تفعل مع هذا المخبول ؟، وخاصةً عندما وجدته يهرع نحوها ووجهه لا يبشر بأي خير وكأنها فريسة وهو الصياد الذي ينقض عليها ليفترسها، ووقفت متصلبة تحدق به في ذهول وعندما وصل إليها ومد يده نحوها .. شعرت انها هالكة لا محالاة .. ولكن وفي لمح البصر وجدت صديقه يقف حائلاً بينهما ويحاول أن يقيد حركته ويمنعه من الوصول إليها .
كادت دقات قلبها أن تعلن العصيان وتتوقف من شدة الرعب، وانفاسها المتقطعة جعلت صدرها يعلو ويهبط بسرعة عجيبة، وبدون وعي وقفت متشبثة في ملابس صديقه من الخلف تحتمي به وتخفي وجهها، وعندما هدأت قليلاً وبدأت انفاسها تعود لطبيعتها، واستعادت شجاعتها الزائفة،وادركت ما يحدث حولها، وقفت بحزم خلف الرجل الآخر وقالت بصوتاً حاد: أنت بجد واحد مجنون، طب امبارح وقلت شكلك مبلبع حاجة ومش علي طبيعتك، لكن دلوقتي ايه عذرك، ضارب ايه تاني .
حدق قصي بها وحاول ان يفلت من قبضة وليد وهو يصرخ قائلاً: شايف .. شايف قلة أدبها .
انتفضت شمس من مكانها كما لو كانت لدغت من عقرب، واشتعلت العروق في وجهها وصرخت فيه وهي تتقدم منه وتقبض علي ياقة قميصه قائلة: مين دي اللي قليلة الأدب يلا، انت اتجننت رسمي، مش شمس الخطيب اللي يتقال عليها كده، اصحي كده وفوق لنفسك، مش عشان حته واد ملزق وارث فلوس من اهلك ومتعبتش فيهم تقولي انا كده، طوز فيك وفِي فلوسك وفِي الشغل، وابقي شوفْلَك شركة تانية اتعامل معاها، لكن شركة شمس متتعاملش مع الأشكال دي .
كان قصي يقف محدقاً في ذهول من هول ما سمع، لم يجرؤ أحد من قبل أن يتفوه بمثل تلك الكلمات أو أن يتطاول عليه، ولَم تقل صدمة صديقه وليد عنه وقف هو أيضا يستمع وبدون وعي خفف قبضته عنه ونسي ماذا كان يفعل ؟ .
أما شمس فقد أنهت كلماتها وخرجت مسرعة من المكتب وهي في أوج غضبها، لم يجرؤ أحد من قبل علي أهانتها هكذا، لم تمر بموقف مثل هذا من قبل، كانت تشعر بالغضب والحيرة الشديدة، لماذا يفعل هذا ؟، لما كل تلك الأهانات ؟، خرجت مسرعة علي غرفتها وهي عاقدة العزم علي الرحيل فوراً .
أما الصديقان كانا كما هما يقفان في ذهول، حتي انقضت بضع دقائق وتحولت تلك الدهشة عند وليد إلي نوبة ضحك هستيري، وبصوت متقطع من شدة الضحك قال: البت .. مسحت .. بكرامتك الأرض، بس حقها، ايه الجنان الرسمي اللي انت فيه ده، حد يعمل كده .
نظر له قصي وهو يعدل من ياقة قميصه وقال: تقصد ايه ؟، وبعدين قصدها ايه دي بأنها مش حتشتغل معانا !، مين دي أصلاً؟.
ضرب وليد كفاً بكف وهو يحاول ان يسيطر علي أعصابه وقال: يا بني دي المهندسة صاحبة شركة شمس اللي انت طلبت نتعاقد معاها، وأنت اللي اخترتها بنفسك، واكيد شفتها قبل كده بس انت ناسي .
نفي قصي كلام صديقه ووقف يعترض قائلاً: ما حصلش انا اه اخترت الشركة لما شفت شغلها، لكن ما اعرفش عنها حاجة ولا شفت صاحبتها .
نظر له صديقه بإصرار وقال: متأكد .
فأجابه: طبعا.
تحرك وليد نحو الكمبيوتر المحمول وضغط علي بعض المفاتيح وفتح ملف معين ثم ادار الشاشة لصديقه وقال: أمال مين دي ؟ .
حدق قصي في الشاشة وهو يحاول أن يستوعب ما يحدث، هل بالفعل رآها من قبل ؟، وكيف ينسي ؟، ولما هي من ظهرت له في الحلم ؟، وقف مندهشا وهو يري صورتها مرفقة بالملف الذي أرسل اليه، ثم تحدث بكلمات تكاد تكون مسموعة: ازاي .. طيب انا ازاي مش فاكر خالص، طب ليه حلمت بيها، انا اصلاً مش فاكر اني شفتها، ولا شكلها شدني عشان أحلم بيها، ايه الجنان ده، ايه اللي بيحصل !.
اقترب منه وليد في محاولة لتهدئته وأجابه: قصي انت من فترة مش علي طبيعتك، مخنوق ومش طايق حاجة، وعادي بتحصل ممكن اشوف حد مرة ومركزش معاه بس العقل الباطن بيطبع صورته، وموضوع الحلم مش حاجة مجرد وش ظهر في حلم،الموضوع بسيط انت بس كبرت الدنيا وطلعت البت مزقوقة علينا وأن في حد بيحطلك حاجة في أكلك ودخلنا في الهلاوس والتخاريف، شغل عالي يعني .
انفجر الصديقان في الضحك من سذاجة الموقف والتصرفات التي قام بها قصي، ثم انتبه وصرخ في وليد قائلاً: ألحق أجري وراها وأعتذر لها، متقولش موضوع الحلم ده، دور علي أي حجة قوية بس أوعي تجيب سيرة الكلام ده لأحسن تقول عليا مجنون بسرعة .
هرع وليد للخارج وهو يقول: انت تعك وأنا أفك .
عادت شمس مسرعة إلي غرفتها وهي تشتعل من الغضب لدرجة قد تجعلها تحرق كل من يقترب منها .. عبرت من الباب ثم صفعته بعنف، فأرتجت الجدران بقوة كما لو كانت ستسقط، كانت شاهي ما زالت نائمة ولكن صفعة الباب جعلتها تنتفض من نومها في ذعر شديد وتقفز فوق الفراش وهي تصرخ: زالزال ... زالزززززال، ثم انتبهت علي صوت الحقائب التي تعدها شمس .
بدأت تستعيد وعيها تدريجياً وأدركت ما يحدث فجلست علي الفراش مشبكة قدميها ببعضهما ووضعت يدها علي وجنتها وهي تسندها علي فخذها وقالت: من منظر سحنتك، والدخلة المرعبة اللي أكيد قطعت خلفي، أقدر أقول أن الشغلانة بازت .
كادت شمس أن تنفجر أمامها وأجابت وهي تدبدب بقدميها في الأرض وبكفيها علي الحقيبة: ده حيوان .. حيوان .. والله لأوريه شغله .. أنا حأطلع عليه كل عفاريتي السود، أنا حأعرفه مقامه ابن بارم ذيله ده، لو أهله معرفوش يربوه انا حأعرفه التربية شكلها ايه، السافل ده .
نظرت لها صديقتها وعيناها مازالت ناعسة وقالت: ممكن تهدي شوية وتبطلي خبط ودبدبة وتحكي ايه اللي حصل بهدوء، عشان رأسي وجعتني .
أجابتها شمس بعصبية: أهدي .. أهدي ايه، انا مولعة من جوايا، انا يقولي مجنونة، انا يقولي قليلة الأدب، شمس يتقال لها كده من حته واد ملزق ميسواش ربع جنيه مخروم، أنا ... ماشي، والله لأوريه النجوم في عز الظهر .
صمتت شاهي تستمع ثم قالت بريبة شديدة: شمس .. هو لما قالك كده أنتي عملتي ايه !.
نظرت لها وهي مستاءة من السؤال قائلة: يعني ايه عملت ايه، بقولك قالي مجنونة وقليلة الأدب .
فأعادت شاهي كلامها قائلة: دي عرفتها، أنا عايزة أعرف رد فعلك أنتي بعد كده .
فأجابتها بعفوية قائلة: أكيد مسخرت بكرامته الأرض، حأكون عملت ايه يعني .
عدلت شاهي من جلستها وقالت: لا انتي تقعدي كده وتحكي من طقطق لسلامو عليكم .
جلست شمس وروت لصديقتها كل ما حدث منذ بداية اللقاء وعندما وصلت للنهاية كانت الفتاة مصدومة، فاغرة فاهها ثم تحدثت قائلة: قلتي ل(قصي الدالي) يلا، وطوز فيك وفِي فلوسك، وواد ملزق، وكمان مسكتيه من ياقة قميصه .
نظرت لها شمس ببراءة وقالت: اه عادي، وكان ممكن كمان أرزعه قلم لولا الراجل اللي كان بيحوش بينا، النوع ده لازم يتسك علي قفاه عشان يعرف أن الله حق، امال كنتي فاكرة اني حأسكت، يولع هو وفلوسه والشغل، انا بس كل اللي حارقني فلوس اللبس اللي جبته، ثم رفعت يدها إلي السماء قائلة: اللهي يولع بيهم .
حدقت شاهي بذهول وقالت: انتي مش معقولة، يا بنتي ده ابسط حاجة يلم عليكي الأمن يرموكي بره الفندق وتأخدي علقة محترمة .
فأجابتها بثقة: طب يعملها كده وأنا أفرج عليه أمة لا اله الا الله ...
وأثناء حديثها قاطعهما صوت طرقات قوية علي الباب، فانتفضت شمس من مكانها وأشارت شاهي إلي الباب قائلة: شفتي .. الله ينتقم منك يا بعيدة، حأتهزق علي اخر الزمن بسببك .
فقفزت شمس بعصبية شديدة من علي الفراش والتقطت ما وجدته أمامها (منفضة السجائر الزجاجية)وقالت وهي تهرع نحو الباب: طب يوريني نفسه، وفتحت الباب وهي ترفع يدها لتهوي بها علي رأس من أمامها .
صعق وليد عندما رآها هكذا وابتعد للخلف وهو يضع يده علي رأسه لحمايتها ويصرخ قائلاً: انا معملتش حاجة ... معملتش حاجة .
تسمرت شمس في مكانها، ثم أخفضت يدها وحاولت أن تتماسك وقالت بحدة: نعم، عايز ايه !، ايه اللي جابك !، جاي تطردني من الجنة، أنا سايباها ليكم أن شاء الله تتطربقع علي دماغكم .
حاولت شاهي اللحاق بها فقفزت من الفراش، وارتدت الروب الحريري بسرعة شديدة ولَم تحاول حتى أن تعدل من هيئتها التى مهما فعلت لن تنتقص من جمالها أنشاً واحداً، بل أنها كلما كانت علي طبيعتها كلما زاد جمالها، لذا لم تهتم سوي أن تضع الروب علي جسدها وتهرع خلف تلك المجنونة لتمنعها من ارتكاب اي كارثة، خرجت سريعاً وأمسكت بيد صديقتها من الخلف وهي تصرخ بها قائلة: شمس بلاش جنان، اهدي شوية، ولَم تنتبه سوي علي صوت تعرفه جيداً يقول: شهيرة، سرت القشعريرة بجسدها وأمالت رأسها ببطء من خلف جسد صديقتها الذي يقف حائل بينها وبين صاحب هذا الصوت، ورفعت بصرها نحوه، لتتسع عيناها في دهشة وتنطق بحروف اسمه بلا وعي: وليد .
وقف الاثنان في حالة من الصمت، لم ينطق أياً منهما بكلمة واحدة، صمتت الألسن وتحدثت العيون لتبوح بكل ما يجيش في الصدور،وتشابكت في نظرات طويلة لا يفصلهما سوي رجفة الجفن .
وقفت شمس بينهما تشاهد تلك النظرات الغريبة، والصمت المريب بينهما وعندما شعرت أن الامر قد طال، تنحنحت بصوت مسموع وقالت وهي تحرك يد أمام عين شاهي واليد الأخري أمام عين وليد: يا أخوانا يلي هنا، حد سامعني .
انتاب شاهي الحرج الشديد فأخفضت عينيها سريعاً وقالت: أهلا وليد أزيك .
وبدون أن يدرك وجد نفسه يمد يده ليحتضن كفها ويرفعه إلي فمه ليطبع قبلة رقيقة عليها قائلاً: بقيت كويس لما شفتك .
احمرت وجنتاها وحاولت ان تخفي خجلها وقالت: لسه بكاش زي ما أنت .
تنهد وليد بحزن وشوق شديد ثم قال: أنتي عارفة يا شهيرة، أنتي الوحيدة اللي لا يمكن أكذب عليها، بجد أنا فعلا بقيت كويس لما شفتك .
حاولت ان تغير مجري الحديث فقالت متسائلة: انت ايه علاقتك بالمشكلة اللي مع شمس .
شعر وليد بارتباكها فأجابها: أنا بشتغل مع قصي، أنا المدير العام لسلسلة فنادق الدالي .
ابتسمت شاهي برقة بالغة وقالت: واوو .. مبروك تستحقها .
صمت الأثنان مرة أخري، فالقلوب ما زالت تحاول أن تعي ما يحدث لها، والعين في شوق ولهفة لرؤية من حرمت منه طويلاً، نعم كانا في حالة صمت، ولكنها أبلغ من أي كلمات قد تقال .
ظلت شمس تنتظر نهاية لهذا المشهد الغرامي المؤثر، وعندما لم ينتهي، وكزت صديقتها في كتفها، انتفضت شاهي وحاولت أن تسيطر علي مشاعرها فأضافت قائلة: طيب ممكن تنتظرنا في الريسيبشن تحت، نغير هدومنا وننزل عشان تتكلم مع شمس .
شعر وليد بأنه لا يريد أن يتزحزح من أمامها، لقد طال الفراق، وزاد الشوق، وكأن رؤيتها مرة أخري فتحت باباً كان يظن أنه مغلقاً، ولكن يجب أن يتمالك نفسه، لن يستطيع ان يظل هكذا، فحرك رأسه بالأيجاب وقال: اوك .. في انتظاركم، ثم مضي بخطوات متثاقلة يتمني لو اطال البقاء قليلاً .
وقفت شاهي تشاهده وهو يرحل وبداخلها شعور غريب بالحنين له، اما شمس فقد تملكها الفضول والحيرة فقامت بجذبها إلي الداخل وأغلقت الباب ووقفت تحدق بها وهي تقول: ايه بقا جو التنهيد والتسبيل ده، مين سي وليد ده كمان .
صمتت شاهي قليلاً وتنهدت بعمق ثم قالت: ده أول حب في حياتي، وأكبر وجع فيها .