رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء الثاني بقلم منال سالم الفصل الرابع عشر
بداخل قاعة الأفراح بالفندق الشهير
وضع عدي قبضته في قبضة مهاب، ثم أسند المأذون قبضته عليهما، وأردف في الميكروفون بنبرة هادئة ب:
-قال تعالى: " وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ".. الزواج يا سادة هو أساس بناء أسرة كريمة في المجتمع، وله حكمه وآدابه، واليوم بفضل الله نعقد قران إثنين من أبنائنا .. فنسأل الله لهما التوفيق ..
إلتفت المأذون برأسه نحو عدي، وتابع بنبرته الثابتة ب:
-من فضلك ردد ورائي
إبتسم الأخير له إبتسامة هادئة وهو يجيبه بتلهف ب:
-اوكي
تنحنح المأذون بصوت خشن قائلاً:
-أنا عدي عبد الرحمن الشامي قد إستخرت الله، واطلب منك أن تزوجني إبنتك الآنسة ليان مهاب الجندي ( البكر ) الرشيد على سنه الله ورسوله، وعلى الصداق المسمى بيننا.
أخذ عدي نفساً عميقاً، وزفره على عجالة، وردد قائلاً بهدوء نسبي وهو ينظر في عيني مهاب:
-أنا عدي عبد الرحمن الشامي قد استخرت الله، وأطلب منك أن تزوجني ابنتك ال آآ... .. ال .. آآآ...
ثم صمت لثانية فإنتاب مهاب القلق مما يمكن أن يحدث .. هل سيغدر بهم عدي ويتسبب في فضيحة كبرى
وضعت ناريمان هي الأخرى يدها على قلبها، ونظرت بتوجس إلى عدي .. هل حقاً سيرتكب حماقة ما ؟
شحب لون وجه ليان وهي ترى الصمت الغريب الذي ساد فجأة في القاعة، فالكل ينتظر أن يكمل عدي جملته ..
ولكنه على العكس ظل صامتاً مما ألهب جو التوتر ..
راقبتها جايدا بإندهاش، فهي لا تعرف ما الذي أصاب رفيقتها المقربة فجأة ليبدو وجهها كالموتى ..
تعجب ممدوح من فعلة عدي الغير متوقعة .. وتسائل بحيرة في نفسه .. لماذا لم يكمل عبارته إلى الآن ؟
ثوانٍ مرت على الجميع وكأنها دهر .. قطعها صياح شاب ما من الخلف مازحاً ب:
-ايه يا عريس نسيت الكلام ولا إيه
تعالت الضحكات في القاعة، فخففت من حدة التوتر قليلاً .. ولكن أوجه ناريمان ومهاب وليان ظلت كما هي .. جامدة متصلبة يسودها الرعب ..
في منزل أوس بمنطقة المعادي
أنزل أوس تقى على ساقيها، وأجبرها على الجلوس على الأريكة الجانبية .. وأشار لعفاف بعينيه لتأتي إليه، ثم أمرها بخفوت ب:
-خليكي جمبها
أومأت برأسها مطيعة إياه وهي تجيبه ب:
-حاضر يا باشا
سار هو في اتجاه الشيخ الوقور الجالس بالصالة وبجواره محامي الشركات وموظفين أخرين ..
ثم جلس قبالتهم واضعاً ساقه فوق الأخرى، وأردف بصرامة:
-إبدأ يا شيخ !
هز الشيخ الوقور رأسه موافقاً، ثم سعل بصوت خشن، وشرع قائلاً:
-إن الحمد لله نحمده نستعينه، ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، فمن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وآآآ...
قاطعه أوس بضيق واضح يحمل التهكم في نبرة صوته وهو يحدجه بنظراته الشرسة ب:
-جرى ايه يا شيخنا، هو انت جاي تخطب خطبة الجمعة هنا
إنزعج الشيخ من أسلوب أوس الفظ معه، فرد عليه بجدية قائلاً:
-لأ يا بني أنا بس آآ...
قاطعه مجدداً بصوت أمر وهو يشير بيده:
-اكتب يا شيخنا الكتاب، خليني أخد راحتي مع ..
ثم سلط أنظاره الشرسة على تقى ليزيد من رعبها وهو ينطق بثقة ب:
-مع مراتي ...!
أمسكت تقى بكفي المدبرة عفاف التي ضمتها إلى صدرها محاولة الإختباء من مصيرها المزعوم ..
نظر الشيخ إلى تقى بريبة، ثم عاود النظر إلى أوس وسأله بحذر وهو يبتلع ريقه:
-هو العروسة موافقة يا بني ؟
أنزل أوس ساقيه، وإنحنى بجذعه للأمام، وحدج الشيخ بنظرات شرسة وهو يسأله بغلظة:
-هتفرق معاك ؟
هز الشيخ رأسه إيجابياً وهو يرد عليه بهدوء نسبي ب:
-اه يا بني .. ده جواز، وفيه قبول ورفض
إعتلى ثغره إبتسامة ماكرة .. ثم اعتدل في جلسته، وحدق في تقى بنظرات دقيقة متوعدة، وأخذ نفساً عميقاً، وزفره على مهل مجيباً إياه بغرور زائد:
-وماله، هو أنا برضوه هاتجوزها غصب عنها، إسألها بنفسك يا شيخنا
إلتفت الشيخ نحو تقى، وسألها بجدية:
-إنتي معترضة يا بنتي ؟
وزعت هي أنظارها بينه وبين المدبرة عفاف التي رمقتها بحنو ممزوج بالشفقة وإرتجفت بشدة وهي تحاول إجبار حالها على الرفض ولكن هل تستطيع تحمل عواقب قرارها هذا ..
هي تذكر وعيد أوس بتدميرها، والإنتقام من والدتها، وتشريد عائلتها .. وتعلم أنه قادر على فعل هذا .. يكفيها أن تنظر إلى وجهه المتصلب لتتأكد من صدق حدسها..
نظرت إلى المدبرة عفاف مجدداً محاولة البحث في عينيها عن شجاعتها الهاربة، لكنها قرأت فيهما الندم والحسرة ..
تنهدت في يأس، وبصوت متلعثم وخانق ويحمل الخوف أجابته
-آآ.. ل ... لأ
هز الشيخ رأسه ولم يعقب، بل أمسك بالأوراق التي كانت بحوزته، وبدأ يدون بها بعض الملحوظات، ثم سألها مرة أخرى بهدوء قائلاً:
-مين وكيلك يا عروسة ؟
نظرت له بعدم فهم وهي فاغرة شفتيها المرتجفتين ب:
-هاه
رفع الشيخ عينيه نحوها، وسألها بجدية:
-مين الوكيل عنك ؟
ردت بنبرة حزينة وهامسة لم يسمعها أحد إلا عفاف الملاصقة لها ب:
-ب .. با آآآ...
توقفت عن الكلام بعد أن أغمضت عينيها في حزن مرير ..
كم كانت تحلم بأن يزفها والدها لمن يختارها قلبه، فتقف مزهوة بهما معاً ..
ولكنها اليوم عاجزة عن معرفة مصير والدها، فأخر مرة رأته فيها حينما خرج للبحث عن خالتها.. ومن وقتها لم يعد ولم تعرف عنه شيء إلى أن إنتهى بها المطاف في براثن هذا الذئب ..
طال صمتها، وإزداد تعجب الشيخ، ولكن تدخل محامي الشركة قائلاً بصوت جاد وهو يخرج بطاقة هويته من حافظة نقوده:
-أنا وكيلها
تناول الشيخ البطاقة منه، وأسندها أمامه على الطاولة، وهو ينطق بتريث ب:
-على بركة الله
إلتوى ثغر أوس بإشتهاء مثير وهو يشهد بعينيه إستعداد الجميع للتوقيع على ذاك الميثاق ...
لقد اقترب من تحقيق حلمه في التلذذ بإستمتاع مثير بمن ستلبي رغباته الوحشية بضعفها الحقيقي ... وليس كما إعتاد بمقابل مادي وتأوهات زائفة ...
بداخل قاعة الأفراح بالفندق الشهير
تفرس عدي في أوجه الحاضرين مستمتعاً بنظرات الترقب الممزوجة بالخوف في أعينهم .. واعتلى فمه إبتسامة مراوغة ..
فجميع من بالقاعة يظن أن ليان هي فتاة طاهرة نقية لم يمسسها رجل غيره، فيما عدا أهلها ..
نظرات السخرية كانت هي السائدة على وجهه، هل يردد كذباً أنها فتاة ( بكر ) أم يفضح أمرها وتحدث الفاجعة ..
هتف المأذون متسائلاً بنبرة جادة:
-أقول تاني ؟
إلتفت عدي برأسه نحوه، ونظر له مطولاً .. ثم أجابه بلهجة يشوبها اللامبالاة قائلاً
-لأ .. أنا فاكر يا شيخنا، وهاقول !
تنفست ناريمان الصعداء وشعرت أن روحها ردت إليها من جديد ..
لقد كانت لحظات عصيبة بحق ..
مسحت بيدها على وجنتيها، فشعرت بملمسهما البارد، فتنحنحت بخفوت، وإبتلعت ريقها، وحاولت أن تستعيد هدوئها الإنفعالي، ورسمت قناع السعادة الغامرة وهي تهتف بمرح:
-مالوش حل عدي، دايماً يحب يهزر في المواقف الجد.
ردت عليها سيدة ما بلطافة:
-اه واضح
توجست ليان خيفة من عدي بعد الذي فعله .. وشعرت أن هناك شيئاً ما يضمره في صدره ..
أرادت أن تكذب حدسها، ولكن قلبها ينبئها بأن ما يحدث ما هو إلا مقدمة لشيء ما أسوأ ..
أثار ما فعله عدي حفيظة مهاب، ولكن ماذا سيفعل معه، هو من يتستر على فضيحة ليان، لذا عليه أن يصمت مجبراً، ويتمم تلك الزيجة دون أي إعتراض ...
في منزل أوس بمنطقة المعادي
انتهى الشيخ الوقور من تجهيز أوراق وثيقة الزواج، ثم دعا العروس بصوت هاديء ب:
-تعالي يا عروسة عشان توقعي هنا
نظرت تقى بذعر إلى عفاف، وتمسكت أكثر بها .. وودت لو تساندها وتمنعها عن إرتكاب تلك الجريمة الشنعاء ..
إحتضنتها الأخيرة بذراعها، وربتت على كتفها، وهمست لها ب:
-قومي يا بنتي
أجبرتها على النهوض من على الأريكة، وسارت محتضنة إياها إلى أن وصلت بالقرب من الشيخ الذي أسند الأوراق أمامها، ثم القلم .. وبهدوء مريب طلب منها:
-امضي هنا، وابصمي !
بأصابع مرتجفة حاولت تقى أن تمسك بالقلم الحبر وتوقع على وثيقة سجنها للأبد ..
مر أمام عينيها لحظات من حياتها السابقة ؛ طفولتها البعيدة وهي تلعب مع صغار الحارة بالعرائس والكرة .. ونداء أبيها لها حينما ولد أخيها الصغير، وفرحته بهما .. ثم لحظات الحزن حينما اكتشفوا مرضه المزمن ومعاناته لفترة طويلة قبل أن يتوفاه الله بسبب عجز عائلتها عن توفير نفقات عمليته
عودة خالتها من الخارج للمكوث معهم بعد فقدانها لعائلتها بالكامل وهي في حالة نفسية وعقلية سيئة
إصطحاب والدها الطيب لها في أول أيام دراستها في كل مرحلة تعليمية إلى أن وصلت للمعهد ..
فرحته بنجاحها الذي يتناسب مع قدرتها العقلية ..
سيرته الطيبة والعطرة التي كانت تدعوها للفخر به ..
صوت والدتها المتذمر وهي تعلمها قواعد الطهي وتنظيف المنزل والعناية بخالتها أثناء غيابها
لحظة بلوغها، وتلقين أمها لتعليمات صارمة بشأن إختلاطها بمجتمع الذكور
إرتدائها للحجاب، وتجنبها للحديث مع الغرباء .. ورفض أمها لعملها تحت أي ضغط للحفاظ على شرفها
تمتعها بحياتها البسيطة، وإشتياقها للدفء الموجود بين جدران منزلها المتهالك
حنينها إلى غرفتها، وإلى ملابسها البسيطة المحتشمة ..
إفتقادها لوجود أبويها معها في أخطر اللحظات في حياتها ..
شعورها باليتم –رغماً عنها – بسبب غيابهما ..
ثم المصائب التي توالت عليهم جميعاً بسبب إتهام باطل بالسرقة لوالدتها .. وما تبعه من بطش وجبروت شخص بغيض رفض أن يتحداه كائن لا حول له ولا قوة، فأوصلها إلى ما هي عليه الآن ..
طال ترددها، فوضعت عفاف يدها على كتفها، وضغطت عليه قليلاً لتنتبه الأخيرة لها ..
إلتفتت تقى لها نصف إلتفاتة، وحانت من عينيها نظرة حسرة وإنكسار .. فأومات عفاف لها بإستسلام هامسة ب:
-يالا يا بنتي، محدش فينا في ايده حاجة يعملها
راقبها أوس بثبات إلى أن إنتهت من التوقيع على جميع الأوراق .. فتنهد في إرتياح .. وتقوس فمه بإبتسامة شيطانية، ثم صاح بصوت جهوري آمر:
-كله برا ...!
في قاعة الأفراح بالفندق الشهير
تعالت الزغاريد والأغاني المبهجة لأحد المطربين الشعبيين بعد أن إنتهت مراسم عقد القران ..
وتراقص الحاضرون مع الفرقة المصاحبة للمطرب، واضافوا جواً من الحماسة ..
كانت عيني ليان تحمل نظرة عتاب لعدي الذي تلاعب بأعصابها وشكت في إتمامه للزيجة ..
لاحظ هو عبوسها .. فمال عليها سائلاً إياها ب:
-مالك يا ليوو ؟
نظرت له بإزدراء وهي تجيبه بحدة:
-ينفع اللي عملته ده !
ابتسم لها إبتسامة عريضة وهو يتابع مازحاً:
-بهزر يا حبيبتي، بس إيه رأيك أنفع أبقى كوميديان ؟
إزداد ضيق عينيها، وهتفت بعتاب:
-هو في هزار في الحاجات دي ؟!
أجابها دون تردد ب:
-أه طبعاً ..
نفخت في ضيق من ردوده العادية، وتابعت بإمتعاض قائلة:
-لأ بجد، أنا اتضايقت من اللي عملته، وفكرت إنك آآآ..
قاطعها عدي بوضع إصبعه على شفتيها، ورمقها بنظراته الشقية، وأردف برومانسية:
-اوعي تفكري في لحظة إني ممكن أسيب نصي التاني، ده أنا مصدقت إنك بقيتي ليا .. أنا بأحبك يا ليان !
فغرت شفتيها وتسائلت في إستغراب
-هاه، إنت بتحبني فعلا ؟
-ايوه يا حبيبة قلبي، ومش هانفترق عن بعض مهما حصل
ثم إحتضنها بين ذراعيه، فأسندت رأسها على صدره، وتنهدت في إرتياح مؤقت ...
في منزل أوس بمنطقة المعادي،،،،
تفاجيء الجميع بصوت أوس الأمر وبنهوضه المخيف ليعيد على مسامعهم مجدداً بغلظة أشد:
-كله يطلع براً، دوركم خلص ..!
لمعت عيناه ببريق شر مخيف وهو يحدجهم بشراسة ..
جمع الشيخ الوقور أوراقه في الحقيبة التي جاء بها، وعاونه محامي الشركات، بينما إتجه الموظفين إلى باب المنزل ..
لملمت المدبرة عفاف أشيائها، وأطرقت رأسها في خزي وهي تمتثل لأوامره ..
كم تمنت أن تمد يد العون لتلك الصغيرة، ولكنها مثلها عاجزة عن الوقوف أمام بطشه ..
إنكمشت تقى في مكانها وهي تنظر له بذعر، لم تستطع قدميها أن تحملاها لتنهض من مكانها، وتفر من أمامه ..
إحتضنت صدرها بذراعيها، وضمت ساقيها معاً .. وظلت ترتجف بشدة ..
أولاها أوس ظهره وهو يراقب خروج أخر فرد من منزله ليتحول وجهه للقتامة، وتسطع عيناه بشرر مستطر.. ثم إنفرج فمه لتظهر أنيابه خلف إبتسامته الشيطانية...!