رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء الثاني بقلم منال سالم الفصل التاسع والأربعون
جلست تهاني على عتبة باب المنزل وهي تنتحب بصوت مكتوم، وفركت ركبتيها المتآلمتين من أثر سقوطها بعد أن عادت خائبة الرجاء وفشلت في مقابلة ابنها..
ظلت تصدر أنيناً خافتاً، وتلوم بنفسها بشدة عن تفريطها في حقها في الظفر بإبنها قائلة بندم:
-يا ريتني ما سبته يمشي من هنا ! آآآه.. !
إستمعت إلى صوت تأوهاتها الجارة إجلال، وفتحت باب منزلها لتقف إلى جوارها وتردف قائلة بقلق:
-خشي بيتك ياختي، مالهاش لازمة الأعدة كده.
تنهدت بحسرة، وهزت رأسها للجانبين في إستنكار، وردت عليه بنشيج:
-أخش إزاي وأنا قلبي واكلني على كل اللي بأحبهم ؟!
مطت شفتيها، واجابتها بهدوء قائلة:
-ده نصيب، ومقدر ومكتوب !
لطمت على فخذيها وهي تندب قائلة بصوت مختنق:
-آآآآه.. يا مين يعترني فيهم
ربتت إجلال على كتفها في حنو، وأردفت قائلة بنبرة مواسية:
-إن شاء الله تلاقيهم، خشي بس جوا، واقعدي جمب أختك، كفاية اللي هي فيه، هتلاحق على بنتها ولا جوزها.
أطرقت رأسها في خزي، وأضافت بصوت منكسر:
-آآآه، ده أنا عيني منها في الأرض، ابني السبب في اللي جرى لبنتها
تابعت إجلال حديثها بهدوء ب:
-هو إنتي كنتي عارفة إن ده هايحصل، ربنا رايد
رفعت تهاني عينيها الدامعتين للسماء، وهتفت قائلة بصوت باكي:
-يا رب مد في عمري لحد ما أصلح اللي فات كله، يا رب !
إبتسمت لها إجلال إبتسامة باهتة، وهتفت قائلة بنبرة متفائلة
-إن شاء الله، ارمي همومك على ربنا، وعليه التدبير وجبر الخواطر، قومي يالا
نهضت تهاني بتثاقل من على الدرج، وإستندت بيدها على الدرابزون لتعتدل في وقفتها، ثم قرعت لها إجلال الجرس، لتفتح لها فردوس الباب بعد لحظات..
لم تنطق الأخيرة بكلمة، ولكنها رمقت أختها بنظرات ساخطة وتحمل العتاب.. ثم أولتها ظهرها، وولجت للداخل
ربتت إجلال على ظهر تهاني، وهمست لها:
-معلش اعذريها، وربنا يهدي سركم
وبالفعل دلفت تهاني للداخل، وأغلقت الباب خلفها بعد أن شكرت جارتهاعلى مواقفها الطيبة معها..
في قصر عائلة الجندي
عاد مهاب إلى القصر بعد أن إرتكب جريمته النكراء وهو بارد الملامح، جامد المشاعر، لا يبدو عليه أنه تأثر بما فعله..
ورغم هذا لم ينكر أنه خشي لوهلة أن يكون قد رأه شخص ما، أو سقط منه سهواً ما قد يدينه لاحقاً..
في حين وقفت ناريمان وهي تعض على أناملها من الخوف الشديد في شرفة غرفتها، وترقبت وصوله على أحر من الجمر..
وما إن لمحته يلج للقصر حتى تنفست الصعداء، ودلفت إلى غرفتها.. وظلت تجوبها ذهاباً وإياباً وهي تحدث نفسها بقلق ب:
-هايكون عمل ايه ؟ أووف، أعصابي مش مستحملة أي قلق خالص !
حاولت أن تتنفس بعمق لتسيطر على إضطرابها البادي بوضوح علىكل تصرفاتها، ولم تنجح في هذا..
فالفضول يقتلها لمعرفة ما حدث..
بعد أقل من دقائق معدودة، ولج مهاب إلى داخل الغرفة ووجهه متجهم للغاية، ورمقها بنظرات ساخطة، ولم ينبس بكلمة، وإتجه نحو التسريحة ليضع متعلقاته عليها..
سارت نحوه، ونظرت إليه بتفحص، وسألته بتلهف:
-ها، عملت ايه ؟
أجابها بنبرة جافة وهو ينزع رابطة عنقه:
-يهمك تعرفي أوي ؟!
ردت عليه دون تردد ب:
-أكيد
ثم تنحنحت بحرج، وهتفت قائلة بتلعثم:
-أقصد يعني عاوزة أطمن عليك !
إلتفت برأسه نحوها ليرمقها بنظراته المهينة قبل أن ينطق بنزق:
-واضح فعلاً إنك هاتموتي وتعرفي عشيقك جراله ايه !
إتسعت حدقتيها في خوف، وسألته بإرتباك جلي:
-هو.. آآ.. إنت قتلته ؟
أجابها ببرود مستفز وهو عابس الوجه:
-بكرة هاتعرفي من الجرايد
وضعت يدها على كتفه، ورمشت بعينيها وهي تسأله بتلهف قلق:
-مهاب، بليز قولي، أنا مش هافضل كده لحد بكرة !
لوى فمه في تأفف، ونظر لها بإحتقار، ثم أزاح يدها، وإتجه نحو المرحاض..
ابتلعت هي ريقها، وهتفت قائلة بذعر:
-أنا بقيت بأخاف منك، ومن سكوتك ده.
إستدار بجسده فجأة، وسلط أنظاره الحادة عليها قائلاً بشراسة:
-لازم تخافي يا ناريمان، لأن حسابك جاي قريب
فغرت فمها مصدومة وهي تنظر له بهلع:
-ايييه ؟
أجابها بقساوة أشد وهو يحدجها بنظرات أكثر إهانة:
-زي ما سمعتي، وأنا معنتش في صفك زي زمان، وابقي خلي حبيب القلب ينفعك !
وقفت في مكانها مشدوهة، عاجزة عن التفكير فيما سيحدث لها على يد زوجها بعد أن تأكدت من معرفته بخيانتها..
في منزل الجارة حكمت
تثاءبت حكمت بصوت شبه مسموع وهي تتمطع بذراعيها في إرهاق بعد أن جلست لفترة في الشرفة في إنتظار عودة ابنتها رحمة..
مطت فمها للجانب، وأردفت قائلة بضيق - وهي تشرأب بعنقها محاولة التدقيق في أوجه المارة، ورؤية مدخل الحارة:
-برضوه البت بتمشي اللي في دماغها، وبترجع متأخر، مش قادرة تصبر لحد ما نسيب المخروبة دي ونإب على وش الدنيا وتعمل اللي هي عاوزاه..!
ثم تنهدت في تعب، وأضافت قائلة بصوت ناعس:
-بوريه منك بِت ! آآآخ ياني !
تثاءبت لأكثر من مرة، وبدأ رأسها يتثاقل، وتغفو في مكانها، فهتفت قائلة بإنهاك:
-أنا أقوم أفرد جتتي شوية لحد ما تجي بدل ما جسمي قفش في بعضه !
ثم توجهت عائدة إلى الداخل وهي غير مدركة لما حدث مع فلذة كبدتها الوحيدة..
في منزل ممدوح الجديد
حضر رجال الشرطة والمباحث الجنائية ومعهم وكيل النيابة إلى منزل ممدوح، وتم إبعاد جميع السكان عن مسرح الجريمة لكي يقوم المتخصصون بإتمام عملهم..
تبادل الجيران أحاديث حادة وجارحة عن سلوكيات ممدوح المشينة، وتناثرت الأقاويل حول تردد بعض العاهرات والمشبوهات إلى منزله من آن لأخر..
وبدأ الضباط في تسجيل أقوالهم بعد الإستماع لشهادتهم..
كذلك سرد حارس البناية لوكيل النيابة ما رأه خلال نوبة عمله، وكيف أن صاحب المنزل مشهور بالعلاقات النسائية المتعددة..
وعلى الجانب الأخر، جلس ممدوح القرفصاء في إحدى زوايا غرفة الإستقبال وهو يحاول إستيعاب ما حدث..
وقف قبالته ضابط الشرطة، ورمقه بنظرات مهينة، وهتف قائلاً بصوت جاد:
-البس هدومك عشان تيجي معانا
رفع ممدوح رأسه للأعلى، ونظر له بإندهاش وهو يجيبه بصوت محتشرج:
-أنا.. أنا معملتش كده، أنا خرجت من الحمام لاقيتها مقتولة.
لم يحدْ الضابط بنظراته المحتقرة عنه، وتابع قائلاً بجمود:
-الكلام ده هيتقال في القسم، في محضر رسمي، دي جريمة قتل يا.. يا دكتور، لأ ومع واحدة شمال ! يعني فيها آداب كمان !
ابتلع ممدوح ريقه بتوتر شديد، وتشدق قائلاً بصوت متقطع:
-بس آآ..
قاطعه الضابط بصرامة ب:
-يالا، ولا تحب ناخدك كده !
أطرق ممدوح رأسه في خزي، فقد كان لا يزال خصره ملتفاً بالمنشفة القطنية، فنهض بحذر من على الأرضية.. وسار بصحبة الضابط في إتجاه غرفه نومه ليحضر ما يستر به سوءته !
في صباح اليوم التالي
في منزل تقى عوض الله
نهضت فردوس من على الأريكة وعضلاتها تأن من تيبسها بسبب نومتها لساعات على نفس الوضعية..
فركت وجهها بكفيها، ونظرت إلى زوجها المريض بحزن، وحدثت نفسها بضيق ب:
-إتكتب علينا الغلب من يومنا يا عوض، مابنلحقش نفرح ! آآآه ياني !
ثم سمعت صوت صافرة سيارة الشرطة يصدح في الخارج، فإنقبض قلبها، وركضت مسرعة في إتجاه الشرفة لترى ما الذي يحدث وهي تحدث نفسها بخوف:
-استر يا رب، البوليس جاي ليه ؟!
تأملت بنظرات متفحصة - من شرفتها القديمة - حفنة العساكر وهو يترجلون من السيارة ويدلفون إلى مدخل البناية، فإزداد خفقان قلبها، وعبوس وجهها، وحدثت نفسها بتوجس وهي تلطم على صدرها:
-لاحسن يكونوا جايبنلي خبر البت ! يادي النصيبة !
ثم سارت بخطوات راكضة في إتجاه باب منزلها، وفتحته، ووقفت على عتبته، وإنتظرت صعودهم بتوتر رهيب..
وبالفعل مر العساكر عند طابقها، فهتفت قائلة بخوف:
-في ايه يا شاويش ؟
نظر لها أحدهم بنظرات جادة، وهتف بصوت صارم:
-خشي بيتك يا ست !
فغرت فمها في تعجب ب:
-هاه، أخش !
ثم تنفست بإرتياح حينما وجدتهم يصعدون للطابق العلوي، وهتفت قائلة بخفوت:
-الحمدلله، مافيش نصيبة تانية !
ثم ضيقت عينيها بإستغراب، وقطبت جبينها وهي تتسائل بفضول:
-بس.. بس هما جايين هنا ليه ؟
في منزل الجارة حكمت
أفاقت حكمت من نومها العميق على صوت دقات قوية على باب منزلها، فإنتفضت مذعورة في فراشها..
ودعكت عينيها بإنهاك، وحدثت نفسها قائلة بضجر:
-إيه الرقع ( الخبط ) اللي على الصبح ده ! يا باي، هاتهدوا الباب !
ثم نهضت بتثاقل من عليه، وسارت بخطوات بطيئة في إتجاه باب منزلها وهي تهتف بصوت مسموع ومنزعج:
-بالراحة يا اللي على الباب، ايه هي الدنيا اتهدت ؟!
ثم قامت بفتحه لتتفاجيء ببعض العساكر يقفون أمام منزلها، ففغرت فمها مدهوشة وهي تسألهم بقلق:
-في ايه ؟
هتف أحدهم قائلاً بصوت جاد:
-ده بيت المدعوة رحمة !
قطبت جبينها، ونظرت له بتمعن وهي تجيبه بصوت شبه منفعل ك
-أيوه، أنا أمها
أضاف قائلاً بجمود وهو يشير بيده:
-طيب اتفضلي على القسم، البيه وكيل النيابة عاوزك
ابتلعت ريقها بتوتر، وسألته متوجسة:
-خير يا شاويش ؟ هو.. هو حصل ايه بالظبط ؟
أجابها بإقتضاب وهو بارد الملامح:
-معرفش !
هزت رأسها في إمتثال لأوامره، وقالت بهدوء:
-طيب، هاغير وأحصلك
تابع هو قائلاً بصوت قاتم:
-أوام يا ست، إحنا مستنينك تحت !
أغلقت هي الباب، ثم إتجهت نحو غرفتها، وهي تسأل نفسها بفضول:
-يا ترى عاوزني ليه في القسم ؟!
في مخفر الشرطة
قضى ممدوح ليلته خلف قضبان الحجز الباردة وهو جالس بمفرده في إحدى الزوايا المظلمة يعتصر عقله بشدة محاولاً الوصول إلى تفاصيل حدوث تلك الجريمة النكراء في منزله دون أن ينتبه له..
فكر كثيراً في كيفية حدوثها، ودار في رأسه عشرات من الأسئلة، أهمها هو كيف تسلل القاتل إلى منزله ومغافلته إياه لينقض على رحمة ويقتلها ببرود دون أن يدرك هو هذا..
عجز عن الوصول إلى إجابة مقنعة أو حتى مرضية، فهناك حلقة مفقودة في تلك المسألة..
وإزدادت شكوكه حول كونها مكيدة مدبرة للإيقاع به، والتخلص منه نهائياً..
قطع تفكيره المشحون صوت قاتم يأتي من بعيد ب:
-انت يا متهم ! تعالى، وكيل النيابة عاوزك
نهض من مكانه، ووجهه جامد التعبيرات، وسار بهدوء مريب في إتجاهه...
وفي مكتب أخر بالمخفر
تعالت صراخات حكمت عالياً بعد أن علمت بخبر مقتل إبنتها الوحيدة،فلم يخطر ببالها أن تصحو على تلك الفاجعة، وأن تخسرها ببساطة..
إعتصر قلبها بشدة لفقدانها، وزاد عويلها وهياجها، فنهض الضابط من مقعده وصاح بها:
-اهدي يا ست، امسكي نفسك شوية
هزت رأسها بعصبية مفرطة، وتشنجت في مكانها وهي تضيف بصراخ أشد:
-بنتي، قتلوها لييييييه، هاعيش لمين بعدك، آآآآآآآآآآآآآه، عملتي ايه يا بنتي عشان يغدروا بيكي، بنتي ! آآآآآآآآآآه.. هاتولي بنتي، يا لهوووووووي !
أشار الضابط للعسكري الواقف بالخارج قائلاً بصرامة:
-روح يا عسكري هاتلها مياه، الست ماستحملتش الخبر
تابعت هي عويلها ولطمت على صدغيها بعنف وهي تبكي بحرقة:
-آآآآآآه، قتلوكي يا بنت بطني في عز شبابك، روحتي هدر يا كبدي، آآآآآآآآآآه...!
أشار لها الضابط بكفه وهو يقول بحذر:
-اهدي يا ست شوية، واسمعي !
هزت رأسها في إتراض، وصرخت بعويل:
-أنا عاوزة بنتي، هاتولي بنتي، آآآآآآآآآآآآآآآآآآآه، بنتي !
ظلت تبكي بحرقة ومرارة، ففقدانها لم يكن بالأمر الهين عليها..
وما زاد من فجيعتها، هو معرفتها بأنها قتلت وهي في وضع مخل ومسيء إليها..
شهقت بصدمة، ولطمت على رأسها وهي تتحسر عليها قائلة:
-موتي خاطية يا بنت بطني، موتي وإنتي كده، آآآآآه، لا طولتي دنيا، ولا أخرة، آآآآآآآآآآآه
إحتقن وجهها بشدة وهي تلوم نفسها بقسوة على دفع إبنتها نحو طريق الخطيئة من أجل الربح المادي، فخسرتها للأبد:
تأوهت بأنين مختنق وهي تتابع ب:
-كنتي فين قبل ما اليوم ده يحصل، الموت خدك في لحظة يا غالية، آآآآآآآآآآه!
في المقر الرئيسي لشركات الجندي للصلب
فاجيء أوس الجميع وحضر إلى مقر شركته في وقت مبكر للغاية قبل أن يحضر حتى موظفيه..
ثم بتركيز شديد طالع بعض الأوراق الهامة، ثم إنتهى من توقيعها، فجمعتهم السكرتيرة الخاصة به على الفور، وأضافت قائلة بهدوء:
-تمام كده يا فندم
أرجع ظهره للخلف، وألقى بقلمه الحبر الذهبي على سطح مكتبه، ثم أشار له بطرف إصبعه وهو يرمقها بنظراته الجامدة قائلاً بجدية:
-اوكي، اتفضلي انتي !
إبتسمت له إبتسامة خفيفة وهي تهز رأسها بهدوء، ثم أولته ظهرها، وسارت بخطوات سريعة وثابتة خارج مكتبه..
أغمض أوس عينيه ليتذكر تلك اللحظة السعيدة العابرة التي حدثت له قبل أن يتوجه لعمله..
أغلق أوس صنبور الإستحمام بعد أن إغتسل بمياه ساخنة للغاية لكي يرخي عضلاته المتشنجة قليلاً..
لف خصره بالمنشفة، وجفف شعره بمنشفة صغيرة، ثم خرج من المرحاض لينظر إلى تقى الغافلة نظرات مطولة متأملاً سكونها الإجباري..
تنهد في إرتياح لأنها أصبحت معه الآن، وفي عهدته..
عقد ساعديه أمام صدره، وإستند بظهره على باب المرحاض
وتقوس فمه بإبتسامة صغيرة.. ثم همس قائلاً بحرارة وهو يدقق النظر في تعابير وجهها:
-تقى !
وكأنها إستجابت لهمسه، فإبتسمت له قليلاُ، وإنفرجت بعدها شفتيها للأسفل..
رمش بعينيه غير مصدقاً ما حدث للتو، وأرخى ساعديه في عدم تصديق، واقترب منها، وجثى على ركبتيه أمام الفراش، ثم مد يده ومسح بنعومة على وجنتها، وأردف قائلاً بتلهف:
-تقى.. سمعاني، تقى ! إنتي.. إنتي ضحكيتلي صح ؟!
لم تجبه، بل ظلت على وضعيتها الهادئة.. فتنهد بعمق، ثم رفع رأسه ليقبل جبينها، وتابع قائلاً بخفوت:
-المهم إنك معايا الوقتي
مسد على رأسها، ثم إعتدل في وقفته، وإتجه نحو خزانة الملابس لينتقي ما سيرتديه قبل أن يتوجه لعمله...
عقد عدي ما بين حاجبيه بإندهاش وهو يرى رفيقه أوس شارداً، ومرسوم على ثغره إبتسامة غريبة لم يعهدها فيه من قبل، ففغر فمه مشدوهاً، وهتف قائلاً بصوت مرتفع:
-لا بجد أنا مش مصدق، أوس الجندي بجلالة قدره بيضحك !
إنتبه الأخير له، وإنتصب في جلسته، وتلاشت إبتسامته، وسأله بصوت جاد وهو يضيق عينيه بحدة:
-عدي ! إنت هنا من إمتى ؟!
إبتسم له عدي إبتسامة عريضة، وهتف قائلاً بمزاح:
-من سنة يمكن !
قطب أوس جبينه، وتنحنح بصوت خشن، ثم قال بصوت جامد:
-مش وقت هزار، قولي إيه أخبار ليان معاك ؟
أخذ عدي نفساً مطولاً، وزفره على عجالة، وأجابه بصوت شبه حزين:
-وديتها المستشفى، ده أحسن حل ليها الفترة الجاية
مط أوس فمه وهو يضيف قائلاً بهدوء:
-تمام، هما هيتعاملوا معاها كويس
هز عدي رأسه موافقاً، وتابع بصوت هاديء:
-أها، عامة أهي فرصة برضوه أظبط حاجات في الشركة هنا بدل ما أحنا سايبن الدنيا على الأخر !
نهض أوس عن مكتبه، ودفع مقعده للخلف، ثم وضع يديه في جيبي بنطاله، وأردف قائلاً بصوت رخيم:
-عندك حق، أنا كمان قدامي كام ملف عن صفقات جاية مع وكلاء اجانب
أوما عدي برأسه موافقاً إياه، تشدق ب:
-أيوه، دول بقالهم فترة، أنا كنت ناوي حتى أخدهم في جولة سياحية قبل ما أظبط معاهم الإتفاقيات الرسمية، حاجة كده فوق البيعة زي ما بيقولوا !
أخرج أوس يده من جيب بنطاله، ووضعها على كتف عدي، وربت عليه بقوة قائلاً بنبرة حاسمة:
-سيب الجولة دي عليا.
عقد عدي حاجبيه في إستغراب واضح، فعادةَ أوس الجندي لا يقوم بمثل تلك الأمور بنفسه، وإنما يوكل بها خبراء متخصصين لضمان إرضاء العملاء، وخاصة ذوي الشأن منهم، واليوم هو يقرر الذهاب بنفسه، فزاد هذا من غرابة الموقف، وتسائل بفضول:
-إيه ده ؟ إنت ناوي تسافر بنفسك ؟ غريبة !
تنهد أوس بعمق، وأولاه ظهره، وسار في إتجاه الحائط الزجاجي، ووقف قبالته.. ثم أردف قائلاً بصوت جاد:
-أنا محتاج السفرية دي أوي
سأله عدي بإستفهام أكبر وهو يرمقه بنظرات متفحصة:
-ليه ؟
أجابه هو دون تردد ب:
-عشان تقى
فغر عدي فمه في تعجب قائلاً:
-نعم ! تقى !
إستدار أوس برأسه قليلاً للجانب، ورد عليه بصوت هاديء:
-أيوه، هي محتاجة تغير جو
سأله عدي بمكر وهو يقترب منه متفرساً في تعبيرات وجه رفيقه:
-هي ولا إنت ؟
وضع أوس يده على كتف رفيقه، ونظر له مباشرة بنظرات لامعة، وأجابه بصوت شبه منزعج:
-إحنا الاتنين يا عدي مكدبش عليك، عاوز أبعد عن كل القرف اللي هنا، و.. آآآآ
لم يكمل أوس عبارته الأخيرة حيث تفاجيء بوالده مهاب يقتحم عليه مكتبه في سابقة لم تحدث منذ سنوات و...!