رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء الثالث تأليف منال سالم الفصل السادس والثلاثون
( وانحنت لأجلها الذئاب )
في قصر عائلة الجندي
ضرب مهاب بقبضة يده بعنف على سطح مكتبه وهو يصرخ هاتفياً في محاميه:
-بأقولك يا نصيف الورق كله اللي يديني اتسرق من عندي!
صمت للحظة ليستمع إليه، وتابع بصوت محتد:
-لازم تتصرف بسرعة وتشوفلي أي طريقة أخرج بيها من البلد دي لحد ما أرتب أموري وأعرف انتقم من اللي عملوا فيا كده!
نفخ بصوت مسموع، ووضع يده على رأسه ليفرك فروته، وهتف بإنفعال:
-مافيش وقت، أنا مش ضامن هايعملوا ايه!
صر على أسنانه بقسوة، وضاقت عينيه وهو يكمل بغل:
-مش هاسيبهم، بس أئمن نفسي الأول!
ضغط مهاب على شفتيه، ودار حول نفسه في غرفة مكتبه، ثم صاح بعصبية:
-هيوصلك اللي انت عاوزه بس انجز!
ثم أنهى المكالمة، وزفر بعصبية .. وكور قبضة يده بغيظ وهو يردد بتهديد:
-بقى انتي يا ليان تسرقيني، دي أخرتها! ماشي .. ماشي، ليكي حساب معايا انتي واللي بعتتك ليا! هاحمي ضهري الأول، وبعدها هاخلص القديم والجديد ..!
في المستوصف الشعبي
مد أوس ذراعيه اللاتين تحملان تقى إلى عدي، فإلتقطها الأخير منه، وحملها برفق بين ذراعيه، واتجه بها نحو الخارج ولحق به إثنين من رجال الحراسة الخاصة ..
ثم سار بخطوات ثابتة في اتجاه شامل المقيد على الأرضية، وقد إنتوى أن ينتقم منه وبلا رحمة ..
شعر الأخير بحجم الخطر المحدق به، وصاح مستغيثاً بإهتياج:
-معملتش حاجة، أنا مظلوم، دول .. دول هما اللي بيجوا عندنا عشان نشيل وساختهم، واسألوا د. بدران.
هتف بدران هو الأخر مدافعاً عن نفسه:
-احنا ملناش دعوة، الكل بيبقى جاي هنا بمزاجه، مش بنضرب حد على ايده عشان يتعالج ولا عشان يداري عيوبه!
صرخت فيه المرأة بصوت غاضب منفعل:
-انتو مفكرينا ايه ؟ بناتنا مالهاش أهل عشان تجيوا على عرضنا وتنهشوه!
صاح رجل أخر بنبرة متوعدة وهو يلوح بعصاه:
-دول هايتعلقوا قبل ما نسلخ جلدهم من لحمهم.
تحرك أفراد الحراسة للجانب لإتاحة الفرصة لأوس للمرور بعد أن لكز أحدهم في جانبه ..
وقعت عيني شامل على عيني ذلك المتجهم الذي يقترب منه، فأنخلع قلبه من فرط الرعب .. واستعطفه برجاء:
-أنا .. أنا مجتش جمبها .. صدقني!
ابتلع ريقه بخوف، وتابع بنبرة مرتجفة وهو يراقبه:
-أمها .. أمها هي اللي جاتلي من كام يوم تقولي بنتي غلطت في الحرام، س .. ساعدني يا دكتور، وهادفعلك اللي انت عاوزه بس .. بس ساقطها، و.. وأنا مكونتش أعرف .. و.. وكنت هاجهضها بس!
لم يدرك شامل بغبائه أنه - بلا وعي – قد نزع فتيل القنبلة الموقوتة التي تقف أمامها ..
شعر بدران بتأزم الموقف، وهمس مغتاظاً:
-يخربيتك، ضيعت نفسك وضيعتني معاك!
انفجر أوس غاضباً بصورة غير طبيعية بالمرة، وإنهال بأشد اللكمات قسوة وعنف على وجه شامل حتى حطم فكه، وأنفه فتناثرت دماء الأخير عليه .. ولم يشعر بتلك الجروح الغائرة في قبضته نتيجة عنفها المفرط .. ثم أطبق على عنقه بضراوة، وخنقه بأصابعه حتى شعر بأنفاسه تتحشرج في حلقه ..
جحظ شامل بعينيه المتورمتين، وتشنج جسده بشدة .. فقد كان على وشك لفظ أنفاسه الأخيرة ..
تدخل أحد الحراس فوراً، وحاول إبعاد أوس عنه وهو يتوسله بقلق:
-باشا، هايموت في ايدك، سيبه واحنا هنربيه، باشا!
إنضم إليه أخر بعد أن أدرك خطورة الموقف، ونجح مع زميله في تحرير عنق شامل، ولكن لم يستطيعا منع أوس من ركله بقدمه بكل ما أوتي من قوة فأحدث به الكثير من الكدمات الموجعة ..
خارت قوى شامل تماماً، وسعل بشهقات متتالية وهو يكاد لا يصدق أنه نجا من الموت على يد ذلك الرجل العنيف الذي لم يتخيل شراسته مطلقاً، ولكنها لا تقارن بما هو مقبل عليه بعد ذلك ..
سمع الجميع بعد ذلك نباح حاد لعدة كلاب أنيابها تبرز بشراسة من بين لعابها المقزز .. فإلتفتوا نحوها بإستغراب ..
أرجع أفراد الحراسة أوس للخلف، وحاولوا تهدئته بحذر ..
بينما لم يحدْ هو بنظراته المحتقنة عنه .. وهدر بنبرة عدائية:
-هاموتك، هادفنك هنا!
صاحت المرأة بنبرة قاتمة وهي ترفع حاجبيها للأعلى ومشيرة بذراعها:
-دوري أنا بقى، أنا سبتك تاخد حقك الأول، جه وقتي معاه
اقترب رجل ما يحاول السيطرة على تلك الكلاب المسعورة من شامل، وأردف قائلاً بصوت متحشرج وهو ينظر نحو المرأة الغاضبة:
-أوامرك يا ستنا
أشارت بيدها وهي تجيبه بإبتسامة قاسية:
-سيبوا الكلاب عليه
جحظ شامل بعينيه مرعوباً، وهتف متوسلاً:
-لألألألأ .. ارحموني! لألألألأ!
ولكن لم يصغْ إليه أحد، وجرجره رجلين من أقاربها من قيوده بالقرب من المدخل، ثم ألقوه على وجهه، وأطلقوا تلك الكلاب الشرسة لتنقض بعنف عليه وتغرز أنيابها القاتلة في أجزاء متفرقة في جسده فصرخ صراخات مخيفة مستغيثاً .. ولكن لم يجرؤ أحد على التدخل ...
راقب بدران ما يحدث لزميله بهلع كبير، وتوسل لهم بإستعطاف:
-أنا هاقول على كل حاجة، بس سيبوني! أنا .. أنا بريء
وكأنه يحدث أصناماً، فقد هجم عليه أقارب المرأة وكالوا له من الضربات من جعله يصرخ بهوس من أجل تركه ...
في الخارج
تعالت التهليلات والصيحات بداخل المستوصف، فإنتاب الفضول معظم من يقفون بالخارج لمعرفة ما الذي يدور هناك ...
استطرد الشيخ أحمد حديثه قائلاً بعتاب:
-ماينفعش تسيب مراتك لوحدها وتفضل واقف هنا
رد عليه بحنق وهو يرمقه بنظرات لامعة:
-بنتي يا شيخنا
ربت الشيخ أحمد على كتفه، وحثه قائلاً بنبرة مهذبة:
-هي معاها جوزها، شوف مراتك، وخليك معاها!
تنهد بإنهاك، ولكنه امتثل لطلب الشيخ، وتحرك مبتعداً عنه .. بينما ظلت ليان واقفة في مكانها تتابع المشهد عن كثب .. ولكنها فغرت شفتيها بصدمة حينما رأت عدي يخرج مسرعاً من المستوصف حاملاً تقى وهي فاقدة للوعي ..
فركضت خلفه وسألته بهلع وهي تحاول اللحاق به:
-مالها ؟
أجابها بجدية واضحة وهو يتجه نحو السيارة الأقرب إليه:
-مش عارفين لسه!
سألته بتوتر وهي تزيح خصلات شعرها للخلف:
-طب انت رايح بيها على فين ؟
رد عليها بصوت لاهث:
-طالعين على العيادة بسرعة
هتفت بلا تردد وهي ترمش بعينيها:
-استنى أنا جاية معاك
أوقفته كلمتها الأخيرة، وحدق بها متعجباً .. ولكن سريعاً ما اختفت علامات الإندهاش من وجهه ومن نظراته، وأشار للحارس بفتح باب السيارة الخلفي، فجلست ليان أولاً، ثم انحنى بحذر للداخل ليسندها إلى جوارها، فلفت ليان ذراعيها حولها، وأردفت قائلة بجدية:
-أنا مسكاها كويس!
-تمام ..
هز عدي رأسه وهو يرسم ابتسامة باهتة على وجهه ثم اعتدل في وقفته، وأغلق باب السيارة، وأسرع بالجلوس على المقعد الأمامي، وهتف في الحارسين بصرامة:
-خليكوا هنا مع الباشا أوس لحد ما يمشي!
-أوامرك
ثم أشار للسائق بإصبعيه ليتحرك فوراً ..
على الجانب الأخر، وقفت تهاني بجوار المسعف الذي يضمد جراح فردوس الغائرة ..
بدت قلقة للغاية وهي تسأله بهلع:
-هي .. هي هتبقى كويسة ؟!
أجابها بنبرة رسمية:
-ربنا ييسر، أنا بأعمل اللي عليا، وبأوقف النزيف.
استمعت هي إلى صوت أختها الضعيف وهي تهمس قائلة:
-ت.. تقى!
مالت تهاني برأسها نحوها، واستطردت قائلة بتلهف:
-اسكتي يا فردوس، متتكلميش كتير
تابعت فردوس بصعوبة وهي تجاهد لفتح عينيها:
-شوفي تقى .. هآآ.. هاتضيع بسببي!
صدمت من عبارتها الأخيرة، وبدى عليها علامات الإنزعاج، ولكن لا وقت لتضيعه في معرفة التغفاصيل .. لذا ردت بجمود:
-طيب أنا رايحلها ..!
ثم إلتفتت نحو المسعف، وتوسلته برجاء:
-الله يكرمك خد بالك منها لحد ما أجيلك تاني!
رد عليها المسعف بجمود:
-اطمني، ده شغلي!
تركتها تهاني بصحبة المسعف وانصرفت عائدة نحو المستوصف لتطمئن على تقى، ولكن إعترض طريقها العم عوض، فتوسلت له بإستعطاف:
-فردوس هناك يا عوض، ماتسيبهاش لوحدها
رد عليها على مضض وهو يهز رأسه بخفة:
-ماشي ..!
خرج أوس من المستوصف وهو يفرك كفه المجروح بأصابعه ..
ناوله أحد حراسه منشفة ورقية نظيفة ليضعها عليه، فأخذها هو منه دون أن ينبس بكلمة ..
وما إن رأه الشيخ أحمد حتى أقبل عليه وهو يسأله بنبرة شبة هادئة:
-خير يا بني ؟
لم يجبه أوس، ولكن إحتقان عينيه كان كافياً للإشارة لعِظم الأمر ...
لمح الشيخ أحمد بطرف عينه المشهد الدامي، فشهق من هول المنظر، وصاح محتجاً:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، ايه يا إخوانا اللي بتعملوه ده .. لالالا .. ده مايرضيش ربنا، وقفوه ..!
انزعجت تهاني من إزدحام أهالي المنطقة، وصعوبة الوصول للمستوصف، ولكنها رأت ابنها وصدره ينهج بوضوح في أحد الزوايا ومن حوله رجاله، فإتسعت عينيها بخوف حينما دققت النظر فيه ورأت الدماء التي تلطخه، فسارت نحوه بخطى سريعة ...
وقفت على مقربة منه، وهتفت بإسمه بلهفة أمومية صادقة:
-آآ... أوس!
إلتفت نحو صوتها المألوف، وحدجها بنظرات قاسية .. ثم أشاح بوجهه بعيداً عنها ..
تحركت هي نحوه، ونظرت له بعينين دامعتين وهي تهمس له بصوت شبه مختنق:
-انت .. انت كويس يا بني ؟ فيك حاجة ؟
صرخ فيها بصوت متشنج وهو يحدجها بنظرات أكثر قسوة:
-جاية بتسألي عني ولا بتطمني إن خطة أختك نجحت ؟!
إنفرج ثغرها بذهول وهي تردد بإستنكار:
-هاه، إنت .. إنت بتقول ايه ؟
هدر بها بإهتياج وقد برزت مقلتيه من محجريهما:
-ايوه، ايوه مثلي دور الضحية!
ثم صمت للحظة، ولوى فمه ليضيف بقساوة:
-إنتو أمهات إنتو، ده انتو تستحقوا الرجم والقتل!
ازدردت ريقها بإضطراب واضح، وهتفت بصوت مرتجف:
-أنا مش فاهمة منك حاجة!
وضع أوس يديه على كتفيها، وهزها بعنف وهو يصرخ فيها بجنون:
-ايييييه! مجاش في بالك للحظة إن تقى كان ممكن تروح مني ومالحقهاش ؟ ولا حتى حد ينقذها من الوسخ اللي اتقطع جوا ده ؟!
احتقنت عينيه، واصطبغت بتلك الحمرة المميتة وهو يتابع معاتباً بصوت أكثر تشنجاً:
-طب مهانش عليكي ولا على اختك إني أتحرم من ابني قبل ما يشوف الدنيا، ولا .. ولا تلاقيكي عاوزاني اتعذب زيك ؟!
هزت رأسها نافية، ودافعت عن نفسها بتوسل:
-حرام عليك يا أوس، أنا معرفش حاجة من اللي بتقولها دي
هزها بعنف وهو يصرخ فيها بإنفعال:
-كفاية كدب بقى
إختنق صوت تهاني، وأجهشت بالبكاء وهي تبرر قائلة:
-انت .. انت بتظلمني، أنا كنت سايبة تقى مع أمها وخدت ليان معايا نجيب الورق اللي يثبت جرايم مهاب من القصر!
تشنج وجهه أكثر، وضغط على أسنانه بشراسة هادراً فيها بعصبية:
-اييييه! كمان، كنتي عاوزة تضيعي بنتك، مكفاكيش أنا، قولتي تخلصي من ليان بالمرة!
أشارت بكفها محتجة على إتهامه المجحف لها، وردت عليه قائلة بنشيج:
-إنت غلطان، والله أبداً، أنا مكونتش عاوزاها تجي من الأول، ورفضت ده، بس .. بس هي صممت تعمل كده عشاني وعشانها وآآ...
قاطعها قائلاً بسخط جلي:
-أنا مش متخيل إن في أمهات زيكم، لأ وأنا بإيدي دي جبتهم عندكم، آآآآه!
شهقت بأنين وهي تتوسله بإستعطاف
-اهدى يا أوس واسمعني للأخر
ضاقت عينيه بحدة، وأشار لها بإصبعه مهدداً بنبرة عدائية:
-صدقني يا .. يا مدام تهاني هاندمك إنتي وأختك عن كل لحظة أذيتي فيها تقى وليان، ومش هتتهنوا لثانية!
إنتحبت والدته بأنين مسموع وهي ترجوه أن يعطيها الفرصة للدفاع عن نفسها، ورغم هذا لم يرقْ قلبه لها، بل حدجها بنظرات نارية إحتقارية، ثم دفعها بقسوة من كتفها بكتفه، وابتعد عنها وهو يطلق سباباً لاذعاً .. ولكن أوقفه مسعف ما ليضمد جراح يده، فلم يعبأ به أوس، ودفعه من صدره بعنف ليبحث عن قاتلة زوجته ليذيقها العذاب ..
لم تتحمل تهاني كل هذا اللوم بمفردها، فركضت عائدة إلى أختها لتفهم منها حقيقة الأمر ...
انتهى المسعف من ربط رأس فردوس لوقف النزيف مؤقتا ً، والتفت قائلاً لزوجها بجدية:
-احنا هننقلها فوراً على المستشفى
رد عليه عوض بخفوت:
-ماشي، شوف الصالح واعمله
هتفت تهاني بصوت متشنج ولاهث وهي تلوح بذراعها:
-استنوا!
ثم وقفت أمام سيارة الإسعاف، وصرخت بإنفعال:
-عملتي ايه في بنتك يا فردوس ؟
جحظ عوض بعينيه، وخفق قلبه بقوة عقب تلك الجملة الأخيرة ..
ابتلعت فردوس ريقها بصعوبة، وتلعثمت وهي تجيبها بصوت واهن:
-آآ.. أنا ...!
إهتاجت تهاني صارخة بغضب وهي ترمقها بنظرات قاتلة:
-إزاي تعملي في تقى كده ؟
سألها عوض بهلع وهو يرمش بعينيه من التوتر:
-هي .. هي عملت ايه ؟
أضافت تهاني قائلة بتشنج:
-بقى انتي يا فردوس تموتي بنتك بإيدك ؟ طب ليييه ؟ هان عليكي تضحي بضناكي كده بالساهل ؟ إيش حال ما أنا قدامك بأموت عشان أخد ولادي في حضني تاني!
في نفس التوقيت بحث أوس بعينيه عن فردوس ليمسك بها قبل أن تفلت بجريمتها، وتبعه رجال حراسته، فوجدها بالفعل عند سيارة الإسعاف، فكز على أسنانه بقوة، وكور قبضة يده بشراسة، ولكنه تسمر في مكانه حينما رأى تهاني أمامه وتتشاجر مع أختها بصوت جهوري غاضب .. فأشار لرجال حراسته بالتوقف، والتراجع للخلف، ثم تحرك بحذر ليقف على مقربة منهما ليراقبهما...
هتفت فردوس بصعوبة وهي تنظر لأختها برجاء:
-غ.. غصب عني .. ك.. كان هايموتها
صرخت فيها تهاني بعصبية:
-مين ده ؟
أجابتها بصوت متقطع:
-ط.. طليقك مهاب!
اشتعلت مقليتها بغضب وهي تردد بعدم تصديق:
-اييييه ؟ مهاب!
تابعت فردوس مبررة بصوت واهن:
-خ.. خوفت عليها منه .. وآآ..
هدرت فيها تهاني بقسوة:
-تقومي ترميها في النار بإيدك ؟ تموتي بنتك وحفيدك ؟
ذرفت فردوس العبرات وهي تقول بندم:
-ع.. عقلي مكانش فيا، وافتكرت إنها هترتاح لما أعمل ده!
لطمت تهاني على صدرها بكفها، وهتفت بنشيج:
-حرام عليكي يا فردوس، ضيعتي أخر فرصة ليا أقرب من ابني تاني، هو مفكر الوقتي إني السبب في اللي حصلها، لأ وكمان هايحرمني من ليان أخته!
حدقت فيها فردوس بنظرات أسفة وهي تهمس:
-أنا ..
ابتلعت تهاني غصة مريرة في حلقها، فغباء أختها قد طالها، وأفسد ما بينها وبين ابنها ..
هزت رأسها مستنكرة وأكملت بصوت منتحب يحمل التهكم:
-انتي استحالة تكوني أم أصلاً، انتي معندكيش ذرة أمومة واحدة عشان تحسي باللي أنا فيه!
أجهشت بالبكاء، ودفنت وجهها في راحتي يدها، وأصدرت شهقات متتالية مسموعة، ثم رفعت عينيها لتعاتب أختها وهي تكمل بأنين:
-سنين كنت محرومة من عيالي ومن إني أسمع كلمة ماما من ابني الكبير، اتبهدلت واتظلمت واتمرمطت واترميت في الشارع وعقلي مكانش فيا، وجع قلبي زاد لما حرموني منه غصب عني، اتقهرت وكنت بأموت مليون مرة في اليوم وأنا مش قادرة اطول ابني ولا أخده في حضني!
إحتضنت تهاني نفسها بذراعيها، وأضافت بتحسر:
-جربتي إحساسي ده يا فردوس، جربتي ولادك ينكروكي وإنتي عايشة ؟ جربتي تكوني أم ميتة بالنسبالهم ؟
أغمضت فردوس عينيها ندماً، وهمست بصعوبة:
-آآ.. أنا
أكملت تهاني بآلم واضح في نبرتها الباكية:
-أنا كل يوم بأندم إني محاولتش أعمل أكتر من اللي أقدر عليه عشان أرجع أوس تاني لحضني ..!
ثم صمتت لتكتم فمها بيدها فتمنع تلك الشهقة المريرة من الخروج، واستطردت قائلة:
-ولما ..عرفت بإن ليان بنتي ح.. حية لسه، ومصدقت انها رجعتلي وبقت معايا!
رفعت عينيها في وجه اختها، ورمقتها بنظرات تحمل الآسى، وأكملت بمرارة:
-خ.. خلاص راحت .. راحت مني بسببك إنتي!
توسلت لها فردوس بصوتها المختنق:
-س.. سامحني، أنا مقصدش
صرخت تهاني بوجع كبير وهي تضرب رأسها بكفيها:
-آآآآه يا حرقة قلبي، انتي النهاردة بعدتي ولادي عني للأبد! منك لله يا فردوس، منك لله!
لمعت عيني عوض، وبدأ بالبكاء حزناً على ابنته، وعاتب زوجته بصدمة:
-ليه يا فردوس ؟ هان عليكي بنتنا تقتليها ؟
نظرت إليه فردوس، وهمست لها بأسف:
-ع.. عوض .. إنت .. إنت مش عارف حاجة
ضرب كفه على كفه الأخر المسنود على عكازه وهو يردد بتحسر:
-إنا لله وإنا إليه راجعون، إنا لله وإنا إليه راجعون!
ثم أولاها ظهره، وغمغم مع نفسه بحزن كبير .. فجاهدت فردوس لترفع نبرة صوتها وهي تقول برجاء:
-اس.. استنى .. يا عوض، طب اس.. اسمعوني للأخر!
شعر أوس بأنه تلقى موجات حادة من الصدمات المتتالية التي أصابت تفكيره بالعجز ...
حالة من الإستياء والسخط سيطرت عليه .. وجعلته متخبطاً في الوصول لقرار نهائي بشأن كل شيء ...
نعم لقد أصبح في وضعية يُحسد عليها، ما بين مطرقة تهاني التي دفعت بتهورها شقيقته لتقف في مواجهة غير محمودة العواقب مع أبيه المتحجر القلب واعترافها بمعاناتها التي لم تفارقها للحظة منذ ابتعادها عن فلذات كبدها، وبين سندان فردوس التي أثرت أن تتخلص من جنين ابنتها بالإتفاق مع نفس الشخص القاسي، فخسرت للأبد من لم تتأخر للحظة عن الدفاع عنها حتى بروحها .. وكلتاهما بلا أدنى تفكير عاقل ألحقت الأذى بأقرب أحبائهم ...
لقد بات أوس بمفرده الآن هو الشخص الوحيد الموكل إليه – رغماً عنه - أن يقف في مواجهة نهائية محتومة المصير مع والده ليحسم كل شيء ... وللأبد...!