رواية ذئاب لا تعرف الحب الجزء الثالث تأليف منال سالم الفصل الخامس عشر
( وانحنت لأجلها الذئاب )
كان يصارع الأمواج المتلاطمة بأقصى طاقته ليظل جسده طافياً على السطح ..
ابتلع أوس قدراً كبيراً من المياه، واختنق حلقه، ورغم هذا ظل صادماً إلى أن ارتطم جسده بذلك النتوء الصخري ..
فصرخ بصوت مكتوم، وآلم شديد كاد أن يفتك بصدره .. وتصلب جسده، وعجز عن الإستمرار ..
وبدأ يستسلم للغرق ..
سمع صوتها يناديه بإسمه في ظلماته الحالكة .. فأدار رأسه بعصبية بحثاً عنها ..
ناداها بصوته المتحشرج لعلها تنتبه له، وتدرك مكانه:
-تقى ..تقى!
لكنه لم يراها .. لا شيء سوى رذاذ الأمواج المالح الذي يلهب عينيه أكثر، ويعوق إبصاره ..
كلمات أخيرة متقطعة التقطتها أذنيه بوضوح فكانت كالمشكاة التي أضاءت ظلمته فرأى قارباً تجثو فيه وممددة لذراعها نحوه ...
(( أنا.. أنا حامل .. ماتسبنيش ))
قوة رهيبة إنتشرت في خلايا جسده، فزادت من مقاومته للغرق، وأسرع سابحاً في إتجاهها، ليبدأ عقله تدريجياً في العودة إلى أرض الواقع .. ولكن شبه واعياً ..
تحركت سيارة الإسعاف – وصوت صافرتها يعلو بشدة - وسط تكدس السيارات لتشق طريقها في الزحام لتصل إلى المشفى في أسرع وقت ...
ظلت تقى مسندة لكف أوس على وجنتها، وهمست له بصوت مختنق يحمل الآسى:
-هاتسيبنا لمين يا أوس ؟
تطلعت إليه بعينيها المغرورقتين بالعبرات، وهتفت بصوت متحشرج:
-رد عليا! أنا حامل في ابنك، وإنت .. وإنت ساكت كده، مش هاتقول حاجة.
رفعت كفها الأخر لتمسح عبراتها عنها، وأكملت بهمس مرير:
-قول أي حاجة ريحني! ماتسبنيش كده أتعذب!
لهثت وهي تحاول السيطرة على نوبة بكائها ..
فتح أوس عينيه نوعاً ما ليرى طيف وجهها، ولكن عاود غلقهما بإنهاك ..
نظر لها المسعف بأسف، وتفقد تعابير وجهها بإهتمام ..
ثم قاطع حديثها بجدية:
-مدام ماينفعش اللي بتعمليه، لو حضرتك حامل ده بيأثر على الجنين، وممكن يعمل مضاعفات.
أدارت رأسها ناحيته لتنظر له بإجهاد .. فتابع بهدوء جاد:
-حضرتك لازم تبقي عارفة إن الحالة النفسية السيئة ممكن آآ... تعمل اجهاض!
شهقت مصدومة، ووضعت يدها على فمها لتكتم صرختها .. فحاول تهدئتها قائلاً وهو يشير بكفه:
-أنا مش عاوز أقلقك، بس لازم تاخدي بالك أكتر من كده، المريض هايبقى كويس، احنا عملنا الاسعافات الأولية معاه، والمستشفى اللي رايحينه هيتعامل مع حالته بحرفية!
بداخل سيارة عدي
ظل عدي يضغط بقسوة على بوق السيارة حتى تفسح السيارات العالقة أمامه الطريق ليفتح المجال لسيارة الاسعاف لتصل في أسرع وقت للمشفى ..
كانت تبكي بلا توقف وهي تهز جسدها بعصبية، وأكملت نواحها قائلة:
-يا رب مايسمعني عنك حاجة وحشة يا بني، يا رب يحميك ويشفيك، يا رب أنا مش هاستحمل اخسره تاني
نظر لها عدي من طرف عينه، وتنهد بحرقة ليضيف:
-ادعيله يا مدام تهاني.
ثم ضغط بشراسة على البوق ليلفت إنتباه السائق الذي يسير أمامه، وصاح بصوت جهور غاضب:
-وسع ياخي هي مش نقصاك!
رفعت تهاني بصرها للسماء، وأشارت بسبابتيها للأعلى وهي تدعي بصوت باكي:
-منك لله مهاب، انت السبب في كل ده .. حسبي الله ونعم الوكيل، أشوف فيك يوم، ضيعت ابني وبهدلت مراته!
كز عدي على أسنانه بغيظ، فقد كانت محقة في كل كلمة قالتها .. هو أفسد كل شيء، وحوله للأسوأ ..
تسائلت تهاني وهي تتلفت حولها بحيرة:
-هو .. هو احنا رايحين فين يا بني ؟
تمنى عدي ألا تسأله هذا السؤال فيضطر أسفاً للإجابة عليه، فقد كان يتوقع ثورتها إن علمت بوجهتهم .. لذا رد عليها على مضض وهو محدق أمامه:
-على مستشفى الجندي!
انفرج فمها مصدوماً، وشهقت محتجة:
-ايييه! هتاخد ابني على المستشفى دي ؟ لييييه يا بني ؟ هو .. هو آآ...
قاطعها بهدوء زائف رامقاً إياها بنظرات ثابتة:
-مش هاينفع يروح مكان تاني إلا هناك، دكتور مؤنس مستنينا، وهما هايعرفوا يتعاملوا معاه.
ردت عليه متذمرة وهي تضرب بكفيها حجرها:
-يعني اللي عمل المستشفى دي معملش غيرها
ضغط على شفتيه، ونفخ وهو يجيبها بضيق:
-أنا عارف ان في مستشفيات تانية، بس الوقتي لازم نتصرف ونروح على هناك وبعد ما نطمن على أوس نبقى ننقله!
أسندت يدها على مقدمة رأسها، وتنهدت بإنهاك وهي تدعو قائلة:
-ربنا يسترها عليك يا بني، ويحفظك من كل سوء! يا رب .. يا رب!
في المقر الرئيسي لشركات الجندي للصلب
تطلع الحارس الأمني أحمد للافتة الشركة، وأخذ نفساً مطولاً ليسيطر به على توتره .. وحمس نفسه بشجاعة مصطنعة:
-متخافش يا أحمد، انت بتعمل الصح، لازم يعرف بالمخطط الوسخ اللي عاملينه عليه، ويعرف مين حبيبه من عدوه!
ابتلع ريقه، وسار بخطوات مترددة نحو البهو الفخم ..
إلتفت بعينيه باحثاً عن مكتب الإستقبال، فلمحه من على بعد، وتحرك نحوه وهو يضغط على أصابع يده بإرتباك ..
توقف أمام مكتب موظف الاستقبال، ونظر إليه بنظرات حائرة .. وظل صامتاً للحظات يفكر ملياً فيما هو مقبل عليه ..
تعجب الموظف من صمته المريب، وسأله بإستغراب يعلو وجهه وهو يتفحص هيئته البسيطة:
-أيوه!
انتبه أحمد إلى صوته، ورفع رأسه ناحيته ليشرع حديثه بإرتباك:
-أنا .. أنا كنت عاوز آآ... أقابل أوس الجندي
رمقه الموظف بنظرات ساخطة قبل أن يجيبه بتهكم:
-هو حضرتك مش عارف إنه في المستشفى!
بدى أحمد كالأبله بعد تلك العبارة، وتابع قائلاً بتلعثم:
-هه .. أقصد يعني أقابل أي حد من مكتبه
سلط الموظف أنظاره على بعض الأوراق الموضوعة أمامه، وسأله بنبرة رسمية:
-مين بالظبط ؟ وهل في ميعاد سابق ؟
ارتبك أحمد، ولم يعرف بماذا يجيبه .. فكل ما كان يشغل تفكيره وقت مشاهدته لحلقة البرنامج المثيرة للجدل هو الوصول لأوس وإبلاغه بالمخطط الدنيء الذي يُحاك ضده وضد تقى ..
زفر الموظف قائلاً بنفاذ صبر وهو يشير بيده:
-يا أستاذ لو معندكش حاجة تقولها يا ريت تتفضل!
ضاقت عيني أحمد، وعقد ما بين حاجبيه ليرد عليه بحنق:
-أنا مش جاي أهزر، أنا كنت عاوز الباشا في موضوع مهم
تابع الموظف حديثه قائلاً بإمتعاض:
-هو مش موجود، وعدي باشا ماسك مكانه
همس أحمد بإهتمام:
-هاه! عدي!
أشار له الموظف بعينيه قائلاً بجدية:
-يا ريت حضرتك تتفضل تشوف وراك ايه
فكر أحمد مع نفسه قائلاً بصوت مسموع:
-مافيش إلا هو .. هايقدر يوصلني ليه
وضع أحمد يديه على سطح المكتب، وهتف بتلهف:
-معلش ممكن تخليني أقابل الباشا عدي
سأله الموظف ببرود وهو ينظر له شزراً:
-في ميعاد سابق ؟
هز أحمد رأسه نافياً وهو يجيبه بتوتر:
-لأ .. بس الموضوع مهم
لوى الموظف فمه ليتابع بسخط وهو يضرب بيده سطح المكتب:
-ماينفعش، بدون ميعاد سابق مقدرش أخليك تقابله
حدق فيه أحمد قائلاً بإصرار:
-الموضوع مسألة حياة أو موت.
تجهم وجه الموظف مضيفاً ببرود مستفز:
-مش هاينفع، في تعليمات مشددة بإن محدش يقابل مدير الشركة ولا رئيسها بدون أي مواعيد!
ثم أشار بذراعه قائلاً بنفاذ صبر:
-واتفضل خليني أشوف شغلي
يأس أحمد من محاولة إقناع موظف الإستقبال بإتاحة الفرصة له لمقابلة عدي .. فتراجع مبتعداً، وفرك بكفه طرف ذقنه، ثم تمتم مع نفسه بإصرار أشد:
-لازم أتصرف وأوصلك!
في السجن النسائي
في مكتب مدير السجن
وقفت ناريمان أمام مدير السجن النسائي وهي عاقدة لكفيها معاً، وصاحت بجدية وهي محدقة به:
-يا فندم أنا محتاجة أقابل هياتم ضروري!
رد عليها بنبرة رسمية وهو يشير بإصبعيه:
-مش هاينفع يا ناريمان، في مواعيد مخصصة للزيارة
توسلت له برجاء جلي:
-أرجوك يا فندم، الموضوع مهم ومايحتملش التأجيل
سألها بإهتمام وهو ينظر لها بتمعن:
-بخصوص ايه ؟
إرتبكت من سؤاله، وتلعثمت وهي تجيبه:
-هاه .. حاجة تخص قضيتي!
أخذ مدير السجن نفساً عميقاً، وزفره على مهل، ثم نهض عن مقعده، ودار حول مكتبه ليجلس على طرفه، وتشدق قائلاً بجدية:
-شوفي يا ناريمان، انتي هنا في سجن مش في منتجع ولا في نادي الروتاري، في قوانين وقواعد ماشيين عليها، لما يجي ميعاد الزيارة تقدري تقابلي اللي انتي عاوزاه!
نظرت له بحدة، وصاحت بنبرة شبه منفعلة:
-بس أنا مقدرش أستنى لحد ميعاد الزيارة
نظر لها ببرود، وتابع قائلاً بعدم إكتراث:
-وأنا مش في ايدي حاجة اعملهالك!
ثم أشار برأسه للصول الواقفة في الخلف وهو يقول بنبرة رسمية:
-ويالا اتفضلي .. خديها يا شاويش
هزت الصول رأسها، وأدت التحية العسكرية وهي تجيبه بنبرة جادة:
-تمام يا باشا!
ثم تحركت نحو ناريمان، وقبضت على ذراعها، ودفعتها معها قائلة بحسم:
-اتحركي يا مسجونة!
سارت معها ناريمان مستسلمة إلى خارج الغرفة، وغمغمت مع نفسها بضجر وهي تتحرك في الرواق:
-طب أبلغها ازاي اني عاوزاها!
مالت عليها الصول برأسها، وهمست لها بحذر وهي تتلفت حولها:
-أنا أقدر أساعدك
إلتفتت لها ناريمان برأسها، وحدقت فيها بعدم تصديق وهي تسألها بإستغراب:
-هاه، إزاي ؟
ردت عليها بخفوت وهي ترمقها بنظرات ذات مغزى
-بالتليفون!
ثم صمتت لتضيف بنبرة ماكرة:
-بس كله بتمنه!
إلتوى فم ناريمان بإبتسامة باهتة وهي تجيبها بنزق ودون تردد:
-ماشي، وأنا هديكي اللي عاوزاه!
في مشفى الجندي الخاص
راقب الطبيب مؤنس الطريق بدقة شديدة، وظل ينظر في ساعة يده بتوتر واضح، فبعد أن أبلغه عدي هاتفياً بتدهور حالة أوس، أخذ على عاتقه مسئولية رعايته حتى يستعيد عافيته ..
لمح سيارة الإسعاف من على بعد وهي تقترب من البوابة الرئيسية للمشفى، فصاح بصوت جهوري وهو يلوح بذراعه لطاقمه الطبي:
-بسرعة اجهزوا، الباشا أوس وصل
وبالفعل ركض الجميع نحوه .. وانتظروا بترقب توقف السيارة حتى يتمكن المسعفون من إنزاله ..
تفاجيء الطبيب مؤنس من وجود تقى بالداخل .. ونظر لها مندهشاً ..
كانت الأخيرة قابضة على كفه، ومتعلقة بالتروللي الطبي، فهتف فيها المسعف بصوت جاد:
-مدام من فضلك، عاوزين ننزل المريض
أومأت برأسها موافقة، وأرخت أصابعها عن كفه .. وتحركت بحذر إلى خارج السيارة، ولكنها شعرت بدوار يصيبها، فكادت أن تتعثر أثناء نزولها، فأسرع الطبيب مؤنس بإسنادها من ذراعيها، وتسائل بإهتمام:
-انتي كويسة ؟
هزت رأسها بخفة وهي تجيبه بصوت مبحوح:
-آآآ.. أيوه ..
حركها الطبيب مؤنس بحذر بعيداً عن الباب وهو يقول بصوت جاد:
-تمام .. تعالي على جمب!
أسرع المسعفون في دفع التروللي الطبي نحو المدخل، وتولى الفريق الطبي إدخال أوس إلى غرفة الطواريء للإشراف على حالته ..
أوقف عدي سيارته بصورة مفاجئة أمام المدخل، وترجل منها دون أن يطفيء محركها ليركض خلف رفيقه ..
ترجلت تهاني هي الأخرى من السيارة، وسارت بخطوات سريعة وهي تلهث نحو المدخل ..
تسمرت تقى في مكانها لوهلة .. وازدردت ريقها بخوف وهي تطالع بعينيها المنتفختين بوابة الإستقبال ...
في السجن النسائي
راقبت الصول الممر بحذر شديد، وإلتفتت برأسها للجانب لتهمس بجدية:
-بسرعة
هزت ناريمان رأسها عدة مرات وهي تضع الهاتف على أذنها، قائلة بخفوت:
-حاضر
عضت على شفتها السفلى بتوتر، ووضعت يدها الأخرى أمام فمها وهي تكمل بصوت منخفض:
-ايوه يا هياتم، أنا ناريمان، عاوزاكي تسمعيني كويس
جاءها صوت هياتم عبر الهاتف قائلاً:
-خير يا مدام ناريمان! انتي بتكلمني ازاي ؟ هو آآ...
قاطعتها بصوت جاد وهي عابسة الوجه:
-مش وقته يا هياتم، ركزي بس معايا الأول
ردت عليها هياتم بإيجاز:
-اتفضلي
همست ناريمان بحذر وهي تضيق عينيها:
-فاكرة الست المجنونة اللي جت الحفلة وكانت تبع دار المسنين، اللي اسمها تهاني دي!
أجابتها بنبرة هادئة:
-اه فكراها، مالها ؟
تابعت قائلة بجدية بالغة:
-عاوزاكي تروحيلها، أنا هادلك على عنوانها
تسائلت هياتم بإندهاش كبير يكسو نبرتها:
-أروحلها ؟!
أومأت برأسها وهي تضيف بنبرة مهتمة:
-أيوه .. ضروري، بلغيها رسالة مني
ترددت هياتم قائلة:
-بس آآ.. معتقدش انها آآ...
قاطعتها ناريمان بإصرار وقد بدى على قسمات وجهها الإنزعاج:
-اسمعيني كويس، قوليلها ناريمان عاوزاكي تجيلها زيارة، وهي هتساعدك تاخدي عيالك تاني!
تشدقت هياتم قائلة بحيرة:
-أنا مش فاهمة حاجة
ردت عليها ناريمان بغموض:
-قوليلها رسالتي وهي هتفهم
-اوكي.
هتفت ناريمان قائلة بتوسل:
-هياتم، بليز روحيلها في أسرع وقت، المسألة مهمة جدا
ردت عليها الأخيرة بهدوء:
-حاضر، اطمني
ثم أضافت ناريمان قائلة بتنهيدة إرتياح:
-اكتبي عندك العنوان
-لحظة
كزت الصول على أسنانها وهي تردد بضيق:
-بسرعة يا ست ناريمان، مش ناقصة مشاكل مع حد هنا
أومأت ناريمان برأسها قائلة بخنوع:
-أهوو .. خلاص...