رواية دواعي أمنية للكاتبة منال سالم الفصل السادس عشر
في المقهى الحديث،
سرد اللواء محمد خطته لثلاثتهم والتي كانت تتضمن الإستعانة بإيناس كوسيلة تمكن سابين من التواجد بحجة مقنعة في المنزل دون إثارة الريبة أو الشكوك حول طبيعة وجودها وسط عائلته.
فدور إيناس في تلك الخطة يقتصر على إيهام والدتها أن لديها صديقة أجنبية تعرفت عليها عن طريق الانترنت، وستأتي للقاهرة للقيام بدراسات عليا لفترة وجيزة ثم تعود إلى موطنها، وطوال تلك الفترة ستقيم في منزل عائلتها بعد أن عرضت عليها إيناس استضافتها..
وسيقوم والده بدعم ابنته في طلبها ويوافق على مسألة الاستضافة ويشجعها على الاستفادة من رفيقتها بحجة أنها متعلمة ومن ثقافة وحضارة مختلفة ولديها امتيازات كثيرة..
وبالتالي سترضخ أمها لرغبتهما إن وجدت موافقة الجميع وترحيبهم بها...
بدت الفكرة مقنعة إلى حد كبير، ومنطقية لا تثير الشكوك، ولكن اﻷصعب هو تنفيذها بحرفية..
نفخ مسعد بضيق وهو يستمع إلى حديث والده، ثم أرجع ظهره للخلف، وهتف بتبرم:
-كلامك فل يا بابا، بس البت ايناس هبلة وممكن تكشفنا!
ثم التفت برأسه ناحية رفيقه، وسأله بجدية:
-ولا ايه رأيك يا باسل؟
لم ينتبه له باسل، فقد كان شاردا في التفكير في إيناس، فمجرد ترديد اسمها يثير في نفسه مشاعر غريبة، مشاعر لم يعتد عليها بعد حاول مقاومتها قبل أن تظهر أكثر..
طال صمته، فعاود مسعد سؤاله بإلحاح بعد أن لاحظ شروده:
-انت معانا يا باسل؟ بأقولك ايه رأيك في البت ايناس
وكأنه أصيب بالحرج من سؤاله المباغت، وأحمر طرفي أذنيه بصورة مبالغة، وعمد إلى رسم تعابير جامدة على وجهه ليخفي توتره وهو يرد عليه بحذر:.
-أنا شايف إن إيناس صغيرة ومش هاتنفع تقوم بالدور ده، هي ممكن كمان تتأذى و، آآ..
قاطعه اللواء محمد قائلاً باستنكار وهو يدقق النظر فيه:
-هو أنا يعني مش خايف على بنتي؟ وبعدين صغيرة ايه، ده ماشاء الله طالعة أولى ثانوي وكام شهر وتكمل 16 سنة!
لم تفهم سابين معظم الحوار، فأوضح لها باسل باللغة الانجليزية مقصده فهزت رأسها بتفهم..
برر اللواء محمد كبر سن ابنته بصوت هاديء:
-اصلها داخلة المدرسة كبيرة!
في حين أضاف مسعد بمزاح:
-عجوزة يعني، عدت السن القانوني للحضانة وقتها!
حدج محمد ابنه بنظرات محذرة، وأشار له بيده وهو يقول بجدية:
-بطل آلش يا مسعد وتريقة على أختك! مش ذنبها إن سن التقديم على المدرسة أيامها كان كبير!
شعر مسعد بالحرج من توبيخ والده له أمام سابين، فابتسم بسخافة وهو يقول مدافعاً عن نفسه:
-مش بآلش يا بابا بس آآ..
قاطعه أبيه قائلاً بجدية وقد تشنجت ملامح وجهه:.
-من غير بسبسة، أختك أكتر حد هاينفع يقوم بالدور ده، المهم بس نقنعها!
تنهد مسعد بعمق، ورد عليه بإبتسامة مغترة:
-خلاص يا بابا سبهالي، أنا هالفلها هدية محترمة بمناسبة نجاحها واقولها على الخطة!
أثارت عبارة مسعد الأخيرة فضول باسل، فالتفت برأسه ناحيته، وسأله بإهتمام وقد لمعت عيناه قليلاً:
-هي ايناس نجحت؟
أومأ مسعد برأسه إيجاباً وهو يرد:
-اه الحمد لله، وجابت مجموع كبير.
استدار مسعد ناحية سابين، وغمز لها قائلاً بنبرة شبه مغتاظة:
-طول عمرها موس البت دي، مالهاش في اللعب ولا الصياعة، الكتب والمذاكرة واكلين دماغها على الأخر
أضاف والده قائلاً بنبرة متباهية:
-طبعا، ده أنا مربيها على الاخلاق والالتزام، وإن كانت عملت حاجة غلط بتيجي تقولي يا بابا أنا عملت كذا ومعمرهاش كدبت عليا!
تابع مسعد قائلاً بعبوس زائف وهو يشير بيده:
-بس مصلحجية درجة أولى، تموت في الهدايا والشرا والمساومة!
زادت ابتسامته الساخرة اتساعاً وهو يتساءل بمكر:
-ما توقفها في سوبر ماركت آبابا؟
حذره اللواء محمد قائلاً بجدية:
-اتلم يا مسعد بدل ما أهزقك قدام الأجانب
تنحنح مسعد بحرج، ووضع إصبعه على طرف أنفه، وردد بخفوت:
-احم، عندك حق، برستيجي برضوه!
ابتسمت سابين برقة، ثم مطت شفتيها لتهمس بتحمس قليل في نبرة صوتها الناعمة:
-ممممم، أنا أهب ( أحب ) اشوف ايناس دي
رد عليها مسعد بحماسة أكبر وهو يغمز لها:.
-هاتعجبك أوي يا صابرين، نسخة مني!
أبدت سابين إهتمامها قائلة وهي ترفع حاجبيها للأعلى:
-واو! شيء رائع
تدخل اللواء محمد في الحوار قائلاً بجدية:
-بنتي غير مسعد، ولا شبهه في أي حاجة، هي ليها شخصية مع نفسها كده، بس جدعة وبنت أصول!
كانت كلمات محمد المتفاخرة بإبنته تثير ضيق باسل أكثر، وتزيد من تأنيب ضميره وإحساسه بالذنب نحوها..
فهو لم يمهل نفسه الفرصة لتصديقها، وظن بها السوء رغم أنها لم تخبيء عنه شيء، وكانت صادقة معه منذ البداية، ولم تنكر ما حدث، تهوره فقط دفعه لإهانتها بتلك الصورة..
ما أوجعه بحق هو تذكره لكلماته الجارحة والمهينة لها..
أغمض عينيه للحظة ليسيطر على حالة الفوران التي تعتريه من الداخل، هو أخطأ في حقها وعليه ألا يكابر في هذا...
في منزل مسعد غراب،
عقدت إيناس شعرها جديلة طويلة، وجمعت خصلات شعرها القصيرة والمتناثرة خلف أذنيها، ثم اتجهت إلى خارج غرفتها وهي تصيح بصوت جهوري:
-ماما، أنا نازلة
حضرت والدتها من المطبخ وهي تمسح يدها في منشفة قطنية، وسألتها بإستغراب وهي تنظر إليها:
-نازلة! ليه رايحة فين؟
ردت عليها بتنهيدة مطولة:
-بابا عاوزاني في الكافيه شوية
قطبت صفية جبينها بإندهاش، وسألتها مستفهمة بفضول واضح في نظراتها:
-أبوكي، ليه؟
ردت عليها بإختصار:
-مقالش
زمت صفية شفتيها بتبرم، وتمتمت بكلمات مبهمة، ثم تابعت قائلة بجدية وهي تشير بيدها:
-طب قوليله مايتأخرش، أنا خلصت الأكل
هزت إيناس رأسها وهي تجيبها:
-حاضر!
ثم انحنت للأسفل لتسحب حذائها من الخزانة المخصصة لها، وارتدته، وعاودت النظر إلى هيئتها في المرآة المعلقة خلف باب المنزل..
تأملت بنطالها الجينز القديم، وكنزتها الواسعة ذات اللون الأبيض التي تغطي خصرها وتصل إلى ما قبل ركبتيها بنظرات فاترة، ثم ابتسمت لنفسها بسخرية وهي تردد بسخط:
-ماشبهش البنات في حاجة! أنا زي الولاد!
أمسكت بالمقبض وأدارته، واتجهت إلى الخارج..
بجوار مدخل المقهى،
وقف باسل على مقربة من مدخل المقهي مستنداً على جانب سيارته، وعاقداً ساعديه أمام صدره، وترقب بفارغ الصبر وصول إيناس بعد أن استأذن من أبيها أن يراها بالخارج مدعياً تهنئتها بنجاحها في الامتحانات، ثم بعد ذلك يصطحبها للداخل ليتحدثوا معها، هو أراد أن يحظى بفرصة معها على إنفراد ليعتذر لها عن تطاوله عليها..
لمحها وهي تسير بخطوات بطيئة من على بعد، فاعتدل في وقفته، وأرخى ساعديه، وانتصب بجسده متلهفاً للحديث معها..
رفعت رأسها لتنظر إلى الطريق أمامها، فتفاجئت بباسل محدقاً بها، وينظر مباشرة في عينيها..
صدمت منه، وارتعد جسدها للحظة من نظراته المسلطة عليها، ومن وجوده أمامها...
تحولت ملامحها المرتخية نسبياً إلى عبوس جلي، ثم أشاحت بوجهها بعيداً عنه متجاهلة أياه وكأنه نكرة ولم تراه..
زمت شفتيها بضيق وتابعت سيرها ولكن بخطوات سريعة..
تحرك باسل نحوها، وهو يهتف بصوت آجش وآمر:
-ايناس، استني!
لم تصغِ إليه، بل أكملت خطواتها دون الإكتراث به..
لحق بها، ووقف أمامها ليسد عليها الطريق، ثم حدجها بنظرات قوية وهو يقول بجدية صارمة:
-استني يا إيناس، أنا عاوز أتكلم معاكي!
انتفضت من حركته، وزاد تجهم وجهها، ونفخت بنفاذ صبر، وردت عليه بحنق:.
-في ايه تاني عاوز تقوله، افتكرت كلمة زيادة تهيني بيها، ولا حابب تمد إيدك عليا!
ابتلع باسل ريقه بضيق، فقد استشف من كلماتها الغاضبة بغضها من تصرفه الفظ معها، فأخذ نفساً عميقاً ليسيطر على انفعالاته، وزفره بعجالة، ثم ضغط على شفتيه، وردد قائلاً بإمتعاض:
-لأ، مش كده أنا آآ..
قاطعته قائلة بحدة وهي تنظر بجمود في عينيه:.
-لو جاي تطمن إني التزمت باللي قولته، فأنا خلاص فهمت كلامك كله، وأمنت بيه، أنا مش زي البنات، عندي شنب ودقن وسوالف كمان، فاستحالة حد يبصلي، ولا عاوزة من الأساس حد يبصلي أصلاً، أنا دماغي في دراستي وبس!
أثارت كلماتها السابقة حفيظته..
هو جرحها عمداً، واحدث أثراً سلبياً في نفسها..
هي مازالت تذكر إهانته لها، تقليله من شأنها، إساءتها لهيئتها، بل والأكثر من هذا هز ثقتها في نفسها..
أيقن أنه أحدث شرخاً، وأوجد فجوة كبيرة بينهما..
أسبل عيناه وهو يطالعها بنظرات نادمة، ثم تابع بهدوء:
-إيناس، حقك عليا، أنا أسف، مكانش ينفع أكلمك كده، أنا كنت منفعل وقتها، واتضايقت من اللي حصل!
أغضبها اعتذاره، وكأن ما فعله بها هين، لا يستحق إلا كلمات بسيطة يرددها على لسانه..
فبلا وعي ارتفعت نبرتها وهي ترد:
-انت صدقت إني عملت كده مع إني مكدبتش عليك في حاجة!
اعتذر مجدداً وهو يشير بحاجبيه لتنتبه لوجدهما مع عامة الناس:
-أسف، مكونتش أقصد!
أرادت إيناس إيلامه، أن تجعله يشعر بحجم خطئه، وأن يعي جيداً أن لكل شخص مشاعر تحترم، لا يحق لأحد أن يسيء إليه لمجرد هيئته أو مظهره العام، لكن بإشارته الأخيرة ظنت أنه يشعر بالحرج من وجوده معها، أنها لا تستحق أن ينظر لها شاب ما وسيم، بل أجمل في ملامحه منها..
ولذلك لم تعد ترغي في الاستمرار معه في الحديث، فإستياءها منه يتخطى شعوره بالذنب وتقبل ندمه..
لذا حافظت على كبريائها، ورسمت ابتسامة باردة مصطنعة على ثغرها، وردت عليه غير مكترثة:
-مافيش مشكلة، لو لسه حاسس بالذنب من ناحيتي، فمتقلقش، أنا عادي خلاص!
ازدردت ريقها المرير، وتحركت للجانب لتتخطاه وهي تجاهد للحفاظ على ابتسامتها..
سار إلى جوارها، وهتف بإلحاح:
-إيناس استني بس.
التفتت برأسها نحوه، ورمقته بنظرات حزينة وهي تقول بجدية ( متعمدة الضغط على حروف كل كلمة ):
-أنا الموضوع نسيته يا ( أبيه ) باسل!
فغر فمه مشدوهاً من عبارتها الأخيرة، وردد بصدمة واضحة:
-نعم، أبيه!
أسرعت في خطاها دون أن تترك له المجال لتفسير ما قالته، لكنها أرادت أن يصل إليه مغزى كلمتها المقصودة ( أبيه )..
وبالفعل نجحت في هذا، فظل للحظات مذهولاً مما قالته..
ولجت إلى داخل المقهي، وبصعوبة بالغة نجحت في إخفاء مشاعرها المقهورة..
بحثت بعينيها بنظرات خاطفة عن أبيها بين رواد المكان، فوجدته يشير لها بيده، فاتجهت نحوه..
لحق بها باسل ولكنه تباطيء في خطواته، ووجهه متجهم للغاية..
تنهد بضيق لما تسبب به، ورأى نتيجة تهوره عليها..
وزاد شعوره بالآلم والإنزعاج من اللقب الأخير..
لم يستطع اخفاء وجومه ولا عبوسه، فهو يشعر بمدى الآلم الذي يعتصرها حتى وإن كانت تدعي العكس..
تمتم مع نفسه غير مصدقاً:
-أبيه! أنا!
لاحظت إيناس وجود أخيها مسعد جالساً إلى جواره، ولكنه لم يكن ظاهراً لها، فابتسمت له، وأسرعت نحوه وهي تهتف بسعادة:
-مسعودي، انت هنا!
نهض مسعد لتحية أخته وهو يقول بمزاح:
-أهلاً بنسناس العيلة
عبست بوجهها وهي ترد عليه بنبرة منزعجة بالرغم من ابتسامتها الرقيقة:
-هاتفضل زي ما انت رخم!
فتح ذراعيه ليضمها، فلكزته في صدره بقبضتها وهي تتمتم بخفوت:
-بارد.
قبلها مسعد من أعلى رأسها، واستدار ليوجه حديثه إلى سابين قائلاً بمرح:
-أهي دي الكوبي (النسخة ) المصغرة مني!
أرجعت إيناس رأسها للخلف لتنظر إلى من يتحدث، فوجدت شابة جميلة تنهض من على المقعد وتمد يدها لتصافحها..
ابتسمت لها سابين بنعومة وهي تقول بلكنتها الغريبة:
-هاي إيناس! Right ( صح )؟
وزعت إيناس نظراتها بين الاثنين، وتساءلت بفضول وهي تهمس له:
-مين المزة دي يا مسعد؟
كز على أسنانه وهو يجيبها بصوت خفيض محذراً:
-لمي لسانك، أبوكي قاعد!
تنحنحت بحرج وهي تلتفت نحوها:
-احم، هاي! أيوه أنا إيناس!
ثم رمقتها بنظرات مطولة متفحصة ومدققة لتفاصيل وجهها وجسدها، وكل ما له صلة بها..
ابتسمت لها سابين بود وهي تقول:
-أنا سابين!
أردف اللواء محمد قائلاً بجدية وهو يشير بيده:
-اقعدوا يا ولاد عشان نتكلم في المهم.
تلفتت إيناس حولها لتبحث عن مقعد شاغر لتجلس عليه فتفاجئت بباسل يحضر لها مقعداً ووضعه إلى جواره، فرمقته بنظرات ساخطة، ثم أشاحت بوجهها بعيداً عنه غير مهتمة بنظراته الغاضبة منها، وجلست على المقعد دون أن تنطق بكلمة إضافية أو حتى تشكره على خدمته..
أرجعت هي ظهرها للخلف، وتعمدت تجاهله بشكل يجعله يخجل من نفسه لما فعله..
ثم تساءلت بجدية وهي تنظر إلى والدها:
-خير يا بابا؟
اعتدل والدها في جلسته، ونظر لها بثبات وهو يجيبها بجدية:
-بصي يا إيناس من غير ما أضيع وقت، إحنا عاوزين منك خدمة
أضاف مسعد قائلاً بمزاح:
-اه، بس وطنية، حاجة كده نظام رأفت الهجان، لا تراجع ولا استسلام
رفعت إيناس حاجبها للأعلى مستنكرة، ورددت بعدم فهم:
-نعم!
وبخ اللواء محمد ابنه قائلاً بصوت صارم:
-بس يا مسعد، مافيش هزار في المواضيع دي
رد عليه مسعد بنبرة شبه ساخرة وهو يشير بيده:.
-اسمعي لخبرة السنين، عصارة الأفكار، البهاريز كلها
انزعج أبيه من استهتاره وتهكمه الزائد عن الحد، فصاح بجدية:
-يا بني اهدى ماتقطعنيش
أومأ برأسه وهو يقول بخفوت بعد ان استشعر أن الأمر لم يعد ظريفاً:
-حاضر
أوضح اللواء محمد لابنته المطلوب منها بعد أن أخبرها بحقيقة وضع سابين وأسباب وجودها هنا، فنظرت إليها بإندهاش، وهتفت بنزق:
-مش معقول يا بابا؟!
أضاف مسعد بنبرة حزن زائفة وهو يهز رأسه للجانبين بتعاطف:.
-تخيلي الغلبانة الباسكويتة دي تبقى مستهدفة!
عنفه والده قائلاً بغلظة:
-يا بني ده انت بتقول اللي ما يعرفش يعرف
رد عليه مسعد مبرراً بإبتسامة بلهاء:
-مش بأحنن قلب نوسة عليها، وبأوصيها
ربتت إيناس على كتف أخيها، وردت بتفاخر:
-أنا مش محتاجة وصاية يا حبيبي، إنت عارفني
رمقها مسعد بنظرات ماكرة وهو يقول بتوجس:
-ماهو عشان أنا عارفك فمتوغوش!
ضربته إيناس في كتفه قائلة بنبرة منزعجة:
-ياباي عليك!
تعجب اللواء محمد من الصمت الذي حل على باسل فجأة، ومن شروده الغريب، فمال برأسه ناحيته، وسأله بجدية وهو يتفرس تعابير وجهه بدقة:
-ها يا باسل رأيك ايه معانا انت ساكت ومش مشاركنا في الحوار
رد عليه بفتور وهو يوزع أنظاره بين الجميع:
-اللي تشوفوه صح أنا معاكو فيه!
ابتسم اللواء محمد قائلاً بهدوء:
-تمام، على بركة الله
هتفت إيناس بتحمس وهي تنهض من على المقعد:.
-أوكي يا بابا، أنا هاخش على ماما الداخلة إياها، وإنت في ضهري!
هز والدها رأسه بإيماؤة خفيفة، ورد عليها:
-ماشي يا بنتي، وربنا ييسر الأمور!
التفتت إيناس بجسدها كلياً نحو سابين، وابتسمت لها وهي تقول:
-إن شاء الله هتتبسطي معايا يا آآ..
نسيت إيناس اسم الشابة، فوضعت إصبعها في فمها لتقول بحرج مصطنع:
-اوبس، سوري نسيت اسمك!
رد عليها مسعد بتنهيدة:
-اسمها صابرين
التوى ثغرها بتهكم واضح وهي تردد:
-هه، صابرين!
أوضح سابين قائلة وهي تبتسم برقة:
-بصي هو سابين، but your brother kept saying Sabren ( ولكن أخاكي مُصر على قول صابرين )
هزت إيناس رأسها متفهمة وهي ترد عليها بسخرية:
-أها، Got it ( فهمتك )، مسعد بقى ودماغه الحجر!
جذب مسعد إيناس من ذراعها للأسفل، وكز على أسنانه قائلاً بغيظ:
-مش بأقولك اختي زيي في كل حاجة، جهبز في اللغة!
تابع باسل الحوار الدائر، ولم يعلق إلا بكلمات مقتضبة حينما تقتضي الحاجة..
تحركت سابين بظهرها للخلف فجأة فتعثرت قدمها، وكادت أن تسقط ولكن أسرع باسل بإسنادها من ذراعها وسط تعجب الجميع..
تحول وجهها إلى كتلة هائلة من الحمرة، بينما عاتبها باسل بكلمات غامضة وهو يقول بهدوء:
-خدي بالك وإنتي ماشية، مش عاوزين المهمة تبوظ من حركات العيال بتاعتك دي!
اشتعلت عيناها غضباً منه، ورمقته بنظرات حادة، ثم ردت عليه بنبرة شبه مغتاظة:
-مش هاتبوظ إن شاء الله.
ثم أخفضت نبرتها ليسمعها هو فقط وهي تكمل قائلة:
-يا أبيه!
في منزل مسعد غراب،
استرخت السيدة صفية على الأريكة، وحدجت ابنتها بنظرات دقيقة وكأنها تخترق جسدها كالأشعة تحت الحمراء، ثم رفعت حاجبها للأعلى، وتساءلت بعدم اقتناع:
-ودي عرفتيها بين يوم وليلة؟
ردت عليها سابين بهدوء:
-اكيد طبعاً لأ، أنا عارفاها من زمان
لوحت لها والدتها بذراعها وهي تحذرها قائلة:
-اوعي تكوني يا نوسة عاملة مقلب فيا، ما أنا عارفاكي!
ضيقت إيناس نظراتها، وردت مستنكرة:.
-مقلب ايه يا ماما، بأقولك واحدة صاحبتي أجنبية جاية تقدم هنا في جامعة القاهرة، وأنا عرضت عليها تيجي تقعد يومين، ايه علاقة اللي بأقوله بالمقالب!
تابعت والدتها قائلة بصوت جاد:
-انتي معمركيش جبتي سيرتها!
ردت عليها إيناس ببساطة:
-عشانها أجنبية.
هزت السيدة صفية رأسها في عدم اقتناع، فالحديث غير منطقي بالنسبة لها، فهي تعرف غالبية صديقات ابنتها، وهي لم تأتِ يوماً على ذلك تلك الفتاة الغريبة، فكيف يعقل بين ليلة وضحاها أن تصبح لها رفيقة أجنبية..
هتفت وهي تقوس شفتيها على مضض:
-الكلام ده مش راكب على بعضه!
ابتسمت لها إيناس قائلة بمرح:
-خلاص خليه ينزل طالما مش عاوز يركب!
ضربتها والدتها في كتفها بقوة، وصاحت معنفة إياها:
-بت، بطلي رخامة وتقل دم!
تأوهت إيناس من الآلم، وفركت كتفها بيدها..
في نفس التوقيت، عاد محمد من الخارج، واتجه نحوهما وهو يتساءل بصوته الرخيم:
-مساء الخير عليكم، في ايه؟ صوتكم مسمع برا البيت!
أجابته صفية بتذمر:
-شوفت بنتك وعمايلها
ردت عليها ابنتها بضجر:
-يا ماما ده احنا المفروض شعب كريم ومضياف
ادعى أبيها عدم الفهم منفذاً الجزء الخاص به من مخططه، وتساءل بصوت منزعج:
-ما تفهموني بالظبط في ايه؟!
في المقهى الحديث،
ضرب مسعد بيده على فخذه عدة مرات بحركات خفيفة وثابتة، ثم ردد بقلق بائن في نبرته:
-قلبي متوغوش أوي يا باسل
رد عليه باسل بهدوء حذر:
-اهدى بس ومتوترناش معاك
تابع قائلاً بتوجس وهو يبتلع ريقه:
-البت إيناس ممكن تعك الدنيا
تنهد باسل بصوت مرتفع مردداً:
-ربنا يستر
تساءلت سابين بفضول وهي ترمش بعينيها:
-في ايه موسأد، إنت مش ثق في سيستر ( أختك ) إيناس؟
التفت ناحيتها، وحدق فيها بنظرات شبه مضطربة، وأجابها بصوت ممتعض:
-ولا في أبويا حتى!
لكزه باسل في جانبه، ووبخه بضجر:
-اتلم يا مسعد مش قصادها، متخوفهاش!
رد عليه مسعد بإستياء:
-يا عم دول عيلتي وأنا عارفهم، انا هاتجرس على ايدهم وهاتفضح! سترك يا رب!
حاولت سابين تخفيف حدة التوتر، فأردفت قائلة برقة:
-آرف ( عارف ) موسأد، إيناس دي كيوت
ابتسم لجملتها، وتنحنح بصوت متشحرج، ورد عليها ممتناً:.
-احم، متشكر على مجاملتك ليا!
أوضح له باسل قائلاً:
-هي اللي كيوت مش إنت!
برر مسعد حديثه بإبتسامة عابثة:
-ما أنا وهي إيه غير واحد!
حرك باسل رأسه للجانبين في يأس من رفيقه، وردد بخفوت:
-يا دماغك!
في منزل مسعد غراب،
أبدى اللواء محمد موافقته على تواجد الشابة الأجنبية في منزله بعد أن سردت عليه إيناس أمام والدتها قصتها المفبركة..
حدجت صفية زوجها بنظرات حادة، وصاحت محتجة على دعمه لابنته:
-شكلكم مظبطين مع بعض، كلامكم ده مش داخل دماغي!
تساءل إيناس بتبرم وهي تضع يدها على منتصف خصرها:
-مظبطين إزاي يا ماما؟!
أشارت صفية بيدها وهي تفسر ما يدور في تفكيرها:.
-ايوه، ابوكي يطلبك تنزليله القهوة، وتقعدوا مدة واكلين ودن بعض، وبعدها انتي تطلعي تقوليلي الكلام ده!
تبادل كلاً من محمد وابنته نظرات غامضة، فقد أوشكت صفية على كشف المخطط، ولكن أسرعت إيناس بإنكار ما قالته والدتها، وصاحت معترضة بغضب مفتعل:
-اذا كنت أنا لسه قيلالك الوقتي، يبقى هالحق أظبط امتى!
ردت عليها والدتها بإصرار تام على رأيها:
-مش مقتنعة ولا مصدقاكي! ماهو كلامك مايدخلش النافوخ!
أضاف زوجها متساءلاً بضجر:
-هو ايه الغريب في اللي قالته يعني؟
صاحت صفية فجأة بصوت جهوري:
-تلاقيك متجوزها وجايبها هنا!
رد عليها معترضاً بشراسة من حديثها الأهوج:
-جرى ايه يا صفية، ايه الكلام الغريب ده، هو أنا في حيل للجواز، ده أنا مش قادر أصلب طولي!
أضافت قائلة بصياح منفعل:
-أه يا سيدي، خلاص زهقت مني وعاوز تجدد شبابك مع واحدة في سن بنتك!
رد عليها بمزاح وهو يبتسم لها:
-يا ستي نجوز ابنك الأول وبعدها أشوف نفسي!
لطمت على صدرها وهي تصرخ بهلع بعد دعابته المازحة:
-يعني انت حاطط الموضوع في دماغك وبتلف عليا، يا نصيبتي!
اضطربت الأجواء كثيراً بينهما، فأسرعت إيناس بالتدخل، ووقفت بجسدها حائلاً بينهما حتى لا يتطور الأمر للتطاول بالأيدي، فالموضوع خرج عن نطاقه المرسوم ليتحول إلى مسألة إرتباط وزيجة..
تعجب محمد من تفكير زوجته المحدود، وانفعل بضيق عليها..
توسلت إيناس لوالدتها لكي تحافظ على هدوئها، وصاحت بإستعطاف:.
-اهدي يا ماما، بابا بيهزر معاكي والله!
انفعلت صفية أكثر وهي ترد:
-ايوه بيهزر لحد ما لاقيه جايب المأذون وكاتب عليها
ثم دفعت ابنتها بقوة، وأضافت بغضب:
-اوعي يا بت من وشي!
حاولت إيناس إمساك ذراعي والدتها، وهتفت بصوت مرتفع وهي تقول بإصرار:
-يا ماما دي أجنبية، متعرفش حاجة، هاتيجي يومين وماشية، محدش هايلحق يبصلها ولا يتجوزها حتى!
صرخت صفية بغضب:
-ما تتنيل تقعد في أي فندق!
فسرت لها ابنتها قائلة:.
-هيطلبوا منها فلوس أد كده، وهي ظروفها يعني مش أوي، عشان خاطري يا ماما وافقي، والله دي نيتها خير
نفخت والدتها بعصبية وهي تكتف ساعديها أمام صدرها:
-أووووف، ابعدي عني!
اقترب محمد من زوجته، وأحاطها من كتفها بذراعيه، وحاول إمتصاص غضبها قائلاً بنبرة الهادئة:
-يا صفية، ده انتي ست كمل ومعروف عنك قلبك الطيب، وذوقك وانسانيتك
ثم احنى رأسه عليها ليقبلها من أعلى رأسها، وربت على كتفيها برفق..
ردت هي بتبرم:.
-ايوه ابلفني بالكلام!
تنهدت إيناس في إرتياح لنجاح والدها في تهدئة أمها، وهتفت بتحمس:
-خلاص يا ماما موافقة؟ ده هي هاتقعد في اوضتي ومش هاتحسي بيها!
لوت أمها ثغرها وهي تسألها بعبوس:
-طب واخوكي يا فالحة لما يجي البيت على غفلة ويلاقي واحدة غريبة فيه هايقول ايه؟!
ردت عليها ببراءة:
-ما هو عارف، آآ..
ثم قضمت عبارتها بعد أن أدركت الخطأ الذي وقعت فيه، وحاولت إخفاء إرتباكها وهي تردد بهدوء مصطنع:
-قصدي لما يبقى يجي!
هزت صفية كتفيها مستنكرة الموضوع برمته، وهتفت بنبرة مرتابة:
-مش عارفة والله انتو الجوز ناويين على ايه!
أشارت إيناس بيدها لوالدتها، وأوضحت موقفها قائلة:
-بصي يا ماما ده نظام معمول بيه برا مصر، وأنا لما أكبر ممكن أروح أدرس برا وأقعد عند عيلة محترمة بدل ما أقعد في فندق ولا آآآ...
قاطعتها صفية بحدة وقد تحولت نظراتها للغضب:.
-ومين أصلاً هايسمحلك تسافري لوحدك، إنتي هاتفضلي هنا أعدة في أرابيزي لحد ما أسلمك بايدي لابن الحلال اللي يستاهلك
رد عليها زوجها بجدية:
-مش وقته الكلام ده يا صفية، خلينا في البت الأجنبية
تنهدت صفية في إحباط، ووجدت أنه لا مفر من الموافقة بعد إلحاح ابنتها المستمر، فوافقت على مضض:
-خلاص، أمري لله!
احتضنت إيناس والدتها، وقبلتها من وجنتيها وهي تردد بسعادة:
-تسلمي يا غالية
غمز لها والدها بحذر وهو يقول:.
-روحي انتي كلمي صاحبتك وبلغيها
أومأت برأسها متفهمة أمره الخفي، وقالت:
-حاضر يا بابا!
في المقهى الحديث،
احترقت أعصاب مسعد من كثرة التفكير فيما يحدث بمنزله..
وظل ينفخ بتوتر ويهز ساقه بعصبية..
-اهدى يا مسعد، إن شاء الله خير
قالها باسل بصوت رزين وهو يضغط على كتف رفيقه
التفت مسعد نحوه، وهتف بنبرة منزعجة:
-مش مرتاح، مقلق جامد!
نفخ مجدداً بنفاذ صبر، وتلفت حوله بريبة متوقعاً الأسوأ قد حدث، فأمه ليست من النوع الذي يقبل بواقع الأمور هكذا دون أن تجري حولها جدلاً واسعاً...
شعرت سابين بحالة القلق البادية على وجه مسعد وتصرفاته، فابتسمت له ممتنة، ورغم كون حالها لا يقل اضطراباً عنه، إلا أنها كانت بارعة في اظهار ثابتها، واخفاء خوفها في المواقف المتأزمة..
هي تتوقع الدعم الأسري الكامل من عائلة مسعد، وتثق بدرجة كبيرة في قدرات والده وأخته الصغرى..
انتفض هو فجأة من مكانه حينما سمع رنين هاتفه، فالتقطه، ووضعه على أذنه بعد أن ضغط على زر الإيجاب ليقول بتلهف:.
-ها يا نوسة؟ ايه الأخبار؟!
ردت عليه بضحكة مغترة:
-عد الجمايل يا مسعد، ماما وافقت!
هتف بتحمس أثار انتباه من حوله:
-الله أكبر، وربنا تستاهلي 100 بوسة يا نوسة!
بدى الضيق ظاهراً على وجه باسل بعد تلك العبارة، ورد بتبرم:
-اهدى يا مسعد مش كده
ليس ما أزعجه هو صوت رفيقه المرتفع، بل مغزى العبارة وإن كان عادياً..
انتبه له مسعد، ورد بحرج:
-لامؤاخذة
ثم تابع مكالمته مع أخته قائلاً بجدية:.
-احنا شوية وهنجيبهالك ونيجي، انتي انزلي استقبليها، وكملي اللي اتفقنا عليه!
ردت عليه بإيجاز:
-اوكي
ثم أنهى معها المكالمة، وأشار بيده إلى باسل وهو يهتف بصوت آمر:
-يالا، جه دورنا
نهض باسل من على مقعده، وأخرج من حافظته بعد النقود ليضعها على الطاولة، ورد عليه بجدية:
-ماشي، وأنا هحاسب على الطلبات!
تساءلت سابين برقة وهي تنظر إلى مسعد:
-كله اوكي موسأد؟
بادلها نظرات واثقة، ثم رد عليها بسعادة وقد أشرقت عيناه بشدة:.
-كله زي الفل يا صابرين، وأوعدك هاتتبسطي معانا أوي...!