رواية بنت القلب للكاتب عبد الرحمن أحمد الفصل الثاني
صرخت فى طفل زوجها صرخة مدوية:
- اييييه مش قلتلك تنضف الأرض كويس ؟ الأرض زفت لييه
تراجع الطفل نور ذو الثمانية أعوام بضع خطوات خائفًا من العقاب الذى سيناله من زوجة أبيه، اقتربت منه وأخذت تضربه بعصا خشبية كبيرة دون رحمة، كان يصرخ ويتألم لكنها لا تتوقف عن ضربه
- أنا لما أقولك على حاجة تعملها بذمة مش تكروتها كدا، فاهم
نطق الطفل من بين بكائه وتألمه:
- فاهم فاهم، كفااية أبوس ايدك
تركته ونظرت إليه بغضب شديد لتقول:
- نص ساعة لو مالقتش الأرض دى بتلمع هكسر عضمك
رحل طيف متجهًا إلى مكتبه واستقل سيارة أجرة وما إن خرج منها حتى تفاجئ بما وجده !
وجدها تجلس أسفل البرج ويبدو أنها تنتظره
نطق طيف بصوت منخفض:
- نيران !
توجه إليها بهدوء حتى وصل إليها وأصبح أمامها مباشرة
- بس بس
رفعت رأسها لتقول مبتسمة:
- اية ده يا دكتور أخيرًا اقتنعت إنى قطة وبقيت تبسبسلى ؟
وضع يده على رأسه وقال بهدوء:
- حصلينى على المكتب فوق يا نيران، قصدى يا قطة
شعرت بالسعادة البالغة لكلماته التى ألقاها وتحركت خلفه ...
وصل طيف إلى مكتبه بعدما فتح باب شقته التى تشبه العيادة الطبية، جلس وأشار إلى نيران بالجلوس فجلست
ظلت صامتة حتى نطق طيف قائلًا:
- كنا ماشين كويس حصل ايه بقى يا نيران ؟ مش اتفقنا إنك تحاولى تتعاملى عادى ؟
تبدلت ملامحها إلى الحزن وأردفت:
- حاولت يا دكتور .. روحت وحاولت أتعامل مع ماما صح لغاية ما جابتلى فستان علشان أقضى معاهم الحفلة اللى عاملينها لكن بمجرد ما شوفت الفستان قلتلها فين الفروة وفين الديل بتاع الفستان لقيت ملامحها اتغيرت وبقت تبصلى على أساس إنى مجنونة، أنا مش قادرة أتعامل معاهم كأنى بنى آدمة، مش عارفة
أشار إليها طيف بالاستلقاء على الشازلونج فنفذت ما طلبه وجلس أمامها وبدأ الحديث:
- بصى يا نيران، بما إنك مش قادرة تعملى كدا وثابتة على كدا يبقى هنمشى فى طريق تانى، 90% من اللى بيحصلك دلوقتى أكيد حصل بسبب اللى حصلك قبل فقدان الذاكرة .. أنا مش من تخصصى إنى أرجعلك الذاكرة بس هساعدك باللى أقدر عليه، أنتِ دلوقتى تغمضى عينيكِ، عايزك تغمضى وتحسى بالهوا اللى حواليكى، عايزك تبقى كأنك أنتِ والهوا جزء واحد .. مش سامعة غير صوتى أنا بس .. صوتى الهادى اللى بيقل لحظة ورا لحظة
بدأ صوته يقل بالتدريج ..
وتابع:
- عايزك تتخيلى نفسك فى مكان ضلمة، أنتِ واقفة لوحدك بس وبتدورى على ضوء ضعيف فى وسط الضلمة دى .. دورى كويس أوى ..بصى فى كل مكان
كانت تنفذ مايقوله لحظة بلحظة وأخيرًا وجدت ضوء خفيف وسط هذا الظلام فصاحت:
- لقيت الضوء
تابع طيف قائلًا:
- اتحركى ناحيته بهدوء، حاولى توصلى لمصدره
بدأت فى تنفيذ ما يقوله وبدأت تتحرك فى خيالها حتى كادت أن تقترب لكن ظهرت العديد من الكلاب التى تنبح بصوت مخيف وعالٍ فصرخت نيران وفتحت عينيها وهى تقول:
- لالا كلاب، لاااا
- اهدى اهدى، مفيش حاجة .. اهدى يا نيران أنتِ هنا مفيش كلاب
نظرت حولها وبدأت تهدأ رويدًا رويدًا فتحدث طيف مرة أخرى:
- عايزك تقوليلى بقى كلاب ايه اللى شوفتيها ؟
نطقت نيران بخوف واضح:
- مش عارفة .. أنا بمجرد ما قربت من النور ده لقيت فجأة كلاب كتير ظهرت وفضلت تهوهو وشكلهم مخيف أوى
ابتسم طيف لأن ما تمناه حدث وبدأت ومضات الذاكرة تعود إلى نيران، نطق بإبتسامة:
- طيب يا نيران تقدرى تروحى دلوقتى، حلو أوى الشوط اللى أخدناه النهاردة
ضمت حاجبيها بتعجب:
- شوط ايه يا دكتور اللى أخدناه !؟
- معنى إنك شوفتى كلاب يبقى أخر مشهد شوفتيه قبل فقدان الذاكرة كان كلاب بتهاجمك وده كويس جدًا لو استمرينا على كدا كذا جلسة هتقدرى تسترجعى ذكريات كتيرة ومرة ورا مرة هترجعلك الذاكرة
اعتدلت وهى تنظر إليه بتفكير ثم نطقت:
- طيب ما نكمل يمكن أفتكر كل حاجة
حرك رأسه بالرفض قائلًا:
- مش هينفع، غلط عليكِ شوفتِ أنتِ صرختِ ازاى لو كملنا مش هتقدرى تستحملى ده غير عقلك اللى مش هيستوعب كم الأحداث اللى هتتراكم عليه وده هيؤذيكى جامد
وقفت بعد أن استوعبت ما قاله وقالت قبل أن تتحرك إلى الباب:
- طيب يا دكتور شكرًا، هاجى بكرا فى نفس الميعاد ده تمام ولا ايه ؟
ابتسم طيف قائلًا:
- تمام جدا، ولغاية ما تيجى اتعاملى على طبيعتك معاهم ومتضغطيش على نفسك فى حاجة أنتِ مش عايزاها .. تمام ؟
حركت رأسها بالإيجاب:
- تمام يا دكتور
دلفت إلى داخل الفيلا بعدما تخطت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، تفاجئت بوالدها بانتظارها وعلى وجهه علامات استفهام فتجاهلته وحاولت صعود الدرج كى تصل إلى غرفتها لكن أوقفها صوته الأجش الغاضب:
- كنتِ فين لغاية دلوقتى
التفت لتقول بهدوء شديد:
- كنت عند الدكتور
ضم أمجد حاجبيه ليقول متعجبًا:
- دكتور ! دكتور ايه ؟
تابعت نيران بنفس هدوئها وثباتها:
- الدكتور النفسى بتاعى
- من امتى وأنتِ بتروحى لدكتور نفسى ؟
ابتسمت ابتسامة ساخرة قبل أن تقول:
- من ساعة ما صحيت لقيت نفسى وسط ناس ماعرفهمش وبيقولوا إنهم أهلى، من ساعة ما قلتولى إنى فقدت الذاكرة روحت لكذا دكتور والنهاردة دكتور جديد
ازداد غضبه ونطق قائلاً:
- أنتِ بتتكلمى كدا ليه؟
حركت رأسها بعشوائية لتقول:
- ماله كلامى ! لازم أنحنى وأنا بتكلم ولا ايه مش واخدة بالى
كاد أن يصفعها لكنه تمالك نفسه فى اللحظات الأخيرة فهى لم تخطئ فى شىء .. هى فقط لا تتذكر أيام الماضى حتى تتحدث إليه باحترام وتعامله كأب
امتص غضبه وأردف بهدوء:
- اطلعى على أوضتك
ابتسمت له والتفت وهى تقول:
- كنت طالعة
قالتها ببرود شديد ثم صعدت إلى الأعلى وتوجهت إلى غرفتها لتتفاجئ بشقيقها الأصغر بانتظارها
ضمت نيران حاجبيها بتعجب قائلة:
- ذاخر ؟ ايه اللى مقعدك هنا ؟
ابتسم ذاخر وأشار إليها بالجلوس فجلست، بدأ حديثه قائلًا:
- أنا عارف إنك شايفه إن كل اللى فى البيت غريب .. ده طبيعى أنا لو كنت مكانك كنت هبقى كدا، إنك تصحى مش فاكرة حاجة خالص وتكتشفى إن ليكِ أهل وعيلة وكله بيعاملك على أساس ماضيكِ وأنتِ مش فاكرة حاجة دى حاجة صعبة أوى حتى لو عدى سنين .. أيوة عدى سنة بس أنتِ برضه صعب عليكِ وأنا مش زيهم واخد منك جنب وبتجنبك .. أنا عايز أقولك إنى مش أخوكى الصغير بس .. أنا سندك وأى حاجة هتطلبيها هنفذها مهما كانت، أنا عمرى ما هبقى زيهم من ناحيتك .. أنا جنبك حتى لو أنتِ حسانى غريب
ابتسمت نيران لتقول بحب:
- أنت عارف يا ذاخر، أنت الوحيد اللى حساك فعلا أخويا وواثقة مليون فى المية إنى زمان كنت بحبك أوى وبعتمد عليك
ابتسم ثم نهض وربت على كتفها وهو يقول:
- تصبحى على خير
ورحل على الفور
- اهدأ على البنت شوية يا أمجد، اللى هى فيه صعب برضه
رفع يده قبل أن يقول:
- أهدأ ايه أكتر من كدا ! كنت هضربها النهاردة بس لحقت نفسى فى آخر ثانية لما افتكرت اللى هى فيه بس برضه عدى سنة ازاى كل ده متعودتش على الأمر الواقع ده ؟
حركت أنهار رأسها بالنفى:
- لا متعودتش بالعكس دى حالتها بتسوء أكتر وحكاية إنها تدور على دكتور نفسى كويس حلو جدًا وهيساعدها فى إنها تبقى كويسة
نظر إلى زوجته بحزن قائلًا:
- تفتكرى ؟
- أيوة أفتكر .. نيران محتاجة لدكتور نفسى يساعدها بس اللى مخوفنى بجد هو يوم ما يرجعلها الذاكرة .. هنرجع لنقطة الصفر
أغلق عينيه وهو يقول:
- ساعتها ربنا يحلها من عنده
تحرك بحذر شديد تجاه هذا المنزل المهجور حاملًا مسدس بيده وخلفه الكثير من رجال الشرطة، أشار إليهم بالوقوف ثم أشار إلى رجلين ليتقدما معه .. تقدم ومعه الرجلين وركل الباب بقدمه ثم أشار إلى باقى رجال الشرطة بالتقدم، تقدم بضع خطوات إلى ساحة المنزل وباقى رجال الشرطة ينظرون فى الجهات الاخرى بينما يسيرون، ظلوا يتحركون فى جميع أدوار المنزل ويداهمون منازله المهجورة حتى وقف الرائد رمّاح ووضع سلاحه فى مخمده ليقول بغضب:
- هربوا .. أكيد في حد بلغهم أكيييد
جاء النقيب فهد من خلفه ليقول:
- مفيش حاجة فى الدور اللى تحت يا باشا
هز رأسه وهو يقول:
- تمام بلغ بانسحاب القوة
عاد إلى منزله المكون من ثلاث طوابق فى أحد الأحياء المتوسطة بعدما شاهد المباراة مع صديقه المقرب مازن .. كان المنزل عبارة عن ثلاثة طوابق وكان الطابق الاول للأب أيمن ضياء والأم أسماء مدحت والطابق الثانى لشقيقته الكبرى تنة وشقيقته الصغرى رنة والطابق الثالث لطيف، يجتمعون طوال اليوم فى الطابق الأول وعند الخلود إلى النوم يذهب كل منهم إلى الطابق الخاص به ...
عاد إلى المنزل وصعد الدرج ليتجه إلى الطابق الخاص به إلا أن أوقفته والدته قائلة:
- ايه يا طيف اتأخرت كدا ليه؟
ابتسم طيف وتحدث وهو ينزل إلى الأسفل مرة أخرى:
- اتفرجت على الماتش مع مازن ولعبنا شوية، قليلى صحيح في عشا ؟علشان أنا جعان جدًا
هزت رأسها بالإيجاب لتقول:
- أيوة الاكل فوق عندك فى الشقة، اطلع غير هدومك كدا وكل ونام علشان شغلك بكرا
ابتسم طيف قائلًا:
- حاضر يا ماما، تصبحى على خير
- وأنتَ من أهل الخير يا حبيبى
كانت أمه رغم كبره تعامله كأنه طفل صغير وكان يسعد بذلك كثيرًا بسبب عشقه الشديد لطفولته ...
تحرك إلى الأعلى لكنه وقف أمام شقة شقيقتيه لأنه تفاجئ بأن باب الشقة شبه مفتوح، وضع يده على الباب ونظر إلى الداخل فظهرت تنّة وصرخت بوجهه فصرخ طيف مفزوعًا ثم دفعها وهو يقول بغضب:
- منك لله يا شيخة قطعت الخلف
ضحكت تنّة بصوت عالٍ لتقول:
-I'm so sorry يا طيف بس أنا مراهنة رنّة بإنى أخضك وصورتها فيديو علشان لما تصحى أوريهالها ومايمنعش إنى أشيرها وأكسب فولورز على حسابك
ابتسم ابتسامة واسعة قبل أن يقول بثقة وهدوء:
- شكلك نسيتِ إن الراوتر معايا وأنا اللى بغير الباس بتاعه وهيتخرب بيتك على الباقات يابنت أسماء
أسرعت لتقول:
- ايه ده يا طيف ده أنا بهزر معاك، أنتَ تعرف عنى كدا برضه
نظر إليها بنصف عين قائلًا:
- أيوة للأسف أعرف .. يلا هطلع بقى علشان جعان أكل ونوم وخشى نامى يا أختى يا كبيرة يا تافهة
ضحكت قائلة:
- مين اللى بيتكلم ! طيف الطفل ؟ أنا أول مرة أشوف طفل بيتكلم
نظر إليها نظرة خالية من المشاعر ونطق قائلًا:
- الطفل هيحترم أخته الكبيرة وهيطلع ينام، كلمة زيادة هيبقى خبر عاجل شاهد أخ يقتل أخته الكبرى منور كل الجرايد بكرا
تراجعت تنّة إلى الداخل وهى تقول مازحة:
- لا وعلى ايه، تصبح على خير يا دكتور طفل
ألقت كلمتها وأسرعت بغلق الباب قبل أن يقترب منها، خبط بيده على يده الأخرى وصعد إلى الأعلى
كانت جملة الطبيب طيف تتردد فى رأسها
معنى إنك شوفتِ كلاب يبقى آخر مشهد شوفتيه قبل فقدان الذاكرة كان كلاب بتهاجمك
بقيت تفكر وتفكر وتتحدث إلى نفسها قائلة:
- ياترى ايه الكلاب اللى هاجمتنى دى ! وهل الكلاب دى سبب فقدانى الذاكرة ؟ طب ليه مش عايزين يقولولى هنا الحقيقة ! أنا لازم أفتكر كل حاجة بس هفتكر ازاى ازااى !
أغلقت عينيها وحاولت أن تتذكر لكنها لم تستطع فأحكمت إغلاق عينيها وحاولت مرة أخرى التذكر وكأنها تجبر عقلها على التذكر حتى نجحت بالفعل ...
ظهرت ومضات سريعة حيث كانت تركض بسرعة شديدة وتنظر خلفها لتجد أكثر من كلبين يركضون خلفها، ومضات سريعة تظهر ثم تختفى من جديد حتى اختفت تمامًا فحاولت مرة أخرى لكن تلك المرة أصابها صداع شديد فأمسكت برأسها وهى تتألم ثم فتحت عينيها وقالت
- ياترى ايه الكلاب دى ... أنا لازم أفتكر، مش هفضل عايشة غريبة كدا ... لازم أفتكر
ظلت تحدث نفسها وتفكر لكن أرهقها التفكير وغرقت فى النوم
كان الجو عاصفًا وشديد البرودة حيث كان الطفل نور يجلس بشرفة المنزل بعدما عاقبته زوجة أبيه نعمة بأن يبيت فى هذا الجو البارد وأغلقت باب الشرفة جيدًا، كان الطفل يجلس ويضم قدميه ويضع رأسه بينهما ويرتجف من شدة البرد ... أخذت دموعه تتساقط .. كان جسده الضعيف لا يتحمل هذا البرد القارس المصاحب لسقوط الأمطار، ظل الطفل على هذه الحالة حتى ضعف نبضه وبدأت أنفاسه تهدأ وابتسم عندما وجد والدته أمام عينيه تقترب منه بهدوء وعلى وجهها ابتسامة حب وما إن اقتربت منه حتى ضمته إلى صدرها وهنا شعر نور بالدفء وانقطعت أنفاسه لتصبح تلك الابتسامة التى تزين وجهه هى آخر تعابير وجهه ...
لحد هنا الهدوء النسبى راح والحلقة الجاية بداية عواميد الاكشن وللمرة التانية الرواية يعتبر بدايتها من الحلقة الثامنة...