رواية انتقام مجهولة النسب بقلم شيماء رضوان الفصل العاشر
مر يومان لم يحدث فيهما جديد،سوى إنشغال مراد بتجهيز الفيلا لحفل الخطبة وألاء وسلمى يساعدانه، أما مصطفى وحمزة يحاولان إنجاز الأعمال المعلقة؛ حتى يستطيعا أخذ يوم الخطبة واليوم الذى يليه عطلة، لهما ليخرج كلاً منهما مع خطيبته.
يوم الخطبة صباحاً
ترجل من سيارة الأجرة رجلاً فى العقد الخامس من عمره، مازال يحتفظ بلون شعره الأسود الداكن ماعدا بعض الشعيرات الفضية التى تخللت رأسه، يتطلع الى المنزل بإشتياق، ذلك المنزل الذى قضى فيه أجمل أيام حياته وأيضا أتعسها،مازال يتذكر اليوم الذى علم فيه أن زوجة أخيه إختطفت ابنته وأعطتها لإحدى الممرضات، لتتخلص منها بسبب حقدها على زوجته،وعندما سألوا على تلك الممرضة لم يجدوا لها أى أثر لعدم معرفتهم بأسمها.
فاق من ذكرياته ودلف المنزل يصعد أولى خطواته متجهاً الى والده .
عندما وصل الى باب الشقة التى يقطن بها أبيه وابنى أخيه الراحل "حمزة"، "حسن" دق الجرس بلهفة،فقد إشتاق لأحضان أبيه .
فتح حسن الباب الذى نظر له بدهشة لا يصدق أن عمه الغائب أمامه الآن!
إحتضنه حسن بإشتياق واضح، فكان يعتبره بمنزله أبيه وقال:
-وحشتنى اوى يا عمى!
شدد فاروق من إحتضان ابن أخيه، وهمس بسعادة
-وحشتنى يا حسن!
ابتعد حسن عنه بعد فترة قليلة، وابتسم له بود قائلاً:
-اتفضل يا عمى، ده جدى هيفرح أوى إنك رجعت.
نظر له فاروق بجمود،ونظرات باردة لا توحى بشئ، وقال:
-بس أنا جاى زيارة يا حسن أحضر الخطوبة وراجع تانى، مش هفضل علطول يا ابن أخويا.
لم تختفى إبتسامة حسن بالرغم من أنه حزن لان عمه سيسافر مرة أخرى، إلا أن إشتياقه للجلوس معه كان أكبر من حزنه، فسار معه الى المكان الذى يجلس فيه جده وشقيقه يتناولون الإفطار.
عندما رأه الجد إبتسمت عيناه قبل شفتاه، ونهض ليقف على قدميه فاتحاً ذراعيه ليسرع اليه فاروق ليرتمى بأحضانه،ويتنفس رائحته التى إشتاق لها بشدة .
أخذ يتمتم جلال بالحمد لأن ابنه بأحضانه، بعد أن يأس أن يراه مرة أخرى.
ظلوا محتضنين بعضهما البعض فترة دون أن يتفوها بشئ، وسط مراقبة كلاً من حمزة وحسن لهما.
بعد فترة ابتعد فاروق عن أبيه وأمسك يده يقبلها بإشتياق،ثم جلس معه على إحدى الأرائك ينظرون لبعضهما فى إشتياق،إلى أن قطع صمتهما صوت حمزة قائلاً بمرح:
-إيه يا عمى مش هتسلم عليا ولا إيه، ده حتى أنا العريس!
ضحك فاروق وأشار له بالإقتراب، وإحتضنه هو الأخر قائلاً:
-حمد الله على سلامتك يا عمى، البيت كان مضلم من غيرك!
إبتعد عنه فاروق وقال بحنان:
-الله يسلمك يا حبيبي، وألف مبروك عقبال الفرح إن شاء الله .
رد عليه حمزة بابتسامة:
-الله يبارك فيك يا عمى.
وضع جلال يده على قدم ابنه وقال بإشتياق:
-وحشتنى أوى يا فاروق،غيبتك طولت المرة دى أوى يا ابنى.
أمسك فاروق يد أبيه مرة أخرى،وقال بإشتياق:
-وإنت كمان وحشتنى أوى يا بابا، متعرفش أنا ببقى حاسس إزاى وأنا بعيد عنك وعن أخويا وولاد أخويا.
نظر له والده ودمعت عيناه،ووضع يده على وجه ابنه قائلاً بحنان:
-فى إيدك يا حبيبي تفضل هنا، إنت اللى عايز تفضل مسافر علطول،خليك هنا يا فاروق نفسى تفضل جنبى زى أخوك يا حبيبي.
إحتدت عيناه،وظهر بها الغضب الذى لا يريد أن يريه لأحد،ونظر للجانب الأخر مغمضا عيناه بشدة، فى محاولة منه للسيطرة على غضبه، قائلاً:
-حضرتك عارف إنى مقدرش أقعد هنا،طول ما أنا شايفها قدامى مش هقدر أسيطر على نفسي، وممكن أخلص عليها!
إبتلع جلال ريقه بخوف من رد فعل ابنه عندما يرى مديحة،وأخذ يفكر ماذا يفعل؟ يجب أن يجد حلاً، فزفر بضيق وقال:
-علشان خاطرى يا فاروق، خليك معايا شوية يا حبيبى،أنا عايزك جنبى!
زفر فاروق بضيق، فوالده يضغط على أعصابه وقوة تحمله،كيف يمكنه التواجد بنفس المكان الذى تتواجد فيه من دمرت بيته وتسببت فى موت زوجته وضياع ابنته؟ طال صمته وهو شارد فى ذكرياته،لم يفق إلا على هزة خفيفة من يد أخيه الذى هاتفه حين أتى ليهبط الى الأسفل.
نظر فاروق بإبتسامه لأخيه فوزى،ونهض وأخده فى أحضانه وربت على كتفه قائلاً:
-وحشتنى يا فوزى أوى!
ضمه أخاه بشدة فقد إشتاق اليه كثيراً،يتمنى أن تعود المياه لمجاريها حتى يعيش معهم مرة أخرى.
تنهد فوزى بتعب فأخيه مصر على البقاء بعيداً، يريد أن يجتمعا معا مرة أخرى، مل البعد واشتاق لقرب أخيه كالأيام الخوالى .
ابتعد الشقيقان عن بعضهما،وجلسا يتحدثان بسعادة بادية على وجهيهما،وسط نظرات والدهما الذى كان يبتسم لإجتماع الشقيقان مرة أخرى.
اما حمزة وحسن انصرفا لترتيب أمورهما قبل الخطبة.
ساد جو من الصفاء والهدوء، الى أن تحدث فوزى بحنين قائلاً:
-مش ناوى تستقر هنا بقى يا فاروق! نفسي نرجع زى زمان.
قست نظرات فاروق الذى كان ينقل نظراته بين أخيه ووالده،ثم نهض بسرعة وأعطى ظهره لأخيه وقال بغضب يهدد بحرق الأخضر واليابس:
-بلاش نتكلم فى الموضوع ده تانى يا فوزى؛ لأنه مش بيجيب غير الوجع.
نهض فوزى هو الأخر،ووقف أمام أخيه وأمسك كتفيه يضغط عليهما بيديه،وقال بنبرة حزينة يشوبها الإنكسار:
-أنا عايزك تفضل هنا جنبى،وأبوك اللى دايما كل ليلة يمسك صورتك وبيتمنى يعيش اللى باقى من عمره معاك،ليه عايز تمشي تانى؟ بتحب الغربة أوى علشان كده مش قادر تفضل معانا !
صمت فوزى قليلا يتنفس بسرعة، أمَّا فاروق نظر لأبيه بحزن على ما يحدث .
أما جلال صامت يراقب ما يحدث، يتمنى أن يستطيع فوزى إقناع أخيه بالعدول عن قراره، والبقاء معهم كما كانوا فى الماضى.
أطرق فاروق رأسه الى الأسفل يضغط على قبضة يده بشدة،يحاول كبت غضبه حتى لا يتحدث بما لا يريد ويجرح أخيه.
فى حين تابع فوزى ضاغطاً عليه قائلاً:
-خليك هنا نرجع زى زمان يا فاروق، إنت أخويا ومحتاجلك، لو أمينة الله يرحمها كانت عايشة عمرها ما كانت هتوافق على اللى انت بتعمله ده.
الى هنا وكفى،وصل فاروق لأقصى درجات تحمله، حاول كبح غضبه،ولكنه أيقظ وجعه مرة أخرى عندما ذكر زوجته الراحلة،التى تسببت زوجة أخيه بموتها فنظر لأخيه وتحدث بصوت عالٍ وصل الى الطابق الذى يقطن به أخيه قائلاً:
-عايزنى أقعد هنا معاكوا وبتسأل أنا حابب الغربة ليه؟ عايز تسمع الإجابة يعنى،طيب أسمع بقى!
-أنا مش طايق أقعد هنا،علشان مشوفش وش مراتك اللى ضيعت بنتى وكانت سبب فى موت مراتى، ولما شالت الرحم ندمت على اللى عملته وجاية بكل بجاحة تقول إنها السبب وإنها خدت بنتى وإدتها لممرضة تخلص منها،مراتك خلت الممرضة جابت ولد ميت وقالت إن أمينه خلفت ولد ومات،بسببها أمينه نزفت كتير وشالت الرحم،ولما عرفت إنها مش هتخلف تانى ماتت بحسرتها بعد ما عرفت بيومين،
مراتك أذتنى فوق ما تتخيل يا فوزى ودمرت حياتى، وربنا عاقبها إنها شالت الرحم بعد ما خلفت مريم .
صمت فاروق قليلاً،وهبطت دموعه على وجنتيه وابتلع غصة فى حلقه، وقال بحسرة:
-بس على الأقل بنتك معاك، أما أنا بقى مش عارف إذا كانت عايشة ولا ميتة؟ ربنا اللى عالم بيها،بس لو عايشة يارب يجمعنى بيها وأخدها فى حضنى، ولو ميتة يارب يجمعنى بيها أنا وأمها فى الأخرة.
كانت تقف مديحة ودموعها تهطل بغزارة على وجنتيها،تضع يدها على فمها تكتم شهقاتها فهى لم ترى فاروق بتلك الحالة أبداً، ندمت أشد الندم أنها فعلت ذلك،كان غضبها وحقدها على أمينة يعميها لأنه رفض أن يتزوجها وفضل أمينه عليها، لم تستطع التحكم بغضبها وذهبت الى المشفى وأجبرت ممرضة أن تتخلص من الفتاة فأخذتها الممرضة وأبدلتها بصبي ميت،وأخبرت الجميع أن أمينه أنجبت صبى ولكنه ميت، مرضت أمينة بشدة وتم إستئصال رحمها، وعندما علمت أنها لن تلد ولن تصبح أما ماتت بعد يومين من إستئصال رحمها.
تكرر نفس الأمر مع مديحة، وشاء الله أن يعاقبها، فعندما أنجبت مريم تم إستئصال رحمها هى الأخرى، فعلمت أنه ذنب ما فعلته بأمينة، فندمت وقررت التوبة وقصت لهم ما حدث، ذهبت معهم الى المشفى ولم تجد الممرضة التى أخذت الفتاة ولم تكن حتى تعرف اسما لها وكان الأرض إنشقت وابتلعتها،لم يسامحها زوجها الى الآن بسبب حزن أخيه وإصراره أن يبقى بالخارج دوما حتى لا يراها، أما عمها الحاج جلال سامحها بعد فترة لأنها ندمت وتابت،وفاروق حاقد عليها وغاضب الى الآن،وكان ما حدث لم يحدث من خمس وعشرون عاما وإنما حدث الآن،
فاقت مديحة من ذكرياتها على صوت بكاء وإنهيار فاروق فى أحضان أبيه، وإختارت الصعود لبيتها حتى لا يراها ويزداد إنهياره وسخطه عليها.
بعد فترة هدأ فاروق فى أحضان أبيه،فابتعد ونظر لأخيه بإنكسار فقد أخطا فأخيه أيضاً حزين من يومها، يعلم أن أخيه ابتعد عن زوجته التى يحبها ورفض أن يسامحها إلا عندما يسامح هو زوجة أخيه، لو الأمر بيده لسامحها ولكن الأمر أكبر من قوة تحمله فنهض ووقف أمام أخيه قائلاً بحزن:
-أنا أسف إنى قلت الكلام ده يا فوزى ياريت تسامحنى أنا كاتم كل ده جوايا وساكت إنت ضغطت عليا أوى وخلتنى أنفجر بالشكل ده.
اقترب منه أخيه واحتضنه بود وربت على رأسه، فإنفجار أخيه من الممكن أن يريحه قليلاً سيرتاح فاروق ويهدأ باله بعد أن أخرج ما فى قلبه .
إبتعد الشقيقان عن بعضهما وإبتسم له فوزى قائلاً:
أنا مش زعلان منك يا فاروق عندك حق فى كل اللى قلته وإن شاء الله ربنا يجمعك ببنتك وتطلع عايشة.
صمت فوزى قليلاً ومسد عينيه بإرهاق قائلاً:
-أنا هطلع أنام عايز أرتاح شوية قبل الخطوبة،علشان اليوم طويل.
صعد فوزى بإرهاق،فمواجهته مع أخيه إستنفذت طاقته وجعلته شارداً يفكر فيما سيحدث بعد ذلك.
دلف الى غرفة نومه وجد زوجته تبكى بإنهيار، فاقترب منها بسرعة فمازال يحبها ولم ينقص حبها فى قلبه حتى بعد أن علم بما فعلته،أمسك وجهها بين يديه ليرى دموعها التى تهطل بغزارة على وجنتيها،فقال بلهفة لم يستطع إخفائها:
مالك يا مديحة، ايه اللى حصلك؟ بتعيطى ليه؟
رأت مديحة اللهفة فى عينيه ظاهرة بوضوح وأيضاً عشقه لها،فازداد بكائها أكثر لأنها بغبائها لم تعلم بحبه إلا بعد فوات الأوان،وركضت وراء سراب توهمت أنه حبا، فألقت نفسها فى أحضانه،وإزداد نحيبها أكثر قائلة بشهقات متتالية:
أنا أسفة أوى، أنا ندمانة على أى حاجة عملتها غلط زمان، أنا تبت والله نفسي فاروق يسامحنى وإنت كمان تسامحنى، أنا غلطت لما عملت كده.
انصدم فوزى مما فعلته،وحاول التماسك كى لا يحتضنها هو الأخر، فأبعدها عنه برفق عقب إنتهائها من حديثها وقال بحزن:
-خلاص يا مديحة العياط مش هيفيد، اللى حصل حصل وربنا يلطف بينا .
ترك فوزى الغرفة وغادر ليرتاح فى غرفة أخرى، تاركا مديحة مازالت تبكى
عقب صعود فوزى لشقته اقترب جلال من فاروق وربت على رأسه قائلاً بحزن:
-سامحنى يا ابنى إنى ضغطت عليك تقعد معانا هنا، أنا عملت كده علشان تقعد معايا و نتجمع زى زمان.
قبل فاروق يد أبيه وقد قرر البقاء بجوار أبيه، يجب أن يضغط على نفسه ليرضى والده، رؤية أبيه بهذا الشكل بشرته شاحبة والتجاعيد ملأت وجهه يجعله غير قادر على البقاء بعيدا عنه، بعد أن كان كالجبل لا يهزه شئ،فتنهد بضيق قائلاً:
-خلاص يا بابا أنا هفضل هنا علطول، بعد الخطوبة هسافر أنهى كل حاجة هناك، وأجيب بقية هدومى وأفضل هنا.
فى المساء
حضر الجميع من أجل حفل الخطبة، لم يدعو مراد إلا أشخاص قليلة؛ أرادها أن تكون حفلة عائلية يحضرها المقربون فقط.
كان حمزة ومصطفى يقفان كلاً منهما فى إنتظار عروسه، والجد يقف بين أولاده فوزى وفاروق ينظر لكل منهما بآبتسامة لإجتماعهما مرة أخرى، لا يصدق نفسه الى الآن أن ابنه الغائب قرر البقاء هنا دوماً يعيش معه ولن يفارقه مرة أخرى .
أما مديحة رفضت المجئ حتى لا يراها فاروق وينهار مرة أخرى.
حسن يقف بجوار عمه ينظر لمريم التى تقف شاردة، وكانت جميلة بملامحها الهادئة،وفستانها الأرجوانى، الذى يصل ذراعيه لمرفقيها،يصل الى بعد الركبة من الأمام،أما من الخلف فهو يصل الى كاحلها مغلق من الصدر حتى تتجنب عصبية أبيها وحسن.
أما العروستان هبطتا من الأعلى تتأبط كل منهما ذراع مراد،يبتسمان للجميع حيث تألقت ألاء بفستانها الفضي،وشعرها القصير الذى تركته حراً، ومستحضرات تجميل تكاد لا ترى؛ لأنها لم تضع إلا القليل .
أما سلمى أبهرتهم بفستانها الأسود الذى يتداخل فيه اللون الأحمر النارى، وحجابها الأحمر،وأيضا لم تضع إلا القليل من مستحضرات التجميل.
سلم مراد كل واحدة منهما الى عريسها،وجلسوا فى المكان المخصص لهم.
كان حمزة ينظر لالاء بفرح أنها بجانبه الآن، وسترتدى دبلته بعد قليل،أعجب بها منذ أن رأها،مع ذلك لم يصل لدرجة الحب،ولكنه يثق أنه سيهيم بها عشقا؛ فتلك الفتاة تأسر القلوب .
أما هى ابتسمت له وضحكت عندما أطال النظر لها بدون أن يتفوه بحرف وقالت:
-هتفضل تبصلى كده كتير،ركز أهلك جايين يباركوا لينا.
نظر حمزة أمامه فوجد عائلته قادمة بإتجاههم، وعلى رأسهم جده جلال نصار.
إقترب منه جلال، فنهض حمزة وأمسك يد جده يقبلها فربت الجد على رأسه قائلاً:
-ألف مبروك يا حبيبي!
رد عليه حمزة بإبتسامة:
-الله يبارك فيك يا جدى!
إقترب الجد من ألاء قائلاً بإبتسامة:
-ألف مبروك يا بنتى!
بادلته ألاء إبتسامته قائلة:
الله يبارك في حضرتك.