رواية امرأة وخمسة رجال للكاتبة شاهندة الفصل التاسع عشر
ألقى عزت نظرة على صافى النائمة بجواره قبل أن يتسلل هابطا من السرير ومتجها بخطى هادئة إلى حيث حقيبتها ليفتحها بحذر شديد.. أخرج المفاتيح الخاصة بصافى لينظر إليها بإنتصار قبل أن يمسك إحدى المفاتيح .. ثم يخرج من جيبه قطعة من الصلصال ويقوم بلصق المفتاح عليها ثم الضغط جيدا وبقوة .. ليرفع المفتاح وهو ينظر إلى شكله الذى طبع على الصلصال وعيونه تلمع بالسعادة.. وضع الصلصال بجيبه مجددا وهو يلقى نظرة قلقة على صافى التى تقلبت فى نومها قبل أن تهدأ حركتها .. ثم وضع المفاتيح فى مكانهم بالحقيبة.. وتسلل عائدا للنوم بجوارها مجددا ليضجع على جانبه الأيسر وعلى شفتيه إرتسمت إبتسامة شريرة ...مثله تماما.
قال الطبيب فى أسى موجها حديثه إلى وليد ووالدته:
مع الأسف فقدنا الجنين.
ظهر الحزن على ملامحهما والطبيب يستطرد:
حالة المريضة مستقرة والحمد لله .. الجرح اللى فى راسها سطحى ومسببش ليها أي إرتجاج فى المخ بس حالتها النفسية حاليا مهمة جدا.. فلازم تحسسوها انكم واقفين جنبها وإنها ممكن تعوض الحمل اللى راح منها ده مع الوقت.. عن إذنكم.
تركهما مغادرا ليجلس وليد على أقرب كرسي وهو يشعر أنه لم يعد قادرا على الوقوف بينما نظرت إليه منيرة قائلة بغضب:
يعنى عاجبك كدة؟.. مكنتش قادر تمسك أعصابك وتصبر عليها لغاية ما تجيبلنا البيبى اللى كنا بنحلم بيه.. أقول إيه لأختى دلوقتى وجوزها.. هقول إيه؟ مش بعيد هي تحكيلهم على كل حاجة وتبقى انت ضعت ياوليد.
قال وليد بغضب:
خلاص بقى ياماما.. أنا فية اللى مكفينى ومش ناقص.
رمقته منيرة قائلة:
خلاص إيه بس.. انت مش هتكبر أبدا.. هفضل ألملم فى مصايبك اللى بتجيبهالى واحدة ورا التانية لحد إمتى؟ .. أنا زهقت.
قال وليد بضيق:
يوووه بقى ياماما.. أقولك .. أنا هسيبلك المستشفى كلها عشان ترتاحى.
ليقرن قوله بمغادرة المستشفى بخطوات سريعة لتتابعه منيرة بعينيها فى حنق قائلة:
هعمل إيه بس فيك؟دلعى فيك كان أكبر غلطة غلطها فى حياتى ياوليد.
اقتحم ريان فجأة تلك الحجرة الخاصة بطفلته ليجد تمارا واقفة أمام النافذة تنظر للخارج بشرود ليقول بسرعة:
تمارا.
افاقت من شرودها على صوته وإلتفتت تنظر إليه بدهشة تتساءل عن سر رجوعه اليوم مبكرا.. لتراه يبحث بعينيه عن طفلته لتبتسم قائلة:
إيللى بتقول لدادة حليمة تحضر الغدا عشان جاعت.
أدرك انها صارت مثله تقرأ ملامحه وأفكاره.. ليعود إليها بنظراته.. بعد ان أغلق الباب مقتربا منها .. عقدت حاجبيها تنتظر كلماته .. تدرك أن لديه امرا هاما سيخبرها إياه.. ليقول هو بهدوء:
ميار فى المستشفى.
نظرت إليه بدهشة قائلة:
ميار.. ليه .. مالها؟
ثم لم تلبث أن تحولت ملامحها إلى الغيظ وظهرت نبرة الغيرة فى صوتها وهي تقول:
ولا الهانم قررت فجأة إن إيدين الدكتور العظيم ريان لازم تلمس ملامحها.
لتصمت على الفور وهي تشعر بالحنق من نفسها فنبرة الغيرة فى صوتها لايمكن إنكارها.. لتشيح بوجهها تخفى ملامحها التى ظهر الخجل بهم ليعقد ريان حاجبيه دهشة من كلماتها الغاضبة الحادة.. ثم يدرك وبكل قوة نبرة الغيرة فى صوتها ليتأمل ملامحها التى أشاحت بها بعيدا عنه حتى لا يرى خجلها ولكنه لاحظه على الفور فى احمرار وجنتيها الذى امتد إلى عنقها الناعم..
ترى هل حقا تغار عليه.. وما معنى غيرتها تلك؟أتحمل له بعضا من المشاعر؟وهل تلك المشاعر ناجمة عن شعورها بالجميل أم أن تلك المشاعر أعمق من ذلك؟كما شعر هو البارحة بالغيرة الشديدة عليها من وليد.. وأن مشاعره تجاهها قد تعدت الإعجاب بشخصيتها وقوتها الداخلية وروحها.. وان كان مازال يشعر بأن ارتباطه بها هو ارتباط بملامح زوجته غزل واشتياقه ومشاعره تجاهها هي مشاعر لطيف غزله.. ولكنه فى نفس الوقت يتمنى لو كانت مشاعر تمارا تجاهه تتعدى عرفانها بالجميل.
كاد أن يقول شيئا ولكنه تراجع فلا الوقت ولا الظروف مناسبة لأي حديث عن المشاعر الآن.. لذا فقد قال بهدوء:
ميار أجهضت طفلها انبارح.
عادت تمارا تنظر إليه وقد اتسعت عيناها بصدمة ليظهر الألم على ملامحها بقوة وهي تقول:
انت بتقول إيه؟
أومأ برأسه قائلا:
بقول اللى سمعتيه ياتمارا.. ميار فقدت البيبى بتاعها انبارح بالليل.
قالت تمارا ومازالت تحت تأثير الصدمة:
هي كانت حامل؟
قال فى هدوء:
الظاهر كدة.. الدكتور اللى عالجها قال إنها جت انبارح بعد ما وقعت وقعة جامدة أدت لإصابتها بجرح سطحي فى الراس بس مع الأسف فقدت الجنين.
ظهرت القسوة فى عيون تمارا وهي تقول:
أكيد الحيوان جوزها ليه دخل فى الحكاية دى.
هز ريان كتفيه قائلا:
أنا قلت كدة برده وخصوصا إنه خرج من المستشفى بعد ما عرف ومظهرش لحد دلوقتى.
أومأت تمارا برأسها وهي تلتفت ناظرة من النافذة إلى الخارج مجددا بشرود.. ليقول ريان:
هتعملى إيه يا تمارا؟
التفتت إليه تمارا تتأمله بملامح غامضة إحتار فى تفسيرها قبل أن تعود بعينيها تنظر من خلال النافذة قائلة بحزم:
هزورها.
قالت سهام ودموعها تنهمر:
بنتى مالها يامنيرة؟
قالت منيرة بهدوء:
اهدى ياسهام.. ميار زي الفل هي بس اتزحلقت ووقعت فى الحمام.. وبسبب الوقعة دى فقدت الجنين.
إلتفتت سهام إلى حامد زوجها والواقف بجوارها قائلة بمرارة:
مش قلتلك ياحامد.. انا كان قلبى حاسس.. ياحبيبتى يابنتى.
قالت منيرة:
قلتلك اهدى ياسهام .. بنتك بخير وبإذن الله كل حاجة تتعوض.
قال حامد فى حيرة:
وهو وليد فين؟
ظهر الإرتباك على ملامح منيرة لثانية واحدة تمالكت بعدها نفسها لتقول بهدوء:
لسة ماشى حالا .. راح البيت يغير ويجيبلنا شوية حاجات .. ياحبيبى منامش طول الليل.. قاعد جنبها هيموت عليها.. بيقوللى مش مهم البيبى أهم حاجة صحتها.
قالت سهام من خلال دموعها:
طبعا مش مهم.. كل حاجة تتعوض..
ثم نظرت إلى منيرة قائلة:
انا عايزة أشوف بنتى يامنيرة.. عايزة أشوف ميار.
قالت منيرة:
اتفضلى طبعا شوفيها ياسهام.. أكيد فاقت دلوقتى..
دلفت سهام إلى الحجرة مع حامد تتبعهما منيرة .. ليجدوا ميار جالسة تنظر إلى السقف بشرود لتفيق من شرودها على صوت أمها التى اندفعت تحتضنها قائلة:
بنتى حبيبتى عاملة إيه؟
قالت ميار وقد بدأت دموعها بالهبوط مجددا على وجنتيها قائلة:
أنا كويسة ياماما.. متخافيش.
قالت سهام وهي تربت على ظهر ميار:
الحمد لله ياقلب ماما.. حمد الله على سلامتك.
لتخرجها من حضنها قائلة:
أنا مش عايزاكى تقلقى خالص.. شدى حيلك انتى واخرجى من هنا.. وبإذن الله تحملى تانى وتجيبيلنا البيبى اللى نفسنا فيه.
نظرت ميار إلى منيرة بجمود قبل أن تعود بنظراتها إلى والدتها قائلة:
بإذن الله ياماما.. بإذن الله.
لتقول منيرة:
أنا هسيبكم مع بعض وهخرج أشوف الدكتور لو يسمح نخرجها النهاردة من المستشفى.. جو المستشفى ده خنيقة وأنا شايفة إنها تكمل علاجها فى البيت أحسن.
قال حامد بهدوء:
فعلا.. أحسن كتير.
اومأت منيرة برأسها قبل أن تغادر الحجرة وتغلقها خلفها لتقف مكانها وترتسم على شفتيها إبتسامة.
فلاش باك
قالت ميار بحدة:
أنا مستحيل هكمل معاه بعد اللى عمله فية ده .. مستحيل.
قالت منيرة فى برود:
منصحكيش تاخدى قرار فى لحظة غضب.. فكرى كويس قبل ما تاخدى قرارك.. مصيرك ومصير مامتك وباباكى فى إيديكى ومعتقدش إنك حابة تكونى السبب فى إنهم يخسروا كل حاجة بسبب غلطة مش مقصودة من وليد.. أخدتى انتى عليها قرار متسرع.
عقدت ميار حاجبيها قائلة:
قصدك إيه؟
اقتربت منها منيرة لتجلس على ذلك الكرسي بجوار سرير ميار وهي تضع قدما فوق الأخرى قائلة:
قصدى ان فلوس باباكى كلها دخل بيها شريك مع وليد فى صفقته الأخيرة ولو لاقدر الله وليد خسرها.. يبقى كدة فلوس باباكى راحت.. وربنا يعوض عليكوا.
اتسعت عينا ميار بصدمة لتطرق برأسها تستوعب الأمر ثم يظهر على ملامحها الحزن والإحباط ولكنها ما لبثت أن تمالكت نفسها وهي ترفع إلى منيرة عيون خالية من الحياة وهي تقول:
أنا عرفت دلوقتى وليد طالع لمين.. وعموما أنا مش هتكلم دلوقتى وهفضل مع وليد عشان خاطر أهلى بس صدقينى هييجى يوم وتندموا كلكم على الجبروت اللى انتوا عايشين بيه ده.. وهتدفعوا التمن غالى.
هزت منيرة كتفيها بلا مبالاة ثم نهضت قائلة فى برود:
معتقدش ان فيه حد ممكن يفكر يإذى حد من عيلة السيوفى.. لإن اللى بيفكر بس يإذينا بنوديه ورا الشمس.
لتغادر تتبعها عين ميار فى كره...
انتهى الفلاش باك
ابتسمت منيرة بهدوء قبل أن تغادر متجهة إلى مكان الطبيب بخطوات هادئة منتصرة.
اقتربت تمارا التى يمسك ريان بيدها من حجرة ميار.. ليجدا مدام منيرة واقفة بجوار الباب تتحدث مع الممرضة.. والتى ما إن رات ريان وتمارا حتى انفرجت أساريرها وهي تقول موجهة حديثها لهما:
أهلا اهلا يادكتور.. إزيك يامدام غزل؟
قال كليهما بنفس واحد:
الحمد لله.
نظرا إلى بعضهما البعض بنظرة حملت الكثير من المشاعر قبل أن يعودا بنظرهم إلى منيرة ويقول ريان:
احنا سمعنا اللى حصل وزعلنا جدا يامدام منيرة.
قالت منيرة بأسى مفتعل:
قضا ربنا يادكتور.. هنعمل إيه بقى؟
قالت غزل:
الحقيقة انا معرفش مدام ميار ومشفتهاش غير انبارح بس بس زعلت عليها اوى.. هي الوقعة دى وقعتها إزاي.. وأستاذ وليد فين؟
نظرت إليها منيرة قائلة ببرود:
اتزحلقت فى الحمام.. ووليد بيجيب حاجات من البيت
شعرت تمارا بأن ظنونها فى محلها لتقول بهدوء:
طيب ممكن أشوفها؟
قالت منيرة:
آه طبعا اتفضلى.. وسيبيلى الدكتور ريان شوية أنا محتاجاه فى استشارة.
اومأت تمارا براسها وهي تتجه إلى غرفة ميار قائلة فى نفسها:
وده وقته.. يهدك ولية مبتختشيش.. أكيد ابنك طالعلك.
دلفت تمارا إلى حجرة ميار بعد أن طرقت الباب وسمعت صوتا ضعيفا يسمح لها بالدخول.. لتجد ميار جالسة فى سريرها وقد احمرت عيناها وأنفها مما يدل على انها كانت تبكى للتو.. لتشعر على الفور بالتعاطف معها.. حاولت ميار الابتسام ولكن ابتسامتها جاءت ضعيفة باهتة.. وهي تقول:
اهلا يامدام غزل .. اتفضلى.
اقتربت منها غزل لتجلس على كرسي بجوار السرير .. ولكنها وجدت نفسها رغما عنها تغير رأيها وتجلس على السرير بجوار ميار تفتح لها ذراعيها.. لتنظر ميار إلى ذراعي تمارا المفتوحتين على مصراعيهم لتتردد لثانية واحدة قبل أن تلقى بنفسها بين ذراعي تمارا التى ضمتها على الفور لتفرغ ميار دموعها على صدر تمارا.. تبكى بشدة.. تربت تمارا على ظهرها وشعرها بحنان.. حتى افرغت ميار كل دموعها.. لتبتعد عن تمارا التى تركتها على الفور لتجد ميار تمسح وجهها بكمها كالأطفال.. ابتسمت تمارا وهي تمد يدها تربت على يد ميار التى نظرت إلى تمارا بإمتنان.. قائلة:
كنت محتاجة الحضن ده أوى.
قالت تمارا بحنان:
أنا حاسة بيكى.. بجد حاسة بمشاعرك.. يمكن مش هتلاقى حد حاسس بيكى أدى.. بس انا عايزاكى تسمعينى كويس وتحطى كلامى فى راسك.. انتى أقوى من كل حاجة حصلتلك.. أحلامك اللى اتهدت سيبك منها واحلمى من جديد.. الاستسلام مش حل.. وحياتنا دى بنعيشها مرة واحدة.. مرة واحدة وبس.. وعشان كدة لازم نعيشها بسعادة.. ونحقق فيها كل أحلامنا.
قالت ميار بأسى:
وإذا كنا مبقيناش قادرين نحلم.
ابتسمت تمارا قائلة:
مفيش حاجة إسمها مبقيناش قادرين.. هي بتبقى مبقيناش عايزين نحلم.. لكن احنا قادرين .. محتاجين بس سند.. إيد تطبطب علينا وتشجعنا.. وأنا جنبك ياميار وبقولهالك.. لو محتاجة لايد تطبطب عليكى وتبقالك سند.. فأنا موجودة وبيتى مفتوحلك فى أي وقت.
نظرت إليها ميار قائلة فى حيرة:
انتى إزاي كدة..
نظرت إليها تمارا قائلة:
إزاي كدة إيه؟
قالت ميار:
قدرتى بلمسة وكلمتين تفهمينى وتريحى قلبى.. قدرتى تدينى امل بعد ما كنت قربت أيأس.
نظرت تمارا إلى عمق عينيها قائلة:
لإن الموجوع بيحس بالموجوع اللى زيه وبيكون هو الوحيد اللى قادر يخفف عن شريكه الوجع.
لتنهض ناظرة إليها قائلة:
أنا دلوقتى مبقتش خايفة عليكى لإن الغشاوة اللى على عينك أكيد راحت بعد اللى حصل .. وزي ما قلتلك انا جنبك وفى أي وقت هتحتاجينى فيه فهتلاقى بيتى مفتوحلك.. هسمعك وهريحك.. ويمكن ألاقيلك حل لمشاكلك.. المهم.. اوعى تحسى انك لوحدك.. متهربيش من مشاكلك ومتستسلميش ليها.. واجهيها وأنا فى ضهرك ياميار.
نظرت إليها ميار بامتنان وهي تقول:
انا فعلا كنت محتاجة حد زيك فى حياتى .. يمكن ربنا بعتك لية فى الوقت المناسب.. فى وقت حسيت فيه انى لوحدى.
ابتسمت تمارا قائلة:
مش عارفة ربنا بعتنى ليكى ولا بعتك لية.. المهم ان احنا مع بعض.. هسيبك ترتاحى وهستنى زيارة منك قريب.. سلام ياميار.. وخدى بالك من نفسك.
اومأت ميار برأسها بابتسامة.. لتغادر تمارا تتبعها عيون ميار التى ما ان غادرت تمارا الحجرة حتى رفعت رأسها إلى السماء قائلة بارتياح:
الحمد لله.