رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني للكاتبة منال سالم الفصل الثاني والعشرون
قبيل الكارثة التي وقعت بلحظاتٍ، تأكدت من إعادة تنظيف الصــالة، ونفض الأسطح الزجاجية، وإزاحة أي عالق من الأتربة، ليبدو المكان مرتبًا، نظيفًا، وطيب الرائحة. انتقلت بعد ذلك لغرف النوم لتبدل الأغطية، وإعادة وضع الوسائد على الأَسرة بشكل جمالي رقيق، تأكدت "همسة" من اللمسات الأخيرة لمنزلها، وانتظرت بترقبٍ مجيء والدتها. مشط "هيثم" شعره، وعدَّل من ياقة الزي الرياضي الذي ارتداه، تركزت نظراته على زوجته حين أردفت قائلة بتنهيدةٍ متوترة:
-ماما على وصول، وبصراحة كده أنا خايفة يحصل خناقة مع مامتك...
ضاقت نظراته بقليلٍ من القلقٍ أيضًا، بينما أكملت "همسة" بنفس الصوت المتوتر:
-هي أسلوبها صعب أوي، وآ...
قضمت شفتها السفلى؛ وكأنها تستعد نفسيًا للبوح بالبقية، زفرت الهواء على مهلٍ، وعلقت:
-و"فيروزة" مش هاتسكت لو سمعت حاجة معجبتهاش.
فرك "هيثم" مؤخرة عنقه، كانت محقة في ذلك، لم يبعد نظراته عنها، وهتف مرددًا في حيرة وقلق:
-مشكلة الصراحة.
سألته بترقبٍ:
-هنعمل إيه؟ هنفصل القوات إزاي؟!
أجابها بأسلوبه المازح:
-أقولك على حاجة حلوة..
هزت رأسها في اهتمامٍ، فأضاف مبتسمًا:
-احنا نسيبهم يخبطوا في بعض، ونقعد نتفرج، جايز أمي تطفش في النهاية، ونرتاح.
أطلقت ضحكة ساخرة من طرافته التي تهون عليها صِعاب الأمور، لكن ما لبث أن تلاشت بسماعها لصياح والدته المتذمر:
-الحق يا "هيثم"، شوف المصيبة اللي حصلت؟
حيث قامت الأخيرة بإيقاف دورة الغسيل، غير عابئة بالمياه التي أغرقت الأرضية، وحَشرت زي الصلاة الخاص بها -والذي يمتاز بلونه الأحمر القاني- ضمن الثياب البيضاء، وأعادت تشغيل البرنامج، ليتم غسلهم جميعًا، على تلك الحرارة العالية، فجاءت النتيجة البديهية لمزج اللونين معًا؛ اكتساب غالبية الملابس للون الوردي، واختفاء اللون الأبيض تقريبًا عن قطع بأسرها. أمسكت بإحدى القطع في يديها، وعلى الفور ألقت بلومها على "همسة"، وهي ترفعها للأعلى لتريه إياها:
-بص شوف مراتك، وعمايلها!
نظر لها "هيثم" متسائلاً في اندهاشٍ:
-هي عملت إيه؟
حدجتها "بثينة" بتلك النظرة الحقود، وأجابت وهي تلوح بالثياب الوردية:
-الغسيل كله باظ.
انفرجت شفتا "همسة" عن ذهولٍ، وعيناها تتابعان الثياب التي فسدت، في حين واصلت حماتها إلقاء التهم عليها:
-يعني عامية مش شايفة الغسيل الأبيض من الألوان؟ ارتاحتي كده لما باظوا؟
نفت تلك التهمة الباطلة عنها، وردت بصوتٍ شبه مختنق:
-والله أبدًا، أنا بصة كويس قبل ما أحطهم في الغسالة..
لمحت تلك البسمة الصغيرة المتشفية فيها على ثغر "بثينة"، فقست تعبيراتها نحوها، فطنت للخدعة الدنيئة التي لفقتها، وتساءلت ببساطة؛ وكأنها تتحقق من صدق قولها الباطل:
-وبعدين أنا مشغلة البرنامج، ومتأكدة إن كل حاجة تمام، يبقى إزاي ده حصل؟ إلا إن كان حد بقى وقف البرنامج وعدل عليه، عشان ينكد علينا.
صاحت بها "بثينة":
-قصدك إيه؟ إني عملت كده؟
ردت بجراءة:
-الله أعلم! لكن مش أنا.
تدخل "هيثم" في الحوار، ليفض بينهما، وقال:
-خلاص يامه هلبسهم بامبي، أنا مش زعلان..
ثم استدار نحو زوجته، وأضاف بابتسامة عريضة؛ كمن يتغزل بها:
-وأهوو الحياة تبقى بامبي بيني أنا ومراتي.
زجرته والدته في تهكمٍ مستفز، كعادتها:
-ياخويا أنا عارفة بتحبها على إيه، دي نحس، مافيش منها رجا!
حذرتها "همسة" مشيرة بسبابتها أمام وجهها:
-لو سمحتي بلاش الكلام ده، أنا مبغلطش في حد، فيا ريت متغلطيش فيا!
دعم "هيثم" حديثها قائلاً:
-يامه كده عيب، وآ...
صرخت به في حدةٍ:
-اخرس إنت، هتاخد في صفها كده على طول
وقبل أن توبخ زوجته بعدائية بغيضة، انتبه ثلاثتهم لصوت الصراخ الصادر من الخارج، تعرفت "بثينة" على الفور على صوت ابنتها الغاضب، واندفعت لاكزة "همسة" في جانبها بغيظٍ، لتتجه نحو باب المنزل، لترى ما يحدث مع "خلود"، تبعها "هيثم" متوقعًا حدوث مصيبة ما، ولم تتأخر زوجته في اللحاق بهما.
أمسكت "بثينة" بحافة الدرابزين بكلتا يديها، وأحنت رأسها للأسفل لتتطلع إلى "خلود" المتلاحمة بشراسة شديدة مع "فيروزة"؛ وكأنها تود الفتك بها، ووقفت إلى جوارها "همسة" المذهولة مما يحدث، فليست من طبيعة توأمتها افتعال المشاجرات مع تلك المستفزة، في حين هبط "هيثم" الدرجات سريعًا، ليتدخل فورًا، قبل تفاقم الشجار الذي لا يعلم سبب نشوبه. أرخت "بثينة" إحدى قبضتيها عن الحافة، ولوحت بذراعها تحذر ابنتها بصوتها الصادح:
-خدي بالك يا بت!
وكأن الأخيرة فاقدة لحاسة السمع، لم تتجاوب مع أي أصوات تناديها بالتوقف، بدت أكثر عزمًا على إتمام مخططها للنهاية، التفتت برأسها للوراء، لتلقي نظرة أخيرة على الثماني درجات من خلفها، لن تكون الإصابة جسيمة؛ إن تدحرجت عليه، خاصة مع بَسّطة السلم المربعة، ستفترشه بأريحية. رأها "هيثم" بوضوحٍ، من زاويته، وهي تتراجع ببطءٍ دافعة نفسها للخلف، دون أن تمسها أي يد، لتزلّ قدمها –بعمدٍ- عن حافة الدرج، وتسقط سقوطًا مروعًا عليه، أصاب المتواجدين بالصدمة والارتعاب الشديدين.
غامت الصور في عينيها قبل أن تتحول لإظلام كامل، والأصوات الصارخة تجتاح عقلها الذي يتخلى عن وعيه تدريجيًا، بعد تلك السقطة العنيفة، التي حتمًا لن تتعافى منها بسهولةٍ، كان آخر ما أبصرته وجه شقيقها المرتاع، والذي قفز الدرجات قفزًا ليكون إلى جوارها، لامها بصوتٍ حزين:
-عملتي كده ليه يا "خلود"؟
لم تجبه، ومنحته تلك النظرة الأخيرة، لتطبق على جفنيها، مستسلمة للخدر الإجباري، الذي تفشى في جسدها، ورغم الرجفة المرعبة التي نالت منها لرؤيتها تسقط على الدرج بهذا الشكل الشنيع إلا أنها لحقت بها لتتفقدها، جلست "فيروزة" على ركبتيها أمامها، وصاحت تأمره في خوفٍ:
-متحركهاش، أنا هاطلب الإسعاف.
أومأ "هيثم" برأسه، وهو ينظر إلى شقيقته الفاقدة للوعي، جذبة عنيفة من كتف "فيروزة" طرحتها أرضًا بعيدًا عنها، وأسقطت الهاتف من يدها، تبعها سباب مهين، التفتت للمتسببة في ذلك، فرأت "بثينة" وهي تعنفها بنواحها المزعج:
-أوعي يا بوز النحس عنها، عاوزة إيه تاني من بنتي؟ خلاص ارتاحتي لما جبتي أجلها؟
هتفت "فيروزة" نافية التهمة عنها:
-محدش جه جمبها، بنتك اللي عملت كده في نفسها، وكلكم واقفين وشاهدين.
ردت "آمنة" مدافعة عن ابنتها بغرابةٍ لم تتوقعها الأخيرة:
-أنا كنت ماسكة بنتي، وبعداها عنها، هي من الأول اللي قاصدة تشتبك معها!
اندهشت "فيروزة" من موقف والدتها، وجالت بنظراتها على الحشد المتجمع من حولهم، فبالرغم من الشجار الحاد بينها وبين "خلود"، إلا أنها لم تغفل عن بعض التفاصيل الهامة، فحين رفعت رأسها للأعلى على إثر الصوت الحاد، القادم من فوقها، رأت "بثينة" وهي تتدلى بنصف جسدها للأسفل، لتحذر ابنتها بشكلٍ صريح، من الاقتراب من حواف الدرج، ووالدتها كانت شبه مقيدة لذراعيها، وحين أدارت رأسها للجانب، ظهرت "ونيسة" وهي تندفع خارجة من باب منزلها مع نبرتها المتسائلة عن سبب الجدال، فكيف لها أن تدفعها وهي منشغلة عنها –ذهنيًا وبدنيًا- في تلك اللحظة المصيرية؟
انضمت "ونيسة" لأختها، وجلست على الدرجة الأخيرة تبكي وهي تقول:
-استرها يا رب، دي في بطنها عيل، احميها يا رب.
ردت عليها "بثينة" بصراخها:
-مافيش غيرها إلا عايزة تجيب أجل بنتي واللي في بطنها.
تحولت نظراتها المغلولة نحو "فيروزة"، بادلتها الأخيرة نظراتٍ غريبة مستنكرة ما تقذفه من اتهامات مجحفة، وضعت "همسة" قبضتها على ذراع توأمتها، لتنتشلها من تحديقها الناري بها، شدتها بعيدًا عن حماتها الغاضبة، والتي من المتوقع أن تتطاول باليد عليها، لتفرغ حنقها الأسود بها، وهتفت ترجوها:
-تعالي معايا يا "فيرو".
ردت عليها توأمتها بإصرار:
-مش هامشي .. هو أنا جيت جمبها أصلاً؟
همست لها بصوتٍ مضطرب:
-أنا عارفة، بس بلاش تبقي في وشها السعادي.
كانت تقصد بحديثها تلك المرأة، وبهدوءٍ انسحبت "فيروزة" لتفسح المجال للجد "سلطان" الذي هبط عن قمة الدرج، ملقيًا نظراتٍ مستريبة على "خلود" قبل أن ينطق بلهجته الصارمة:
-كلم الإسعاف بسرعة يا "هيثم"، مش هانستنى لما روحها تطلع عشان نتحرك.
هز رأسه قائلاً بحزنٍ:
-حاضر يا جدي.
-كلمت عمك "بدير"؟
تساءل "سلطان" بتلك العبارة الجادة، وهو يجلس على المقعد المعدني –غير المريح- في بهو الاستقبال، بعد أن تم نقل "خلود"، بواسطة عربة الإسعاف، إلى أقرب مشفى، ووضعها بقسم الطوارئ للتعامل مع حالتها الحرجة، حرك "هيثم" رأسه بالإيجاب، وأضاف:
-أيوه يا جدي، وهو جاي على طول على هنا، وقالي إنه هيعرف "تميم" باللي حصلها، وهيجيبه في سكته.
زم شفتيه قليلاً، ليعقب بعدها مرددًا في هدوءٍ، وهو يستند بكفيه على رأس عكازه:
-ماشي يا ابني..
صمت للحظة، وأمر حفيده، وعيناه ترتكزان على "بثينة":
-روح اطمن على أمك، وقولها بلاش تقلبها مندبة.
وجه "هيثم" نظراته نحو والدته التي كانت تلطم على صدرها، وفخذيها، في حسرةٍ، للفاجعة التي آلمت بشقيقته، وصوتها اللائم لم يتوقف عن العويل:
-كان مستخبيلك ده كله فين يا بنت بطني؟ رديتي بالهم والهم مرضاش بيكي ياحبة عين أمك!
ربتت "ونيسة" على حجر أختها، وواستها قائلة:
-استهدي بالله ياختي، إن شاءالله تعدي منها على خير.
هتفت في استنكارٍ ناقم:
-خير منين يا "ونيسة"؟ هنضحك على بعض؟ ده البت كانت متكومة لا حس ولا خبر، ولا اللي في بطنها؟
تنهدت ترد في رجاءٍ متضرع:
-استرها عليه يا رب، ارمي حمولك على ربنا، وهو هينجيها.
قالت في عدم رضا:
-إنتي مش حاسة باللي أنا فيه ياختي.
أنكرت عدم تقديرها، معاتبة إياها برفقٍ:
-متقوليش كده، ده معزة "خلود" عندي زي معزة "هاجر" بنتي وزيادة.
واصلت ندبها المتحسر مضيفة:
-آه يا حرقة قلبي عليكي، يا ريتني كنتي أنا، ولا إني أشوفك كده بين الحياة والموت.
رددت "ونيسة" في أسفٍ:
-لا حول ولا قوة إلا بالله.
قست نظرات شقيقتها، وكزت على أسنانها مغمغمة بغلٍ:
-لأ وشوفي القادرة، جاية تقعد هنا عشان تشمت في بنتي.
التفتت "ونيسة" ناظرة نحو "آمنة" التي اتخذت مقعدًا معزولاً عن المحيط المزدحم، شتت نظراتها عنها، وقالت مدافعة عنها:
-بالعكس دي جاية تطمن عليها.
عنفتها "بثينة" بحدةٍ، وقد تلونت عيناها بحمرتها الغاضبة:
-إنتي بيخيل عليكي كُهن النسوان ده؟ أشوف قلبها محروق على بناتها قريب.
وضعت يدها على فمها تهتف في ارتعابٍ:
-حرام كده.. بلاش الدعوة دي!
ارتفعت نبرتها الساخطة إلى حد ما وهي تقول:
-لأ مش حرام مع الأشكال دي، هو أنا عندي أغلى من عيالي الاتنين؟ دخلتها كانت شوم علينا هي وبناتها الفقر!
التقطت أذنا "هيثم" سبابها الأخير، فقال راجيًا والدته، كي تكف عن ازدرائها العلني:
-خلاص يامه، المستشفى بيتفرجوا علينا.
زجرته "بثينة" بغيظٍ:
-غور من قدامي يا واد إنت، مش طايقاك.. عيلة مراتك جابوا أجل بنتي.
كان يعلم كراهيتها لـ "فيروزة"، لكنه رأى الحقيقة كاملة، فرد ببرودٍ:
-بلاش افتراء، أنا كنت واقف وشايف اللي حصل بعيني دول، "خلود" اللي حدفت نفسها وآ...
قاطعته بوقاحةٍ، رافضة الإصغاء له:
-هو إنت بقيت بتشوف أصلاً؟ من ساعة ما اتبلينا بالجوازة الشوم دي!
طابق تلك الفواتير التي تحصّل عليها، بالأخرى المدونة في الدفتر الخاص بتسجيل المعاملات التجارية، لاحظ "تميم" اختلاف بعض الأرقام، لفواتير سابقة، وإن كانت النسب طفيفة، حك مؤخرة رأسه في حيرة، وواصل المراجعة الدقيقة، ليعرف سبب ذلك الخلاف؛ لكن قطع تركيزه نداء والده الصـارم:
-يا "تميم"! سيب اللي في إيدك وتعالى معايا.
رفع رأسه عن المكتب، وتطلع إليه بنظراتٍ حائرة، قبل أن يسأله مهتمًا:
-في إيه يا حاج؟
بدا صوته أكثر حدية وهو يرد:
-من غير ليه، هتيجي معايا حالاً في المشوار ده.
أغلق "تميم" الدفتر، وأعاد وضع الفواتير بعد طيها في الدرج السفلي، ثم أغلقه بالمفتاح، وعلق عليه معترضًا:
-ده أنا لسه هاطلع على سوق الجملة، في بضاعة هناك وآ...
قاطعه "بدير" بتجهمٍ، لم يخفه:
-خلي حد من الرجالة يروح مكانك، الموضوع ده مايستناش.
تطلع إليه باسترابةٍ، وسأله مباشرة:
-وغوشتني يابا، حصل إيه؟
أجاب على مضضٍ، ونظراته تتفرس في وجه ابنه، ليعرف ردة فعله:
-بنت خالتك وقعت من على سلم البيت، واتنقلت على المستشفى.
لم تتأثر ملامحه بما سمعه، بدت غير مقروءة، ومع هذا تساءل في اهتمامٍ:
-يا ساتر، وده حصل إزاي؟
أجابه بعد زفيرٍ:
-مش عارف لسه، خلينا نروح نطمن عليها، و...
تباطأت نبرته حين أكمل:
-وعلى ابنك اللي في بطنها.
أدرك من تبدل نبرته وجود خطب ما خطير، وليس الأمر مجرد حادثة عابرة، تبعه متجهًا إلى سيارته، بعد أن أملى على أحد رجاله أوامره لينفذها، جلس والده في المقعد الأمامي، واحتل "تميم" مقعده خلف الموقد، ليتجه بعدها إلى عنوان المشفى المعروف، وهو يغمغم بتضرعٍ:
-عديها على خير يا رب
تناقلت الأخبار سريعًا في تلك المنطقة الشعبية، وعَلم الجميع بالحادث المأساوي الذي تعرضت له "خلود"؛ لكن التفاصيل الحقيقية للحادثة، شابها الكثير من الأغلاط والأقاويل غير الصحيحة، لإضفاء التشويق على تلك النوعية من الأخبار. وصــل "محرز" إلى المشفى، واتجه إلى الاستقبال ليستعلم عن حالة المريضة، دلته إحدى الممرضات على عائلتها الجالسة في ردهة الانتظار المتسعة، وهناك اقترب من الجد "سلطان" ليسأله بلهاثٍ زائف؛ وكأنه جاء ركضًا:
-ها يا جماعة، إيه الأخبار؟
رمقه الجد بنظرة غريبة، قبل أن يشيح بوجهه بعيدًا عنه، فأجاب "هيثم" عن جده، وهو يدعك بيده وجهه المتعب:
-لسه مافيش جديد.
رد عليه بقليلٍ من التفاؤل:
-دلوقتي الدكتور يطلع ويطمنكم عليها.
هز رأسه معقبًا عليه:
-يا رب يا "محرز".
تسلطت كافة الأعين على الطبيب الذي خرج لتوه من الداخل، مرتديًا زيه الأخضر، وذلك القناع الطبي يتدلى عن فكه، قاصدًا الاتجاه ناحيتهم، سألهم بنبرته الروتينية، وعيناه تتحركان على وجوههم القلقة:
-حضراتكم أهل المريضة؟
هبت "بثينة" واقفة بمجرد سماعها لصوته، وهرولت نحوه صارخة به:
-أيوه .. أنا أمها يا ضاكتور.
وقام "هيثم" بالتعريف أيضًا بنفسه:
-وأنا أخوها.
أشــار الطبيب بيده نحو موظفي الاستقبال؛ وكأنه يوجههم للذهاب إلى هناك، وهو يتابع قوله:
-طيب عايزين توقيع حضراتكم على إجراء العملية.
تساءلت "بثينة" بصدرٍ ملتاع، وملامح واجلة:
-عملية إيه ياخويا؟ هي حالتها خطيرة للدرجاي؟
أطرق رأسه قليلاً، وأجاب بحذرٍ:
-للأسف، حصل إجهاض للجنين اللي في بطنها!
لطمت بعنفٍ على صدغيها، لتصيح بعدها في عويلٍ صارخ:
-يالهوي! يا لهوي! يا لهوي!
أوقف "هيثم" والدته عن التصرف بتلك الطريقة المؤلمة، وهتف بحزنٍ صادق على شقيقته:
-اهدي يامه.. ماينفعش كده.
انضمت إليها "ونيسة"، ورجتها بصوتها الباكي:
-حرام عليكي ياختي، ده أمر الله!
التفتت "بثينة" نحو "سلطان" لتشاركه مصابها وصوتها لم يتوقف عن الصراخ المزعج:
-سمعت بنفسك يا حاج، حفيدك مات قبل ما يشوف الدنيا!
هز الجد رأسه للجانبين في أسفٍ واضح، وردد بصوتٍ خفيض:
-لله الأمر من قبل ومن بعد.
بينما أردفت "آمنة" معلقة على ما تراه، ودون أن تتدخل بشكلٍ مباشر لمؤازرة "بثينة":
-جيب العواقب سليمة يا رب.
-جوزك قالك حاجة؟
وجهت "فيروزة" سؤالها المهتم لتوأمتها، والتي فرغت لتوها من مكالمة عاجلة مع "هيثم"، لتستعلم منه عن آخر المستجدات الخاصة بحالة شقيقته، رمت بجسدها المتعب على الأريكة إلى جوارها، ورفعت ساقيها عن الأرضية لتضمها إلى صدرها، وشبكت ساعديها حول ركبتيها، وأجابتها بحزنٍ بائن في نبرتها:
-أيوه، "هيثم" قالي الحمل مكملش.
ضغطت "فيروزة" على شفتيها في أسفٍ، توقعت حدوث ذلك، بعد سقطتها القوية، ثم حركت شفتيها لتنطق بهدوءٍ:
-ربنا يصبرها.
ردت عليها "همسة" بصوتٍ بدا مختنقًا نسبيًا؛ وتلك اللمحات الخاطفة عن معاناتها السابقة تدور في عقلها:
-يا رب، صعب بصراحة على أي واحدة تخسر ابنها، وخصوصًا لو كانت مستنياه...
ثم انخفضت نبرتها إلى حد ما، لتكمل بخفوتٍ؛ وكأنها تُحادث نفسها:
-ما بالك بقى اللي نفسها في عيل، واحتمال ده ما يحصلش.
أرهفت "فيروزة" السمع لكلامها الأخير، وبدت غير راضية عن حزنها الواهي، لذا علقت عليها بنبرةٍ موحية:
-اللهم لا شماتة، شوفي هي عملت فيكي زمان إيه، وربنا أراد تجرب نفس الحكاية، سبحانه! ليه حكمة في اللي حصل!
تنفست "همسة" بعمقٍ، لتخنق تلك الغصة العالقة في حلقها، وتساءلت في حيرةٍ:
-الواحد بس مستغرب، هي عملت كده ليه في نفسها؟
أجابت وهي تفرد ذراعها على حافة الأريكة، لتغوص أكثر بها:
-معرفش، بس من الأول يا "همسة" كانت قاصدة تتخانق معانا، كأنها بتقول شكل للبيع، أنا وماما كنا طالعين عادي عندك، وهي زي ما يكون واقفة مستنيانا، وقلت أدبها جامد علينا، بصراحة كده أنا حاسة إنها كانت مستقصداني بالحكاية دي.
عقدت "همسة" حاجبيها في اندهاشٍ، واستنكرت تفكير "خلود" اللئيم، لتقول معترضة:
-مش للدرجادي، ربنا يهديها لنفسها.
أضافت عليها "فيروزة" بتنهيدةٍ:
-ويبعدها عننا..
ســاد الصمت للحظاتٍ بين الاثنتين، قبل أن تقطعه "همسة"، وهي تحل وثاق ساعديها، لتسترخي في جلستها:
-قوليلي إنتي مالك؟ من ساعة ما رجعتي وأنا حساكي في حاجة، بس مش عارفة إيه هي!
ادعت الابتســام لتخفي ما يعتريها من ضيق وانكســار، لتقول بفتورٍ:
-أنا بخير.. متقلقيش عليا.
غمزت لها متسائلة في إلحاحٍ:
-وأخبار قراية الفاتحة إيه؟ أنا عايزة أعرف كل التفاصيل، وبعدين العريس جابلك دبلة ولا لأ وآ...
قاطعتها بعبوسٍ غريب:
-مافيش نصيب يا "همسة".
بهتت ملامحها تقريبًا من ردها الصادم، وسألتها وقد اعتدلت على الأريكة، لتبدو أكثر قربًا منها:
-ليه؟
غطت على ما تريد البوح به بمراوغتها:
-بعدين نبقى نتكلم عني .. المهم حماتك عاملة إيه معاكي؟ أنا اتفاجئت إنها لسه موجودة هنا.
نفخت "همسة" مرددة باستياءٍ شديد:
-أعوذو بالله منها، دي ماسبتناش للحظة من يوم السبوع، زي ما يكون قاصدة تخرب عليا أنا و"هيثم".. ولسه قبل ما تيجوا دابة خناقة معايا، بوظت الغسيل، ومتهماني فيه.
علقت عليها "فيروزة" بتهكمٍ صريح:
-وطبعًا بنتها نسخة عنها، وجوزك بيعمل إيه بقى؟
أجابت دون تشكيك في موقفه الداعم لها:
-الصراحة "هيثم" واقف على طول في صفي، تقريبًا مامته هتتنقط منه.
ردت عليها توأمتها بإيماءة خفيفة من رأسها:
-ربنا يبعد شرها عنكم.
-يا رب، أنا هاكلم ماما أطمن برضوه منها على الوضع.
قالت "همسة" جملتها تلك، وهي تنحني للأمام، لتمسك بهاتفها المحمول، وتعبث بأزراره، في حين هتفت شقيقتها ترد باقتضابٍ:
-ماشي.
بنظراتٍ حذرة جالت على الرواق المزدحم، انتظر هدوء الحركة من حولها، ليتقدم ناحيتها؛ وكأنه يتفقد أحوالها، بشكلٍ طبيعي، لا يدعو لإثارة الريبة حول تصرفه، مال "محرز" نحو "بثينة"، ليبدو صوته قريبًا من أذنها، وهو يهمس لها:
-عاوزك على جمب في كلمتين يا خالتي.
حملقت فيه بغرابةٍ، ولم تجادله، تبعته إلى حيث توقف، بالقرب من مدخل المشفى، واستطردت تنوح له بشكواها:
-شوفت اللي حصلنا يا "محرز"؟
رد مواسيًا:
-أيوه، وقلبي عندك يا خالتي.
حركت كامل جسدها في اهتزازة ثابتة للجانبين، متابعة ندبها الشاكي:
-خسرنا كل حاجة .. كله في ثانية راح!
هز رأسه مؤكدًا:
-ربنا هيعوضها قريب، البطن اللي شالت مرة هتشيل عشرة
هتفت باستنكارٍ جلي:
-إزاي؟ والمعدول ابن خالتها رافض يرجعلها، والعيل خلاص نزل، إيه اللي هيجبروه يرجعلها تاني؟
برقت عيناه بوهجٍ عجيب، وقال عن ثقة واضحة:
-أنا عندي الحل..
وكأنه امتلك زمامها في غمضة عين، هتفت مستنجدة به:
-قولي بسرعة عليه يا "محرز"، إلهي يسترك.
رد مبتسمًا بغرورٍ:
-متقلقيش..
ثم قست عيناها وهي تتابع بغلٍ، ونظراتها مثبتة على "آمنة":
-نفسي أشوف الولية اللي هناك دي متحسرة على بناتها قريب.
لاحت بسمة ماكرة على زاوية فمه، حين رد بنفس النبرة الواثقة:
-هيحصل يا خالتي، وبكرة أفكرك...
تحولت نبرته للغموض الجاد، وهو يكمل:
-بس ده لو سمعتي اللي هاقولهولك، ونفذتيه بالحرف!
لم تجادله، وهتفت مبدية استعدادها التام للانصياع له:
-قول!
للحظة تلفت "محرز" حوله، ليتأكد من عدم مراقبة أحدهم له، قبل أن يرد قائلاً:
-مش هاينفع نتكلم هنا، الحيطان ليها ودان، لازم نمشي الأول من المكان ده.
تقلصت تعابير وجهها بشدة، وعلقت في استهجانٍ؛ وكأن طلبه لم يروقها:
-وأسيب بنتي لوحدها؟! ده كلام بردك؟!
أصــر عليها بجديةٍ أشد غلفت نبرته، وغطت ملامحه:
-مش هنتأخر كتير، إنتي أصلاً محتاجة تجيبلها غيار عشان لازمًا هتبات في المستشفى، مش هيرضوا يطلعوها على طول.
لانت تعابيرها قليلاً، وردت بزفيرٍ مهموم:
-أيوه، في دي معاك حق، منهم لله البُعدة.
وضع يده على جانب كتفها، ليحثها على التحرك، وتابع:
-تعالي هوصلك، ونتكلم في الطريق.
ســارت معه إلى حيث قادها، ولسانها يسأله:
-ماشي.. بس عايز مني إيه؟
جاء رده عاديًا، وهو ينظر في اتجاهها:
-دي حاجة عادية، أمانة تبع الناس اللي ممشيالنا شغلنا في الدكان التاني، هاشيلها عندك كام يوم.
رفعت حاجبها للأعلى في تعجبٍ، وسألته بوقاحةٍ:
-وماتسيبهاش ليه في بيتك؟ ما إنت عندك خزنة أد كده!
استنشق الهواء بعمقٍ، ولفظه مليًا، ليثبط مشاعر السخط بداخله. برع في رسم تلك الابتسامة السمجة على محياه، وهو يحاول إقناعها بالقبول مبررًا:
-يا "أم هيثم"! ده كلام بردك؟ وأنا اللي بأقول عليكي مخك نِور، أسيبها عندي، و"هاجر" تخشلي في سين وجيم؟
تلمست طرف حجابها الذي استرخى عن كتفها، وألقته عليه مجددًا، وهي ترد:
-معاك حق.
قضى "محرز" على ابتسامة انتشاءٍ تداعب ثغره، وردد صوته الرخيم:
-تعالي عشان ما نتأخرش، وأقولك هنعمل إيه في سكتنا.
برزت تلك النظرة البغيضة في عينيها، وهي تدمدم بإيجازٍ:
-طيب.. أما نشوف أخرتها.
ربتة خفيفة من جده، تلقاها على كتفه، كنوعٍ من المواساة، بعد أن أخبره بفاجعة إجهاض طفله الذي لم تكتب له النجاة، من تلك الحادثة العرضية المؤسفة، وقاصدًا عدم التطرق –مؤقتًا- لتفاصيل سقوطها عن الدرج، إلى أن تهدأ مهاجه الحزينة. لم يجد "تميم" ما ينطق به معبرًا عما يشعر به حاليًا، فواحدٌ غيره، لانفطر قلبه لمُصابه العظيم، وهاج وماج لخسارته أعز ما ينتظره؛ ولكن رغم مشاكله الأخيرة مع طليقته، بكل ما فيها من سخط وبغض، طغت أحاسيسه المتأثرة عليه، وكان تقبل خسارته المؤلمة، هو الخيار الوحيد المتاح له، استدار برأسه نحو والده الذي عزاه قائلاً:
-ربنا يعوض عليك يا ابني، ده حكمته وقضائه.
لعق شفتيه، وهتف بنبرة تعسة، وتلك اللمعة الرطبة تتسلل إلى طرفيه:
-ما يعزش على اللي خلقه.
علق الجد "سلطان" بجدية:
-مسيرك تتجوز تاني وتجيب العيال اللي نفسك فيهم.
نظر إليه بعينين مليئتين بالحزن، وقال بلمحة متأثرة:
-خلينا نطمن الأول على بنت خالتي، أيًا كان اللي حصل بينا، هي بردك كانت مراتي في يوم من الأيام، واللي في بطنها كان ابني.
رد والده في امتنانٍ:
-طول عمرك بتفهم في الأصول يا ابني.
من المعروف في الشريعة الإسلامية، وحين يتم إجهاض أحد الأجنة، أن يقوم فرد من الأسرة، بدفن البقايا، ولهذا كان من البديهي أن يتصرف "تميم" وفقًا لذلك. ابتلع غصة مريرة كالعلقم في جوفه، وأضاف بصعوبة، محاولاً إظهار صلابته وتماسكه:
-هاروح أسأل استلمه منين عشان أدفنه.
-أنا جاي معاك.
هتف "هيثم" بتلك العبارة وهو يقترب منهم، ثم تبادل بعض الجمل المقتضبة مع ابن خالته، كنوعٍ من المواساة، وعرف منه بعض التفاصيل المتكررة، حيث اختلت قدم "خلود" عن حافة الدرج، خلال تواجدها عليه، وغفل الأول عن ذكر المشاحنة المفتعلة التي وقعت، ظن أنه لا طائل من تناول الحديث عنها الآن؛ لكن الجد أردف قائلاً فجأة، ليضع النقاط على الحروف، وليكمل المشهد المنقوص:
-بس غريبة حكاية خناقة أختك مع جماعة مراتك يا "هيثم"، إيه اللي خلاها تطلع من البيت عندنا، وتقفلهم على السلم؟
برزت عينا "تميم" على اتساعهما في صدمة، وحملق في جده باندهاشٍ ذاهل، بينما رد عليه "هيثم" بعفوية"
-ولا أعرف يا جدي، هي كانت ماسكة في أخت "همسة"، وحلفانة ما تسيبها
تضاعفت دهشة "تميم"، وانتفضت كامل حواسه الكامنة، لتعمل بكل طاقتها، وجد نفسه يهمس بتلقائية، بصوتٍ بالكاد خرج من بين شفتيه؛ مستشعرًا تورطها –رغمًا عنها- في الأمر:
-"فيروزة"!
تابع "هيثم" موضحًا بنبرة حائرة، ومستخدمًا يده في الإشارة والتوضيح:
-احنا سمعنا صوت الخناقة على السلم، طلعنا كلنا نشوف في إيه، بس كان حصل اللي حصل بقى، و"خلود" ملحقتش نفسها.
المزيد من التفاصيل الغائبة عادت لتحتل المشهد، وتملأ رأسه بالشكوك، كان لديه عشرات الأسئلة يريد الاستفهام عنها؛ لكن تعذر عليه فعل ذلك بسبب مجيء الطبيب، توقفوا عن الثرثرة ليبادر "هيثم" متسائلاً:
-إيه الأخبار يا دكتور؟
أجاب مُبينًا طبيعة وضعها الصحي:
-الحمدلله الحالة دلوقتي مستقرة، لكن العمود الفقري عندها اتعرض لحاجة بنسميها "الكسور الانضغاطية"، وده حصلها نتيجة وقعتها العنيفة.
تبادلوا نظرات حائرة فيما بينهم؛ لكن كان "تميم" الأسبق في الاستفسار:
-يعني إيه؟
التفت الطبيب برأسه نحوه، وأوضح له:
-يعني مش هاتقدر تمشي بشكل طبيعي في الأول!
وقبل أن يسيئوا فهمه، بادر مستفيضًا:
-لكن ده مش معناه إنها عاجزة لا سمح الله، هي بس هتضطر في البداية تستخدم حزام طبي، مع الأدوية المسكنة، وأدوية مرخية للعضلات، بحيث تقدر الفقرات تقوم بعملها من تاني، ولازم الراحة التامة، ويكون في متابعة مع دكتور متخصص في العلاج الطبيعي، وده عشان يساعدها في تخفيف الآلام اللي عندها، وكمان يقوي العضلات بحيث ترجع تمشي وتتحرك عادي جدًا.
رد "تميم" دون تفكير:
-هنعمل كده يا دكتور.
تصنع الطبيب الابتسام، وقال وهو يمسح بيده على ذراعه:
-وربنا يطمنكم عليها.
رد "هيثم" مجاملاً:
-متشكرين.
كان من السخيف أن يلح "تميم" بأسئلته في الوقت الحالي على "هيثم"، نحى فضوله جانبًا، فهناك أوقات حرجة لا تصلح سوى للصمت، تناول الوصفة الطبية من الطبيب ليأتي بالأدوية المطلوبة، ليعود بعدها، ويجلس بجوار والدته، والتي لم تتوقف عن الشكوى، وإلقاء اللوم عليه لتقصيره في حق رعاية من كانت في يومٍ ما زوجته.
نظرة أخيرة ألقتها على هاتفها المحمول، وقد أصبح الوقت متأخرًا لتعود بمفردها إلى المنزل، ومع هذا لم تحبذ "آمنة" الرحيل مبكرًا، آملة بتواجدها أن تخفف من وطأة الأمر على أصحابه، بدأ جسدها في الأنين من جلوسها غير المريح، فاضطرت أن تنهض من مقعدها، وتتجه إلى أفراد العائلة لتستأذنهم في الذهاب، تنحنحت لتزيح تلك الحشرجة عن أوتارها، ووجهت حديثها للحاج "بدير"، ووالده، مرددة بتلعثمٍ:
-حمدلله على سلامتها.
رد بإيماءة بسيطة من رأسه:
-الله يسلمك يا حاجة.
بينما عقب عليها "سلطان" بصوته الأجش:
-كتر خيرك، تاعبة نفسك طول اليوم معانا.
دون أن تبحث عن الإجابة، ردت بعفوية:
-دي زي بنتي، وربنا يتمم شفاها على خير.
شكرها "بدير" بلطفٍ:
-يا رب، وتسلمي يا حاجة مرة تانية.
ثم نادى عاليًا:
-روح يا "تميم" مع الحاجة وصلها البيت.
نظرت في اتجاه ابنه الذي نهض من جوار والدته على مهل، فاستدارت تنظر إلى "بدير"، واعترضت عليه بحرجٍ ظاهرٍ عليها:
-مالوش لزوم، أنا هاخد تاكسي من هنا وآ...
قاطعها بإصرارٍ:
-لا مايصحش، ده العربيات كتير عندنا.
تقدم "تميم" نحوها، وأشار لها بالتحرك بيده، وهو يدعوها:
-اتفضلي.
حاولت أن تبتسم وسط حرجها، وقالت وهي تهم بالسير:
-كتر خيرك يا ابني.. أنا مش عارفة أقولك إيه؟!
هز رأسه قائلاً بصوتٍ عبر عن حزنه:
-الحمدلله، ده قضاء ربنا.
لم تكن بالمسافة الكبيرة التي تحتاج لسيارة أجرة لتقلها إلى منزلها، قطعت "فيروزة" الطريق عائدة إلى هناك سيرًا على الأقدام، دهشة عجيبة نالت من تعبيراتها الواجمة حين رأت إحدى عربات الشرطة تسد المدخل، أسرعت في خطاها، وتساءلت بصوتٍ شبه لاهث، وعيناها تدوران على أفراد الشرطة المتواجدين من حولها:
-إنتو مين؟ بتسألوا على حد معين هنا؟
اتجهت نظراتها نحو صاحب الصوت الخشن الذي سألها برسمية بحتة:
-أيوه .. ده بيت "فيروزة أبو المكارم"؟
لم تفكر وهي تجاوبه مُعرفة بنفسها:
-أيوه.. دي أنا.
قبضته القاسية، انقضت دون إنذارٍ، على ذراعها تجذبها بعدائية غريبة، وتجرها نحو السيارة، وصوته يأمرها:
-اتفضلي معانا، الظابط عايزك في القسم.
قاومته متسائلة في جزعٍ:
-ليه في إيه؟ أنا معملتش حاجة أصلاً.
ولحسن حظها –ربما- كان قد وصل بوالدتها إلى منزلها، لمح الأضواء المميزة لسيارتهم، فتوقف قلبه عن الخفقان في هلعٍ، سد "تميم" بسيارته الطريق على عربة الشرطة، وترجل منها دون أن يوقف محركها، ليهجم بلا تفكيرٍ على الضابط، منتشلاً ذراعها من قبضته، ومُكونًا بجسده حائلاً بينها وبينه، قبل أن يهتف بنبرةٍ كانت أقرب للزئير:
-إيه اللي بيحصل هنا؟ وواخدينها على فين.
رمقه الضابط بنظرة نارية، وهو يعنفه:
-إنت إزاي تتجرأ تعمل كده؟ ليلتك سودة
سيطرت عليه رغبة عارمة في حمايتها من الخطر؛ وإن كان يعني هذا وقوعه في المشاكل مع الجهات الأمنية المسئولة، بجهدٍ كبير حافظ على جمود تعابيره، وقال بتحفظٍ، ومدافعًا عنها بشكل غريب:
-يا باشا مقصدش، بس في أكيد سوء تفاهم هنا، الأبلة طول عمرها ماشية في السليم.
تفاجأت "فيروزة" من دفاعها عنها، رغم عدم معرفته مثلها بملابسات إلقاء القبض عليها، في حين احتضنت "آمنة" ابنتها، وحاوطتها بذراعيها، وتساءلت في رعبٍ جلي:
-حصل إيه؟ وواخدين بنتي ليه؟
أجاب الضابط ببسمة ساخطة، وبعد نظرة بطيئة فاحصة، تجولت على أوجه ثلاثتهم:
-ده استدعاء رسمي للقسم، في بلاغ متقدم ضدها، بمحاولة قتل "خلود غريب".
بمجرد أن تلفظ باسم طليقته، انفرجت شفتا "تميم" عن صدمة كبيرة، تخطت ما قد يخطر في باله مُطلقًا، وهتف مستنكرًا قوله، بقلبٍ توقف لحظيًا عن النبض، ونظراته تلتفت نحو طاووسه:
-بتقول مين...؟!