قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني للكاتبة منال سالم الفصل الثالث والعشرون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني بقلم منال سالم

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثاني للكاتبة منال سالم الفصل الثالث والعشرون

قبضة الغريب على ذراعها، بدت بالنسبة له، كجمرات متقدة، تحرق جلده بقساوةٍ، وأشد ألمًا من طعنه بغتةً في صدره، لم يتردد للحظة للدفع بنفسه أمام المخاطر المهلكة، في سبيل عدم إلحاق الضرر بها. تشوش تفكيره في صدمةٍ؛ وكأنه أصيب بعطبٍ ما، حتى استوعب عقله ما صاغه الضابط من اتهامٍ صريح من قِبل زوجته السابقة لها، التفت "تميم" تلقائيًا برأسه نحوها، ليحدق في وجهها المغطى بعلامات الذهول، ثم عاود التحديق في الضابط، ونفى التهمة عنها دون الحاجة لسماع أدنى مبرر منها، مصدقًا إياها بكامل جوارحه:
-استحالة الأبلة تعمل كده! أكيد في غلط في الحكاية!

نظر له الضابط شزرًا، قبل أن يوبخه بخشونةٍ:
-هو أنا جاي أهزر معاكو هنا؟ ده استدعاء رسمي يا حضرت.
لم تخفت الحدة من نبرة "تميم"، وهو يجادله:
-يا باشا، أنا عارفها كويس، الأبلة دايمًا في حالها، وعمرها ما أذيت حد...
استمعت له "فيروزة" بصدمة، أأنكر حقًا النزاعات السابقة بينهما، وكأنهما على وفاق منذ اللقاء الأول؟ تدلى فكها السفلي في مزيدٍ من الدهشة، في حين تلعثم "تميم" نوعًا ما، وهو يتابع إعطائه تلك المعلومة المزعجة:
-دي غير اللي بتتهمها تبقى .. بنت خالتي و... طليقتي.

رمقه الضابط بنظرة طويلة مهتمة، ليضيف بعدها، وهو يفرك راحتيه معًا:
-حلو أوي .. هنشوف الكلام ده في القسم، لكن دلوقتي لازم الأستاذة تتفضل معايا.
لم يكن حديث الضابط بالمازح مطلقًا، نظراته وحركته أكدت على احتمالية جره لها بإهانةٍ، ما لم تتجاوب معه، أدار "تميم" رأسه نحو "فيروزة" التي نظرت إليه بملء عينيها، وقالت بصوتٍ لاهث مضطرب نافية التهمة مجددًا عنها:
-أنا معملتش حاجة اقسم بالله.

عمق نظراته في عينيها المرتاعتين؛ وكأنه لا يرى سواها حوله، ورد بقلبه قبل أن ينطق لسانه:
-من غير ما تحلفي، أنا مصدقك.
لم تشعر "فيروزة" مطلقًا بأنه يخدعها، أو يكرر تلك العبارات الروتينية المستهلكة التي توحي بالدعم الزائف، بل منحتها نظراته المتلهفة، والمليئة بشيء لم تفهمه بالضبط، إحساسًا مريحًا بالطمأنينة والصدق، هذا الشعور الذي نزع منها مؤخرًا، بينما هتفت "آمنة" مدافعة عنها:
-بنتي بريئة، مظلومة يا حضرت الظابط، مراته هي اللي وقفت قصادنا على السلم وآ...

قاطعها الضابط بلهجته الرسمية، ونظرته الحادة مسلطة عليها:
-هناخد أقوالكم كلكم كده هناك...
ثم أشــار بكفه موجهًا حديثه الصارم لـ "فيروزة":
-بس الأستاذة لازم هتيجي معانا الأول، يالا، مش هنقضي الليل واقفين هنا!
على الفور صــاح "تميم" وهو يفرد ذراعيه في الهواء، محافظًا على بقاء جسده، كحائل بشري، يمنع أي فرد من الاقتراب بها:
-هي هتركب من غير ما حد يتعرضلها.

بدا الضابط على وشك فقدان صبره من تلك المماطلات السخيفة، ومع هذا تقبل بصعوبةٍ محاولة "تميم" إقنــاع "فيروزة" بالامتثال للأوامر، والصعود لعربة الشرطة، ســار إلى جوارها، وكامل عيناه عليها، حتى أنها لم تبعد نظراتها عنه، بل بدت أكثر إصرارًا على التحديق به وهي تكرر على مسامعه:
-أنا مجتش جمبها، والكل كان موجود وشاهد.
رد بكلمة واحدة عنت لها الكثير:
-عارف..

ثم أشــار لها لتصعد بالسيارة، وتابع بصوته القلق:
-اطمني، أنا وراكي بالعربية، مش هاسيبك لوحدك.
هتفت بنبرته التي مالت للاختناق:
-ماعملتلهاش حاجة.
هز رأسه بإيماءات متعاقبة وهو يخبرها بتوترٍ خائف عليها، حاول أن يخفيه عنها:
-أنا متأكد من غير ما أسمع.

حاولت "آمنة" اختراق أفراد الأمن لتصعد إلى السيارة مع ابنتها، لكن أبعدها أحدهم، فواصلت صراخها الملتاع، وهي ترجوهم بشدة:
-سيبو بنتي، هي مظلومة، والله ما عملت حاجة.
وضع "تميم" يده على كتفها ليلفت انتباهها إليه، وقال على عجلٍ مشيرًا بعينيه نحو سيارته:
-تعالي معايا يا حاجة، احنا رايحين وراها بالعربية.
ردت بامتنانٍ عظيم، وعيناها تبكيان بشدة:
-الله يكرمك يا ابني ماتسيبناش لوحدنا، ده احنا غلابة وآ...
قاطعها مرددًا بنبرة عازمة:
-أنا معاها للآخر.

ثم هــرول ركضًا نحو سيارته التي تسد الطريق على عربة الشرطة، استقلها، وانتظر للحظة حتى ركبت "آمنة" إلى جوارها، تتبع سيارة الشرطة، والهاتف على أذنه، بعد أن هاتف محامي العائلة، انتظر أن يأتيه رده على أحر من الجمر، ليهتف بمجرد سماعه لنبرته:
-ألوو.. أيوه يا أستاذ، عايزك تيجلي على قسم (...) حالاً، هافهمك لما أشوفك هناك.

وفي تلك الأثناء، أخرجت "فيروزة" هاتفها المحمول من جيبها، بمجرد أن استقرت في العربة، لتطلب بأنامل مرتعشة، رقمًا احتفظت به، ولا تحبذ حتى استخدامه عند الطوارئ؛ لكنها باتت مرغمة على اللجوء لصاحبه، لتعرف أبعاد الكارثة الجديدة التي تخوضها، ارتجف صوتها بوضوح، وهي تنطق بنبرتها التي ظهرت للطرف الآخر متوسلة:
-أيوه يا "ماهر" بيه، أنا أسفة إني بأطلب حضرتك، بس في مشكلة كبيرة حصلتلي، ومافيش غير سعادتك يقدر يقف جمبي.

لم تكن عيناه على الطريق أبدًا، طوال سيره الملازم لعربة الشرطة، وهو يقود من خلفها، ارتكزت نظراته القلقة على مراقبة ما يحدث معها، آملاً ألا تتعرض لأي نوعٍ من المضايقات السخيفة من قبل أحدهم، أبعد حدقتيه عنهت مضطرًا، حين توقفت السيارة أمام القسم الشرطي، ففتش، بصبرٍ مفقود، عن بقعة خالية، ليصف سيارته عندها، وهذا ما أدى لتعطيله لدقائق تُعد على أصابع اليد الواحدة، مضت عليه كأنها سنوات، أما قلبه فكان في جزع يفتك به.

ركض "تميم" في اتجاه المدخل الرئيسي، سابقًا بخطواته والدتها، انحرف نحو الرواق الضيق، حيث يتواجد مكتب الضابط النبطشي، كان أحد العساكر قد وضع في يدها الأصفاد المعدنية، وكأنها محكوم عليها، استشاطت نظراته لرؤيتها في وضع المدانة، وهي أبعد ما يكون عن ذلك، تصلب جسده، وبصعوبة بدت على ملامحه قاتل ما يعتريه من مشاعر غاضبة، ودنا من الضابط الذي ألقى القبض عليها وهو يعطي أوامره لآخر:
-هنحطها في الحجز لحد ما يجي الباشا "محمود".

مجرد تخيلها وسط تلك الحفنة من النساء الغليظات، والتي لن تسلم من تعليقاتهن المتهكمة، وربما بعد المناوشات المسيئة معها، أصابه بالغضب المحموم، اكتسبت نبرة "تميم" حدة أكبر وهو يعترض بشدة على قراره:
-ماينفعش تنزل هناك.
تحفز الضابط ضده، وهتف فيه بوجه عابس للغاية:
-إنت هتعرفني شغلي ولا إيه؟!
رد "تميم" معترضًا بأنفاسٍ حارقة، ونظراته الملتاعة تتجه نحو "فيروزة":
-لأ يا باشا، بس دي بنت ناس، ومش وش بهدلة.

علق عليه الضابط ساخرًا منه:
-آها .. قولتلي بقى، وإنت المحامي بتاعها كمان وأنا معرفش؟!
بذل أضعاف ما يستطيع من جهدٍ ليكبت غضبه الذي يأكله، ليظهر على السطح، وقال بصوتٍ خرج هادرًا رغم هذا، والشرر يتطاير من عينيه:
-يا باشا آ...

قاطعه الضابط بغلظةٍ، وتلك النظرة الساخطة موجهة إليه:
-دي جريمة قتل، مش لا مؤاخذة خبطت عربية حد!
نفى عنها التهمة بإصرارٍ تعجبت "فيروزة" منه:
-وهي بريئة معملتش حاجة.
لكزة الضابط بخشونة قاسية في صدره وهو يرد بأسلوبه الساخر:
-الكلام ده مش إنت اللي تقوله يا فتوة.

ثم التفت أمرًا أحد رجاله:
-خدها يا ابني على التخشيبة، لحد ما يجي الباشا "محمود".
فشل "تميم" في منعهم من اصطحابها للحجز النسائي، ومع هذا ردد متعهدًا لها بصوته العالي ليضمن وصوله إليها:
-مش هاسيبك هناك، هاطلعك!
تفاجأ حين ردت عليه، وهي تحاول النظر إليه، خلال سحبها لنهاية الردهة الطويلة:
-معملتش حاجة، هي السبب والله، هي اللي قاصدة تعمل كده في نفسها.

ضرب "تميم" الحائط بقبضته بقوةٍ، حتى أن صوت الضربة العنيف لفت الأنظار إليه، لم يعبأ بأي أحد، ووضع الهاتف على أذنه صارخًا في محاميه؛ منذرًا إياه بتهديد شرس:
-ألوو.. إنت فين يا أستاذ؟ جاي من المريخ ولا إيه؟ تعالى أوام، وإلا الدنيا هتخرب هنا!
أتاه صوت الأخير لاهثًا:
-حاضر يا معلم "تميم"، دقايق وهاكون عندك في القسم.

-رد يا "خليل"، مافيش مرة أطلبك وألاقيك ترد عليا!
قالت كلماتها في غمغمة خافتة بلوعةٍ حزت بشدة في قلبها، ودموعها المتحسرة تهبط بغزارة، سعت للاتصــال بشقيقها؛ لكن تعذر عليها الوصول إليه، لم يكن هاتفه بالمتاح، شعرت باختناق أنفاسها، بعجزها، وبقلة حيلتها. انزوت "آمنة" عند الحائط الرمادي كئيب اللون، تستند بجسدها المهتز عليه، شعرت بارتخاء ساقيها، لو لم تكن تلك الكتلة الأسمنتية موجودة، لربما تكورت على الأرضية الباردة، ندبت حظها التعس ووحدتها قائلة لنفسها:
-لا إله إلا الله، طب أعمل إيه يا ربي؟ بنتي هاتروح مني؟ وأنا هافضل كده ساكتة..

لم يكن أمامها سوى الاتصــال به، هكذا قالت لنفسها بصوتٍ مسموع، مبررة نكثها بوعدها لابنتها:
-مقدميش إلا هو... مهما كان الدم عمره ما يبقى مياه.
وجدت رقم هاتفه، وضغطت على زر الاتصــال به، انتظرت إجابته على مكالمتها لتهتف مستنجدة دون استهلالٍ:
-أيوه يا حاج "اسماعيل".. أنا واقعة في عرضك.. الحقنا قبل ما بنتي تضيع مني.
سألها بصوته الرخيم:
-خير؟ حصل إيه؟

أجابت بصوتٍ بالكاد بدا مفهومًا له، من بين دموعها الغريزة:
-"فيروزة" خدوها على القسم، واقعة في مصيبة كبيرة، وأنا مش عارفة أعمل إيه.
أمرها بلهجته الشديدة:
-قوليلي فين العنوان، ومتتحركيش من عندك، وأنا مسافة الطريق هاكون عندك، ومعايا "فضل".
هزت رأسها، كأنه واقفٌ أمامها، وردت بصدرٍ ينهج:
-ماشي يا حاج، متتأخرش عليا الله يكرمك.

دفعة قاسية من كتفها نحو ذلك المكان المعتم نسبيًا، إلا من مصباحٍ يتيم يتدلى بسلكٍ قصير، من سقفية الغرفة المطلية بلون رماديٍ داكن، تفسده بعض الخربشات والكتابات الخجلة. حاولت "فيروزة" أن توازن خطواتها فلا تنكفئ على وجهها، زكم أنفها تلك الرائحة العطنة المنفرة، وأصابت على الفور معدتها بالغثيان، فالجو خانق بصورةٍ لا تحتمل، لذا وضعت يدها عليه لتسد الرائحة، وحاولت التقدم للأمام. نظرة بطيئة، لن تنكر أنها خائفة أيضًا، منحتها للسجينات المحتشدات من حولها...،

دارت ببطءٍ على أوجههن المختلفات في تعبيراتهن نحوها؛ رأت من تدخن السجائر، ومن تعبث بخصلات شعرها المصبوغ باللون الأصفر الفاقع، ومن تعلك في ثغرها علكة بصوت مزعج، ومن تضع أحمر الشفاه على فمها، بشكل سافر.

توقفت عيناها عن الدوران، والتفتت لجانبها، حينما سألتها إحداهن بنبرة تهكمية:
-الحلوة جاية في إيه؟ آداب ولا تعاطي؟!
بينما علقت أخرى بسخرية، وتلك الضحكة الرقيعة تسبق إجابتها:
-شكلها آداب يا أوخة.
مصمصت شفتيها مضيفة، ونظرتها نحوها تؤكد أنها كذلك:
-باين كده.

ثم دنت منها لتفحصها عن قربٍ، انكمشت "فيروزة" على نفسها، وتقززت من لمستها الوقحة التي أرادت بها اكتشاف مفاتنها، وصرخت بها:
-ماتلمسنيش.
دارت المرأة حولها، وحذرتها بنبرة ذات مغزى:
-لأ بالراحة علينا يا مُزة، ده احنا لو اتكاترنا عليكي هنفرمك.
تلك التحرشات اليدوية بجسدها، نشطت ذاكرتها بقوةٍ، بمشهد لم يكن بالبعيد عنها، انتفضت بقوةٍ، ودفعت تلك المرأة بعيدة عنها، بقوةٍ لا تعرف من أين انطلقت، صارخة بحدةٍ، حتى جرحت بها أحبالها من ارتفاعها الشديد:
-سيبوني في حالي.

لوحت لها إحدى السجينات بيدها، قبل أن تعقب:
-نظام خدوهم بالصوت مايكلش هنا ...
ثم أمرت النساء من حولها:
-صوتي يا بت منك ليها
ارتفع الصخب النسائي الساخر من حول "فيروزة"، وشكلوا دوائر تضيق عليها، فباتت تقريبًا محاصرة من قبلهن؛ لكن الصوت الرجولي الصـــارم، أوقفهن قبل أن يسيئن إليها:
-ارجعي يا حُرمة ورا.

امتثلن لأمره، وابتعد عن محيط "فيروزة" ليرمقن إياه بنظرات جمعت بين العدائية والبغض، خاصة أنه يحمل عصا مهددة بيده، مرر الضابط نظراته عن كل واحدة على حدا، وكأنه يدرس ملامحها، قبل أن ينادي:
-"فيروزة أبو المكارم"!
وكأن نجدة هبطت من السماء إليها، أجابته بلسان يلهج:
-أيوه أنا.

أمرها وقد اتجهت أنظاره نحوها:
-تعالي معايا، البيه الظابط عايزك.
ابتسمت لخروجها من ذلك المكان الحقير، والذي بدا أشبه بمعجزةٍ تقرأ عنها؛ ولكن صوتًا أنثويًا متهكمًا جاء من ورائها يحقد عليها:
-إنت لحقتي؟ حتى في البُورش بقى فيها كوسة!

تم الاستعانة بعلاقاته الوثيقة بالمسئولين رفيعي المستوى، لتحسين أسلوب التعامل معها، ريثما يتم البت في قضيتها المعلقة، اصطحبها أحد أفراد الأمن، إلى غرفة أشبه بمكتبٍ لعقد الاجتماعات المحدودة، ولجت "فيروزة" للداخل، وألقت نظرة سريعة خاطفة عليه، كان المكان مفروشًا بالأرائك الجلدية العريضة، فيما عدا اثنتين متجاورتين، ومنضدة صغيرة خشبية تتوسطهم، وطلائه فاتح، غير ذلك القابض على الأنفس، استدارت كليًا للخلف حين سمعت صوته المألوف يسألها في اهتمام بائن في نظراته إليها:
-هنا أحسن مظبوط؟

تحرجت "فيروزة" من وجود "تميم" خلفها، ومع هذا شعرت بالارتياح لتواجده معها، الحق يُقال أنه بات مصدر أمنها المؤقت، باندفاعه غير المشروط لزود أي مخاطر عنها، تراجعت للخلف لتفسح له المجال، تاركة مسافة بينهما، كتفت ساعديها أمام صدرها، وباعدت نظراتها عنه، محاولة التحديق في أي شيء، إلا وجهه، أجبرت شفتاها على الابتسام، فظهرت ابتسامتها منقوصة وهي تشكره:
-أيوه.. كتر خيرك.

ولكونه يعلم طبيعة النساء المحتجزات بالقسم الشرطي، فانتابه هاجس مزعج، من احتمالية تعرضها لبعض المضايقات، أو التحرشات المنفرة من هؤلاء النسوة، لم يترك نفسه لحيرته، وسألها مباشرة، وعيناها تدرسان تفاصيلها الواجمة:
-قوليلي حد عملك حاجة من الواغش اللي في الحجز؟
قالت بنوعٍ من السخرية، وتلك الابتسامة المزدرية تتدلى على زاوية شفتيها:
-لأ ملحقوش.

منع سبة مزعوجة من الإفلات من فمه، وسحب الهواء بعمقٍ ليثبط به تلك الحمم التي تحرقه من الداخل، ثم لفظ الهواء المحمل بغضبه، وقال بوجه مقلوب:
-بصي إنتي هاتفضلي هنا، محدش هيضايقك نهائي!
كانت ممتنة لكل ما يفعله لأجلها دون أن يضطر حقًا لهذا، وذاك ما أصابها بالتخبط، فالماضي بينهما لم يكن بالجيد، ليدين لها بشيء، انتشلها من دوامة شرودها السريع موضحًا لها طبيعة ما يتم من إجراءات رسمية:
-دلوقتي المحامي بيطلع على تفاصيل المحضر، وهنفهم بالظبط في ايه.

نفت على الفور تلك التهمة المجحفة عنها، فلا يسيء الظن بها:
-أنا مقربتش منها.
ودون أن يضيع لحظة في التفكير، أخبرها بإحساس لا يعرف الزيف، وعيناه تبحران في تأمل حدقتيها التعيستين:
-والله مصدقك.
سألته بلمسة قهر محسوسة في نبرتها؛ وكأنها تستكثر على نفسها قيامه بذلك:
-بالبساطة دي؟

تراءى له بوضوحٍ معاناتها في اكتساب ثقة الآخرين، وقال دون تشكيك:
-أيوه، أنا مصدقك.
فقط حدقت في عينيه المتطلعتين إليها بثبات، وكأنها تتبين مدى صدقه، فاسترسل متسائلاً بأريحية طفيفة:
-ليه مش مقتنعة بكلامي؟
أجابته مبررة ترددها:
-أصلها غريبة إنك تكون معايا بدل ما تكون في صف مراتك! وخصوصًا بعد ما...
صمتت للحظة لتضيف بأسفٍ لم تخفه:
-خسرت طفلك اللي في بطنها.

ودّ "تميم" لو تحسست قلبه النابض في تلك اللحظة، لتشعر بما يضمره لها من مشاعر لم تكذب يومًا، مع اكتشافه المثير لرهافة مشاعرها الرقيقة، والمخبأة خلف قناع القوة الذي على ما يبدو لم تخلعه كثيرًا، لم يحد بنظراته عنها، وأجابها بهدوء:
-ده نصيب.. ومقدر ومكتوب...

ثم عمق من نظراته نحوها، مشددًا بابتسامة راضية، رغب أن يبدد بها التعبير الحزين المحتل لصفحة وجهها:
-بس لازم تعرفي إنها معدتش مراتي، هي بنت خالتي وبس.
حملقت فيه بحيرة، بدا ما قاله تصريح عنه توضيح، لكن تشتت نظراتها عنه وصوت الفردي الأمني يقتحم حديثهما:
-تعالى يا حضرت بدل ما تعملنا مشكلة.

أشــار له "تميم" بيديه قائلاً على مضضٍ:
-طيب يا دُفعة.
عــاد ليتطلع إلى وجه "فيروزة" ممعنًا النظر فيها، مستغلاً فرصة لن تعوض في التواجد بقربها، قبل أن يخبرها، بنبرة أقرب لقطع وعدٍ نافذ، لا يمكن المناص منه أبدًا:
-أنا راجعلك تاني.

انتشر الدواء المخدر في خلايا جسدها، ليُسكن تلك الأوجــاع التي تصرخ في عظامها من آن لآخر، لتذكرها بما اقترفته، من أجل التخلص ممن اعتبرتها عدوتها، ورغم شراسة ما فعلته، لم تندم "خلود" للحظةٍ، على إقدامها على تنفيذ تلك الخطة الشنيعة، ففي كل الأحوال، خسارة جنينها كانت أكيدة؛ لكن تحويلها لملحمة درامي،ة تظهر فيها الضحية المضطهدة، والمجني عليها، أفضل بكثيرٍ، على أن تكون المُطلقة التعسة، ناهيك عن خلق تلك الفرصة الذهبية للمساومة مع حبيبها، واستعادته بالتأكيد، بعد لقاء والدتها المثمر بـ "محرز".

أسند "هيثم" كيسًا بلاستيكيًا مليئًا بالعصائر الطبيعية، على المنضدة الملاصقة لنافذة المشفى، وتحدث إلى والدته متسائلاً في اهتمامٍ:
-"خلود" عاملة إيه دلوقتي يامه؟
ردت بتهكمٍ صدمه:
-هاتقول تتحزم وترقص دلوقتي.
انفرجت شفتاه في ذهول، بينما تابعت قولها بأسلوبها الناقم:
-إنت مش شايفها مدشدشة قصاد عينك.

علق "هيثم" بامتعاضٍ:
-خلاص يامه، أنا غلطان إني سألت.
رمقته بتلك النظرة الحقود قبل أن تأمره:
-بأقولك إيه، استنى ماتمشيش، عاوزاك.
لوى ثغره متسائلاً، وهو يضم كفيه معًا:
-خير يامه
أشارت له بعينيها ليجلس إلى جوارها، وهي تتابع بنبرة لانت تقريبًا معه:
-كل خير يا حبيبي.

رمقها بتلك النظرة المتشككة وهو يقول:
-مش مستريحلك يامه، حاسس إن في حوار.
تصنعت العبوس، وهي تنظر له بانكسارٍ مفتعل، قبل أن تغمغم بنوعٍ من المراوغة:
-حوار إيه بس؟ ده كل اللي بنعمله عشان مصلحة أختك الراقدة دي.

اعترض عليها مصححًا:
-هي اللي عملت كده في نفسها، محدش قالها احدفي نفسك من على السلم، وموتي اللي في بطنك
قالت في حزنٍ:
-كانت ساعة طيش من الشيطان.
سألها بنظرة ثاقبة:
-والمطلوب مني إيه؟
ابتسامة ماكرة ممزوجة باللؤم تكونت على شفتيها، وهي تجيبه:
-كل خير يا ضنايا.
ما زال متشككًا من أسلوبها المتلوي غير المريح، نفخ في ضيقٍ، وسألها:
-قصدك إيه؟ قوليلي على اللي في دماغك يامه على طول.

مالت عليه لتخبره بصوتٍ هامس بتحرير محضرٍ، ضد شقيقة زوجته، تتهمها فيه، بمحاولة قتل الأخيرة، خلال الشجار الذي نشب بينهما على الدرج، وطلبت منه -دون حياءٍ- إنكار الحقيقة كليًا، والشهادة في صالح أخته لمساعدتها في تقوية موقفها. حدق فيها بعينين متسعتين في عدم تصديق، وسألها بصوتٍ بدا غاضبًا:
-عاوزاني أشهد زور يامه؟

أجابته مبتسمة؛ وكأنها تجمل الأمر له:
-مش زور يا واد، دي كلمتين كده لا راحوا ولا جوم...
ثم لجأت إلى أسلوب الاستجداء، وتسولت عواطفه بنحيبٍ مكشوف:
-وبعدين أختك غلبانة، وحالها يصعب على الكافر، يرضيك اللي هي فيه؟
استنكر ما تطلبه منه، وأصر على رفضه بعنادٍ:
-لأ مش هاعمل كده، وده اختيارها، وأنا مش هاقول غير الحق..

اختفت ملامح اللين من وجهها، واِربد بالغضب وهي تعنفه:
-إنت جاي تتوب دلوقتي يا عين أمك؟ ده إنت مكونتش بتعمل إلا الحرام طول حياتك!
ورغم لسانها السليط إلا أنه قال مبتسمًا ليستفزها، وهو يقبل ظهر كفه وباطنه بفمه:
-والحمدلله يامه ربنا هداني، جاية تبوظي ده تاني، بدل ما تدعيلي بالثبات؟

قالت بوقاحةٍ، ونظراتها الحانقة مسلطة عليه:
-لأ، أنا هادعي عليك طالما بتعصاني، ومش عايز تسمع كلامي.
ردد مذهولاً:
-إيه اللي أنا باسمعه ده، في أم كده؟
عقبت عليه "بثينة" ببرودٍ مستفز:
-أه ياخويا، وبعدين يرضي مين ما تدافعش عن أختك؟
أجابها بصدقٍ:
-عشان خايف من ربنا.

ردت باستهجانٍ وقح:
-وهو أنا قولتلك اكفر لا سمح الله؟ دي كدبة بسيطة، لا راحت ولا جت.
هز رأسه في استياء شديد، وتعابيره تنطق بلسان حاله:
-حقيقي يامه مش عارف أقولك إيه.
وضعت يدها على كتفه تستحثه على الرضوخ لها:
-وافق يا "هيثم" عشان أرضى عنك، ويتفتحلك أبواب الخير.

قال في سخرية:
-ده كده هتتقفل في وشي بالضبة والمفتاح.
لكزته بغلظةٍ، وصاحت فيه بتشنجٍ، وقد فاض بها الكيل من رفضه العنيد:
-قوم ياض غور من هنا، قلبي مش راضي عنك، واعرف إن كل مصيبة هتجرالك، بسبب إني مش مسمحاك.
نهض من جوارها، وأضــاف وهو يضرب كفه بالآخر:
-لا إله إلا الله! هو في كده؟

بصقت في وجهه، كتعبيرٍ عن ازدرائها المستحقر له؛ لكنه رد بنوعٍ من الممازحة:
-ده لو الشيطان كان واقف مكاني هنا، وسامعك وإنتي بتوسوسيله، كان اعتزل الشغلانة من زمان، وسبهالك.
مدت "بثينة" يدها لتمسك بالكوب البلاستيكي المليء بالماء، قذفته به في وجهه، فأغرقه، وتناثر على كامل ثيابه، قبل أن تطرده من الغرفة بغضبٍ أكبر استبد بها:
-امشي من هنا!

غمغم في تهكمٍ، وهو يمسح الماء عن وجهه:
-يعني بأطرد من الجنة؟ أنا طالع من غير قلة قيمة.
نعتته بسبابٍ من خلفه؛ لكنه لم يستدر أو يهتم بغيظها المتزايد فيها، ومع هذا لم يعلم أن المسألة قد اتخذت بالفعل مسارها الخطير.

عاد إليها بعد برهة، محملاً بأكياس الطعام الشهي، رغم فقدانها للشهية؛ لكنه أصر –وبشدة- على حثها على تناوله، وإن كان قدرًا بسيطًا، ليمكنها من استعادة طاقتها المفقودة، اعترضتٍ بلطفٍ، واكتفت بالغوص في الأريكة الجلدية، متنهدة بتنهيدات طويلة، راقبها "تميم" باهتمامٍ، وقال بلهجة حازمة:
-مش هاينفع يا أبلة، لازم تاكلي..
ثم قرب الأطباق الشهية منها، بعد أن أفرغ ما تحتويه الأكياس، على الطاولة المنخفضة الفاصلة بينهما، وأضاف بنوعٍ من المداعبة:
-ده حتى يعتبر عيش وملح بينا.
قالت في سخريةٍ:
-المفروض عيش وحلاوة.

أكد لها بعينين لم تطرفا:
-إنتي مش هتطولي هنا.
لم تخفت ابتسامة "تميم" معها، كان يبتسم بتلقائية، رغم عدم إدراكه لهذا، تطلعت إليه في استغرابٍ، وسألته:
-للدرجادي إنت مصدقني؟ وواثق إني مش هاتسجن؟
كان أول حوار هادئ بينهما، رغم تأزم الموقف، وبمزيد من الجدية جاوبها:
-أيوه .. مع إنك كدبتي عليا في حاجة.

ضاقت عينيها في استرابةٍ، فأوضح لها سريعًا، حتى لا تدور في رأسها الهواجس:
-الحريقة.
أرجعت "فيروزة" ظهرها للخلف، وقالت وهي ترفع رأسها للأعلى بتعبٍ:
-إنت لسه فاكر، ده موضوع واتقفل.
بقيت عيناه مثبتة عليها، وقال بوجهٍ شبه متقلصٍ:
-عمومًا مش وقته، مدي إيدك وكلي..

نظرت إليه مليًا، دون خجلٍ، وكأنها تحلل طبيعة شخصيته، كان لطيفًا للحد الذي أشعرها بالغرابة والخوف معًا؛ الغرابة من عدم اعتيادها على تصديقه لما قالته هكذا دون تعقيد، وبلا دليلٍ قاطع على عدم زيف ادعائها، والخوف من انسياقها -غير المتردد- وراء مشاعرها الغامضة التي تستحثها –وبقوة- على الوثوق به.

وعلى الرغم من المواقف الخشنة، والمليئة بالمشاحنات التي جمعت بينهما فيما مضى؛ من صفعةٍ حرجة أمام العامة، من إهانة وقحة في منزلها خلال خطبة توأمتها، من صدام بالكلمات في المطعم، إلا أنه كان وديعًا معها، على نحوٍ غير مألوف، وكأنهما على وفــاق دائم، ولم يحدث بينهما أي صدام في يوم من الأيام؛ وهذا ما وترها نسبيًا!
"تميم"؛ الوحيد الذي لم يشكك في قولها أبدًا، صدقها منذ الوهلة الأولى لاتهامها، ودون الحاجة لبرهان بيّن، مقارنة واقعية سريعة انعقدت في رأسها، بين أقاربها، وبينه؛ وكانت النتيجة في صالحه، الغريب عنها بدا أحن بكثيرٍ عمن تربطهم بها صلة الدم..

انتعش عقلها بذكريات غير سارة؛ خذلان والدتها، عنف خالها، إهانات زوجته الحقودة، قساوة عمها، ووحشية ابن عمها، فاستنزفت روحها بالتدريج، وظل الوحيد الذي طعنته علنًا، وانتقصت من رجولته أمام العامة، هو الدرع الواقي لها بعد فراق والدها المؤلم، برحيله شعرت بخواء الحياة، وتناقص متعتها، حتى بدا الشقاء ملازمًا لها.

ورغما عنها تسلل إلى عقلها المتكدر ذكرى أخرى تخشاها، سرحت فيها بكامل حواسها؛ جسد "غريب" المشتعل، تجسد المشهد من جديد أمامها؛ وكأنه يُعرض في شاشة سينمائية ضخمة، تحتل الفراغ بأكمله أمامها، حملقت بعينين غائرتين، تدوران في دوائر من التيه والتخبط، ومتسائلة بقلبٍ متألم، ينزف في صمت،
لماذا لم تفنَ روحها في الحريق؟

لو حدث حقًا هذا، لكانت أراحت الجميع من همها، واستراحت من الأعباء القاسية التي مزقتها، في معترك الحياة، تزايد إحساسها باليأس، وامتزج مع إحباطها الشديد، وبدأ ينعكس ذلك ظاهريًا عليها، حيث أحست بالهواء ينسحب من رئتيها، يصعب استعادته، بأن صدرها قد بات ثقيلاً، وقلبها يصرخ في ألم، أدركت "فيروزة" في تلك اللحظة، أنها أصبحت على وشك الدخول في إحدى نوباتها المهلكة، وتلك المرة أرادت بشدة أن يكون الموت رحيمًا بها، وتتمكن من التخلص من حياتها خلال معاناتها...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة