رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل العشرون
في مشورته الحكيمة كانت المساعدة الخبيرة التي تحتاجها، للتعامل مع حالته العنيدة، لجأت بعد تفكيرٍ مضنٍ إلى الجد سلطان طالبة منه الوقوف بجوارها، لإخراج زوجها من حالة الاكتئاب المستبد به مؤخرًا، خاصة بعد انعزاله عن الجميع، وعزوفه عن البوح بما يعتريه من مشاعر مثقلة بالهموم، خشيت من تدهور وضعه، وربما حدوث الأسوأ، فبدا ذلك الاختيار الملائم حاليًا، وعلى طرف الفراش جلست همسة في مواجهة مقعده الجالس عليه، ثم سألته بتوترٍ، وهي تتطلع إليه:.
-يعني هتكلمه يا حاج؟
أكد عليها بصوته الهادئ:
-أيوه يا بنتي، هاطلعه، ومعايا بدير كمان.
شكرته بامتنانٍ شديد:
-ربنا يخليك ليا، أنا مش عارفة من غيركم كنت هاتصرف إزاي.
بابتسامةٍ صافية تعكس حنانه الأبوي أخبرها:
-ده ابننا، واللي مر بيه مش سهل، ولولا إن الواد ربنا بيحبه مكانش اتجوز واحدة بنت أصول زيك.
قالت ببسمةٍ بدت شبه باهتة:
-الله يكرمك.
رد مؤكدًا من جديد ليشد من أزرها، فلا تستسلم أمام عناده العقيم:.
-دي الحقيقة، الست اللي بجد هي اللي بتبقى في ضهر جوزها، تاخد بإيده وقت ما يكون عاجز، تفهمه من غير ما يتكلم.
زفرت ببطءٍ، وعقبت:
-ربنا يصلح حاله.
على نحوٍ غير مسبوقٍ أو متوقع، باتت الآمال المستحيلة قيد التحقيق، مجرد رؤيتها أمام ناظريه كان مُرضيًا له، مشبعًا لجوع قلبه الشغوف لذاك الدفء الناعم الذي خلا منه. ربكتها البائنة، نظراتها التائهة، لمحات الحزن الظاهرة، حفزت كامل حواسه على التركيز معها، لتتضاءل أكبر همومه وتندمل في حَضرتها الآسرة. ابتسامة صادقة عذبة عرفت الطريق إلى شفتيه، عندما نطقت بصوتٍ يشوبه الخجل:
-سلامو عليكم يا معلم.
القليل منها يكفيه، بل ويغنيه عن أوجاع ما قساه. رد تميم بقلبٍ يرقص غبطةً على أنشودة العاشقين:
-وعليكم السلام...
ثم تنحى للجانب مستندًا على عكازيه، كدعوة صريحة منه للدخول إلى منزل عائلته، قبل أن يرددها علنًا، ووجهه ما زال مشرقًا بابتسامته:
-اتفضلي.
نظرة حرجة ألقتها فيروزة ناحيته، قبل أن تخفضها سريعًا، متذكرة حديث توأمتها السابق عن الحادث المؤسف الذي تعرض له، آلمها آنذاك ما سمعته؛ لكنه رؤيته على تلك الحالة أوجعها بقدرٍ ما. أجبرت نفسها على النظر مجددًا إلى وجهه الهادئ، حاولت الاعتذار عن الدخول، وقالت مبررة بنوعٍ من التردد:
-أنا كنت، جاية عند أختي فوق، بس خبطت كتير ومحدش فتحلي.
أخبرها بهدوءٍ مشيرًا برأسه، ومديرًا إياه نحو الداخل:.
-هي موجودة عندنا جوا، مع جدي.
قفزت علامات الاستفهام إلى تعبيراتها، وتساءلت بشكلٍ آلي:
-عندكم؟ ليه؟ في حاجة؟
هز كتفيه نافيًا:
-مش عارف.
ظل على حالة التردد تلك، وضغطت على شفتيها قائلة باقتضابٍ:
-شكرًا.
أصر عليها بحماسٍ جعل آلامه تتبدد في لحظة؛ وكأن عظامه لم تُطحن أبدًا:
-مايصحش تفضلي واقفة برا كده، اتفضلي جوا...
وقبل أن تتمسك برفضها شدد عليها عن قصدٍ، ليبث فيها الأمان:
-دي أمي وأختي كمان موجودين، يعني اطمني.
قضمت شفتها السفلى، وردت:
-مافيش داعي أزعجكم.
انزلق هاتفًا من تلقاء نفسه، ونظرة عتاب تكسو وجهه:
-تزعجي مين، ده بيتك..
قطبت جبينها بشكلٍ ملحوظ، فصحح لها بعد نحنحة خافتة:
-قصدي يعني زي بيتك.
حاولت أن تبتسم وهي تعقب:
-شكرًا يا معلم.
أمام إلحاحه الواضح استجابت فيروزة لدعوته، وبدأت في التحرك، لتلج إلى داخل منزله وهي تمسح بعينيها المكان، في حين تسمر تميم في مكانه يرقبها بإشراقة غطت على ما كان به من تعاسة، لم تعرف ضيفته أن السعادة في تلك اللحظة تنتفض بقوةٍ بين ضلوعه، حتى تأثيرها الكبير انعكس بقوةٍ على ملامحه حينما أضافت بعفويةٍ:
-حمدلله على سلامتك صحيح، زعلت حقيقي لما عرفت.
هتف من خلفها بحبورٍ يخالطه الحماس، ذاك الذي استغرب منه؛ كأنما لم يحزن مطلقًا:
-الله يسلمك، كله من عند الله خير...
للحظة التقط أنفاسه، وأكمل مؤكدًا لها:
-وبعدين أنا دلوقتي كويس وبخير.
ندم على جملته الأخيرة، وتجهم قليلاً ربما كانت كلماته متسرعة، فاهتمامها بالسؤال عنه قد يفتر لمعرفتها هذا، تدارك تشتته اللحظي، وتابع بجديةٍ، وعيناه تنظران إليها:.
-لا مؤاخذة الكلام خدني ونسيت أعزيكي، البقاء لله، وربنا يصبرك، دي مشيئة ربنا.
استغربت بشدة لمواساته الغريبة، وسألته بملامح شديدة الجدية، ودون أن ترف عيناها:
-وإنت عرفت منين؟ أنا مقولتش لحد.
أثار ردها استرابته بشكلٍ عجيب، فمن البديهي أن يعزيها في وفاة أبناء خالها؛ لكن ردة فعلها كانت مدعاة للشكوك، توجهت أنظار كلاهما نحو الصوت الأنثوي المتسائل:
-مين يا تميم؟
بتنهيدة عكست أشواقًا تفاجأ بها شخصيًا، هتف ناطقًا باسمها بين شفتيه؛ كما لو كان ترديده لحنًا عذبًا تُطرب له الآذان:
-دي الأبلة فيروزة يامه.
سماعها لاسمها يتراقص بتلك الطريقة على لسانه -وبهذا الاهتمام المليء بالمشاعر- الغريب داعب شيئا ما بداخلها، تغاضت عنه لتنظر في وجه ونيسة التي أقبلت عليها لترحب بها بألفةٍ:
-يا أهلاً وسهلاً يا بنتي، شرفتينا.
بابتسامةٍ صغيرة قالت:
-إزي حضرتك يا طنط؟
احتضنتها ونيسة ومسحت على ظهرها بحنوٍ، ثم تراجعت عنها متسائلة:
-أخبارك إيه يا بنتي؟
أطلقت زفرة بطيئة قبل أن تجيبها:
-الحمدلله.
نظرت فيروزة من فوق كتفها، عندما سمعت صوت شقيقتها يأتي من الخلف وهي تشكر أحدهم قبل أن تغلق الباب خلفها:
-كتر خيرك يا حاج، تعيشلنا، أشوفك على خير يا رب.
تحركت ونيسة للجانب، لتظهر توأمتها أمام عيني همسة، لم تصدق الأخيرة وجودها، وهتفت صائحة في صدمة:
- فيروزة!
ودون أن تضيع الوقت هرولت ناحيتها لتحتضنها بكل ما تحمله من ودٍ، وشوق، وتهلفٍ، وحنين. بقيت في أحضانها للحظات قبل أن تنطق بنبرة متأثرة، وعيناها تحجزان العبرات فيهما:
-وحشتيني أوي أوي يا فيرو، كنت هاتجنن عشان أوصلك، حاجات كتير حصلت وإنتي مش هنا، أنا محتاجة وجودك أوي معايا.
مسحت فيروزة بيدها على جانب ذراعها، وردت بتنهيدة معبأة بالهموم:
-وأنا خلاص رجعت.
تلك الكلمات الموجزة لامست قبل المعذب من خلفهما، فمن المفترض أن يترك تميم الشقيقتين تتحدثان على انفرادٍ، احترامًا لخصوصيتهما؛ لكنه بقي على غير عادته، لإشباع توق الروح لساكنها. انتبهت حواسه، وبدا واجمًا عندما تساءلت همسة بتلقائية:
-وفين آسر؟ هو رجع معاكي؟ واقف تحت؟ ولا وصلك؟ ولا عمل إيه؟
مع تلك الأسئلة المتلاحقة تسلل الحزن إليه، ليذكره أن الطاووس المهاجر إن عاد إلى وطنه، فلا يعني ذلك أنه يخصه! سرى مفعول الألم في عروقه، وشعر بالوهن يزحف إليه. اليأس، الاستياء، الحزن، وكافة المشاعر السلبية هاجمته في لحظة، أوهامه المخادعة مصيرها الفناء! استدار منسحبًا من المكان بخطواتٍ شعر بثقلها، في نفس الأثناء سادت لحظة من السكون المغلف بالتردد الأجواء، حسمتها فيروزة بإخبار الجميع بنزقٍ، وعلى حين غرة:.
-لأ، آسر، مات.
وكأن الحياة بُعثت فيه من جديد، بدا كمن يتلقى إنعاشًا بجهاز الصدمات القلبية ليعود من السراب إلى حيث الأمل. خفق قلب تميم في ذهولٍ، واتسعت عيناه مصدومًا، حتى خلايا عقله عادت لتعمل بكامل طاقاتها، التفت مستديرًا ناحيتها ليتأكد من أنه لم يتوهم سماع ذلك، وراقب تعابير همسة المتسائلة في صدمةٍ:
-يعني إيه مات؟
بينما رددت ونيسة بنفس التعابير المصدومة، وهي تضع يدها على صدرها:.
-لا حول ولا قوة إلا بالله، هو إيه اللي حصل في الدنيا؟
ثم ربتت على ذراع فيروزة تواسيها بإشفاقٍ:
-البقاء لله يا بنتي، قلبي عندك والله، ده إنتي لسه عروسة جديدة.
خجلٍ ممزوجٍ بالألم انتشر في وجهها، فكلماتها وإن كانت عادية؛ لكنها لامست جرحها العميق. ابتلعت فيروزة غصة مليئة بالعلقم، وجاهدت لتتجاوز تلك اللحظات بثباتٍ انفعاليٍ عجيب، تدربت عليه كثيرًا في ليالي غربتها الموحشة. سألتها همسة في فضولٍ حزين:.
-إزاي مات؟
لم تمنحها الجواب، وقالت بنوعٍ من الهروب:
-هابقى أحكيلك بعدين، مش وقته..
غالبت حشرجة طفيفة في صوتها، وأكملت بقلقٍ:
-بس فين ماما؟ أنا عديت عليها ملقتهاش موجودة في البيت.
أجابتها على الفور:
-تلاقيها مع رقية عند خالي في المستشفى.
انقلبت شفتاها، وتساءلت في استغرابٍ:
- رقية! وفي المستشفى؟ مين دي كمان؟
لم ترغب في إطلاها على الأخبار غير السارة دفعة واحدة، وقالت بعد زفيرٍ حزين:
-ما هو في حاجات كتير حصلت.
فهمت عزوفها عن التحدث بأريحية هنا، وقالت بتعابيرٍ جادة:
-طيب يالا بينا، بلاش نضايق الناس بوجودنا.
عبارة في غير موضعها استنكرتها ونيسة، وعاتبت فيروزة عليها:
-والله أزعل منك، تضايقونا إيه بس؟ ده احنا عيلة واحدة.
ردت بحرجٍ:
-شكرًا لحضرتك يا طنط، كلك ذوق.
تساءلت همسة بصوتٍ خفيض:
-شنطك فين؟
أجابتها بنفس الصوت الخافت:
-عند البيت.
أومأت برأسها تخبرها:
-تعالي نروح على هناك.
هتفت ونيسة طالبة من ابنها:.
-وصلهم يا ابني في سكتك، مش التاكسي مستنيك تحت؟
اعترضت فيروزة مبدية تقديرها لظروفه:
-لأ يا طنط، مافيش داعي، السكة مش بعيدة، احنا هنمشيها، و...
التفتت ناظرة إلى تميم بنظرة مهتمة نفذت إليه كالسهم المارق:
-ومش عايزين نتعبك يا معلم.
قاطعها تميم قائلاً بلطفٍ:
-ما هو التاكسي موجود، أنا مش هاعمل حاجة تتعبني.
احتجت عليه بعنادٍ:
-بس آ...
رفع يده قائلاً بجديةٍ وهو يستدير ليتحرك:
-خلاص يا أبلة، مش قضية يعني.
لم تجادله، وتنهدت بصوتٍ مسموع لتتبعه مع توأمتها على مهلٍ، حتى يتمكن من هبوط الدرجات دون تعجلٍ. ناظرته فيروزة عن قربٍ مستغلة عدم انتباهه لها، لتجده رغم ما مر به مازال متماسكًا، صلبًا، يجابه آلامه بشجاعةٍ يحسد عليها. لم تدرك أنها أطالت النظر نحوه، فعندما استدار عند بسطة السلم، أمسك بعينيها المتطلعتين إليه، فبادلها نظرة كانت تلمع بشيءٍ ما كذب الفؤاد رؤيته!