رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول للكاتبة منال سالم الفصل الحادي والثلاثون
شبت منذ نعومة أظافرها على فكرة أن تكون له وحده، لم ترَ سواه .. ولم تعرف غيره! هيأتها والدتها لتكون رفيقة دربه دون أن تمنحها حق الاختيار، بل وتأتي منه بالوريث الوحيد لثروة تلك العائلة ليستريح والدها في قبره، ورضخت بكامل قواها العقلية لإرادتها لكون الأمر على هواها، فأصبح شاغلها الوحيد، وطوال أعوامٍ عاشت بخيالها داخل ما أسمته حبها الأفلاطوني، وإن كان من طرفها فقط وبدون وجوده ليشاركها في تفاصيل حياتها، تأصل بداخلها رغبة أنانية في امتلاك كل ما يخصه؛ قلبه، مشاعره، جوارحه، وحتى أنفاسه التي يتلفظها..
لم تتدرك "خلود" أنها حولت أحلامها الوردية إلى هوس خاص بها ازداد عمقًا بمرور الأيام، وحين أصبح شريكها عجزت عن امتلاكه مثلما طمعت، كان يأبى استحواذها غير المقبول عليه، تحكمها الزائد فيما يخص أمور حياته حتى التافه منه، ولم تمنحه الفرصة لاستيعاب حبها بغير شروط، بل لجأت لحيلة سهلة التنفيذ كما أوصتها والدتها، وحاصرت المشاعر المتبادلة بينهما في الفراش فقط، فأصبحت تجره جرًا إليه لتستنزف قواه أولاً بأول معتقدة بذلك أنها إن نجحت في إشباع رغباته امتلكته.
تفقدت ألبوم الصور الفوتوغرافية الذي جمعت فيه صور حفل الزفاف بعينين حائرتين وهي تستلقي على الأريكة، تأملت وجه "تميم" بدقةٍ، لم يبتسم بسعادة، لم تظهر علامات البهجة على قسماته، كان في أغلب اللقطات إن لم تكن جميعها بلا تعبيرٍ مقروء، رددت بتنهيدة وكأنها تخلق المبررات لنفسها لتقنع عقلها بتقبل جفائه:
-حتى لو مكونتش بتحبني أد كده، فإنت هتفضل ليا!
اعتلى شفتاها ابتسامة واثقة حين أضافت:
-وبكرة لما أجيبلك ابنك وحفيد العيلة اللي من صلبك الضحكة هترجع لوشك، ومش هاتقدر تبعد عني!
استغرقت في أفكارها الحالمة لبعض الوقت إلى أن رن هاتفها المحمول، أخرجت زفيرًا بطيئًا من جوفها وهي تمد يدها بتثاقلٍ لتأتي به من على الطاولة، نظرت إلى اسم والدتها، وأجابت بتكاسلٍ ملحوظ:
-أيوه يامه.
صاحت فيها الأخيرة بضيق انعكس جليًا على نبرتها:
-مابترديش ليه على طول؟ وراكي الديوان وأنا معرفش؟
استغربت من عصبيتها، وتساءلت:
-مالك داخلة فيا كده؟ إيه اللي مضايقك يامه؟ "هيثم" عمل حاجة تاني
ردت بتبرمٍ:
-هو عامل حاجة غير إنه قرفني بالمعدولة "همسة"، تقولش مافيش إلا هي اللي خرطها خراط البنات!
علقت "خلود" في ضجرٍ وهي تغلق ألبوم الصور لتطرحه جانبًا:
-بكرة ينساها، يومين وهيرجع زي ما كان.
استطاعت أن تسمع صوت زفيرها قبل أن تضيف:
-مش باين، قوليلي جوزك رجع ولا لسه برا؟
أجابتها بزفيرٍ بطيء:
-في الطريق.
أكملت متسائلة باهتمامٍ:
-طب كويس، ها طمنيني، في أخبار الشهر ده تفرح؟
عادت "خلود" لتتذكر تحليل الحمل المنزلي الذي أتت به بالأمس لتختبر سرًا إن كانت تحمل في أحشائها جنينًا أم لا حين تأخرت عليها زائرتها الشهرية يومين، كانت النتيجة لا شيء، واليوم حلت ضيفتها بآلامها لتقلب مزاجها وتنغص أحلامها .. وبنفس الوجوم جاوبتها مبتلعة تلك الغصة المريرة في حلقها:
-لأ، مافيش نصيب
شعرت بنبرتها الحانقة تخترق أذنها وهي تلومها:
-إزاي يا بت؟ طب عملتي اللي قولتلك عليه؟
شردت متذكرة شريط الأقراص الدوائي الأزرق الموصوف لأصحاب الحالات المرضية التي تعاني من ضعف في العلاقات الزوجية، والذي أحضرته لها والدتها بعد بضعة أيامٍ من زواجها، وأمرتها دون نقاشٍ معاها بدسه لزوجها وسط الطعام يومًا بعد يوم لتنشط خلاياه وتعزز من نزعاته الذكورية حتى تزداد رغبته في ابنتها إن كان ينبذها وفي نفس الوقت تتمكن سريعًا من الحمل، تقلصت تعبيراتها وأطلعتها بالتفصيل على ما قامت به، وقالت:
-أيوه، طحنت الأقراص وحطيتهم في الأكل بتاعه، مخلتش في نفسه حاجة إلا وعملتها عشان أضمن إنه ياخده.
خالفت ما أوصاها به "تميم" من عدم إطلاع أي فرد من عائلتهما على أسرار غرفة النوم، بأن تكون علاقتهما الحميمية منحصرة بينهما لا وسيلة للتداول على الألسن، فعلت النقيض والأسوأ بكثير دون علمه أو مراعاة مدى التأثير الجانبي السلبي عليه لإفراطه في تناول تلك المواد المنشطة معتقدة أنها بذلك تزيد من استحواذها عليه .. سألتها والدتها بتلهفٍ:
-وبياكل ولا بيحصل إيه فهميني؟
أجابتها مؤكدة على مسامعها:
-أيوه، مافيش وجبة فوتها، وبعدها بيحصل المراد يامه.
تساءلت "بثينة" في حيرة:
-أومال في إيه؟ ده المفروض يجيب جيش قرود بعد الطفح ده كله واللي بتعمليه فيه!
عقبت على مضضٍ:
-هو مقصرش معايا، بيه أو من غيره "تميم" بيقوم بدوره.
قالت لها بنوعٍ من المواساة:
-مش عارفة أقولك إيه بس، لسه الوقت مأزفش..
-أيوه..
استأنفت "بثينة" نصائحها الماكرة، فأوصتها مشددة:
-المهم ابلفيه تحت جناحك بالدلع والشخلعة مرة، بالبرشام والذي منه مرة، ما تخليهوش على بعضه، مش عايزاه يشوف إلا إنتي، اسمعي مني يا "خلود" الرجالة مالهاش أمان، واللي زي جوزك كنز، سهل واحدة تجره ليه لو مكانتش عينه مليانة منك، املي مزاجه وسيطري عليه.
توهجت حدقتاها بوميضٍ غريب، وردت بثقة:
-حاضر، إنتي مش محتاجة توصيني عليه، أنا مهما عمل "تميم" فهو بتاعي، مش هايكون لحد غيري!
فَسد حذائها الأبيض بفعل مياه الأمطار التي اخترقت جلده وتشبعت به فأصبح فعليًا وعاءً تغوص فيه قدميها، سارت بتذمرٍ وهي تلوم نفسها على تسرعها تلك المرة في اتخاذ القرار، لما لم تُعاند نفسها وتستقل سيارة أجرة، فالشوارع لا تصلح للسير، ولا الأرصفة ممهدة بشكلٍ جيد يقيها من العثرات المفاجئة، بعد عناءٍ وصلت "فيروزة" إلى الطريق الرئيسي المؤدي إلى بيتها، التفتت لتنظر إلى جانبيه قبل أن تعبره، ذُهلت حين رأته يسير بسيارته بهوادة ليبدو قريبًا منها، تجهمت تعبيراتها، وصاحت فيه:
-إنت بتراقبني؟
رد "تميم" ببرودٍ، ومرفقه مستندٌ على حافة النافذة المنخفضة:
-لأ
سألته بضيقٍ وهي تلوح بيدها:
-أومال بتسمي اللي بتعمله ده إيه؟
أوقف محرك السيارة، وترجل منها وهو يجيبها مازحًا بابتسامة صغيرة تعبر عن هدوئه:
-ولا حاجة، وأكيد مش شغال في المخابرات عشان أراقبك!
تقدمت نحوه ورمقته بنظرة قوية قبل أن تخبره:
-يا حضرت إنت ماشي ورايا ليه لحد بيتي.
فرد ذراعيه في الهواء موضحًا لها بثقةٍ ونظراته المغترة تتراقص في حدقتيه:
-أنا ماشي في شارع الحكومة، أسفلت زي أي أسفلت..
ثم وضع يده أسفل ذقنه مدعيًا التفكير قبل أن يتابع متسائلاً بنبرة ساخرة:
-ولا يكونش من أملاكك وأنا معرفش ومعلقين يافطة كاتبين فيها بالبونط العريض ممنوع الدخول ل "تميم" عشان الأبلة ماتضايقش؟!
انزعجت من جملته التهكمية، وقالت بعصبيةٍ وهي توليه ظهرها:
-أنا غلطانة إني واقفة هنا أصلاً.
شبك ساعديه أمام صدره، ورد عليها:
-وأنا مش ماسكك، اتفضلي خليني أرجع بيتي.
أدرك على الفور زلة لسانه التي انفلتت دون قصدٍ منه فتوقفت "فيروزة" عن السير وقد سمعتها بالفعل لتستدير نحوه، فأشار بسبابته مبتسمًا ببلاهة::
-الدنيا أصلها زحمة ومطر وحاجة صعب الصراحة، الواحد المفروض يخليه في البيت.
هزت رأسها في عدم تصديقٍ، وتابعت السير بخطواتٍ متعجلة قاصدة مدخل منزلها، تنفس الصعداء وهو يوبخ نفسه على ذلك الخطأ، أرخى ذراعيه وتحسس جيب بنطاله ليبحث عن ولاعته، لكنه تذكر مشبك الرأس الذي وجده، أخرجه من جيبه ليتطلع إليه في حيرة، تردد في إعادته لها وقبض عليه براحته، خشي أن تظن أنه يتمادى معها، قرر الاحتفاظ به لكن عادت ذكرى حادثة منديل الرأس لتنشط عقله، وقال لنفسه بنوعٍ من التحذير:
-كده هعمل مشكلة تاني مع "خلود"، وماينفعش أكدب عليها! المرة اللي فاتت عدت على خير، مالوش لازمة أجيب وجع الدماغ لنفسي!
عقد النية على قيادة السيارة والالتفاف حول منزلها ليتمكن من اللحاق بها، ومن ثم إعطائها إياه تجنبًا للمشاكل.
في تلك الأثناء، جمعت فيروزة بيديها شعرها المبتل وكأنه تمشطه حتى لا يلتصق بوجهها، ولجت إلى مدخل المنزل وهي غير منتبهة لذاك الشخص القابع في العتمة، وعلى ما يبدو لم يتوقع هو الآخر رؤيتها، شهقة مباغتة خرجت من جوفها حين لمحته جالسًا على الدرج وهو يحني رأسه على صدره، في البداية ظنت أنه لص قد جاء لسرقة المنزل، ولكن لماذا يجلس هكذا؟ تساءل عقلها بمنطقية قبل أن ينبذ تلك الفكرة، دنت منه بحذرٍ وقد استجمعت شجاعتها، دققت النظر فيه لتتبين ملامحه وهي تتساءل بصوتٍ حاولت أن يبدو ثابتًا حتى لا يظهر خوفها الغريزي:
-إنت مين؟ وقاعد كده ليه؟
رفع "هيثم" رأسه ليجدها أمامه، وكأن كراهية الدنيا كلها قد تجمعت في عينيه بمجرد رؤيتها تحديدًا، تفاجأت هي الأخرى بوجوده، وبادلته مشاعر العداء، استند على مرفقيه لينهض من جلسته المتعبة، هبط الدرج نحوها يلومها بنبرة حانقة للغاية:
-إنتي السبب!
لم تتخلَ عن جأشها، وصاحت فيه دون رهبة:
-إنت بتعمل إيه هنا؟
بدا "هيثم" في حالة غريبة، منذرة بطوفان من الغضب المكتوم، شعرت بذلك في صوته عندما أخبرها:
-إنتي اللي مخلياها ترفض ترجعلي.
تراجعت على درجات السلم بظهرها لتمنح نفسها مسافة آمنة قبل أن يفكر في الهجوم عليها، وبتمهلٍ حذر ردت عليه:
-روح لحالك .. مافيش نصيب
صرخ بها:
-من الأول وإنتي حطاني في دماغك، بتكرهيني من غير سبب
ابتلعت ريقها وعلقت عليه:
-وأنا في إيه بيني وبينك؟
هدر بها بصوته الغاضب وقد واصل هبوطه متجهًا نحوها:
-وأنا عملتلك إيه؟ مكانتش غلطة حصلت وأنا مكونتش في وعيي ساعتها!
استنكرت استخفافه بتأثير خسته على حالة توأمتها النفسية، وانتفضت تصرخ فيه:
-بتسمي اللي عملته فيها غلطة؟ بتتهجم عليها والله أعلم كان إيه ممكن يحصل لو ملحقتهاش إنه غلطة، المفروض بعد ده نتكسف على دمنا ونسكت ونرضى بيك!
رد بألمٍ وتلك الدمعة المقهورة تفر من عينه:
-وخدت جزاتي خلاص، ليه عاوزة تحرميني منها؟
قالت بقساوةٍ وقد هبطت الدرجات بالكامل لتصبح أمام المدخل:
-أختي مش هاتجوزك مهما حصل
توسلها بنبرة تميل للبكاء علها تمنحه الأمل:
-خليني اتكلم معاها، أشرحلها موقفي
رفضت طلبه دون تفكيرٍ:
-مش هايحصل!
يئس من إقناعها بالعكس لتزداد قناعاته بأنها متسلطة ومتحكمة فيما يخص شئون خطيبته السابقة، باح بما ينتاب عقله من هواجس في تلك اللحظة، واتهمها:
-إنتي ضاغطة عليها عشان ماترجعليش، من وقت ما اتقدمت لأختك وإنتي مش راضية بيا، زي الشوكة في الزور!
نظرت له باستحقارٍ قبل أن تقول منهية الحوار معه:
-هي مش عاوزاك، وخلاص ده باب واتقفل في وشك، روح لحال سبيلك، ملكش نصيب، اتفضل.
وقف "هيثم" قبالتها ينظر لها بكل ما يعتريه من غيظٍ وغل، احتقنت عروقه من شدة حقده المتعاظم، رفع يده يهددها بلا وعيٍ:
-وأنا مش هاسيبك تمنعيني عنها .. إنتي السبب!
تحدته بجراءةٍ وهي تبتعد عنه لتقترب من الرصيف:
-لو ما خرجتش بالذوق هاجيبلك البوليس
لحق بها قبل أن تخرج من المدخل وأمسك بها من رسغها ليوقفها، ثم جذبها بقسوة للداخل وهو يأمرها بصوته المحتد:
-استني هنا!
استخدمت "فيروزة" حقيبتها كوسيلة دفاعية لتقاومه بكل شراسة، رفعتها أمام وجهه وضربته بأقصى طاقتها على صدغه لتؤلمه وهي تصيح به:
-ابعد عني!
أحدث قفلها المعدني خدشًا واضحًا في صدغه، استشاطت حدقتاه على الأخير، وتطلع لها بشرٍ مبين، وقبل أن يفكر في الرد عليها كان "تميم" يقف حائلاً بينهما بجسده وهو يناديه بصوته الأجش القاسي:
-"هيثم"!
شلت المفاجأة تفكيره ووترته لحظيًا، لم يتوقع ظهوره في ذلك التوقيت، جف حلقه، ونظر له بترقبٍ، في حين استل "تميم" معصمها من قبضته، ورمقه بنظرة قاتمة منذرة جعلته يتراجع على الفور للخلف، ثم سأله بغلظةٍ:
-إنت بتعمل إيه هنا؟
لم يجبه، ونكس رأسه خزيًا، بينما ردت "فيروزة" من خلفه تتوعده:
-أنا هاطلبله البوليس عشان يترب...
التفت "تميم" نحوها يقاطعها بصيغة آمرة:
-اهدي يا أبلة، وخليني أفهم الأول منه!
نظرت له بحنقٍ قبل أن ترد بما يشبه التهكم:
-أه طبعًا، ما هو قريبك لازم تحاميله!
وفجأة سمع كلاهما صوت بكاءٍ حارق جعلهما يتطلعان للأمام ويتشاركان في نفس الصدمة، حيث انفجر "هيثم" باكيًا وهو يجثو على ركبتيه متوسلاً:
-ليه محدش عايز يسمعني أو حتى يصدقني؟ للدرجادي مستحقش فرصة تانية أثبت ل "همسة" بيها إني اتغيرت؟
حملقت فيه بازدراءٍ قبل أن تغمغم:
-قالوا للحرامي احلف!
صرخ باهتياجٍ وهو يتطلع لها بعينيه الملتهبتين:
-طب اعمل إيه عشان تصدقوا إني ندمان وفعلاً بأحبها؟!
هتفت فيه "فيروزة" تلوح بذراعها وقد ظهر الاستنكار في صوتها ونظراتها إليه:
-حب؟ دي معرفتها بيك مكملتش كام يوم!
رد بحرقة وذاك الوخز يحز في قلبه:
-أقسم بالله حبيتها من أول نظرة.
قالت بقسوة وبوجه جليدي صارم:
-والمفروض أنا عبيطة وهصدق ده؟
انفلتت أعصابه وفقد القدرة على التحكم في انفعالاته، نهض بمشاعره المحتقنة من على الأرض وتلفت حوله بنظراتٍ غائمة، ثم اقترب من الحائط واستند عليه بكفيه وبدأ بضرب رأسه به بشكلٍ جنوني عنيف ودون توقف وهو يصرخ في إحباطٍ متألم:
-قوليلي أعمل إيه طيب؟ ردي عليا.
توترت "فيروزة" من هيئته الهائجة، وانتفض جسدها مع ضرباته المرعبة التي كادت تهشم رأسه، نظر له "تميم" مذهولاً، وأسرع نحوه ليبعده عن الحائط، مرر ذراعيه أسفل إبطيه وسحبه للخلف محاولاً تحجيم نوبة جنونه المخيفة، قيد حركته قائلاً له بما يقارب الرجاء:
-اهدى يا "هيثم"، إنت هتموت نفسك؟!
انسابت خيوط الدماء بغزارة من جبينه لتصبغ كامل وجهه باللون الأحمر القاني، ومع ذلك تابع بصوته المتألم لكن بوهنٍ:
-أنا زبالة وابن ...، وكل يوم بأضرب نفسي بالجزمة عشان كنت نجس معاها!
وبفمٍ مفتوح ونظرات غير مصدقة للمشهد الدموي المقشعر للأبدان رددت "فيروزة" لنفسها:
-ده اتجنن ولا إيه؟
ركز "تميم" عينيه نحوها يأمرها:
-اطلعي فوق دلوقتي
همَّت بالاعتراض لكن صوته الصارم واصل القول:
-عجبك حالته دي؟
بالطبع لا، هكذا قالت في نفسها دون أن تنطق، هي ليست بتلك القساوة لتعلن عن غبطتها لرؤيته أحدهم يأذي نفسه بتلك الصورة البشعة، وكأنه يدفع حياته للهلاك، ضغطت على شفتيها بقوةٍ وانسحبت مرغمة لتصعد على الدرج، لكنها توقفت عند المنتصف لتلقي نظرة متابعة للمشهد، رأت "تميم" يلف ذراعه حول كتفي "هيثم" ليرفع جسده عن الأرضية مما يسهل عليه اقتياده نحو الخارج، وظهر الأخير في حالة وهنٍ شديدة، ناهيك عن بقع الدماء التي لوثت ثيابه والأرضية، وللمرة الأولى تشعر نحوه بالأسف والإشفاق.
لوعةٌ أم ارتعابٌ أم كلاهما معًا هو كل ما شعرت به في تلك اللحظة حين أطل عليها زوجها وهو يجر أخيها جرًا للداخل .. كانت رأسه مضمدة بالشاش الأبيض، ووجهه في حالة ذبول وإرهاق، انهالت عليهما بالأسئلة المتواترة وكأنهما في تحقيق رسمي، التزم "تميم" الصمت ونظر لها بعينين تقدحان حنقًا، اضطرت "خلود" أن تبتلع لسانها مؤقتًا وتبعت الاثنين بقلبٍ واجف مرتعد إلى غرفة النوم الفرعية -والخاصة بالأطفال- ليتمدد "هيثم" على الفراش الفردي وقد كان شبه فاقد للوعي، لكن أنينه الخافت لم يتوقف، سحب "تميم" الغطاء على جسده ملقيًا نظرة أخيرة مهتمة عليه قبل أن يدير رأسه في اتجاه زوجته ليأمرها بصوتٍ خفيض:
-كلمي أمك وقوليلها أخوكي هيبات عندنا الليلة من غير ما ترغي معاها كتير في أي تفاصيل!
سألته في تلهفٍ، ونظراتها القلقة ترتكز على أخيها:
-حصله إيه؟ وإيه اللي في وشه ده؟ إنتو كنتوا بتتخانقوا؟
رد نافيًا بصوته الهامس:
-لأ.
نظرة شمولية جابت بها على جسد زوجها، لم يكن مصابًا، أو بوجهه كدمات، سألته لتتأكد:
-إنت كويس؟ حصلك حاجة؟
هز رأسه بالنفي، لكنها تابعت تساؤلاتها المتوجسة:
-أومال إيه اللي حصل؟ "هيثم" عمل مصيبة جديدة؟ فهمني يا "تميم"! ماتفضلش ساكت كده!
أمسك بها من ذراعها ودفعها برفقٍ بعيدًا عن الفراش حتى لا توقظه بضجيج صوتها المرتفع، خرج بها من الغرفة وأغلق الباب بهدوءٍ لينظر لها بعدها بحدة وهو يعاتبها:
-سيبي أخوكي يرتاح الأول.
وضعت يدها على ذراعه وسألته في قلقٍ:
-مين عمل فيه كده؟
أجابها باقتضابٍ وهو يسير في الردهة متجهًا إلى غرفة نومه:
-محدش.
تبعته بخطى متعجلة تُلح عليه:
-ماتسبنيش كده على ناري، احكيلي بالظبط إيه اللي حصله!
لم يكن "تميم" في حالة مزاجية رائقة ليسرد لها بالتفصيل ما فعله خلال الساعة الماضية التي تضمنت تهور أخيها في منزل "همسة"، واضطراره للتدخل وإسعافه على الفور، ثم نقله من المشفى إلى منزله وإبقائه تحت ناظريه بناءً على تعليمات الطبيب المعالج له حتى لا يكرر تصرفه الطائش ويتسبب في إلحاق الضرر الجسيم بنفسه، وحينها ربما لن يتمكن من إنقاذه .. خلع سترته الجلدية نافخًا في ضيقٍ من ملاحقتها له بالرغم من صمته المشحون، واستدار يقول لها بتعبٍ:
-بعدين يا "خلود"، روحي اعملي اللي قولتلك عليه، والصبح هاحكيلك كل حاجة.
قالت بنظراتٍ معاندة وهي تمسك به من ياقة قميصه لتديره نحوها:
-لأ دلوقتي.
فاض به الكيل من إصرارها المزعج، لذا أزاح يدها عنه وزفر عاليًا بضيقٍ جم، ثم اتجه للفراش ليجلس على طرفه نازعًا قميصه المتسخ عنه وهو يهدر بها بنفاذ صبرٍ:
-يووه، أنا تعبان يا "خلود"، قدري ده شوية
ردت على مضضٍ وهي تنحني لتلتقط قميصه الذي ألقاه بعصبيةٍ أسفل قدميه:
-حاضر، بس لما أخلص معاها هتقولي على كل حاجة تخصه
-ربنا يسهل.
قالها وهو يعاود النهوض ليتجه إلى الحمام ليغتسل، ظلت أنظارها ممسكة به إلى أن ولج للداخل وأغلق الباب خلفه، خرجت من الغرفة واستلت هاتفها المتصل بالشاحن لتخبر والدتها دون إسهابٍ أو توضيح عن مبيت "هيثم" في منزلها، وبالرغم من تذمر "بثينة" من جملها الغامضة إلا أنها التزمت بما أملاه عليها وأوجزت معها، تركت هاتفها في مكانه وعادت إلى زوجها لتجده مستلقيًا على الفراش وقد أغمض جفنيه، وذراعاه معقودان خلف رأسه، نظرت له بحدةٍ والغيظ يتملكها لاستغراقه في النوم وهي تحترق فضولاً أمامه، تقدمت نحوه وسألته:
-إنت نمت؟
أجابها دون أن يفتح عينيه:
-بأحاول.
كزت على أسنانها مدمدمة في تبرمٍ:
-ماشي يا "تميم"، اهرب مني دلوقتي، بس مش هاسيب الموضوع ده يعدي كده من غير ما أفهم إيه اللي حصل ل "هيثم".
رد باقتضابٍ:
-ماشي.
انحنت لتجمع باقي ثيابه التي تركها بإهمالٍ على المقعد التابع للتسريحة، ألقت نظرة متأنية على بنطاله وقد اتسخ بآثار الدماء، رددت مع نفسها:
-طبعًا كل هدومك محتاجة تتغسل.
تفقدت محتويات جيوبه كتقليد متبع تقوم به الزوجات حين تشرعن في غسل ثياب أزواجهن، أخرجت محفظته من جيب بنطاله الخلفي، وكذلك ميدالية مفاتيحه من الجيب الجانبي، ثم تحسست الجانب الآخر لتشعر بتلك الكتلة المعدنية الصغيرة التي تستقر في قعره، دست يدها فيه وأخرجتها منه لتنظر بعينين متسعتين في اندهاشٍ لمشبك الرأس الأنثوي المميز، انقباضة مصحوبة برجفة عظيمة ومقلقة سرت في ضلوع قلبها، ناهيك عن الهواجس المرعبة التي نخرت في رأسها وقد لبك بدنها، استدارت كالملسوعة نحوه تسأله بصوتٍ مغاير لذلك المتدلل حين تُحادثه بنعومة وهي ترفع المشبك للأعلى ليصبح نصب عينيه المغمضتين:
-بتاع مين ده يا "تميم"...؟!