رواية الحب أوس الجزء الأول تأليف منال سالم الفصل الثاني والعشرون
( الجزء الرابع من ذئاب لا تعرف الحب )
توسمت في حضوره المباغت ودون المتوقع خيرًا لها، فمجيئه إلى ذلك المكتب قبل انصرافها المتحسر بعد جدال لا يسمن ولا يغني من جوع مع من ظنت أنه سيمنحها المساعدة يعني مكسبًا عظيمًا لها وإشارة قوية على احتمالية نجاتها، فلطلته مهابةٌ واضحة تفرض نفسها على المتواجدين وكأنها صممت خصيصًا له وحده، بلا وعيٍ سحبت "هالة" ذراعها من بين أصابع "يامن" المرتخية لتخطو في اتجاه "أوس الجندي" الذي كان مدهوشًا من تواجدها في مقر مؤسسته وعند "يامن" تحديدًا، فمنذ متى هي تعرفه لتكون على اتصال مباشر به؟ وقبل أن يترك لأفكاره مساحتها للتحليل والاستنباط، وقفت "هالة" قبالته تطالعه بعينين راجيتين لتستجدي عطفه قائلة بنبرتها المختنقة:
-أنا واقعة في عرضك يا باشا!
ضاقت نظرات "أوس" نحوها، رمقها بنظرات دقيقة دون أن يظهر وجهه الصارم أي تغيير في تعبيراته، بينما تابعت توسلها المرتعد:
-إنت الوحيد اللي هاتقدر تساعدني في مشكلتي، بالله عليك تديني فرصة وتسمعني!
ذكره حالها المرتعد وارتجافتها البائنة بموقف مشابه عايشه مع زوجته حينما التقى بها هنا في مؤسسته لترجوه أن يعفو عن والدتها البريئة، عاد "أوس" إلى أرض الواقع نافضًا تلك الذكريات ليركز تفكيره مع الفتاة المألوفة، تعجب "يامن" من تلهفها لمقابلته واستعطافها له بتلك الطريقة المبتذلة من وجهة نظره، ضم شفتيه مبديًا سخطه وسخريته مما يتابعه، توقع أن يرفض ابن عمه الصارم مد يد العون لها، فقلما ساعد أحدهم أو تقبل ذلك الأسلوب الرخيص في استجداء إحسانه، بل على العكس كان يقابله بحدة وقسوة، تبخرت اعتقاداته القديمة حينما نطق "أوس" آمرًا باقتضاب:
-تعالي مكتبي!
شعورًا كبيرًا بالراحة تغلغل في صدرها وجعل أعصابها الهشة تستكين نسبيًا، أشار لها "أوس" بإصبعيه لتتبعه، أومأت برأسها في خنوع وسارت خلفه وكأنها أسلمته طوعًا زمام أمرها ليفعل ما يشاء، احتقنت نظرات "يامن" وشعر بالضيق وهو يتابع كالمتفرج ما يدور بينهما، ألم تثُر قبل لحظات لظنه أنها على علاقة بشاب ما يجعلها ترفض الزواج من غيره؟ وكانت على وشك الانصراف، وها هي بكل بساطة تعاود سرد ظروفها لابن عمه الذي بدا مهتمًا بأمرها، زفر "يامن" مطولاً وهو يستدير عائدًا إلى مقعده، ألقى بثقل جسده عليه ناقرًا بأصابعه على سطح المكتب، تشتت أفكاره فلم يعد قادرًا على التركيز في الملفات الموضوعة أمامه، ولأول مرة يسيطر عليه إحساسًا غريبًا لم يعهده مسبقًا مع أي أنثى تعامل معها؛ الغيرة.
اصطحبها إلى داخل مكتبه آمرًا سكرتيرته الخاصة بعدم مقاطعته لأي سبب ريثما ينتهي من مقابلته مع ضيفته المراهقة، اتخذت "هالة" موضعها على الأريكة الجلدية مطأطأة رأسها في خجل خائف، ركزت نظرها على قدميها المرتعشتين معتصرة عقلها لتبحث عن الكلمات المناسبة لتبدأ حديثها معه، ظلت تفرك بأصابعها حقيبتها المشدودة إلى صدرها، جلس "أوس" في مواجهتها واضعًا ساقه فوق الأخرى، تأملها مليًا بنظراتٍ جابت ثيابها المدرسية مرجحًا بقوةٍ أنها لم تذهب إليها وأتت مباشرة إليه، الكثير من الأسئلة الحائرة دارت في رأسه، لكنه لم يتعجل الحصول على إجابات شافية، تركها صامتة لبعض الوقت لتستعيد ثباتها وتستطرد حديثها، لكنها لم تقطع ذلك الحاجز الوهمي، لذا بادر متسائلاً بجديةٍ وهو يراقب عصبيتها الظاهرة:
-إيه الموضوع؟
تضاعفت رجفتها وتوترت أنفاسها وهي تجيبه بترددٍ مثير للريبة والمخاوف:
-أنا .. قتلته!
تصلب جسده مع كلماتها الغامضة التي أشارت بوضوح إلى كارثة خطيرة، ثبت عيناه الثاقبتان على ملامحها المذعورة ليفهم منها ما الذي فعلته تحديدًا لتقدم على ذلك، سألها مجددًا بكلمات محددة:
-مين؟ وليه؟!
ضغطت بأناملها أكثر على حقيبتها رافضة التطلع إلى عينيه، ردت باضطرابٍ مضاعف:
-هو.. كان عاوز ي..
انهارت باكية لتعجز عن إكمال جملتها، تعالت شهقاتها التي فشلت في ضبطها، أخفض ساقه وانتصب في جلسته لينظر لها بتمعن، قرب علبة المناشف الورقية منها لتستخدمها ثم علق عليها قائلاً بجدية:
-اهدي كده وقوليلي بالظبط على اللي حصل، لأني مش فاهم منك حاجة
أقدمت "هالة" على رفع رأسها للأعلى لتحدق فيه بعينين مليئتين بالعبرات الكثيفة، سحبت بضعة مناشف لتجفف بهم دمعاتها المنسابة، تنفست بعمق لتكبح نوبة بكائها ثم أردفت قائلة بمنطقية قليلة:
-أنا كنت بأدافع عن نفسي، وعن شرفي
بدا مهتمًا للغاية من جملتها الوحيدة المرتبة، سألها مباشرة:
-مين اللي عمل كده؟
اهتزت شفتاها مُجيبة بصعوبة:
-"م... منسي"!
لم يكن الأمر بحاجة لفطنة بديهية لتفسير الأمر كاملاً، فذلك المقيت الحقير شرع في الاعتداء عليها رغمًا عنها ليشبع نهم رغباته الحيوانية، وهي ببساطة حاولت الذود بنفسها من براثنه، أصغى باهتمام لباقي حكايتها معه دون مقاطعةٍ، وتلك سمة جديدة اكتسبها خلال طريق علاجه النفسي، ازدادت عروقه انتفاخًا من كم الدماء الحانقة التي اندفعت فيها لتثير فيه غضبًا مهولاً، لم يعتقد "أوس" أنه سيتأثر هكذا باسترسالها العفوي في الحديث، ضحية جديدة لذئب أراد افتراسها وتركها محطمة وبقايا فتاة، هب واقفًا ليقول لها بنبرة جادة لكنها حملت الطمأنينة في طياتها:
-أنا هاتصرف معاه!
سألته بتلهفٍ مذعور وقد شحب وجهها كليًا:
-يعني هتساعدني يا باشا؟
أجابها بكلمة واحدة عنت لها الكثير:
-أيوه
تنفست الصعداء وبكت فرحًا تلك المرة، لكن عادت مخاوفها لتطفو على السطح فبددت كل بارقة أمل لتقول بهلعٍ:
-بس أنا خايفة أرجع البيت يا باشا
نظر لها بغموضٍ فبررت معللة:
-البوليس هايكون مستنيني هناك عشان يقبضوا عليا
سألها مستفهمًا:
-في حد شافك؟
ردت بعينين تائهتين:
-مش عارفة
هز رأسه بإيماءة صغيرة قائلاً لها:
-تمام، هاشوف هاعمل إيه، متقلقيش
اتجه نحو مكتبه ليمسك بسماعة الهاتف الأرضي، وضعها على أذنه بعد أن ضغط على أحد الأزرار ليقول بلهجته الآمرة:
-اتصلي بالمحامي وخليه يجيلي على المكتب فورًا
خمنت "هالة" أنه كان يتحدث إلى سكرتيرته الخاصة، انتفضت قليلاً حينما التفت ناحيتها ليقول بصوته الأجش بعد أن وضع السماعة في مكانها:
-إنتي هاتروحي الفيلا عندي.
شخصت أبصارها وأحست بعنف دقات قلبها، لاحظ حالة الارتباك المذعور التي انعكست على حالتها فأوضح بهدوءٍ:
-ده وضع مؤقت لحد ما أعرف تفاصيل موضوعك بالظبط، وماتقلقيش هاتكون مراتي معاكي
لم تكن خائفة من التواجد في مكانٍ يشمله، كان خوفها راجعًا للتطور السريع الذي شهدته حياتها في الساعات الأخيرة، انصاعت لعرضه السخي ولم ترفضه، فقد افتقرت للشجاعة لمواجهة تبعات فعلتها الخطيرة.
تعلل بحجج واهية ليمكث في مكتب السكرتارية التابع ل "أوس"، فبقائه بمكتبه سجين أفكاره المتقدة وسرحانه المتواصل في أمرها جعله يخرج عن سكونه الزائف ليهرع إلى هناك مدعيًا حاجته لمقابلة ابن عمه، قاوم "يامن" ذلك الإحساس الفضولي الذي يحفزه داخليًا للولوج إلى داخل مكتبه ومعرفة ما يدور خلف الأبواب المغلقة، والتزم بتعليمات السكرتيرة بالانتظار ريثما ينتهي من اجتماعه الخاص، تمتم مع نفسه مغتاظًا:
-اجتماع! ومع دي؟!
فرك جبينه متابعًا حديث نفسه:
-الموضوع أكبر من اللي هي قالتهولي!
حيره مكوثها معه لمدة أطول منه، وقبل أن تتلاعب أفكاره برأسه فُتح الباب ليخرج منه المحامي الذي انصرف بخطوات متعجلة دون تعليق، ثم تبعه "أوس" ومن خلفه أطلت "هالة"، تعلقت نظرات "يامن" بوجهها الشاحب المذعور، حاد عن تحديقه بها حينما سأله ابن عمه بنبرة شديدة البأس:
-بتعمل هنا إيه؟
تنحنح قائلاً بارتباك:
-كنت جاي أخد توقيعك في كام حاجة
رد بجمودٍ متعمدًا إحراجه:
-في سكرتيرة موجودة هنا دي وظيفتها، مش لازم تشرفني بنفسك!
ادعى "يامن" السعال قائلاً:
-أوكي، هاسيبلها الملف
تجاهله "أوس" ليلتفت نحو سكرتيرته التي هبت واقفة لتستقبل أوامر رب عملها الصارمة:
-إلغي اجتماعاتي النهاردة وحوليها ل "عدي"، والإيميلات الجديدة كلها تتبعتلي على الميل بتاعي، مفهوم.
حركت رأسها إيجابًا وهي ترد:
-حاضر يا فندم
ثم التفت برأسه نحو "هالة" ليقول لها:
-تعالي معايا العربية، هاوصلك عندي
كلمات فهمت مغزاها ولم تعلق عليها، في حين أشعلت حالة من الفضول والغيظ ب "يامن" الذي احتدت عيناه واحمر وجهه قليلاً، تساءل عفويًا:
-هو إنت ماشي دلوقتي؟
نظر له "أوس" بتعالٍ قليل قبل أن يجيبه موبخًا:
-مايخصكش، ركز في شغلك أحسن!
أحرجه مرة أخرى بقسوة كلماته المُحرجة خاصة أنها كانت أمام عيني "هالة" التي لم تكن منتبهة لحوارهما، فمصابها أكبر من الانشغال بأمور غيرها، تصبب عرقًا باردًا وانسحب من المكان كشعلة انطلقت فجأة وهو يكز على أسنانه في غيظ.
-هو إيه اللي حصل؟
تساءل "منسي" بتلك العبارة بصوته الثقيل والمتحشرج وهو يحرك جسده المتيبس شاعرًا بذلك الألم الصارخ يضرب رأسه، رفع ذراعه ليتلمس مكان الجرح الغائر، شعر برطوبة لزجة تعتريه، أخفض يده ليتأمل أصابعه الملطخة بدمائه، اعتلته دهشة حائرة لبعض الوقت، لكنها تلاشت بعد لحظات حينما استعاد في ذاكرته ما حدث مع "هالة"، لعنها بكلمات نابية متذكرًا جراءتها ونيتها لقتله، زحف على بطنه بتمهلٍ حذر حتى تمكن من بلوغ الأريكة، شدد من قبضته على حافتها ليستند عليها وهو ينهض، وما إن وقف على قدميه حتى غلف رأسه دوارًا عظيمًا، كاد أن يفقد اتزانه فأسرع بالجلوس على الأريكة.
تأوه "منسي" بأنين موجوع، ثم وضع يده من جديد على رأسه متلمسًا جرحه، مسح بظهر كفه لعابه المتجمع عند زاوية فمه ليغمغم بعدها بتوعدٍ وقد توحشت نظراته الشرسة:
-مش هاتخلصي مني بسهولة
حدق بجمود في الفراغ المظلم أمامه متابعًا حديث نفسه عن ثقةٍ تامة:
-والمرادي هتوقفي بمزاجك على جوازك مني، وإلا هوديكي في داهية!
أرجع "منسي" رأسه للخلف مستمتعًا بتلك الابتسامة المنتصرة التي تشكلت على وجهه المغبر بالتراب وخيوط الدماء الناشفة ليبدو متأكدًا عن ذي قبل من موافقة "هالة" على زيجته المزعومة، فالأمور في النهاية انقلبت لصالحه بتصرفها الأخرق، وبالطبع سيستغل الموقف بدهائه الماكر لتزعن لرغباته وإن كان ذلك بالإجبار...!