رواية إلى تلك الرائعة أحبك للكاتبة رضوى جاويش الفصل الثاني عشر
قضت اليوم بطوله داخل حجرتها و لم تخرج منها و لم يشأ احدهم ازعاجها فقد كان من الواضح انها لا تريد صحبة فى تلك اللحظات الخاصة من اجترار أحزانها..
لكنه لم يستطع تخيل وحدتها و دموعها دون مواساة و لم يكن من الطبيعى ان تبقى اليوم بطوله حبيسة الغرفة دون طعام، حاولت هناء الدخول اليها عندما اخبرها منير بعودتها بهذا الشكل الحزين لكنها لم تفلح فى جعلها تخرج من عزلتها..
انتظر حتى صعد منير و هناء لغرفتهما و دخل الى المطبخ و اعد طعاما شهيا يعلم انها تحبه و حمله لأعلى..
توقف لحظة امام باب غرفتها محاولا رؤيتها بعين الخيال خلف ذاك الباب، و تساءل ماذا تفعل يا ترى!؟
لكنه تنبه لخواطره و هو يسمع صوتها الرقيق المتحشرج داعيا: - اللهم اقسم لى من خشيتك ما تحول به بينى و بين معصيتك و من طاعتك ما تبلغنى به جنتك و من اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا باسماعنا و أبصارنا و قوتنا و اجعلها الورث منا و اجعل ثأرنا على من ظلمنا و انصرنا على من عدانا ولا تجعل مصيبتنا فى ديننا و لا تجعل الدنيا اكبر همنا و لا مبلغ علمنا و لا تسلط علينا ما لا يرحمنا ياااارب ..
اهتز داخليا من دعائها و شعر انها تعانى صراعا رهيبا لا يدرى عنه شيئا فتنهد و انحنى واضعا صينية الطعام امام الباب و طرقه عدة طرقات متتابعة و اندفع مهرولا لداخل حجرته، لحظات و انفرج الباب فى هدوء، فقد كانت قد استسلمت لدموعها و شردت فى خواطرها و أيقظتها تلك الطرقات ففتحت مشوشة، وجدت صينية الطعام قبالة بابها فابتسمت فى امتنان فقد كانت جائعة لحد كبير، رفعت الصينية بين كفيها و دلفت لحجرتها و اغلقت الباب خلفها فى هدوء..
تنهد يوسف فى راحة عندما تأكد انها ستتناول بعض الطعام قبل ان تذهب للنوم بينما هى وضعت الصينية امامها على فخذيها و اخذت تتناول الطعام بشهية و استمتاع كبيرين و كل ما جال بخاطرها ان هناء هى من صنعت ذلك الطعام لإسعادها، لكن قصاصة الورق تلك كان لها رأى اخر، فقد تنبهت لوجودها تحت تلك المنشفة الصغيرة على طرف الصينية فتوقفت كفها بتلك الملعقة و هى فى طريقها لفمها و أنزلتها فى بطء متعجبة و تناولت القصاصة لتفتحها و تقرأ تلك الكلمات الموجزة فيها بهمس متلجلج: - مهما يكن كم الحزن، انتِ الاقوى، يا اميرة البهار .
تطلعت للكلمات فى ذهول لا تع ما تقول او تفعل، انه يُؤْمِن بقوتها و صلابتها اكثر من ايمانها بنفسها، ياله من رجل!؟، ضمت القصاصة لصدرها و همست فى نبرة تحمل الكثير من الشجن و الدمع المكتوم: - نعم انا الاقوى يا يوسف و اشكرك لانى احتجت كلماتك تلك لكننى ايضا احتاج احيانا لشخص يبثنى تلك الكلمات و يجعلنى أصدقها، احتاج لداعم يدرك انى بشر مهما كنت قوية و يسندنى عندما تتعثر قدماى و تأبى المسير بطريقى، احتاج لصدر يحتوينى و ذراعان تضمانى و قلب يساعنى بكل مساوئى و عيوبى و يغفر كل زلاتى و اخطائى، يااارب، اشعر بالخزلان من اقرب الناس اليّ فأرسلت لى شخصا ابعد ما يكون عنك ليسندنى!؟، انا لا اعلم ما حكمتك فى ذلك لكن لابد من وجود حكمة لك فى كل هذا، انا اعلم، و سأنتظر يا رب، ياارب اعنى و لا تكلنى لنفسى او لغيرك يا كريم.
مدت كفها لمذياعها الصغير تفتحه ليبثها مهدئها اليومى و تستشف منه رسالة من رسائل الله التى تنتظرها دوما، صدح المذياع فى عذوبة: - لَا يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ .
سالت دموعها هامسة: - صدق الله العظيم
بينما كان هو ممددا على فراشه يرهف السمع الى اى حركة قادمة من غرفتها عبر الحائط المشترك بينهما لعله يطمئن عليها، انتفض داخليا عندما أتاه صوت مذياعها يتهادى لمسامعه فاقترب من الجدار يتحسسه فى لهفة و أرهف السمع للأية الكريمة فأخذ لا إراديا يرددها فى وجل مع القارئ و ما ان انتهى حتى فاضت عيناه.
هبط الدرج صباحا قبل موعد مناوبته بقليل كان يظن انها لاتزل بغرفتها معتكفة مسربلة بأحزانها كما كانت بالأمس الا انه فوجئ بوجودها تعمل فى هدوء بأحد أطراف المطبخ كانت تترنم فى تيه بأنشودة رقيقة غير مدركة بعد بوجوده، وقف متسمرا ينصت الى كلماتها المنغمة بصوت عذب كان يعتقد ان عذوبته مصدرها آيات القران الكريم التى دوما ما تقرأها خاشعة تلين قلب مستمعها، لكنه كان مخطئ فنفس الرقة تنبعث الان من همسها بتلك الكلمات التى تصف وجع قلب يتوق للامان و لدفء الحبيب..
رغم تأثره بما يسمع الا انه اقترب فى هدوء محاولا مشاكستها كالمعتاد فوجدها تذيل احد الاوراق البيضاء باسمها كاملا فى شرود، غفران سالم الناجى..
فهمس بدوره ساخرا: - كنت اعتقد ان قديستنا تكره الغناء حد التحريم و لا تستمع الا لقرءانها!؟.
انتفضت ليسقط القلم من بين أصابعها عندما أدركته يقف خلفها و هتفت معاتبة: - و انا كنت اعتقد انك تدرك معايير الذوق اكثر من هذا و لا تتسلل خلف الناس هكذا كهر جائع!؟.
انفجر ضاحكا على تشبيهها و لم يلتفت لنقدها اللاذع لتصرفه فاستطردت: - كما ان الغناء لا ضرر فيه شرط ان لا يزاحم القرآن الكريم بقلبى، انا اروح عن نفسى قليلا، و بالمناسبة لست قديسة و لم ادع ذاك يوما، أيها السيد المتحذلق..
تجاهل محاضرتها العصماء و تناول الورقة التى زيلتها باسمها هاتفا فى مزيد من السخرية و بنبرة عالم ببواطن الامور مهمها: - امممم، تكتبين اسمك بهذا الشكل!؟، لذلك دلالة نفسية خطيرة..
و استطرد و هو يعقد حاجبيه فى تأمل: -امرأة عاشقة لنفسها حد الهوس، تعتد بكرامتها و تصون كبريائها و تحفظ انفها شامخا يحاكى قمة الجبل ارتفاعا، باختصار امرأة مغرورة، متكبرة، محبة للظهور وعاشقة للسلطة..
شهقت فى ذعر هاتفة: - انا لست كل هذا..
حاول كتم ضحكاته: - فلنقل اذن نصف هذا!؟.
لم يستطع الان كتم ضحكاته فانفجر مقهقها عندما رأى تعبير وجهها الذى ظهرعلى قسماته ما ان ادركت انه كان يلهو و ان تحليله ذاك كان مجرد سخرية و لا يمت للحقائق العلمية بصلة..
و ابتعد فى سرعة مندفعا فى اتجاه صالة المقهى خارجا من المطبخ و لم يدرك انه يحمل تلك الورقة التى تحمل اسمها الى بعد ان وقف متسمرا فى مكانه المعتاد داخل المقهى ليتطلع اليها و على شفتيه ابتسامة لم يكن من السهل ظهورها على محياه من قبل ان يلتقيها، ثنى الورقة فى حرص ووضعها بجيب سترته بالقرب من قلبه..
انتصف النهار و كان العمل على اشده و المقهى فى ساعة الذروة مكتظا عن اخره
لكنها رغم ذلك لم تنس اطعام جروها الأعرج الذى ينتظرها يئن رغبة فى لفت أنظارها اليه حيث يقف خارج باب المطبخ الخلفى المطل على الذقاق..
اندفعت تجمع له ما استطاعت من بقايا عظام و لحم لتخرج من الباب تربت على ظهره فى حنو و تضع امامه الطبق ليبدأ إلتهامه فى شره و لهفة جلبت الابتسامة الى شفتيها اشفاقا..
انتفضت فى ذعر عندما اقتربت احدى السيارات من مدخل الذقاق و وقفت فى سرعة ليرتفع صوت مكابحها و قبل ان تدرك ما يحدث كان كلبها المسكين يئن وجعا راقدا بجوار الباب مدرجا بدمائه
يبكى تلك التى كانت هنا منذ لحظات و اختفت فجأة..
خف الضغط قليلا و بدأ المقهى فى العودة لهدوءه النسبى بعد فترة الظهيرة مما حثه على الاندفاع لداخل المطبخ طلبا للراحة متعللاً برغبته فى تناول كوب من الشاي.
تطلع حوله باحثا عنها فى شوق فلم يكن هناك الا منير الذى كان جالسا بأحد الأركان يتناول فنجانا من القهوة بينما كانت هناء تقلب شئ ما يغلى فى إناء على نار الموقد فى حرص..
لم يشأ ان يسأل عن مكان تواجدها و توقع انها بالأعلى تؤدى صلاة العصر، الا انه تنبه ان العصر قد مضى وقته منذ مدة و هى تحافظ على مواعيد صلواتها بدقة..
جلس يحتسى كوب شايه و السؤال عنها يكاد يخنقه و اخيرا غلب فضوله حرصه
على عدم إظهار اهتمامه بها فهتف متسائلا: - اين غفران يا ترى!؟، لم ارها منذ الصباح..
هتفت هناء: - ربما هى بالأعلى كالعادة وقت الصلاة!؟.
اكد يوسف: - لقد انتهى وقت صلاة العصر منذ مدة..
هتف منير مؤكدا: - انت على حق، لقد أنهت صلاتها بالفعل و عادت لتضع بعض الطعام لكلبها خارج المطبخ، ربما لاتزل بالخارج..
انتفض يوسف فى اتجاه باب المطبخ و دفعه خارجا باحثا عنها بكل اتجاه حتى وقعت عيناه على جروها الذى يئن بالقرب متكوما خلف احد الأحجار و مثخنا بجراحه.
اتسعت عينا يوسف ذعرا عندما طالعه سوء حال الجرو الصغير و حمله فى إشفاق متجها الى داخل المطبخ و عيونه لاتزل تتطلع الى كافة الأنحاء املا فى رؤيتها قادمة لكن ذاك الشعور المقلق الذى يعتريه فى تلك اللحظة ينبئه ان شئ ما سئ قد حدث لغفران و ان اختفائها ذاك ليس اختفاءً طبيعيا ابدا..
ترك الجرو بين كفى منير و اخرج هاتفه النقال يحاول محادثتها الا ان الهاتف كان مغلقا فأكدت هناء فى اضطراب: - لابد انها نسيت ان تشحن هاتفها كما اخبرينى صباحا..
زفر يوسف فى ضيق و مرر أصابعه بين خصلات شعره فى ضيق و اخيرا اندفع لدراجته البخارية عندما سمع صوت وصولها والتى كان رامى قد حضر بها لتوه بعد توصيله لاحد الطلبات..
اعتلاها فى عجلة و راح يجوب بها طرقات المدينة كالمجنون لعله يراها تسير على احد الأرصفة او تتطلع لأحد نوافذ العرض امام احد المحال، لكنه كان يدرى بقرارة نفسه ان ذاك عبث لا جدوى منه و ان غفران رحلت على غير ارادتها، رحلت و لا يدرى الى اين و ذاك اكثر ما كان يثير غضبه، فلو كان يعلم لها موضعا لذهب ليستعيدها و ليحاول احدهم منعه، لكنه لا يعلم، كاد يصرخ باسمها.
و هو يطير كالمغيب بدراجته فى سرعة جنونية لعلها تستمع لندائه و تخبره اين تكون، لكن لا فائدة..
انتصف الليل تقريبا و ادرك ان لا جدوى من ذاك الجنون فعاد ادراجه لعل منير او هناء ادرك خبرا عنها..
ترك دراجته البخارية بموضعها المعتاد داخل الذقاق و ما ان هم بدخول المطبخ حتى ألتمع شئ ما امام ناظريه ارضا، انحنى يلتقطه فإذا به عقدها الذى كان يزين جيدها دوما و لا تخلعه ابدا، كان على هيئة مصحفا تفتح ضلفتاه ليطالعه صورة رجل و امرأة، ادرك بفطرته انهما والديها، و ادرك لحظتها بحدسه ان غفران قد اُختطفت، لكن لما!؟، و من قام بذلك!؟، فلا علم له..
اندفع داخل المطبخ ضاما قلادتها بكفه و قد اقسم ان يستعيدها و لو كلفه الامر حياته..
تسلل الى حجرتها مدفوعا بشكل لا ارادى يتمنى ان يكون قريبا من اى شئ يذكره بها، اى شئ خاصتها يوهمه انها لازالت هنا و لم تختف..
تقدم بخطوات وئيدة لداخل الحجرة يشعر برهبة عجيبة كأنما يقتحم عزلة مقدسة و عتبة طاهرة ما كان عليه ان يتخطاها و هو المسربل بخطايا العالم و آثامه..
توقف لحظة عندما اصبح بالفعل داخل الحجرة و تنسم هوائها المحمل بعبق عبيرها الخفى بين طياته، تقدم فى تؤدة و وقف فى منتصف الحجرة تماما و جال ببصره فى جميع ارجائها يتشرب كل تفاصيلها التى تمنى لليال ان يراها كمن حرم عليه دخول محراب ناسك مطهر..
تقدم مرة اخرى و جلس فى بطء على طرف فراشها يتلمس غطائه فى وله، لا يعرف ماذا دهاه!؟، و لا يدرك ما ذاك الشعور العجيب الذى يكتنفه اللحظة!؟، انه يتعجب من حاله فما كان يوما بهذا اللين ولا تلك الهشاشة، حتى عندما اعتقد انه يحب زوجته السابقة ما شعر يوما بمثل ذاك الاحساس الذى يعبث به الان كورقة جافة فى مهب ريح عاصف..
تململ مما يشعر به فوضع يده على طرف الفراش و هم بالنهوض ليستشعر ملمس مخملى اسفل باطن كفه فنظر يستطلع الامر لينتفض كفه مبتعدا فى سرعة عن ذاك الشئ الذى لامسه، تنهد لثوان فى قلة حيلة وامتدت كفه من جديد لتلك السجادة المخملية المطوية بعناية على طرف الفراش و حملها فى تردد و قربها اليه فى رهبة، انها مصلاها، تلك السجادة المخلية الملمس التى تفردها ارضا للصلاة عليها، ضمها لصدره فى شوق و كأنما يضم صاحبتها الغائبة، دمعت عيناه، و أشاح بوجهه قليلا يخبئ نفسه عن نفسه، يدارى ضعفا تملكه لا يعرف من اى ركن فى اركان نفسه تسلل الى أعماقه، وقع ناظره على مصحفها المطهر على طاولة الزينة هناك..
و تذكر كلماتها الباسمة له، اول ما افعله صباحا بعد الصلاة هو استطلاع حظى ، تعجب لحظتها لإيمانها باشياء غيبية و هو يعلم تماما انها ليست من شيمها و لكن ذهب تعجبه عندما استطردت افتح مصحفى بشكل عشوائى لأرى رسائل الله الىّ ..
مد كفه غير واع و قرر ان يقلدها لعله يجد رسالة ما تهديه الى سبيل ينهى معاناته التى يتخبط فيها كمركب ورقى فى خضم بحر هائج، ارتعشت كفه قليلا عندما لامس غلاف مصحفها المذهب، و لكنه قرر الا يتراجع و فتحه فجأة ليتطلع لتلك الآية التى سقط عليها نظره و كانت اول ما طالعه، أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ...
اهتزت اركان نفسه و شعر بزلزال من احاسيس جعل روحه تترنح حاملة ثوابت كانت هناك و ظن انها لن تتزحزح و لكن ها هى تنهار فى لحظة واحدة..
سقط ارضا على ركبتيه و كانما زلزاله الداخلى الذى يشق روحه قد امتد مؤثرا على جميع بدنه و انفجر بلا مقدمات شاهقا فى لوعة يبكى و هو يضم مصلاها لصدره يدعم بها أعمدة اركان نفسه المتزعزعة و صرخ فى قوة رادا على تلك الرسالة الربانية: - قد آن يا رب..
و ضم المصلى اكثر و اكثر و شهقات بكائه تشق العنان فى لوعة..