رواية أوتار الفؤاد أوس الجزء الثاني تأليف منال سالم الفصل الثامن
( الجزء الخامس من ذئاب لا تعرف الحب )
تجول في صالة منزلها وكأنه ملكها واضعًا هاتفه المحمول على أذنه يخاطب أحدهم بحدة وأحيانًا بنبرة خافضة، تابعته نظرات الجارات الفضوليات اللاتي التففن حول "أم بطة"، وتبادلن أحاديثًا هامسة عنه، وما إن يلتفت "يامن" نحوهن حتى يدعين النظر في اتجاه آخر غيره، مالت إحداهن على صاحبة المنزل تسألها في خبثٍ:
-مين الجدع ده يا "أم بطة"؟ رجله واخدة على المطرح!
ضغطت على شفتيها لتجيبها بامتعاضٍ وبتنهيدة متعبة:
-أهوو من طرف الباشا الكبير، وإنتي عارفة، محدش هنا يقدر يقوله لأ
مصمصت شفتيها لتؤيدها بسخطٍ:
-على رأيك ياختي، دي كل حاجة في إيدهم، زي ما يكونوا مالكينها!
توقف "يامن" عن الحركة ليلتصق بباب غرفة "هالة" مترقبًا خروج الطبيب من الداخل. جاب بنظراته المتطلعات إليه بنظرات جامدة خالية من التعاطف، انتبه لصوت فتح القفل فتأهب كليًا لاستقبال الطبيب، ثم سأله على الفور وهو على أعتاب الغرفة:
-إيه أخبارها دلوقتي؟!
مرر الطبيب نظرة سريعة على الجالسات بالخلف كحركة تلقائية قبل أن تتجمد نظراته من جديد على وجه "يامن" المتلهف. سحب نفسًا عميقًا لفظه ببطءٍ ليجيبه بحرصٍ:
-مش كويسة، حالتها النفسية محتاجة رعاية أكتر، ووجودها تحت أي ضغط ممكن يعمل مشاكل احنا في غنى عنها.
سأله دون تفكيرٍ:
-طب والعمل إيه؟ ندويها مستشفى ولا ...
قاطعه ليرشده:
-رأيي المهني إنك توديها عند دكتور نفساني متخصص، هو الأجدر مني في التعامل مع وضعها
صمت "يامن" للحظة ليفكر في أمر ما قبل أن يعاود سؤاله بترددٍ ظهر في نبرته:
-طب وبالنسبة للتشوهات اللي عندها؟
أجابه بهدوءٍ لطيف:
-دي سهل تتعالج بعمليات تجميل، واحنا عندنا أساتذة في المجال ده.
ولكن ما لبثت أن تحولت نبرته للجدية وهو يتابع:
-لكن المهم دلوقتي هو حالتها النفسية، لأنها ممكن تكرر محاولة الانتحار!
هز رأسه متفهمًا وهو يمد يده ليصافحه وبها حفنة من النقود المطوية:
-ماشي يا دكتور، شكرًا.
-تحت أمرك يا فندم.
قالها الطبيب وهو يسير برأس مطرق في احترامٍ ليتجه بعدها إلى باب المنزل بعد أن تلقى أجره كاملاً. نهضت "أم بطة" من على أريكتها القديمة متجهة نحوه، ابتلعت ريقها تسأله في توترٍ خائف:
-البت "هالة".. عاملة.. إيه دلوقت؟ فاقت كده و...
قاطعها "يامن" مشيرًا بسبابته:
-إنتي تشيلي إيدك خالص من أي حاجة تخصها، سامعة!
تحرجت كثيرًا من أسلوبه الغليظ الذي أخجلها أمام جاراتها، بهتت ملامحها تقريبًا وردت بحنوٍ مصطنع لتظهر تأثرها:
-يا بيه هو أنا قصرت معاها في حاجة؟ ما هو كل اللي قولتوا عليه نفذته بالحرف، لولا ابن الحرام ال ...
قاطعها بلهجة جافة وصارمة:
-إنتي غبية؟ كفاية بقى، مش عاوزة أسمع حسك خالص!
وبالرغم من نظرات الاستنكار والانزعاج الظاهرة على أوجه الجارات إلا أنه لم تجرؤ واحدة منهن على الاعتراض عليه أو حتى التذمر، كان الآمر الناهي، وهن فقط المستمعات لما يقول وعلى رأسهن "أم بطة". وضع "يامن" هاتفه المحمول على أذنه ليهاتف أحدهم يأمره:
-ابعت هات عربية إسعاف على العنوان اللي هابعتهولك، سلام.
عقدت "أم بطة" حاجبيها في استغراب مركزة نظراتها الفضولية عليه، تجاهلها عن عمدٍ وتحرك مبتعدًا عنها لينظر من الفرجة الصغيرة في باب الغرفة الموارب ل "هالة" الغائبة عن عالمها المحيط، بقيت عيناه على وجهها الشاحب التعيس لبعض الوقت. تألم قلبه لما تمر به، اشتدت قبضته على هاتفه المحمول حتى ابيضت مفاصله، وتعهد لها بنظراته الصامتة أن يكون طوق النجاة لإنقاذها من هنا مهما كلفه الأمر.
أخذت تمشط خصلات شعرها المبتلة في تمهل ناظرة لإنعكاس وجهها النضر في المرآة، اعتلى ثغرها ابتسامة خجلة وهي تتذكر لحظاتها الحالمة مع زوجها المتيم في تلك الغرفة التي شهدت على توثيق عشقهما بين أمواج البحر الهادئة، التفتت "تقى" برأسها لتنظر إلى باب اليخت الصغير مترقبة عودته من الأعلى، تنفست ببطءٍ وانخفضت يدها لتتلمس بطنها في حنانٍ وحب. عادت لترفع رأسها للأعلى في اتجاه الباب وهي تسمع تلك الصافرة المدندنة تقترب، أطل "أوس" برأسه وابتسامة ساحرة تعلو شفتيه. استطرد يُناديها بعذوبةٍ:
-حبيبتي!
توردت بشرتها أكثر واكتست تعابيرها بالإشراق، بدا كمن يخبئ شيئًا وراء ظهره وهو يدنو منها. حاولت اختلاس النظرات نحوه متسائلة بفضولٍ:
-إنت معاك إيه؟
سار "أوس" حتى توقف أمامها فارتفعت عيناها نحوه، مسح بنعومة على بشرتها فأغمضت عينيها لتتمتع بالإحساس الدافئ للمساته الرقيقة، ثم جثا على ركبته ليبدو أقرب طولاً إليها، استمر كلاهما في التحديق لثوانٍ قبل أن يقطع صمتهما الهادئ قائلاً:
-النهاردة ذكرى أول سنة لينا مع بعض.
عقدت حاجبيها في استغرابٍ متعجب، فتابع مفسرًا وبسمته العذبة تكاد تضيء جميع ملامحه:
-ذكرى أول ليلة قررتي فيها تكوني ليا، سامحتيني فيها، وبقيتي في حضني.
خفق قلبها بقوة فتابع بنفس النبرة السلسة الناعمة:
-مكانش ينفع أعدي اليوم ده من غير ما نحتفل سوا بيه.
ترقبت "تقى" بتلهفٍ ما هو قادم وقد ظهر ذلك الوميض المتحمس في حدقتيها. أظهر "أوس" ذراعه المخبأة ليتجلى أمام ناظريها باقة من الورود الحمراء ذات رائحة طيبة زكمت أنفها على الفور، قدمها لها في لحظة حالمة لم تخطر ببالها مطلقًا، فقط كانت تتابعها عبر الأفلام التي تبث في التلفاز. انفلتت منها شهقة فرحة وقد تضاعف وهج عيناها، كما ازداد خفقان قلبها النابض بحبه، تحركت يده لتحتضن جانب عنقها، داعبه ببطءٍ وعيناه تنطقان بأسمى معاني الحب، همس لها بتنهيدة العاشقين دون أن تبتعد عيناه عنها:
-بأحبك، وهافضل طول عمري أحبك.
لم تجد "تقى" ما تعبر به عن شعورها في تلك اللحظة تحديدًا، تداخلت أحاسيسها وتعاظمت، عجزت عن النطق وبقيت في حيرتها، لكن سعادتها غمرت كيانها. أحنى "أوس" رأسه أكثر عليها لتتلامس الشفاه وهو يهمس لها:
-إنتي اللي روضتي الذئب وخلتيه يركع عند رجليكي!
ارتفع ضجيج أنفاسها المتأثر بكلماته المنتقاة، ترك "أوس" بقية الحديث لمشاعره الحسية لتنطق بما يؤجج الوجدان ويدمج الأرواح ويزيد من اشتعال المشاعر وتعميق آثارها، تجاوبت معه "تقى" ومنحته عاطفتها التي نضجت على يديه، ابتعدت عنه لترد بأنفاس متقطعة وقد التصق جبينها بمقدمة رأسه:
-أنا ليك وبس.
رد هامسًا:
-وأنا مش عاوز غير كده.
-مش هنرجع؟ احنا اتأخرنا وكمان مسألناش على "حياة" و...
قاطعها مؤكدًا بصوته الرخيم:
-حبيبتي اطمني، "حياة" مابتغبش عن بالي للحظة، وأنا كلمت "عفاف" من شوية واطمنت عليها
ثم وضع يده على بطنها متحسسًا ذلك الجنين الكائن بداخل رحمها مستأنفًا:
-وعقبال ما أطمن على اللي جاي
سألته على استحياءٍ:
-إنت نفسك في إيه؟
رد بهدوءٍ وعيناه تتأملها:
-اللي يجيبه ربنا كويس.
سألته في لؤمٍ ممتزجٍ بالخجل:
-يعني مش عاوز ولد؟
قال مبتسمًا بعد صمتٍ دام للحظاتٍ:
-أنا مش عاوز غير إنك تقوميلي بالسلامة، وعيلتي تكبر معاكي.
داعبت "تقى" ذقنه وهي تسأله:
-خايف عليا؟
-ده سؤال جوابه معروف من غير ما أقوله!
ترددت وهي تكمل:
-طب افرض جرالي حاجة و...
وضع "أوس" إصبعه على شفتيها يأمرها في لينٍ:
-"تقى"! بلاش!
أومأت برأسها في خنوع دون أن تجادله مكتفية بالشرود في نظراته العميقة، حافظت على بسمتها الرقيقة وهي ترد:
-حاضر.
-هتفضلي كده كتير؟
تساءل "أكرم" بتلك العبارة بصوتٍ جافٍ وبارد عكس حنقه من تصرفات زوجته غير الطبيعية للإيقاع بابن عمها وتدميره لسببٍ لا يعلمه غير ذاك المُشاع في العلن. نظرت له من طرف عينها باستعلاءٍ وكأنها غير راضية عن تدخله في شئونها، فمنذ وصوله وهو لا يكف عن الإلحاح عليها لتتراجع عما تفعله وتعود معه إلى الخارج. تنهدت "رغد" متسائلة بامتعاضٍ:
-هيفرق معاك؟
أجابها بلهجة شبه حادة:
-أيوه.
حاول أن يضبط إيقاع تنفسه ليخرج صوته هادئًا وهو يتابع بتمهلٍ علها تتخلى عن عنادها الأهوج:
-احنا عايزين نرجع نعيش حياتنا طبيعي ونركز مع أولادنا، مش معقول التشتت اللي هما فيه ده؟ إنتي نسياهم ومركزة مع "أوس"! وفي النهاية معركتك خسرانة معاه و...
قاطعته منفعلة:
-أنا حرة في اللي بأعمله!
نظر لها في يأس قبل أن يرد بعقلانية محذرًا إياها:
-أوكي، بس خليكي فاكرة مش هتوصلي لحاجة بعد كل اللي بتعمليه غير إنك هتخسريني وتضيعي حياتك وولادك
ابتسمت له قائلة عن ثقة عجيبة:
-متقلقش، أنا عاملة حساب كل خطوة، و"أوس" هيجي زاحف ونادم عشان يطلب مني السماح وإني أرحمه.
ردد ساخرًا وهو يبادلها ابتسامة متهكمة:
-إنتي بتكلمي عن ابن عمك؟!
هاجمته مزمجرة:
-أيوه، وهاتشوف!
نهض عن الأريكة ليقترب منها ممددًا ذراعه نحوها وهو ممسكٌ بهاتفه المحمول، وضعه نصب عينيها معلقًا بغموضٍ:
-تمام، بس أعتقد إن ثقتك دي هتغير لما تشوفي البوست ده
انعقد ما بين حاجبيها متسائلة:
-بوست إيه؟
لم يجب عليها وأعطاها هاتفه لتحدق فيه بصدمةٍ ظهرت على عينيها وعلى تعبيرات وجهها المشدودة، صرخت غير مصدقة وقد هبت واقفة:
-مش ممكن، هو والبيئة دي؟!
تأمل ردة فعلها ببرود تام ثم قال بلهجة ساخرة:
-واضح كده إنه مجهودك طار في الهواء، وال love story العظيمة دي هتبقى تريند الفترة الجاية
صاحت فيه بعصبيةٍ وهي تشير بيدها:
-اسكت يا "أكرم"، بلاش تستفزني
سحب هاتفه من بين أصابعها ليقول:
-عيشي براحتك مع انتقامك، أنا نازل.
بدت "رغد" كمن يحترق على موقد ساخن. فتحت هاتفها المحمول باحثة عن ذلك الموقع الذي نشر تلك اللقطات الرومانسية، لم تبذل مجهودًا فقد ضجت عشرات المواقع بأخباره لتزيد من اشتعال غضبها، احتدت نظراتها وتوحشت عيناها مرددة مع نفسها في غيظ مضاعف وهي بالكاد لا تصدق المشاهد العاطفية للزوجين:
-إزاي كده؟ ده إنت أكتر حاجة بتكرهها الصور يا "أوس"!
تأملت صورة أخرى بعينين ضيقتين وهو يتلمس فيها بطن زوجته بحنوٍ أبوي يُناقض شخصيته القديمة لتقول في سخطٍ:
-لأ وكمان مبسوط إنها حامل!
ألقت بهاتفها المحمول ضاربة قبضتها المكورة في راحتها الأخرى تتوعده بحنقٍ:
-ماشي، هاتشوف هاعمل إيه يا "أوس"!
كزت على أسنانها متابعة وقد توقفت عن الدوران حول نفسها في الغرفة بعصبيةٍ زائدة:
-مش هاسيبك تتهنى بحياتك، هاحرمك من فرحتك دي، بس أخلص من أختك، وقريب هتحصلها اللي فرحان بيها!
عادت "رغد" لتمسك بهاتفها المحمول، بحثت عن الإيميل الخاص بذلك الصحفي المأجور الذي تمده بالمعلومات التي تخصها لترسل له نسخة ضوئية من الوثائق التي تثبت تزوير "مهاب الجندي" في إدعاء نسب ابنته "ليان"، بدت ملامحها كأفعى خبيثة تلذذت ببث سمها القاتل في ضحيتها وهي تضغط على زر الإرسال، التوى فمها ببسمة وضيعة محدثة نفسها:
-وريني هتتصرف في ده إزاي؟!
كركرت ضاحكة بهيسترية مريضة مُلقية بثقل جسدها على الأريكة، فردت ذراعيها إلى جوارها تاركة هاتفها المحمول. أخرجت "رغد" تنهيدات عميقة من صدرها وهي تضع ساقها فوق الأخرى لتهزها بعدها بحركة ثابتة، بدت متشوقة لرؤية وجهه بعد انتشار تلك الأخبار الفاضحة وغير مكترثة بالمرة بتبعات تهورها الخطير.
باتت خاصته، هكذا عَهِد لنفسه مهمة إنقاذها من المستنقع الذي تعيش فيه، والذي حتمًا سيقضي عليها يومًا إن لم يؤدي واجبه ويخرجها منه بأقل الخسائر، أدخلها إلى المشفى الخاص بعد التوصيات الجادة من الطبيب بضرورة وجودها به، كان يخشى عليها من إلحاق الأذى بنفسها، خاصة في وجود أم ناقمة ومتسلطة كأمها. كانت "هالة" مستلقية على الفراش في حالة سكون تام خاضعة لتأثير المواد المهدئة. رسغها موصول بإبرة طبية يمتد منها وصلة رفيعة تغزي عرقها بسائلٍ ما. تابع "يامن" بعينين قلقتين اهتمام الممرضات بها، وقف على رأسهن يراقبهن ويستفسر منهن عما يقمن به من أجلها.
انتظر حتى خرجن من الغرفة ليسحب المقعد ويجلس على مقربةٍ من وجهها الشاحب مخرجًا تنهيدة مزعوجة من صدره، ارتفعت عيناه نحو شعرها المخبأ بغطاءٍ بلاستيكي إلا من بعض الخصلات المتمردة التي التصقت بجبينها المتعرق. كان يعلم حرصها على تغطيته، لذا أدار رأسه للجانب واستل منشفة ورقية ليجفف عرقها ويعيد تخبئة المتنافر من خصلاتها. تحرك حدقتاه لعنقها وشردت تتأمل ندوبه الظاهرة. تألم قلبه وغص صدره مع انخفاض نظراته نحو تشوهات ذراعها، وما هي إلا لحظات وغلت دمائه لتخيله للعنف المرعب الذي عاشته مع خسيس ك "منسي"، ردد مع نفسه وقد احتد غضبه:
-حقك هيرجع، وأنا هاجيبهولك منه!
تمنى لو شعرت بحميته لأجلها، وأحست بالثورة الهائجة التي تنتفض للاقتصاص من عدوها، لكنه كان متوقعًا رفضها لتقديم المساعدة لها مهما كانت ظروفها القاسية، بدا الحل الأنسب حاليًا والذي سيلائم الطرفين هو الاختفاء مؤقتًا عن المشهد وتحقيق العدالة على طريقته هو..
انتفض من مكانه مذعورًا فور أن قرأ ما نُشر كسرعة البرق على أغلب المواقع الإخبارية عن معلومات تمسها تحديدًا، تطلع "عدي" إلى زوجته في خوف وتوترٍ، ازدرد ريقه في حلقه الجاف وهو بالكاد يسيطر على انفعالاته التي اضطربت فجأة. لِحظِه السعيد كانت "ليان" شبه غافلة على مقعدها المقابل للمسبح فلم تلاحظ التبدل المريب الذي طرأ على ملامحه. نهض من مكانه ليسير مبتعدًا عنها مسافة كافية، بقيت أنظاره عليها وهو يحاول الاتصال ب "أوس"، فعلى الأغلب لم تصل إليه تلك المستجدات وإلا لكان هاتفه ليطمئن على شقيقته، لم يحد بعينيه عنها وهو يستطرد بخفوتٍ وفي ربكةٍ عظيمة:
-"أوس"، شوفت الكارثة الجديدة!
سأله بصوته الأجش:
-في ايه تاني؟
أجابه على الفور:
-بيتكلموا عن "ليان"!
بدا صوته متصلبًا وهو يأمره:
-مش فاهمك؟ وضح!
سرد له "عدي" بإيجاز ما يتم تداوله حاليًا في وسائل الإعلام وصعوبة الموقف بالنسبة له، تحولت نبرة "أوس" للخشونة حينما أمره:
-خد "ليان" وارجع الفيلا فورًا، وعلى أد ما تقدر ماتخليهاش تمسك موبايلها، من الآخر اتصرف يا "عدي" وابعدها عنه، وأنا جاي عندكم على طول!
رد دون تفكيرٍ:
-تمام.
اتجه عائدًا إليها بعد أن أنهى المكالمة معه، جلس قبالتها وكل عينيه مركزة عليها، بدا حائرًا في كيفية تنفيذ أوامره، هب واقفًا ليتأملها في حذرٍ شديد، تأكد "عدي" من غفوتها، وبحثت عيناه عن هاتفها، لمحه موضوعًا أسفل ذراعها، فرك طرف ذقنه يفكر جديًا في سحبه منها دون أن تعي. لحظات وجلس إلى جوارها متلمسًا بشرتها في رقة، كانت مستسلمة لما يفعله مما شجعه على الاستمرار، داعب خصلات شعرها المتناثرة على جبينها، أبعدها وقد مال برأسه على أذنها ليهمس لها:
-أجيبلك حاجة تشربيها؟ ولا حابة تنزلي البيسين تاني
ردت بعينين مغمضتين وصوتٍ شبه ناعس:
-No (لا)، ماليش مزاج.
منحته فرصة ذهبية حينما رفعت ذراعها لتضعه خلف مؤخرة رأسها، كانت مغمضة لعينيها مما شجعه على المضي قدمًا في خطته غير المعقدة، التقط سريعًا الهاتف ودسه في جيب سرواله القصير متنفسًا الصعداء، مسد على رأسها قائلاً بابتسامة ارتياح:
-أوكي يا "ليوو".
نهض من جوارها ثم اقترب من المسبح، التفت نحوها ليتأكد أنها لا تتابعه، وفي سرعة خاطفة جثا على ركبته ثم ضرب الهاتف في حافة المسبح ليحطمه عن قصدٍ، فحصه سريعًا ليتأكد من تعطله بشكل قطعي، ثم ألقاه في المياه ليعود بعدها إلى مقعده وكأنه لم يفعل شيئًا.
ورغم فضولها الحائر لتبدل تعابيره وتصرفاته بشكلٍ يثير الريبة في النفس إلا أنه لم تمتلك الشجاعة الكافية لسؤاله عما يدور في ذهنه، عادت معه إلى الفيلا وهي متعبة، كانت بحاجة للراحة بعد الساعات الممتعة التي قضتها معه على اليخت، وقبل أن تغفو في فراشها سألها "أوس" بلهجةٍ جافة:
-فين موبايلك يا "تقى"؟
نظرت له بجبين مقتضب وهي تجيبه:
-موجود في شنطتي، إنت عاوزه في حاجة؟
لم يجبها واتجه إلى الأريكة حيث أسندت حقيبة يدها عليها، عبث بمحتوياتها ليخرج الهاتف منه، كان يريد الحصول عليه لمنعها من الولوج لمواقع التواصل الاجتماعية فتعرف بما يدور في الوسط. اعتدلت "تقى" في رقدتها ونظرت له متسائلة:
-في حاجة يا "أوس"؟
أجابها بجفاءٍ أزعجها قليلاً ودون أن يلتفت نحوها:
-لأ عادي
اشرأبت بعنقها لتنظر إلى ما يفعل، لكن سد ظهره الرؤية عليها. استرخت في نومتها وسألته مبتسمة وهي تضع الوسادة خلف ظهرها:
-هي خالتي اتصلت؟
رد عليها بفتورٍ:
-متقلقيش، كلهم كويسين
تنهدت متابعة حديثها في ارتياحٍ:
-طب الحمدلله، مقالوش هيرجعوا إمتى؟
وضع "أوس" الهاتف في جيب بنطاله بعد أن أغلقه نهائيًا، ثم استدار نحوها ليرد بجديةٍ:
-وقت ما هيوصلوا هاعرفك.
-في إيه؟ حاساك متغير و...
قاطعها بنبرته الجافة وكأنه يأمرها:
-حبيبتي، شوية مشاكل في الشغل، حاولي ترتاحي شوية.
ارتخت عيناها متسائلة:
-إنت خارج؟
-أيوه، رايح ل "عدي"
استندت بكفيها لتنهض من رقدتها قائلة:
-طب استناني هاجي معاك و..
قاطعها آمرًا ومشيرًا بسبابته وقد ضاقت حدقتاه بشكل مبالغ فيه:
-"تقى" خليكي هنا!
أحست من طريقته الحادة نسبيًا بوجود خطب ما، وأكد لها صدق حدسها تعبيراته المشدودة وتصرفاته الغامضة وغير المفهومة. وقبل أن تستدرجه مجددًا في الحديث تركها وانصرف، تحركت نظراتها معه متمتمة مع نفسها:
-هو إيه اللي بيحصل بالظبط؟ وكان عاوز إيه من موبايلي؟
شعرت بنغزة صغيرة تؤلمها في جانبها فاستلقت على الفراش لتريح جسدها المنهك من مجهود اليوم الزائد، تركت التفكير جانبًا وأغمضت عينيها في تعبٍ لتستسلم سريعًا لإحساس النوم الدافئ الذي غزا أوصالها.
تدلى فكها للأسفل في صدمة مدهوشة وهي تحدق في هاتفها الذي اتخذ من المسبح مكانًا له، وضعت يديها أعلى منتصف خصرها محاولة عصر ذهنها لتتذكر كيف حدث هذا وانفلت من بين أناملها ليسقط بالأسفل. أعاده إليها زوجها الذي قفز فيه ليخرجه. نظرت إليه تتأمل الأضرار التي لحقت به. وضع "عدي" يده على كتفها قائلاً في نبرة مواسية:
-معلش يا "ليوو"، هاجيبلك واحد غيره.
ردت في عدم تصديقٍ وهي تقلبه بين أصابعها:
-طب إزاي ده حصل؟ أنا متأكدة إنه كان معايا!
أوضح ببساطةٍ:
-جايز مخدتيش بالك.
ردت بإصرارٍ:
-لأ في حاجة غلط!
ثم عبثت بخصلات شعرها المتنافرة زافرة مطولاً في ضيقٍ حائر. ضم زوجها شفتيه مدعيًا البراءة، وراقبها عن قرب وهو يبذل مجهودًا هائلاً ليبدو طبيعيًا أمامها، ربت على ظهرها برفقٍ مُوعِدًا إياها:
-عمومًا احنا بالليل ننزل نشتري أحدث موديل، ولو حابة نوديه يتصلح ه...
قاطعته "ليان" بفتور يائس:
-معتقدتش إنه ينفع
رد عليها:
-لو على الصور والحاجة بتاعتك فسهل ترجعيها، وبعدين كويس إنه حصله كده، أهي فرصة نركز مع بعض يا "ليوو"؟
مازحته بابتسامة متهكمة:
-تلاقيك إنت اللي عملت كده!
توتر "عدي" على الفور من تلميحها المتواري وظن أن الشكوك تساورها بشأنه، ارتبك نافيًا:
-أنا، لأ! استحالة طبعًا! مش للدرجادي!
استغربت من ردة فعله المبالغة قليلاً فعلقت عليه:
-أنا بأهزر على فكرة، ليه خدت الموضوع جد؟
ابتلع ريقه وأجابها مراوغًا:
-هه، عادي.. عادي، بأقولك إيه أنا واقع من الجوع، تعالي نروح المطعم ونطلب أي حاجة.
ردت على مضضٍ:
-أوكي
أخرج تنهيدة ارتياحٍ من صدره لتجاوزه ذلك الأمر بسلامٍ، ثم سار معها بعيدًا عن المسبح وهو يدعو الله أن يأتي رفيقه لنجدته قبل فوات الأوان.
أسلمه زمام الأمور ليتولى بنفسه التحقيق في تلك المسألة الحرجة التي باتت تشكل تهديدًا قويًا على وضعها النفسي، فلو عرفت –ولو حتى مصادفة- بما تتناقله الأخبار عنها لانهارت من جديد وهي بالكاد تلملم شتات نفسها بعد تعافيها من أزمة إجهاضها، أمر "أوس" رفيقه بالتكتم التام ريثما يصل للجاني بالرغم من إحساسه شبه اليقيني بأن تلك الأفعى تقف وراء ذلك، فمن غيرها يسعى لتدمير أسرته بتلك الطريقة السافرة؟ وعده "عدي" بلعب دور الزوج المهتم بقضاء عطلة مميزة مع زوجته حتى لا تساورها الشكوك فينكشف كل شيء، وسايره "أوس" في ذلك وأصر على أن تخرج العائلتين معًا لقضاء الأمسية بالتجول في أحد المولات التجارية الشهيرة يصحبهم الحراسة الخاصة.
تأبطت "تقى" ذراع زوجها وسارت بتؤدةٍ وهي تسأله:
-هو إنت خدت الموبايل ليه؟
أجابها متصنعًا الابتسام وكأنه يحفظ الرد عن ظهر قلب:
-فيه مشكلة في الاتصال فبعته الصيانة.
هزت رأسها دون تعقيبٍ ملتفتة للجانب لتتأمل صغيرتها النائمة في عربة الأطفال التي تدفعها "ماريا"، أدارت رأسها في الجهة الأخرى لتنظر ل "ليان" وهي تبادل "عدي" ضحكات ناعمة، التهت بعد ذلك بتمرير نظراتها على واجهات المحال المختلفة. في تلك الأثناء تباطأت خطوات "ليان" إلى حد ما بعد أن أبصرت مصادفة وجهًا بدا بالنسبة لها مألوفًا، كان ذلك الشخص جالسًا على أحد المطاعم يلتهم ما بصحنه بشراهةٍ عجيبة، اعتصرت ذهنها لتتذكر أين رأته من قبل، اصفر وجهها نوعًا ما من حجم المجهود الذي تبذله لتنشيط خلايا عقلها، وفجأة توقفت عن السير ليتصلب جسدها بالكامل في مكانه، لقد عرفته؛ إنه الرجل الذي انحنى عليها ليتفقدها بعد الاعتداء الوحشي عليها قبل أن يجري مكالمة غامضة لأحدهم، لقد شاءت الأقدار أن تلتقي به مصادفة لتقتص منه، هتفت عاليًا كمن أصيب بصاعقة وهي تشير بسبابتها نحوه وبيدها الأخرى قبضت على ذراع زوجها لتستوقفه جبرًا:
-هو ده، أنا متأكدة!
التفت "عدي" نحوها ليسألها في اندهاش مبرر قبل أن يعاود التحديق في الشخص الذي أشارت إليه:
-مين ده؟
صرخت فيه بأنفاسٍ أقرب للهاث وحديثها بالكاد يكون مفهومًا:
-كان موجود معاهم.. هو.. كان معاه تليفون.. أنا متأكدة..
اقترب "أوس" منها ليسألها مباشرة وملامحه تشير إلى جدية اهتمامه:
-عمل فيكي إيه؟
تركزت نظراتها المتوترة والممتزجة بحنقٍ مفهومٍ وهي تجيبه بكلمات ذات مغزى خطير:
-يوم الحادثة، هو يا "أوس"!
لم يكن بحاجة للمزيد من التفسيرات ليربط الأمور ببعضها، هي تقصد يوم تعرضها للحادث المتعمد على الطريق وضربها من قبل النسوة لإجهاضها، على الفور فرقع بأصابعه لأفراد حراسته السائرين خلفه يأمرهم بخشونة:
-هاتوا الكلب اللي هناك ده
وقف "عدي" حائرًا يجوب بعينين تائهتين وجهي "أوس" و"زوجته". تساءل في ضيقٍ:
-هو مين اللي بتكلموا عنه؟ عمل فيكي إيه يا "ليان"؟
أجابه "أوس" بنبرة قاتمة:
-طرف الخيط يا "عدي"!
التقت نظرات الرجل مع عيني "ليان" التي كانت مسلطة عليه في غضبٍ محموم، عرفها فورًا فانتفض مذعورًا من مكانه، خاصة حينما لمح من معها، قفز قلبه في قدميه مع اقتراب مفتولي العضلات منه، هرب ركضًا من طاولته دافعًا النادل عن طريقه ليسقط الأخير من قوة الارتطام وتتهاوى الصحون التي يحملها على الأرضية الرخامية وتتحطم بدويٍ مزعجٍ ولافت للأنظار. ركض أفراد الحراسة خلفه ليمسكوا به، تبعهم "عدي" الذي رفض الوقوف والمشاهدة ولحق به "أوس" بعد أن أمر زوجته بلهجته القاسية:
-ارجعوا الفيلا مع الحراسة حالاً.
لم يكن أمامها سوى طاعته قسرًا، مالت نحو "حياة" لتحملها من عربتها بعد أن تنحت الخادمة للجانب، ثم احتضنتها بقوةٍ وكأنها تحميها، التفتت بعدها إلى "ليان" لتقول لها بصوتها المهتز:
-يالا بسرعة
كانت الأخيرة متسمرة في مكانها كالأصنام، غير مصغية لها، عيناها الشرستان تبحثان عن شبح ذلك الرجل الذي اختفى وسط الزحام. اضطرت "تقى" أن تدفعها برفقٍ من جانب كتفها لتجبرها على السير معها، وفي أقل من لحظاتٍ كن في طريقهن للخارج بصحبة من تبقى من أفراد الحراسة.
تعثر الرجل لأكثر من مرة وارتطم بأجساد عديدة اعترضت طريق هروبه لتبطئ من خطواته الفارة، كان يلعن حظه العثر الذي أتى به إلى ذلك المكان ليتقابل مع أشد الأشخاص شراسة وانتقامًا، وكأن القدر قد ساقه إليه، بالطبع لن يتهاون رب عائلة "الجندي" في الرد بعدائية على فعلته الشنيعة مع أخته. هبط على الدرجات الرخامية وثوبًا إلى أن وصل للجراج الموجود في الطابق السفلي. أخرج مفتاح سيارته من جيبه وركض بين السيارات باحثًا عن خاصته، ولتوتره الشديد شُل تفكيره ونسي مؤقتًا أين صفها، توقف لثانية في مكانه يجوب بعينين مرتاعتين المركبات المتشابهة وأنفاسه المهتاجة تعتصر رئتيه.
لمح الحراسة تركض نحوه فتخلى عن فكرة اللجوء لسيارته من أجل الفرار، عاد ليركض بأقصى ما يستطيع وقد استنزفت قواه وثقلت حركة ساقيه لضخامة جسده ولعدم ممارسته للرياضة. بحث عن مهربٍ، عن مخرجٍ للطوارئ فوجد أحدهم على يساره، ظن أنه سينجو ببدنه من ذاك الذي يخشاه، وقبل أن يدرك الباب المعدني طاله أحد أفراد الحراسة ممن كان الأسرع في العَدوْ، مد قدمه ليعرقله فتعثر الرجل وانكب على وجهه، استدار الرجل كالملسوع وقد أدرك عن ظهر قلب أنها نهايته مع اقتراب طيف أكثر من يهابه...!