رواية أبناء هارون للكاتبة شروق حسن الفصل السادس عشر
استيقظت ذِكرى من نومها وهي تتنفس بعنف، حدقتاها تدوران في المكان من حولها وهي ترتعد من الهلع، دخل عليها يعقوب الغرفة مُسرعًا بعدما استمع إلى صرختها، جاورها على الفراش وربت على ظهرها لتهدأتها ثم تسائل بحذر:
مالِك يا ذِكرى ؟
نظرت إليه ذِكرى ولا تعلم بما تُجيبه، هي من الأساس تشعر بأنها غارقة في صحراء شديدة الحرارة وما من مُنقذٍ، وبرغم كثرة الأشخاص من حولها، إلا أنها مازالت تشعر بأنها وحيدة، ابتلعت ريقها بصعوبة ومن ثَم ردت عليه بصوتٍ مبحوح وعينين فزعتين:
م. مفيش. دا. دا كابوس.
استدار مُلتقطًا كوب المياه ومد يده به إليها، لترتشف منه بضعة قطرات قليلة قبل أن تتنهد براحة، تنفست الصعداء وهي تنظر للمكان من حولها بتعجب، حتى استقرت أنظارها عليه وتسائلت باستغراب:
أنا جيت هنا إمتى؟
تحولت نظراته للبرائة وهو يهز كتفيه بجهل، قبل أن يُبرر بقوله: عِلمي علمك، أنا دخلت أشرب ولما رجعت البلكونة ملقتكيش فيها، أنتِ بتطيري؟
طالعته بجهلٍ واستنكار لثوانٍ معدودة، لوهلة صدقت أكذوبته وظنت بأنها تطير بالفعل، لكن كل تفكيرها ذهب هباءًا عندما تحولت نظراته البريئة إلى أخرى ماكرة، جعلتها تُصيح به بصدمة وهي تسأله: أنت شيلتني؟
رد عليها بتنهيدة ثقيلة مُتصنعًا المسكنة: لقيتك يا حبة عيني نمتي مكانك ومش دريانة باللي حواليكِ؛ فدخلتك هنا، لكن والله ما عملت حاجة كدا ولا كدا، أنا شيلتك باحترام وقومت هبدك عالسرير بس الحمد لله مقومتيش.
رمشت بأهدابها عدة مرات، تُحاول استيعاب حديثه الأبله هذا، حدجته ساخطة وهي تسأله بعدم تصديق: أنت إيه اللي حصلك؟ أنت كنت عاقل عن كدا.
التوى فمه باستنكار وهو يهب من مكانه مُبتعدًا عنها: الحق عليا كنت عايز أنسيكِ خوفك.
ضحكت عليه عاليًا ومن ثَم اتبعته إلى الخارج وهي تقول من وسط ضحكاتها: طيب خلاص استنى مش قصدي حاجة والله.
وجدته يُكمل سيره إلى شُرفته العزيزة، دخلت خلفه فوجدت نسمات الهواء العليلة تلفح صفحات وجهها الرقيقة، أغمضت عيناها باستمتاع لتلك الأجواء الأكثر من رائعة، خاصة عندما ارتفع صوت غناء أم كلثوم الذي امتزج بحلكة السماء الداكنة، والتي يُزينها القمر المُنير وبعثرة النجوم من حوله.
اقتربت أكثر من الطاولة الموضوع في الجانب، فوجدت الكثير من الطعام الخاص بالعرائس وهو يمد يده لها قائلًا بدعوة صريحة وابتسامة هادئة: تعالي يلا عشان تاكلي.
وكأن ابتسامته عدوى وانتقلت لها، فلم تدري أنها ابتسمت هي الأخرى واقتربت لتجلس بجانبه، كانت الطاولة تحتوي على زوجين من الحمام والمعكرونة المُختلطة بصوص البشاميل وقطع اللحم المفروم، وكوبين من عصير المانجو، نظرت إليه بضحكة مُتعجبة، فبرر لها بقلة حيلة:.
أمي اللي صممت، بما إننا عرسان جداد بقى وكدا.
سرت حُمرة طفيفة على وجهها، وتمتمت بخفوت وهي تنظر للطعام باشتهاء وخوفٍ في ذاتِ الوقت: بس. بس لو كَلت كتير هتخن وشكلي هيبقى مش...
قاطعها وهو يدس ملعقة من الطعام داخل جوفها: شكلك هيبقى زي القمر.
اتسعت حدقتاها بصدمة مما فعل، بينما هو نظر إليها بحزمٍ أثناء قوله الجاد للغاية: أنا معنديش دلع في الأكل، هتاكلي على الأقل 3 مرات في اليوم، حوار إنك هتتخني والكلام الفاضي دا مش بيدخل دماغي بتعريفة.
كانت قد ابتلعت ما بفمها، فنظرت إليه بضجرٍ وقد بدأ الضيق يتسلل إلى وجهها: بس أنا فعلًا بتخن بسرعة وشكلي مش بيبقى حِلو.
وكأنه لم يستمع إلى حديثها من الأساس، بل دس ملعقة أخرى من الطعام وهو يقول بابتسامة ودودة: طب كُل يا حِلو.
غزا الحزن مقلتاها بوضوح، فعاد هو ليتسائل بجدية: أنتِ مين قالك إن شكلك مش بيبقى حِلو؟
لم تكن تريد أن تصل إلى تلك النقطة من التفكير، أُرغمت على تذكر ماضيها وما حدث منذ عدة أشهر عندما خرجت هي وابن عمها فادي في نزهة مع أصدقائهم، وعِند عودتهم بدا الضيق واضحًا على وجهه، حينها كانت مُتعجبة من حالته، لكن استغرابها قد زاد عندما أردف بانفعال وهو ينظر إلى جسدها بتقزز:
حاولي تخسي شوية يا ذكرى، أنتِ مش شايفة نفسك في الحفلة كنتِ عاملة إزاي؟
خرجت من شرودها المُؤقت على صوته يُناديها، لم تشعر بالدموع التي تسللت إلى حدقتاها، دُهِش من ردة فعلها وطالعها بقلق حينما لمح دموعها، فترك ما بيده من طعام ونظف يداه في المحرمة الورقية، ثم اقترب منها مُتسائلًا بقلق وهو يُربت على رأسها بحنو: مالك يا ذكرى؟
أنا مش عايزة آكل.
نطقت بها ببكاءٍ لم تستطيع التحكم به، بكاء مزق نياط فؤاده وجعله يضمها إليه برقة شديدة وكأنه يخشى جرحها، استندت برأسها على صدره مُغمضة العينين، وصول عقلها لتلك النقطة من الذكريات يُؤلمها وبشدة، لكن ما لا تعلمه بأنه هُنا لترميم تلك الخدوش، وبحنان تحدث يعقوب:
طيب ممكن تاكلي المرة دي بس عشان عايز أتكلم معاكِ كلمتين بعد ما تخلصي أكل؟
ابتعدت عنه ونظرت إليه بتردد في البداية، لكن أمام نظراته الحنونة لم تجد مفرًا إلا للموافقة، اتسعت ابتسامته وبادلته هي الأخرى الابتسام، ومن ثَم عاد يُطعمها بنفسه من جديد.
الخوف، الندم، الكُره، الحب، كلها مشاعر مُتفاوتة شعرت بها ياسمين أثناء نظرها لجسد حسن الهامد، ارتمت بجانبه على الأرض السيراميكية الصلبة تُطالعه ببكاء، ارتعش جسدها برعب حينما تقدمت منه وربتت على وجهه وهي تُناديه بصدمة:.
ح. حسن! حسن قوم. أنا. أنا أسفة.
كانت تنظر إليه بتيهة، دموعها تهبط بصمتٍ وعقلها لا يستطيع استيعاب ما فعلت، انحنت أمام وجهه تهزه برجاءٍ وهي تبكي بعنف: حسن قوم. قوم علشان خاطري. أنا. أنا...
انتفضت من مكانها عندما لمحت شاشة هاتفه التي تُضيء، ابتعدت إلى بقدميها ناظرة برعبٍ للهاتف، وكأنه وحش سيهجم عليها ويلتهمها دون رحمة، كان كل إنش بجسدها يرتعش، تنظر إلى حسن تارةً بندم وتارةً أخرى بتشفي، هو مَن أوصلها إلى تلك الدرجة، هو مَن زرع بذرة الكُره داخل فؤادها، ليست نادمة على ما فعلت، وإنما خائفة فقط!
عاد هاتفه يُضيء مرة أخرى برقمٍ مجهول، أمسكته بخوفٍ ونظرت إليه بشرودٍ لعدة ثوانٍ، قبل أن تحسم أمرها وتضغط على زر الإجابة، وما إن وضعت الهاتف على أذنها، حتى استمعت إلى صوت تعرفه عن ظهر قلب يصرخ باهتياج:
أختي فين يا حسن؟ قتلتها؟ وأقسم بالله لو مسيت شعرة واحدة منها هقتلك، سامع. هقتلك يا حسن.
وبالطبع صاحبة تلك الكلمات هي تسنيم، التي وصلتها رسالة ورقية كان محتواها بأن شقيقتها قد قُتلت على يدِ حسن طارق عاشور، فقررت المُجازفة وأخذ هاتف بدير والإتصال على رقمه.
انفجرت ياسمين في البكاء فور أن تعرفت على صاحبة الصوت، لقد ظنتها قد قُتلت، لكن ها هي تستمع إلى صوتها وهي تصرخ ب حسن من أجلها، شقت الابتسامة وجهها وتحدثت من وسط نحيبها:
تسنيم!
توقفت تسنيم عن الصراخ وصمتت، شهقت بعدم تصديق عندما أتاه صوت ياسمين تتسائل بصدمة من وسط دموعها: أنتِ. أنتِ عايشة؟
اعتدلت تسنيم مُنتفضة في مكانها تحت أنظار بدير الذي يُراقبها بحذر، لم تستطيع التحدث من وسط بكاؤها وصوت شهقاتها التي ارتفعت بنحيب، فالتقط منها الهاتف وتحدث بهدوءٍ وهو يُسدد ل تسنيم نظرات مُطمئنة:
ألو يا آنسة ياسمين؟
فين. فين تسنيم؟ هي كويسة؟ أنت مين؟
كل تلك التساؤلات دارت بعقلها ونطق بها لسانها، ليُجيبها بنبرة ودودة بقوله: هي كويسة وبخير متقلقيش، أنتِ فين هاجي آخدك وهوصلك ليها.
وكأنها وعت للوضع الذي به، فنظرت ل حسن وقالت برعب: أنا قتلته.
قتلتي مين؟
ذلك السؤال جعل حواس تسنيم تنتبه، فتوقفت على ركبتيها على فراش المشفى وجعلته يفتح المُكبر لتستمع لما يُقال، لتُصدم عندما تمتمت ياسمين بتيهة: حسن. قتلته.
كتمت تسنيم شهقتها بكفها وشعرت بالدوار يُداهمها، فمدت يدها لتُمسك بذراع بدير حتى لا تقع، طالعها الأخير بقلق قبل أن يقول بنبرة مُتعجلة: طيب بصي قوليلي أنتِ فين وأنا هاجي بنفسي أخدك.
أملت عليه ياسمين العنوان وهو أنصت لها، وقبل أن يُغلق الهاتف أردف باستعجال: طيب اخرجي بسرعة من الشقة عندك واستنيني عند الكوبري، وأنا جايلك حالًا.
أغلق الهاتف واستدار يُساند تسنيم التي أصبحت الرؤية مشوشة بالنسبة لها، وضعها على الفراش فأمسكت بكفه تقول بصوتٍ باكٍ: بالله عليك هاتلي أختي.
سحب كفه منها وتحدث بحنوٍ وهو يتحاشى النظر إليها عن كُثب: متقلقيش أنا هجيبها لحد عندك، المهم أنتِ ارتاحي عشان خاطري.
طالعته بامتنان، فسدد إليها ابتسامة حنونة قبل أن ينطلق للخارج مُسرعًا لجلب ياسمين، أو ربما لإنقاذها!
عاد إلياس من حيث أتى، يشعر بأن العالم بأكمله يقبع فوق كاهله، لقد ذهب لتقديم ملف عمله لكن تم تأجيل الميعاد المُحدد من قِبل رئيس الشركة، قابل في طريقه بادر الواجم هو الآخر، يبدو أن حال الجميع مُتشابه إلى حد التناسخ! ابتسم ساخرًا عندما وصل تفكيره إلى تلك النقطة، وبعدها قادته قدماه إلى حيث الآخر.
قاطع إلياس طريق بادر وتحدث بلُطف عن ما سبق: تعالى معايا وأنا هحكيلك كل حاجة.
رفع بادر حاجبيه يُطالعه باستنكار شديد مُغلف بالضيق، ليزفر إلياس باختناق قبل أن يُبرر له: أتمنى تراعي شعوري وقتها ومتبقاش بهيم.
كانت الإجابة على هيئة لكمة أتت له من بادر الذي تحدث بسخط: دي عشان تحترم نفسك وتتكلم معايا بأدب.
تبع حديثه لكمة أخرى صُدِمَ منها إلياس كثيرًا، بينما بادر أردف بلامبالاة: ودي عشان خبيت عليا اللي حصل لأختي.
وكانت ردة فعل إلياس على فعلته؛ هو لكمه بقوة كما فعل، وتحدث بعدها بنبرة مُتشنجة: أما دي بقى فهدية مني ليك ومن غير مناسبة.
وضع بادر يده على وجهه مُسددًا له نظرات نارية كادت أن تحرقه، لم يُبال بها إلياس، وإنما أعطاه الأخرى قبل أن يقول بابتسامة واسعة: ودي عشان أختي بقت من عيلتكم يابو نسب.
وكأن الحديث أصبح باللكمات لا باللسان! وبرغم السخط والضيق القابع فوق صدر كليهما، إلا أن ضحكاتهما قد ارتفعت على التفاهات التي افتعلوها منذ قليل، فعلتهم تلك أعادتهم للماضي عندما كانوا صغارًا، حينما كانوا لا يحملون في قلوبهم ضغينة سوى رد حقوقهم بالضرب والهرولة بعيدًا للهروب.
هز إلياس رأسه بيأس، ثم اتجه إلى بادر وأحاط به من كتفه قائلًا: تعالى نقعد في أي مصيبة وأحكيلك اللي حصل.
سار معه بادر وتحدث مُحذرًا إياه: المهم نقعد في أي داهية بعيد عن الدوشة وتحكيلي كل اللي حصل من غير ما تسيب حاجة.
لو سمحت يا مصعب باشا متحسسنيش بالذنب أكتر من كدا!
طالعها مصعب باشمئزاز أثناء جلوسه أمامها على طاولة المشفى، يرتص أمامها الكثير والكثير من أنواع الطعام بمختلف أنواعه، وهي تأكل بنهم وتتلذذ، لكن جبيرة يدها اليمنى هي ما تعيق حركتها وراحتها.
صعدت ضحكة ساخرة من بين شفتيه عقب استماعه لحديثها، ليستند هو بذقنه على كفه وهو يقول بتهكم: لأ والبعيدة بتحس كفالله الشر؟
توقفت عن مضغ الطعام وطالعته بصمتٍ لعدة ثوان، ظنها قد حزنت في البداية، لكن لوى وجهه بسخط حينما تحدثت بعد تفكير: أنت عارف وقاحتك دي بتفكرني بمين؟ ب نيرمين بنت عمتي، كانت قليلة الذوق زيك كدا وبتفقعلي مرارتي.
وجدته يقترب منها بجسده، طالعته بريبة وهي تستمع لحديثه الذي تفوه بهم بابتسامة صفراء: تصدقي وتؤمني بالله!
لا إله إلا الله.
تمتمت بها، لتجده يُكمِل حديثه قائلًا باستنكار: أنا محدش فاقعلي مرارتي غير أنتِ.
وضعت الطعام داخل فمها ومضغته بهدوء قائلة: عادي دي شُغلتي.
ورغمًا عنه انفلتت ضحكة صغيرة منه وهو يهز رأسه بيأس على أفعالها التي تكاد أن تُصيبه بالشلل، وبالرغم من ذلك إلا أنها أصبحت تروقه وبشدة، كم شعر بالإطمئنان حينما استعادت عافيتها، شعر وكأن روحه المسلوبة قد رُدت إليه من جديد، تلك الحمقاء نجحت في أسره بغبائها، ورغمًا عنه وقع بها.
لاحظت نظراته لها فاحمرت وجنتيها خجلًا، لذلك همست بصوتٍ مُتلعثم وهي تُشير للطعام: كُل يا مصعب باشا بدل ما أخزقلك عينيك.
وكأن المصائب لا تأتي فُرادى كما يُقال، وذلك حينما دخل رؤوف إلى غرفة جنة التي يأست من الجميع وقررت البقاء بمُفردها، لكن هو لم يتركها وشأنها، وإنما وقف قبالتها مُرتديًا ثيابًا خاصة بالمناسبات وتحدث بابتسامة هادئة مُحاولًا كسب عطفها:
متزعليش مني يا حبيبتي، أنا كلامي كله جِه في وقت عصبية وكنت مضغوط.
طالعته بأعين مُندهشة وبعدم تصديق، تحركت من مضجعها وهبطت من على الفراش حتى وقفت قبالته وإمارات الذهول مازالت مُرتسمة على وجهها ببراعة، ثم تحدثت بحذر: مزعلش؟ لأ بجد واللهِ؟
حاول الحفاظ على ابتسامته وعدم إظهار ضجره وتحدث بتبرير: أنا عملت بأصلي وجيت أعتذر منك عشان متقوليش عليا ظالمك أنتِ أو أي حد من إخواتك.
صعدت ضحكة ساخرة من بين شفتيها ومعالم وجهها مُستنكرة وبقوة، فيما أكمل هو حديثه بهدوء: المهم كنت جايلك عشان حاجة مهمة.
شعرت بالريبة خلف حديثه، هو بالأساس لا يأتي للإعتذار مهما كلفه الأمر، وفعلته تلك أدخلت الخوف إلى فؤادها، لذلك تسائلت وهي تُضيق حدقتاها بحذر: حاجة إيه؟
طالعها بصمت لعدة ثوانٍ عله يستشف ردة فعلها على حديثه الذي هتف به: متقدملك عريس ابن ناس أكابر أوي ومعاه فلوس تعيشك ملكة العمر كله.
كانت ملامح وجهها جامدة وصلبة، تُطالعه بعينين لمح فيهما الكُره تجاهه، وبالرغم من ذلك تجاهل نظراتها تلك وعاد ليتسائل مُجددًا عندما طال صمتها: ها قولتي إيه؟ أنا بلغته يجي بكرة عشان تقعدوا وتتفقوا سوا، وأنا متأكد إنك لما تشوفيه هت...
قاطعته من استكمال حديثه عندما ردت ببرودٍ وهي تعود للتسطح على فراشها مُجددًا: مش موافقة.
لاحظت وجوم وجهه عقب قرارها، ثبتت أنظارها عليه تُطالعه بثباتٍ ظاهري وخوفٍ مخفي، كانت أنفاسها ثقيلة أثناء انتظارها لحديثه، وكما توقعت تمامًا، وجدته يفرض جبروته عليها بقوله الساخط:
أنا إديته كلمة وهيجي بكرة عشان يشوفك، وبعد كدا لو مرتحتيش ليه ابقي ارفضي.
تمتم بكلماته ثم استدار تاركًا إياها وخرج من الغرفة، وهُنا سمحت لذاتها بالانهيار، تعلم بأنه لن يُمرر تلك الفعلة مرور الكِرام، سيُزوجها للآخر رغمًا عنها إن كان هذا سيتوافق مع مصالحه الشخصية، كتمت شهقاتها بوسادتها حتى لا يصل صوت بكائها للخارج، وكم تود أن تصرخ في تلك الأثناء، أن ترتمي داخل أحضان شقيقها وتشكو له عن قساوة تلك الحياة التي لا تنفك عن أذيتها.
حولت أنظارها جهة قدمها، والتي بدأت بالتورم بشكلٍ ملحوظ، إن لم تُعالج ذلك السُم الذي يسري بين أوردتها ستموت بلا شك، لكنها خائفة، خائفة وبشدة من الخوض والمُجازفة، لكن يجب أن تكون مُستعدة نفسيًا لتلك الحرب التي ستبدأها، لكن الحالة المُسيطرة عليها؛ الحزن، الحزن ولا شيء آخر!
القمر مُنير يأخذ شكل دائري مُتكامل، جميل المظهر وسالب للأنفاس، مثلها تمامًا، هكذا فكَّر بدران الذي يقف في شرفة المشفى ينظر للسماء الحالكة بعينين يظهر فيهما الحزن بوضوح!
عادت ذاكرته لتلك الدقائق التي جلس بها مع ابنة عمه زهراء عندما عرض عليها الزواج بشغف وحب نطقته عيناه وتأهبت من خلاله خلايا جسده، وانتظر على أتم الاستعداد للاستماع إلى ردها، فكان جوابها آتيًا على هيئة سؤال حطم كل آماله:.
هتقبل تتجوزني وأنت عارف إني بحب أخوك؟
كانت رحمة في تلك الأثناء قادمة لجلب المشروب لهم، لكنها توقفت مكانها لتستمتع إلى حديثهم، وكم بغضت غباء شقيقتها في تلك الأثناء، وتحولت معالم وجهها إلى الأسى عندما لاحظت تحول معالم وجه بدران من اللهفة إلى اليأس.
وعلى الناحية الأخرى. تشنجت معالم وجه بدران وهو يُطالعها بترقب، لم يتخيل بأنها ستتفوه بمثل هذا الحديث بكلِ تلك الأنانية أمام وجهه، خاصةً بعد أن عرض عليها الزواج، لاحظت ردة فعله وحزنه البادي، فأخفضت وجهها تتهرب من نظراته وأكملت حديثها بصوتٍ مُرتعش أتى نتيجة كتمها لبكائها:
أنا آسفة.
جامدٌ هو لم يتحرك، لم يتحدث، ولم يجد الكلمات المُناسبة في مثل ذلك الموقف، مرت دقائق لا يعلم أهي كثيرة أم قليلة، كل ما يفعله هو أنه ينظر إليها وهي تبكي بصمت، لا تعلم لِمَ تبكي من الأساس، هل تبكي لزواج يعقوب من أخرى! أم لجرحها للقابع بجانبها؟ وعند تلك النقطة رفعت حدقتاها المُمتلئة بالدموع له، وقد تحدثت باكية بصوتٍ مزَّق نياط قلبه:
هتستحملني لحد ما أنسى؟ هتقدر تفضل جنبي ومتملش؟
لأ.
كانت إجابته مُختصرة وجامدة، قبل أن يهب من مكانه ويبتعد عدة خطواتٍ عنها، لكنه توقف مكانه واستدار قاذفًا حقيبة المُسليات التي أتى بها خصيصًا لها لإسعادها، ثم أردف بصوتٍ بارد: خدي دي كنت جايبها ليكِ والله ما هي راجعة، اطفحيها.
نطق بها تحت نظراتها المصدومة وتركها ورحل، ليُقابل في طريقه رحمة التي كانت تقف خلف زجاج الشُرفة لتستمع لما يُقال، أخرج بدران صوتًا ساخرًا من بين شفتيه قبل أن يقول بضجر:.
ما تيجي تقعدي معانا أحسن يا رحمة!
أصل. أصل أنا...
كادت أن تُبرر له، فقاطعًا ملوحًا بيده أمام وجهها وهو يقول: بلا أصل بلا فصل أنتِ كمان، دا انتوا عيلة تجيب الغم.
قالها قبل أن يرحل من المنزل بأكمله، فانتفضت هي على أثر رزعه للباب بقوة، حل الوجوم على وجه رحمة واتجهت بخطوات مسرعة إليها شقيقتها تصرخ بها بغضب:.
هو أنتِ يا بت هبلة ولا فيه حاجة في دماغك؟ يعني أقولك الواد بيحبك وهو جاي يتقدملك تقومي قايلاله أنا بحب أخوك؟ أنتِ عايزة تنقطيني؟
كانت دموع زهراء تهبط بلا هوادة وهي تحتضن الحقيبة التي قذفها لها، تتذكر حديثه وألمه الذي بان بوضوح، أخفضت وجهها للأسفل تنظر لما ابتاعه لها، وببكاءٍ عنيف تحدثت:
أنا مش عارفة أنا عايزة إيه، حاسة إني تايهة وكل حاجة متفقة ضدي، حتى هو. رمالي الكيس في وشي وقالي تطفحيها!
تشنج وجه رحمة باستنكار وذهبت للجلوس بجانبها ثم تحدثت بغيظ قائلة: دا مش يقولك تطفحيها بس، دا أنتِ تتسمميها.
لم تكن الأخرى تعي بأن رحمة قامت بمهاتفة بدران بعد ذهابه مُباشرةً، ليستمع هو إلى الحديث بأكمله ويعي حيرتها وخوفها، فما كان عليه سوى أن يتنهد بضيق ويذهب لمباشرة عمله عله ينسى ما حدث!
استفاق من شروده على صوت يأتي من بين الأشجار التي يقف أمامها أمام النافذة، ضيق عيناه بتعجب وانتبه لِما يأتي في اتجاهه، لتتسع ابتسامته فجأة عندما رأى هِرة صغيرة تقف على غصنها وتُطالعه ببراءة بعينيها الزرقاوتين، اقترب منه بجسده وهمس لها وكأنها تفهمه:
هربانة من إيه أنتِ كمان يا بسبوسة؟
أطلقت الهِرة مواءًا وكأنها تُجيبه، فمد يده لها قائلًا بنبرة هادئة: طيب تعالي!
وفي اللحظة التي فعلته كانت الهرة تقفز على ذراعه فالتقطها هو بسرعة، كان فروها مزيج من اللون الرمادي والأبيض وعيناه زرقاء تُشبه أمواج البحر، تمسحت بثيابه علها تجد الأمان، فسار بها خارج مكتبه وهو يقول بابتسامة صغيرة:
تعالي معايا نشوف شُغلنا ونطمن على المريض الجديد.
عواصف من البرد تضرب خلايا جسده حينما كان يقف في الحديقة الكبيرة ينفث لفافة تبغه بكل برود، شرد رائف في اللحظة التي ذهب بها ليتنازل عن المحضر الذي قدمه ضد عمه، كم شعر وقتها بالانتشاء لرؤية الذُل مرتسم داخل عيناه، لكن تلك ما كانت سوى البداية فقط، البداية لرد كرامته وحقه المهدور.
شعر بحركة تأتي من خلفه لكنه لم يتزعزع، وإنما ظل واقفًا يُتابع الخُضرة بكلِ شموخ، شعر بأحدهم يلتقط سيجاره منه، نظر ببرود للفاعل، فوجده ابن عمه رأفت الذي أتى للوقوف بجانبه، ثم ارتشف من لفافة تبغه ونفثها على مهل، قبل أن يلتفت له برأسه ويقول بمراوغة: التدخين يُدمر الصحة ويؤدي إلى الوفاة.
يابن الظريفة!
هكذا تمتم رائف كردة فعل طبيعية على ما فعل الآخرة، ليُجيبه رأفت بضيقٍ مُصطنع بعد أن أخذ نفسًا آخر من السيجار: ربنا يسامحك.
التقط رائف سيجاره منه بضجر، ثم تسائل بضيق لوجوده: جاي ليه يا رأفت؟
استدار له رأفت ليقف أمامه، ينظر داخل عيناه بكل قوة وكأنه يُواجهه، ثم تحدث بما جعل رائف يُطالعه بغبطة: عايزك تعرف إني مليش دخل بأي حاجة حصلت بينك وبين أمي أو بينك وبين أبويا، أنت عارف ومتأكد إني كنت ضدهم في كل خطوة بيعملوها ممكن تأذيك.
تهكم رائف بقوله: يمكن ملكش ذنب آه بس أنت في الأول وفي الآخر ابنهم، يعني يوم ما يحصل حاجة هتقف جنبهم وهتبيعني.
هز رأفت رأسه بالنفي وفتح فاهه ليتحدث، لكن قاطعه سؤال رائف الذي امتزج بالقسوة: فاكر لما أمك كسرتلي دراعي عشان اتخانقت معاك؟ طيب فاكر كانت بتقوَّم جدك عليا عشان يقسى عليا إزاي؟ فاكر لما روحت تشكي لأبوك مني وحبسني بسببك في أوضة ضلمة من غير أكل ولا شُرب؟ لو أنت مش فاكر فأنا فاكر كل تفصيلة مرت في حياتي وكل جرح اتجرحته بسببكم.
طالعه رأفت بأعين راجية وهو يقترب منه: لأ منسيتش، بس أنت كمان عارف إنك كنت صاحبي الوحيد، كنت بحبك زي أخويا مش ابن عمي، كنا لسه صغيرين لما روحت أشتكي منك لأمي، طبيعي يحصل بيننا خلافات في العمر دا، بس أنا مكنتش أعرف إن هي هتعمل كدا، ولا كنت أعرف إن أبويا هيعاقبك بالقسوة دي، أنا وقتها فضلت أتحايل عليه وأعيط عشان يسيبك، صدقني أنا مكانش قصدي أزعلك وأوصلك للمرحلة دي، أنا كنت طفل مش أكتر!
ارتسمت ابتسامة ساخرة على ثغر رائف الذي تسائل بتهكم: طيب ودي وكنا عيال صغيرة وهعديها، لكن كلامك ليا قبل ما آجي البلد وشماتتك فيا في التليفون دي كانت إيه؟ طفل بغل ولا أنا اللي فاهم غلط؟
ورغمًا عنه ارتسمت ابتسامة واسعة على ثُغر رأفت الذي أجابه بمشاكسة: كنت بحاول أضايقك وأطلَّع أسوأ ما فيك عشان تيجي.
طالعه رائف بلامبالاة غير مُصدقًا ما يقول، فأكمل رأفت حديثه قائلًا بسخرية: أنت مفكَّر إن الواد اللي بيبعتلك الأخبار هنا بيبعتهالك من نفسه؟ أنا اللي قايله إن أبويا هيبدأ في تنفيذ المشروع عشان يبلغك وتيجي.
احتل الذهول وجهه، فتحدث بصدمة: أنت كنت عارف؟
وأنا اللي مقترح على أبويا المشروع كمان.
يابن الغدارة!
تمتم بها رائف بغيظ قبل أن يلكمه على بغتة، لكمة أدت إلى سقوطه أرضًا وتأوهه بألم، تسطح رأفت بوجهٍ مُتشنج هاتفًا بصوتٍ مكتوم: تصدق يالا إنك متربتش!
طالعه رائف بتحفز مُغلف بالغضب، ليعتدل رأفت ووقف من جديد واقترب منه فجأة، ظن رائف في البداية بأنه سيرد لكمته، لكنه دُهِش عندما وجد رأفت يحتضنه ويهتف باشتياق: وحشتني يا حيوان.
تردد رائف في مُبادلته للعناق، لكنه تذكر كل أيامهم الجميلة معًا بعيدًا عن جبروت والديه، وفي النهاية حسم أمره وعانقه هو الآخر ورد عليه بقوله الوقح: وأنا بكرهك يا حقير.
لحظة المواجهة يجب أن تأتي يومًا لا شك في ذلك، ذهب كُلًا من إلياس وبادر إلى منزل عادل لرؤيته هو و بدور، جلسا على المقاعد بصالون المنزل واضعين قدمًا فوق الأخرى بكل شموخ وكأن المنزل هو منزل أبيهم أو ما شابه، جلس عادل على المقعد المقابل لهم وتحدث بابتسامة مُتوترة:
منورين يا رجالة والله.
رد عليه بادر ببرود: عارفين يا عادل مش محتاج تحلف.
انحنى إلياس يلتقط كوب المياه من على الطاولة وارتشف منه رشفة خلف الأخرى بهدوء، لكنه يشربها بصوتٍ عالٍ استمعت إلى بدور من الخارج، والتي أتت حاملة أكواب العصير لهم، نظر بادر ل إلياس بقرف وكذلك فعل عادل، بينما بدور أخفضت رأسها أرضًا لتُخفي ابتسامتها التي صعدت رغمًا عنها.
ابتعد بادر قليلًا عن مكانه ثم نظر لشقيقته قائلًا بحنو: تعالي اقعدي جنبي يا بدور.
طالعت بدور شقيقها بتأثر، لكن إلياس كان جالسًا على الأريكة بجانب بادر، فابتعد قليلًا هو الآخر وتحدث بابتسامة مُتسعة: آه تعالي اقعدي جنبي يا بدور.
زمجر عادل بغضب وصاح به بحدة وهو يُطالعه بنارية: هي مين دي اللي هتقعد جنبك يا أستاذ؟ ما تحترم نفسك يا جدع أنت!
ورغم ضيق بادر من قول إلياس، إلا أنه نظر جهة عادل وتحدث بغلظة: صوتك ميعلاش يا عادل، ومتخافش. إلياس راجل ويعرف في الأصول كويس أوي.
كانت هناك رسالة مُبطنة وسط حديثه أشعرت إلياس بالحرج، لذلك وقف دون أن يتحدث بكلمة أخرى واتجه إلى مقعد آخر ليجلس عليه، وتحديدًا بجانب عادل!
جلست بدور بجانب أخيها، فأحاط هو كتفها ومال عليها مُقبلًا وجنتها برقة ثم تشدق بمشاكسة: مش ناسي عيد ميلادك ها؟ جيبتلك أحلى هدية علشان خاطر عيونك.
اتسعت ابتسامة بدور على آخرها، لقد ظنت بأنه خاصمها هو الآخر كما فعل يعقوب وحمزة، تسللت الدموع إلى مقلتيها وسارعت باحتضانه بكل قوتها، ثم همست بحب وامتنان: ربنا يخليك ليا وميحرمنيش منك أبدًا.
قلب عادل عيناه بملل من هذا العرض السخيف كما همس لذاته، صعد صوت هاتفه يُنبهه عن اتصال، فاستأذن منهم قائلًا وهو يخرج من الغرفة: عن إذنك يا جماعة هرد على التليفون وهاجي تاني.
وقبل أن يخرج من الغرفة، استمع إلى حديث إلياس المُستفز قائلًا: متجيش تاني يا دولا.
رمى له عادل نظرة نارية استقبلها إلياس ببرود، بينما بدور خرجت من أحضان أخيها الذي قال بابتسامة صغيرة: تعالي وديني لأوضتك بقى عشان أحطلك هديتك فيها، ولما تيجي الساعة 12 ابقي افتحيها.
أومأت له بحماس وذهبت معه حيث غرفتها، وبعدها عادت لتجلس مع إلياس، طالعته بحرج فضحك هو قائلًا: لأ هتعمليلي فيها مكسوفة هسيبك وأمشي.
ردت عليه بتوتر وهي تتحاشى النظر إليه: لأ مش مكسوفة ولا حاجة، بس أنا مش عارفة أتعايش وأتعامل زي الأول.
تحول وجهه إلى الجدية، واعتدل في جلسته مُشبكًا كفيه معًا قبل أن يبدأ حديثه قائلًا: اسمعي يا بدور الكلام اللي هقولهولك دلوقتي كويس وعايزك تركزي في كلمة كلمة فيه.
انتبهت له بكل حواسها، فيما بدأ هو الحديث بقوله الصارم: عادل لو عِرف إنك راجعة البيت دا عشان تاخدي منه الفيديو مش هيسيبك في حالك، عشان كدا حاولي بقدر الإمكان إنه ميقربش منك، أنتِ متعرفيش هو ناويلك على إيه تاني، وأنا بقالي أسبوع مختفي عشان أدوَّر على ناس ثقة يساعدوني في حوار الفيديو دا، ومتقلقيش الفيديو همسحه أنا بإيدي ومحدش هيشوفه نهائي، بس الأهم من دا كله إنك تساعديني.
نظرت إليه بتيهة وهي تسأله باختناق: وأنا هساعدك إزاي؟
حاول أن يكون حديثه ليّن حتى لا يأذيها بكلماته، لذلك تمتم بصوتٍ هاديء ودود: بصي أنتِ اللي عليكِ متخليهوش يقرب منك بس.
بس دا حرام، هو جوزي.
بررت له، فمسح على وجهه بضيق هامسًا لها بانفعال: وجوزك دا راجل زبالة ديوث، اللي يصور مراته وهي معاه في أوضة نومه ويهددها يبقى مش راجل، أنتِ إيه اللي يضمنك إنه مش هيسجلك تاني؟ بدور فوقي أنتِ مكنتيش هتطلقي علشان خناقة عادية، أنتِ كمان هتتفضحي وربنا ميرضاش بالظلم أبدًا.
تشكلت الدموع داخل حدقتاها وتملك اليأس منها، فتحدث بما جعل الحُمرة تغزو وجهها: أنا دلوقتي بنصحك علشان أنتِ زي أختي، لكن بعد ما تطلقي هبقى بنصحك تحت مُسمى تاني خالص، وهو إنك هتبقي مراتي.
طالعته بنظراتٍ مدهوشة رغم الخجل المُسيطر عليها، وبصوتٍ مليء بالضيق حذرته: لو سمحت يا إلياس مينفعش الكلام اللي أنت بتقوله دا، برغم كل اللي حصل متنساش إني واحدة متجوزة.
زفر إلياس بسخط، وهي أبعدت نظراتها عنه، برغم ذلك الشعور الذي داعب معدتها فور نطقه بتصريحه، شعرت بالسعادة لا تُنكر، لكنها شعرت بالضيق كذلك لأنها وبرغم كل تلك الخلافات مازالت متزوجة.
خرج إليهم بادر، فاتجه إلى شقيقته ليحتضنها مُجددًا بحب وهو يقول: هجيلك تاني، خلي بالك من نفسك وإحنا في أقرب وقت هنحللك مشكلتك.
ابتسمت له بامتنان، وبعدها غادر هو و إلياس الذي رمى إليها نظرة مُعاتبة قبل أن يرحل كُليًا!
وبعد خروجهم، استدار بادر ل إلياس وسأله بلهفة: أنت مُتأكد إن صاحبك اللي رن على عادل وإحنا قاعدين هيعرف يهكر حسابه؟
أن تجلسا معًا ويكون القمر هو جليسكما لهو أمر غاية في الروعة، خاصةً عندما تُقرر نسمات الهواء المُشاركة في تلك الجلسة الودودة.
جلس يعقوب وبجانبه أجلس ذكرى وظلا صامتان لبضعة دقائق، لم تكن ذكرى تعي بأن أنظار يعقوب مُثبتة عليها، فتحدثت قائلة بابتسامة هادئة وهي تنظر للأعلى: القمر شكله حلو أوي.
أكد على حديثها وهو يتمعن النظر في وجهها أكثر: فعلًا.
والنجوم أجمل وهي حواليه.
وهُنا استقرت أنظاره على لؤلؤتاها وقال: زي عينيكِ.
قطبت جبينها بتعجب وأخفضت رأسها تنظر له عن كُثب، فوجدته لا ينظر لشيء سواها، هل كان يقصدها هي أم أنها تتوهم الحديث!
حمحمت بحرج عندما أطالت النظر له هي الأخرى، وعلى بغتة وجدته يجذبها إليه جاعلًا جسدها مُسطحًا على الأرض ورأسها تستقر على قدمه، حاولت الإعتدال وهي تُصيح به بذهول: استنى بتعمل إيه يا يعقوب؟
ثبتها مكانها ودس أصابعه بين خصلاتها وقال: خليكِ كدا أحسن، واحكيلي ليه مش بتاكلي؟
همد جسدها وتوقفت عن المقاومة، لتمط شفتيها بعدم رضا وقالت: مش عايزة أتكلم في الموضوع دا.
أصر عليها بقوله: وأنا عايز أسمع اللي مضايقك.
زفرت زفرة حادة أتت نتيجة لضيقها وعدم رغبتها للتطرق في مثل تلك الأمور، أغمضت عيناها بتأثر عندما داعبت أصابعه خصلاتها، ولكم شعرت بالراحة تتسلل إليها في تلك الأثناء، قررت البوح عن جزء مما يُضايقها لكن بطريقتها الخاصة، لذلك تشدقت بضيقٍ:.
واحدة صاحبتي قالتلي إني لما بتخن شكلي بيبقى وحش وبتتكسف تخرج معايا قدام صحابها.
ارتسمت ابتسامة ساخرة على وجهها وهي تُكمل بصوتٍ غلفه الحزن: مسكتني من دراعي اللي بيوجعني واستغلت إني معنديش صحاب.
مد أصابعه يرفع وجهه لها ليجبرها على رفع أنظارها إليه، فوجدته يقول بنبرة حاسمة: دراعك اللي يوجعك؛ اقطعيه.
طالعته باستغرابٍ لحديثه، فوضح لها مقصده بقوله الرزين: إحنا كلنا بشر ومخلوقين من طينة واحدة، حوار إني أتكبر أو أشوف نفسي على حد أنا عندي إعتقاد إني أحسن منه، فأنا كدا متربتش.
أنت مش فاهمني...
قاطعها مستطردًا حديثه: لأ أنا فاهمك، أنتِ عايزة تقوليلي إنك بإيدك تغيري من نفسك، لكن أنتِ مش مُلزمة تغيري من نفسك علشان حد، اللي بيحب حد بيحبه بعيوبه قبل مُميزاته، بشوف الوِحش قبل الحلو، وأنتِ بأمانة ربنا كُلك حِلو يا حِلو.
لم تستطع منع بسمتها من الظهور، فأخفت وجهها بكفيها حينما استمعت إلى صوت ضحكاته الذي ارتفع عاليًا، أرادت الإعتدال فمنعها بقوله الودود: خليكِ.
ثبتت في مكانها ولم تتحرك لثانية أخرى، في كل مرة كانوا يستمعون إلى أغنية قديمة الطراز، لكن تلك المرة صدح صوت ابتهال أحد الشيوخ بصوتٍ سالبٍ للعقول، جعلهم يُنصتون إليه رغمًا عنهم.
وهُنا شردت ذكرى، أتلك إشارة لبدأ حياة جديدة مع يعقوب؟ لا تُنكِر إنجذابها الشديد له، هي لم تحبه وهي تعلم ذلك، لكن يكفي ذلك الشعور بالأمان الذي يجتاحها عِند وجوده، ولذلك لم تمنع ذاتها من السؤال، فرفعت رأسها له تسأله على بغتة:.
ليه حسيت إنك مُنجذب ليا من قبل ما دا كله يحصل؟ ليه كنت عايز تتجوزني؟
قد يظهر للجميع بأنه سؤال سخيف، لكن ردة فعله كانت مختلفة، وذلك حينما ابتسم لها وهو يقول:
كنتِ زي ذنب مش هيتحول لحسنة غير لما أتجوزك.
وكأي فتاة مصرية، تركت بقية الحديث وتسائلت بسخط: أنا ذنب؟
التوى فاهه بضجر، وما كاد أن يُجيبها حتى استمع كلاهما إلى صوت الباب، وقف يعقوب أولًا، واتجه ناحية الباب لفتحه فوجد أمامه إلياس الذي تحدث بامتعاض: فين أختي؟
أجابه يعقوب باستفزاز: في جيبي.
قاطعت ذكرى حديثهم عندما هرولت إلى أحضان شقيقها تُعانقه بقوة، بينما هو أحاط بها باشتياق وتحدث وهي داخل أحضانه: وحشتيني وحشتيني وحشتيني أوي.
ردت عليه بصوتٍ باكٍ مُتحشرج: وأنت كمان وحشتني أوي، فين ماما و رضوى وجنة؟
في البيت، هما بخير متقلقيش، المهم أنتِ عاملة إيه؟
جذبهم يعقوب للداخل ونطق ساخطًا أثناء إغلاقه للباب: ياخويا ادخل أنت وهي، وبعدين أنت لو بصيت من شباك بيتكم هتلاقيها واقفة قصادك، دا إيه الأوفر في الأداء دا؟
طالعه إلياس بسخط ونطق واجمًا: يا جدع ما تسيبني أعيش الدور بقى! دا أنت فصيل.
ضحك يعقوب بخفة وقال بتهكم: طيب يا خفيف، خليك أنت قاعد مع أختك وأنا هدخل أشوفلك حاجة تشربها، يكش يطمر.
وفي نفس الأثناء في الأسفل، كان منزل هارون قد أُصيب بالتوتر والهلع، تقدمت سارة التي جلبها بادر لهُنا من حنان وتحدثت بتوتر:
إهدي يا طنط وهو بإذن الله هيكون بخير.
طالعتها حنان ببكاء وهي تقول من وسط نحيبها: بخير إزاي بس؟
قالتها ثم استدارت جهة هارون وقالت برعب: حمزة مرجعش البيت من إمبارح يا حَج.
اقترب منها هارون مُربتًا على كتفها بحنان، ثم قال بطمأنينة وهو ينظر ل مصعب الذي يفعل كل جهوده ليصل إلى شقيقه:.
متقلقيش يا حنان، دلوقتي هيجي هتلاقي تليفونه قفل شحن.
وعقب حديثه؛ تقدم منهم مصعب قائلًا بهدوء: متقلقوش يا جماعة هو كويس.
ذهبت إليه حنان مُسرعة وسألته بلهفة: بجد يعني حمزة كويس؟ أومال هو فين؟
ليُجيبها مصعب بابتسامة واسعة: اتخطف.