قصص و روايات - نوفيلا :

نوفيلا ياسمين للكاتبة هاجر الحبشي الفصل الثامن عشر والأخير

نوفيلا ياسمين للكاتبة هاجر الحبشي الفصل الثامن عشر والأخير

نوفيلا ياسمين للكاتبة هاجر الحبشي الفصل الثامن عشر والأخير

وساد صمت دقائق، فراقص كلا حاجبيه إليها عِندما صمتت تنظر إليه بعمق دون إضافة حرف حتى أتي سؤالها بعد هذا.
بس إيه السر إنك تلبس كويس وانت مش لاقي تاكل؟
أجاب بثقة تخُص منطقهُ الخاص.
جعان لابس كويس أحسن من شبعان معفِن.
قهقهت وشاطرتهُ الرأي مُجددًا وقرنتهُ بسؤالها.
عندك حق بس ليه مشتغلتش في مصر؟
أجاب ببعض الخيبة.
زي ماتقولي كده حظي شبه مِشط رجلي.
ابتسمت وسألت.
طيب وهنا حظك متغيرش؟
قال بإحباط وهو ينظر حوله.

لا، الحياة هنا غالية ومحتاج فلوس، وحاولت أشتغل بس محبتش اني اكون مرؤوس انا احب لما اشتغل أمسك مُدير على طول.
ضحكت وهي تميل برأسها للجانب ليتسلم هو دفة الحديث وأضاف.
وبعدين الشكل ده بيجيبلي فلوس، انتِ مش اول واحده أنقذها برضو، انا أشهر من كابتن أمريكا في المنطقة هنا.
انتظر أن تضحك، أن يصدر عنها أي رد فعل لكنها أفحمته بسؤالها المستفهم.
مين كابتن أمريكا ده؟
سأل مستنكرًا.
انتِ مبتتفرجيش على تلفزيون؟

أجابت بإيجاز.
لا، ثم طلبت انتباهه.
بص ياسليم.
رد بوداعة.
نعم.
ابتسمت ثم ألقت في وجهه قولها الجاد الذي لا يمُت للمزاح بصِلة بعد أن فكرت جيدًا.
أنا هفتحلك مركز فنون قتالية بس بمقابل.

وضع خِنصره في أذنه يُحركه بسرعة لعلهُ لم يسمع، ثم طرف بأهدابه وبلغت المفاجأة مبلغها منهُ وآثر الصمت عجزًا عن التعبير، فمِن ساعة كان يُفكر في كيفية كسب الأموال لكي ينجو بنفسه في تلك البلد الأجنبي، وهذه تخبره الآن أن حِلمه سيتحقق من خلالها هكذا بكل سهولة ويُسر كأنها تلقي عليه التحية! لكن سبب العرض السخي هذا؟، هل تسخر وهو من يأخذ الكلمات على محمل الجد؟!
كررت قولها بهدوء وهي تضعه نصب عيناها.

مش بهزر وبتكلم بجد.
ضيق عينيه بشك ونظراتها تنفذ إليهِ ترهبهُ منها فظن بها الظنون، ومع تحرك شفتيها للحديث قاطعها بمبادرته بجدية وهو يعقف حاجبيه رفضًا لمَ توصل إليه خياله الواسع.
بصي يا أستاذة ياسمين أنا أه مش معايا فلوس وهشحت بكرة، بس عمري ما استسلم لمغريات الحياة وامشي على طريق الشيطان أبدًا، أه أنا مُحترم أوي وراجل أوي أوي وعيب كده.

ضربت على الطاولة براحة يدها، وملامحها تتقلص بقرف كأنها تسمع نشاز وهتفت بنفاذ صبر.
بس بس متسرحش بخيالك أوي كده، أولا كده أنا متجوزة.
وقرنت قولها برفع راحة يدها اليسرى وتحريك أناملها أمامه وخاصتًا بنصرها الذي يُزينه خاتم يعقوب ليبصره جيدًا ويتأكد من ثرائها، ثم أنزلت يدها وتابعت بتهكم.

وثانيًا بقي مش هفتحلك المركز اللي في دماغك، هي اقصى حاجة ممكن أعملها أجيب بيت كبير دورين هعيش في الدور اللي فوق واللي تحت نفتحه على بعض ونعمل حاجة صغيرة كده وتكبر مع الوقت.
وزفرت بقوة ثم أخذت شهيقًا وفيرًا وهدأت من حِدتها وهي تُمسد جبهتها واستردت.
وثالثًا هو المقابل مِحتاجة مُساعدتك ها هتوافق؟

اضطجع على الكرسي ووضع يده أسفل ذقنه يفكر مليًا وبعمق، أو يصطنع التفكير لأنهُ بالفعل مُوافق فأين سيجد مِثل تلك الفُرصة الذهبية.
اعتدل ووضع مرفقيهِ على الطاولة وقال وهو يضيق عينيهِ.
مُوافق بس عندي كام سؤال كده.
ابتسمت وأجابت بلطف.
أي حاجة هجاوبك عليها إلا الاسئلة الشخصية.
لوى شدقه وقال ممتعضًا.
مش هسأل غير اسئلة شخصية، بس مش مهم إيه المقابل قولتي؟
طلبت بتردد.
ساعدني اتعلم اللغة..
وافق بكل سلاسة.

حلو مش صعب ولا حاجة بس مساعدتك مش مُبالغ فيها بالنسبة لطلب زي ده؟
تنهدت واسترسلت ببعض الخجل.
وعايزاك تساعدني أكمل دراسة.
عقف كلا حاجبيه وسأل بتعجب.
اساعدك فيها ازاي؟
اجابته بجهل.
معرفش انا يُعتبر مخلصة اعدادي في مصر.
اتسعت عيناه وأردف بعدم تصديق.
بتهزري؟
أومأت وهي تبعد شعرها خلف أذنها بخجل، والحمرة تطغو على وجنتها، والضيق يغمرها، ثم حذرته بوجه مُحتقن عِندما رأت بوادر الضحك تظهر على معالمه.

اوعي تتريق عليا فاهم كانت ظروف قهرية.
ضم شفتيه ورفع إبهامه إليها مطمئنًا ثم قال وهو مستغرق في تفكيره.
مش عارف هساعدك فى الموضوع ده ازاي الصراحة بس هسأل ومعاكي في أي حاجة محتاجاها متقلقيش، انا شهم أوي على فكرة.
أنهي قوله الأخير بمرحهِ الذي اعتادته من دقائق، فابتسمت إليه بامتنان. ، وبدأت حياة ياسمين تأخذ منحنى آخر أفضل، وحققت مُعظم ما عجزت عن تحقيقه مسبقًا في مصر بسبب تكريس حياتها للإنتقام.

بدأت حياة أُخرى أفضل دون الالتفات إلى الماضي، لكن سيظل يعقوب معاصرًا معها لكل جديد، وملازمًا لها بكل خطوة تخطيها لتحيا حياة أفضل، ، إنه سبب من الأسباب المُشجعة للمضي قدما ليس هو فقط، بل وتلك الروح التي نفس بها داخلها.

بعد مرور خمس سنوات..
داخل السجن..

حمل حاجياته من الأمانات وهو يتلقى التهاني والمُباركات لانتهاء مُدتهِ أخيرًا في السجن، وكان يكتفي بابتسامة هادئة، لقد تعلم الكثير في تلك السنوات، وأول ما تعلمه هو الصبر، والتحكم في النفس، والتخلي عن الحديث إن كان لا فائدة تُرجى منهُ، قضى تلك السنوات عاكفًا في زنزانته، لم يُكوِّن الكثير من الصداقات، كان قليل الكلام، هادئ، وأكثرية الوقت حزينا يبكِ على جدته، وأحيانًا يُمزقهُ الفراق، كان يملُك الوقت في التفكير في كُل ما تمني أن يهرب منهُ وهذا كان يدمرهُ، كان عقله فارغًا تمامًا من كل شيء عدى أحزانه القادرة على إضعاف أقوي الرجال وهدم أصلب الجبال.

خرج من السجن لتضرب وجهه أشاعة الشمس الذهبية الدافئة، المداعبة لسائر جسده عدى عيناه التي أغلقها فيحجب ضوء الشمس المؤلم لعيناه كأنها ترتفع فوق رأسه مباشرةً.
لم ينتظر قدوم أحدهم إليه ولا الترحيب حتى، يعرف أنه من الآن سيكون نكِرة منبوذ من المجتمع والأكثر عُرضة للتنمر.

سار بعض الخُطوات مُتقدمًا لتتضح له الرؤية ويُبصر دُعاء تقف تنتظره بابتسامة عذبة رقيقة، تلك الفتاة الرائعة التي لم تتخلى عنهُ قط، كانت تزوره كُلما سنحت الفرصة ورغمًا عنهُ ورغم رفضه مجيئها، لم تيأس وتمل منهُ قط، بل كانت تتشبث به أكثر.
فقط لو لم يكن قلبهُ مُفارقهُ من سنوات لأحبها، لكنهُ ليس حاضرًا معهُ ليشعر ليس حاضرًا.

هرولت إليه قاطعة المسافة المُتبقية بينهما، وتوقفت أمامه مُبتسمة مُبتهجة كابحة نفسها عن معانقتهِ ورحبت به بحفاوة وقلبها يرقُص فرحًا.
حمدلله على سلامتك يا يعقوب.
أجابها بصوت رخيم.
الله يسلمك.
حرك ساقيه للسير، فتحركت وسارت معهُ جنبًا إلى جنب، وسألت باستفهام لأنهُ وكما يبدو عليهِ أنهُ قرر أين سيذهب مُسبقًا
هتروح فين يا يعقوب؟

تبدلت معالمه الهادئة الساكنة إلى أخري مُنكسرة هيضَّها الحزن، لتعرف دون أي حديث إلى أين يتجه.
بعد بعض الوقت..
جثا أمام قبر جدته وهمس بحنين.
أنا جيت، مش هبعد عنك تاني.

بعد مرور شهر..
رفع رأسه من أسفل الوسادة بعدم راحة، وفتح عينيه بانزعاج جرَّاء صوت الجرس المزعج المصحوب بطرقات عنيفة تشبه طرقات شخصٍ مُطارد.
هرول إلى الأسفل بسرعة وانزعاج في آنٍ واحد، وفتح الباب بقوة فيقابلهُ وجه دُعاء الباسم، زفر وترك الباب مفتوح خلفه ووثب إلى المطبخ بنعاس وشعر مُبعثر وهو يتثاءب، يُحضر قهوته التي استبدلها بالأعشاب في وقتٍ سابق.

هرولت خلفهُ وقالت بابتسامة وهي تمد يدها بورقة مُدوَّن بها عنوان ما.
عنوان الشركة اهي وانا اتكلمت مع المدير عليك وقالي انو عارفك ورحب بيك جدًا ومقابلتك النهاردة معاه الساعة عشرة متتأخرش أرجوك.
تنهد وأمرها باستياء وهو يفرغ القهوة داخل قدحه.
خُدي الورقة ورَوحي يا دُعاء مش هشتغل في حِتة.
ألَّحت عليه برجاء.
يعقوب إنت مش هتفضل قاعد من غير شُغل كده كتير لازم تكمل حياتك وتشتغل.

نظر اليها بدون تعبير لتستطرد بارتباك وهي تعتصر أناملها.
جدتك كانت تتمنى تش..
قذف المِلعقة الصغيرة من يده وصرخ في وجهها بعصبية أفزعها.
مش كل ماتتكلمي تضغطي عليا بجدتي فاهمة؟
بلعت لُعابها وتجاوزت فزعها منهُ ثم هتفت بإرهاق وهي تنظر إليه باستعطاف.
ما انا مش عارفة أقنعك بإيه وإزاي أعمل ايه؟
أجابها بغضب.
ولا حاجة ترَوحي وانسيني بقي، وشكرًا ليكي ولوقفتك جنبي طول السنين اللي فاتت دي.

ضحكت بسخرية ودمعت عيناها وهي تقول بحسرة.
بالسهولة دي؟
هزَّ رأسه بعدم فهم بسبب ردها المُبالغ بهِ كأنهُ وعدها بالزواج وقام بخيانتها في نهاية المطاف!، ثم قطب جبينه وهو يستمع إلي بقية حديثها.
وتابعت بحرقة من قهرتها وهي تضرب بيدها فوق الرخامة التي تقف أمامها.
إنت ولا حاجة على فكرة، متفتكرش إني بحبك وبموت فيك.
رفع قدح القهوة يرتشف منهُ بهدوء كأنها تثني عليهِ مُصغيًا لبقية قولها وهي تشهق.

دي شفقة مش اكتر وشكرًا دي تقولها لياسمين هي اللي ادتني فلوس وطلبت مِني اخلي بالي منك مش أكتر.
وعقبت قولها بمغادرة المنزل،
فأنزل قدح القهوة من يده ببطء، وومضت عينيه ببريق اللهفة، وطاف بعيدًا، وقلبه يخفق بعُنف، وقولها الأخير تميز برنين خاص في أذنه.
رفع أنامله من فوق قدح قهوته وأستيقظ على نفسه وتفاجئ من خُلو المكان منها، فركض إلى الخارج حافي القدمين ولحق بها.

أمسك بذراعها وأدارها أمام وجهه لتشهق بخضة لكنهُ لم يمهلها الوقت لتفزع وسألها بلهفة.
وعملِت ايه تاني؟
سألت بجهل.
هي، هي مين؟
أجاب بهيام.
ياسمين.
ازدردت ريقها بصعوبة وأجابت بهدوء.
ولا حاجة قالتلي أخلي بالي منك.
أومأ بامتنان وعانقها بقوة وهو يضحك بصوتٍ رنان، فهو كان بحاجة لمثل هذا الدافع لينطلق، تركها تطرف بصدمة وعاد إلى منزله ركضًا كما جاء.

صعد مباشرةً إلى غُرفته وفتح خزانته وأخرج بذلة أنيقة، وركض إلى دورة المياه يُشذب ذقنه الطويلة، ثم أخذ حمامًا دافئ وارتدى ملابسه وخرج بابتسامة جذابة وحماس شديد مُقبلا على الحياة كما لم يقبل من سنوات.

هبط الدرج وهو يُغلق زر كُمه فوجدها تقف أمام الباب مُستطلعة وأمارة الاستفهام تتقافز على وجهها، فابتسم وهتف بنبرة مُفعمة بالحياة وهو يتوقف أمامها مباشرةً لاغيًا المسافة بينهما، فتوردت وكتمت أنفاسها وعيناها مُعلقة عليهِ بتيه وقلبها يخفق بعُنف.
أنا رايح المقابلة.
افترت شفتاها عن ابتسامة رقيقة سعيدة، فأمسك بكفها وأخذ منهُ الورقة التي تحمل العنوان وغادر بابتسامة، وذهبت خلفه لكي تطمئن أيضًا.

توقفت أسفل مقر الشركة التي عمِلَت بها بعد أن تخرَّجت من الجامعة، تنظره وتقريع ضميرها لا يُفارقها من سنوات طِوال، بسبب إخفاء أخبار ياسمين عنهُ، علاوة لإخفاء ما هو أكثر أهمية منها.
انتهى الوقت المُحدد لمقابلة العمل، ويُجب أن يمتثل أمامها الآن لكنهُ تأخر وهذا أقلقها.
جاسَت محلها بقلق وهي تضرب قبضتها براحة يدها، وعينِها مُعلقة على مدخل الشركة، راصدة كُل من يدخل ويخرج لنصف ساعة إضافية.

تبين أمامها أخيرًا يسير في البهو بثقة والابتسامة لا تُفارق مِحياه، مما ضاعف جاذبيته القاتِلة المُذهبة بلُبِّها، وهذا حضَّها على الابتسام فكما يبدو أن هناك أخبارًا سارة سيلقيها.
مسحت وجهها بكفها بتوتر، وهدأت أنفاسها العنيفة واستقبلته بلهفة، فرفع رأسه ينظر إلى السماء، ثم أخرج من بين شفتاه تنهيدة مُثقلة وأخفض رأسه ونظر إليها وصاح بسعادة.
خدت الوظيفة.

صرخت بفرحة وقفزت محلها ضاحكةً وعانقته بدون وعيٍ، فبادلها عِناقها بحُبٍ أخوي، وهمس بجانب أذنها بامتنان لمساعدتها وتشجيعها إليه ليمضي قدمًا، ووجودها الدائم بجانبه.
شكرًا.
تفاقم شعورها بالذنب، ودمعت عيناها، وفصلت العِناق، وهمست بشفتين مرتعشتين، مُتأثرة ونادمة في آنٍ واحد.
أنا آسفة يا يعقوب آسفة.
ناظرها بتعجب وهتف بلطف لكي يذهب البأس عنها.
محصلش حاجة عارف ان الكلام مش من قلبك.

أومأت والعبرات تشق طريقها على وجنتها، وطمست الحقيقة داخلها ممتنعة عن قولها لكي لا تخسره، فهي لا تملُك سوى يعقوب الآن وستكون أنانية لأجل الحصول عليه كاملا.

بعد مرور عام..

في مقر عمله الجديد، ولج يعقوب غُرفة رئيس مجلس الإدارة، وحذائه اللامع الجلدي يطرق فوق الأرضية المصقولة، يعلوها بنطاله القماشي الأسود وبداخله قميصه الأبيض الذي يفتح مقدمته، ويلتف حول عنقه ربطة العُنق الرمادية التي حلَّها وتهدل طرفيها على صدره المعضل، يحمِل ملف مُعبأ بالأوراق في يده يُقلِّب وريقاته مراجعًا، مُقطب الجبين قليلًا، وحاجباه الكثيفين معقفين وشعره الذي اسطتال ثابت خلف عُنقه.

وقف ينتظر انتهاء مكالمة مديره مع أحدهم، فيُشيِّعهُ ببسمةٍ هادئة ودودة، بادلهُ إياها يعقوب دون أي تكلف لأن هذا الشخص القابع أمامه من أخير الناس وأفضلهم، هو لم يُقابل في حياتهِ فرد فاضل قط، لرُبما هذا هو سبب ذهوله برؤية أحدهم يتمتع بأخلاقٍ دمِثة.
أغلق الهاتف وسأله بابتسامة.
خير يا يعقوب؟
أجاب بهدوء وهو يضع الأوراق أمام موضع يده.
أه الورق مِحتاج توقيع.

أومأ وأخفض رأسه على الأوراق وهو يلتقط قلمه الفضي، ووقع الأوراق المطلوبة ثم طلب منهُ بهدوء وهو يناوله الملف.
أقعد يا يعقوب.
جلس بهدوء، وناظره باهتمام مستطلعًا ليبدأ بالقول.
إحنا قررنا هنفتح فرع لينا في أمريكا ومِحتاجين مُشرف على الشُغل هناك من شخص موثوق لأني للأسف مقدرش أسافر الفترة دي خالص.
أومأ بتفهم واقترح عليه بعض الأسماء.
دى فُرصة كويسة وانا شايف إن محمود أو أحمد محل ثِقة.

همهم بتفهم وهو يُقلب قلمه بين أنامله، ثم قال ويده ترتفع وأشَّر عليه بالقلم.
بس أنا عايزك إنت.
تجلَّت إمارة التعجب على معالم يعقوب التي تزداد رجوله وخشونة كُل يومٍ أكثر عن الذي قبله، وسأله مستفهمًا متعجبًا.
أنا؟ بس أنا مش بقالي كت..
قطع سيل حديثهُ قول مديره بفخر.
بس أثبت نفسك و جدارتك في استحقاق المكان ده.
شقَّت البسمة رغمًا عنهُ شفته وغمرته فرحةً عارمة وهو يشكره.
الحقيقة انا مش عارف أقول إيه؟

ابتسم مديره البشوش في وجهه وهتف مُشجعًا.
متقولش حاجة جهز نفسك عشان تسافر ومتقلقش هيكون معاك ناس تساعدك مش لوحدك.
أومأ والغِبطة تستحوذ عليه ووقف يهتف شاكرًا.
تمام يا فندم مُتشكر جدًا.
وفي منتصف النهار..
ووقت استراحة الغداء في أحد المطاعم المجاورة إلى مقر الشركة، كان يجلس يتناول غداءه مع دُعاء التي تُعلِّق في رقبتها بطاقة عملها من نفس الشركة معهُ.
بس والسفر بعد كام يوم.

هذا آخر ما تفوه به بسعادة حقيقية بفضل، كَدَّهُ وجهده في عمله الدؤوب، سعادة يتذوق طعمها لأول مرة في حياته.

كان وجهها كامد شاحب، بصرها مُعلق عليهِ بينما عقلها مُنصرف في مكانٍ آخر، يبدو أنها لن تفوز بهِ، طمعها وجشعها ومحاولتها لتحصل عليه باءت بالفشل، فلم تنجح طوال السنوات المنقضية قط، وِدها ووصالِها الذي حافظت عليه لم يأتي بثماره، يعقوب تَغيَّر وأصبح أكثر رِقة وأكثر مُراعاة، مُختلفًا كُليًا غير الذي صفعها، لكنها لا تنتظر منهُ أن يعترف فجأة بحبه لأنهُ لا يراها من الأساس.

طوال تلك السنوات كانت تتجنب أن تنخرط معهُ في أي حديث يخُص ياسمين، لرُبما ينساها وتُصبح لا شيء، لكنهُ لم ييأس بل وتُجزم أنه أصبح أفضل وقبِل أن يعمل لأجلها فقط، لأجل حياتِهِ الجديدة عِندما يصبح مُستعدًا ويلقاها.

فهي سألتهُ ذات مرة في هذا العام ما سبب عدم ذهابه إلى ياسمين إن كان يُحبها، فأخبرها بكل هدوء وبسمة عذبة تعلو ثغرهِ، أنه يُريد العمل وكسب أمواله بالحلال بطُرقٍ شرعية، فلم تفهم كيف بطُرقٍ شرعية لكنها استشفت من كلماتهِ أن هُناك حقيقة مُخبأة لا تعرف عنها شيء وتُفضل أن لا تعرف، فهي حتى لم تسأله إن كان هو القاتل و ما سبب قتله إلى الآن، ميْلِها إليه ورغبتها في رؤيتهِ والاطمئنان عليهِ طوال الوقت قد شغلها عن الأسئلة المُهمة، ولا يهمها أن تعرف الآن لأنهُ هُنا أمامها فماذا تُريد بالحقائق؟

يعقوب إنت عارف مكان ياسمين فين؟
سألتهُ جاذبة انتباهه، فنظر إليها مشدودًا ولا يعرف أكانت تسألهُ لأنها تعرف أم لأنها تُريد أن تعرف منهُ.
هزَّ رأسه بجهل وترك المِلعقة من يده فوق الطبق، واستمع إليها بأذنه وحواسه وهي تقول بحزنٍ بالغ.
ياسمين في أمريكا.
سأل بجهل ومعالمه تنطق باللهفة، فتابعت دون أن تتوقف بتلك الطريقة المُحيِّرة.
أنتِ عرفتي منين؟

خفضت رأسها تنظر إلى أناملها التي تعتصرها بقوة، وغشاوة رقيقة تجمعت في عينيها حالت رؤيتها بإيضاح، وأنفاسها علَت ونبرتها ارتعشت وهي تُجيب.
كُنا بنتواصل زي ماقولتلك، هي اللي طلبت مني أخد بالي منك وفضلت تتابع معايا على مر السنين لحد ما
وصمتت وعبراتها تتساقط حِدادًا على خُسران شخص لم يكن مِلكها يومًا، وفِقدان حُب لم تهنأ به كذلك، فسارع يسأل بتلف أعصاب وهو يتحرك في جلسته بعدم راحة.
لحد ما ايه يا دُعاء؟

رفعت رأسها إليه وعيناها تفيض من الدمع وهمست بندم.
لحد ما انا غيرت رقمي وقطعت الاتصال بينا.
سأل مستفهمًا حزينًا.
من إمتى الكلام ده؟
سنتين.
ليه؟
كانت ممزوجة بلوم.
فأفصحت بالحقيقة وصارحته دون إخفائها أكثر.
عشان بحبك.
تنهد بِ همٍّ وعاد بظهره واضطجع على الكرسي ينظر إليها بصمت، لكن نظراته كانت تلومها وتُشاجرها وتسألها بأي حق تفعل هذا!
عجز عن إخراج أي حرف لأنهُ لا يعرف ما يقول.

فهزت رأسها بأسف وندم وهي تتطلع إليه، وأجهشت في البُكاء وقالت بانهيار وهي تشهق.
أنا كُنت أنانية معاك يا يعقوب، كُنت فاكرة إنك هتحبني، بس إنت مش ليا و عمرك ما كُنت ليا، عشان كده أنا لازم أقولك.
لا يعرف لمَ اعتراه هذا النوع من القلق المُفاجئ إزاء حديثها، كأن هُناك ما تُلمِّح إليه غير الذي ضنَّت به عليهِ وسيجعله ينصدم.
همست بندم مُستحوذة على كامل انتباهه قبل أن يذهب به عقله إلى تصوراتٍ بعيدة.

ياسمين كانت حامل يا يعقوب.

بعد مرور شهر..
في أمريكا..
في أحد الشُقق الكلاسيكية الهادئة، وبداخل تلك الغُرفة ذات الطلاء الأبيض، كانت تئِن وجسدها مُتشنج يتفصد عرقًا، وملامحها مُتقلصة مُتألمة، وتهز رأسها يمنةً ويُسرة كأنها تُنازِع، فكما يبدو أنها ترى كابوس من الكوابيس التي لم تفارقها من سنواتٍ طوال.

نفس الكابوس يتجدد، نفس شعور الاختناق، نفس الألم وتخدُر جسدها أسفلهُ كأنها تحياهُ حقيقةً، نفس ملامحهُ المرعبة التي تخبرها أنه أتى ليقبض روحها، نفس ملمس يداهَ الخشن يطبِق على عُنقها يخُنقها حتى الثانية الأخيرة من حياتها فيسلبها إياها، ويتأكد أنها ماتت وأضحت جُثة هامدة.

شعرت بثقل على معدتها الخاص بكل يوم، فارتخى جسدها المُتشنج، ولانت ملامحها، وهدأ قلبها المذعور المُنقبض، وصفعاتٍ رقيقة ناعمة ليِّنة كانت تسقط على وجنتها كطبطبة دون أن تتوقف، مقرونة بنغمة صوتها الرقيق الناعم.
مامي، مامي، اصحي اصحي.

انتفضت من نومتها وانتصبت شاهقة كمن نجت من الموت بمعجزة، فشهقت الصغيرة بدورها واتسعت عيناها البُنِيَّة شبيهة والدها بذعر وهي تتهاوى، لكن راحة يدِ ياسمين التي وضعتها خلف ظهرها بسُرعة البرق بتحفز حالت سقوطها، فضحكت ضحكات سعيدة رقيقة رنانة، الشيء الوحيد الذي يُدخل على قلب ياسمين السرور، إنها عالمها الصغير ومحور حياتها.
دسَّت نفسها في أحضان والدتها فتغمرها بحنانها، وبقدميها أحاطت خصرها برقة.

فمحست ياسمين على ظهرها بنعومة وهي تغمض عيناها مهدئة نَفسها ووتيرة تنفسها المرتفعة ثم ابتعدت ورفعت رأسها، وأمسكت قبضيّ صغيرتها الصغيرة الناعمة المُلتفة حول ظهرها وقبلتهما بالتناوب هامسة بحنانٍ بالغ وهي تنظر داخل عينيها التي تناظرها ببراءة.
صباح الخير يا حبيبة مامي.
زمت شفتيها الوردية الصغيرة وهي تطرف بأهدابها الطويلة المُظلِّلة على عيناها الواسعة وسألتها بحزنٍ طفيف.
مش هنروح عند خالو سليم؟

مسحت ياسمين على جبهتها بنعومة، وحركت غُرتها البُرتقالية الناعمة إلى الخلف مع بقية شعرها الناعم وهمست برقة.
لا هنروح طبعًا يلا بينا.

ووقفت حاملةً لها ويديها تستقر خلف ظهرها وهي تحيط خصرها بساقيها الناعمة، واتجهت صوب غُرفتها الوردية التي تجاورها، ساعدتها بارتداء ملابسها الصيفية المكونة من سروال جينز قصير أزرق وكنزة وردية بحمالات رقيقة وحذاء وردي، ومشطت شعرها أمام المرآة وهي تبتسم بحنان، ونظرها مُعلق عليها بعاطفة أمومية جياشة.

لا تُطيق ذرعًا إلى ذلك اليوم الذي سيخرج بهِ يعقوب ويلتم شملهم معًا، صغيرتها لا تتوقف عن السؤال عنهُ، وهي لا تتوقف عن التبريرات الواهِية والضَّن بالكذبات حتى تنتهي سنواته السبع، فلا تعرف بعد أنه حرٌ طليق من عام، ولا تستطيع أن تطمئن عليه بسبب دُعاء واختفائها فجأة وتركها هكذا مُعلقة مُتحيِّرة تفترض الافتراضات عن وضعه وحدها.

أجلستها على الطاولة في المطبخ وصنعت لها شطيرة وجهزت لها العصير الذي تحبه وتركتها تأكل بعد أن أغرقتها بوابل من القُبلات الحُلوة حتى تذمَّرت فحررتها أخيرًا وصعدت تتجهز.
أزاحت ضلفة خزانتها برفق، وأخرجت ملابسها واغلقتها وظلت تحدق في الجانب الآخر، الذي جهزته إلى يعقوب وملأته بالملابس المتنوعة لأجله.

ارتدت صندلها الأرضي ذات الخيوط الورديه على بنطالها الأسود الهفهاف، وفوقهُ كَنزة وردية ذات حمالات عريضة هفهافة، ومشطت شعرها القصير الذي لا يتخطى أُذنها وحملت مُفتاح الشقة وهاتفها ووضعتهم داخل حقيبتها، لكن رنينهُ جعلها تخرجهُ مُجددًا تنظر إلى رقم المُتصل باهتمام، فابتسمت ووضعته على أُذنها وأسندته بكتفها وأجابت بنعاس.
أهلا.
أتاها رد سليم الغير راضٍ عن هذا التأخير.
صح النوم يا هانم انا هبدأ فين يارا؟

تثاءبت لتفاقم غيظهِ وردت بعدم إهتمام مُجيبة.
براحتنا المركز كُله بتاعنا.
ارتفع حاجبه وقال بنزق.
هههه ده كان زمان يا أم اعدادية إنتِ، خلاص صفينا حساباتنا والمكان بتاعي دلوقتي.
قهقهت وردت باستياء.
شوف الشحات ناكر الجميل قال خالو قال.
ضحك بتسلية وطفق يقول بحنان.
يارا دي حبيبتي ملكيش دعوة بيها ويلا بسرعة مش هستنى أكتر من عشر دقايق.

همهمت وأغلقت الخط ووضعت الهاتف داخل حقيبتها، ثم أخرجت الخاتم الماسي الذي تُعلِّقهُ في رقبتها ومنحتهُ قبلة كُل يوم ثم ادخلته داخل كنزتها من جديد، وهبطت إلى يارا وأخذتها وذهبت في طريقها إلى المركز.
في هذا الوقت تحديدًا خارج المركز المُعلق عليه اللافتة المُعرِفة، كان يعقوب يقف أمامهُ يُحملق في اللافتة فيما لا يقل عن الخمس دقائق وقول دُعاء الأخير يطِّن في أذنه.

آخر حاجة كُنت أعرفها إنها كانت فاتحة مركز فنون قتالية وبيساعدها فيه واحد مصري قابلِته هناك وده العنوان (، ) غير كده انا معرفش عنها حاجة.
كان مترددًا، خائفًا من التقدُم والدخول ورؤية طبيعة ما يحدث في الداخل، رُبما أحبت غيره، خمس سنوات كفيلة لكي تنسى وبالأخص هو، فذكرياتهما معًا لم تكن بذلك الجمال ولا بالشيء الجَلل الذي ستحيا عليه طوال حياتها في انتظاره!

خلَّل أنامله في شعره بتوتر كمراهق سيقابل فتاته بعد المدرسة، وخفقاته تتعالى باضطراب، ثم عدَّل ياقة قميصهُ الرمادي وأخفض بصره على جسده والقي نظرة على طلَّتِهِ بتذبذب وولج من الباب الرئيسي إلى الداخل وقلبه يسبقه، يبحث بناظريه ويلتقف بأذنه، ك آله تلتقط كُل حركة وسكنة، كانت أصوات الأطفال تتعالى وهم يتدربون فوق تلك المساحة الزرقاء المُتاحة.

زار المكان بنظراته وخاصتًا الأطفال، الفتيات قبل الفِتيان بحثًا عن طفلهُ الذي لا يعرف جنسهُ بعد، ياسمين لم تُخبر دعاء، فلا يعرف لمَ كان يبحث عن طِفل أصهب أو طفلة صهباء، حدسهُ يخبرهُ أنها فتاة تشبهها ويال سعدهِ بها، وأحيانا يظُن أنهُ فتى يشبههُ لكنهُ أصهب لا يعرف، لكن لا وجود لطفل هنا يَجمع بين أيًا من تلك المواصفات المذكورة.

دخوله جذب انتباه سليم من الوهلةِ الأولي، لكن لم يذهب إليهِ ظنًا أنهُ من سيقترب ويحادثهُ لكنهُ جامدًا محلهُ وعيناه لا تترك مكان إلا وتوقفت عليه شاملة متفحصة.
أوقف التدريب خمس دقائق وترك الأطفال وتقدم منه ليرى ما الخطب.

وفي هذه الأثناء كانت ياسمين في طريقها إلى المركز سيرًا على الأقدام بسبب قُربهُ من شقتِها، تمسك بيدِ يارا في يدها، وبدورها كانت تتراقص وتقفز في الطريق بسعادة وهي تضحك وتنظر إلى والدتها بين الفِنية والأُخرى فتبعث إليها قُبلة طائرة.

جذب انتباه ياسمين أثناء مُرورها في الطريق بذلة أنيقة معروضة في أحد المحال التجارية حازت على إعجابها، فوقفت قليلًا تتأملها وتتخيل كيف ستبدو على يعقوب ثم ابتسمت بنعومة وولجت داخل المحل تراها عن قُرب.
سارت مع العامل تُحدثهُ الانجليزية بطلاقة دون أي صعوبة، ومسحت على ذراع البذلة بحثاثة وهي تبتسم، ثم حررت يدِ لارا قليلًا حتى يتسنى لها رؤيتها وملامسها جيِّدًا.

فابتسمت الصغيرة بمكر يضاهي مكر والدتها وهي تتورد جرَّاء ضحكاتها السعيدة، وتسللت من خلفِها وخرجت من المحل وتابعت سيرها وعادت تقفز وحدها في طريقها إلى المركز فهو قريب منهما.
توقف سليم أمام يعقوب وسأله باستفهام لرُبما يكون والد أحد الأطفال.
هل تبحث عن أحدهم؟
حمحم يعقوب وثأثأ كطفل متوتر لا يعرف بمَ يُجيب وعيناه مازالت تبحث وتتقصى وعوضًا عن إجابته سأله بلغتهِ الأم.
إنت مصري؟

بدي على سليم التعجب بوضوح وأجابه بابتسامة لطيفة وعيناه تشمله من أعلاه لأسفله.
أه مصري بتدور على حد ولا هتجيب إبنك؟
هزَّ يعقوب رأسه بنفي وأحبط لعدم رؤية أحد هُنا ولا حتى لمح طيف لياسمين، وعاد أدراجه وسار إلى الخلف دون أن يُجيبهُ جعلهُ يرتاب ويشُك في أمرهِ وهو يرفع حاجباه ببعض الضيق مُتخصِّرا بعدم رضا.

نكص يعقوب وسار إلى الخارج ليترك العنان لأنفاسه تخرج ويهدأ قليلا ومع وضع قدمه في الخارج، اصطدم بساقهِ جسد صغير مُندفع ارتدَّ وسقط أرضًا أمام ساقيه.
دنى بسرعة وأوقف الصغيرة المُتأوهة، فَسَرت الرعشة فوق ذراعيه وساقيه، واهتزت مقلتاه ولمعت، وعيناه تُبصر تلك الجميلة تزم شفتيها الوردية وتكاد تبكِ وتُمسد فوق ركبتها بيدها الصغيرة الرقيقة.

امتدت يده بعدم وعي يُمسد هو فوق بشرتها الهشة بخفة، وتلقائيًا ضمَّها إلى صدره بقوة وعيناه تطفر بالدموع عاجزًا عن السيطرة عليها وعن فهم ما يراوده من شعور، لكنهُ مُتأكد من سعادته المغمورة ولذته بذلك الإحساس الجديد.
حانت من ياسمين التفاتة بجانبها فانتفض قلبها لغياب لارا وتحركت بسرعة تتلفت عليها في المكان بهلع وهي تهتف باسمها بخوف.
يارا، يارا، إنتِ فين؟ يارااا!

لم تجدها في الداخل فخرجت تبحث عنها وتتلفت حولها بأعين دامعة وشفتيها ترتعشان بانفعال، ثم أخرجت الهاتف بسرعة، بأنامل مُرتجفة وهاتفت سليم لكي تسألهُ عنها فلم تأتِها إجابة بسبب بُعد الهاتف عن وقع يداه، فأغلقت بضغطة عنيفة وعبراتها تنهمر بغزارة وهرولت إلى المركز لتبحث هُناك فهي لن تذهب إلى غيره.
ثوانٍ قليلة فقط، وخطواتٍ أقل كانت هي الفاصلة بينهما دون أن يعرفان.

تيبست ياسمين محلها على بُعد عشر خطواتٍ من محل وقفة يعقوب، وتهدل ذراعيها بجانبها مبصرةً إياه وملامحها استحالت للصدمة، وعيناها مُتسعة مُنفتحة على آخرها مُكذبة نفسها، وقد توقفت عبراتها لثانيتين لتباغتها بنهرٍ جارٍ وفير من العبرات تنسل الواحدة منهُ تلو الأخري، وهي تقف محلها وصدرها يرتفع وينخفض بثوران، وهُناك حرب تقيم داخلها، وقذائف تُطلق وتُفجِّر ما بقي من قلبها سالمًا.

تلك السنوات لم تزيدهُ سوى فحولة ورجولة، تكاد تنماع وتذوب مكانها قبل أن تقترب! فما الذي سيحل بها إن إقتربت؟
لم تمر السبع سنوات بعد! كيف أتي؟ ولمَ يُعانق طفلتها وهو لا يعرفها؟!، بل ولمَ هي تقف إلى الآن ولم تركض وتعانقهُ وتُرحب بعودتهِ؟

وسليم كان هُنا في عالمٍ موازي ملامحهُ مُقتضبة يفكر بذلك الرجل! رُبما أتى إلي ياسمين؟، هل سيأخذها منهُ؟، عقف كلا حاجبيه بانزعاجٍ مُضاعف وابعد أفكاره المجنونة تلك عن رأسه، فمتى كانت ياسمين لهُ ليذهب بهِ تفكيره إلى هذا الحد؟!

لحِق بيعقوب إلى الخارج فاستوقفه مَشهد عناقهِ إلى يارا بذلك الشوق ويدهُ تدفع بظهرها إلى صدره، فتقافزت شياطينه ودكنت عيناه ورآه كمنحرف يهوى الأطفال لا أبٍ اجتمع بطلفته، حركت يارا رأسها وابتعدت عن عُنق يعقوب جرَّاء قبضته التي دفعت بها وحاولت الإبتعاد والنزول بفزع والخوف يحتل تقاسيمها الرقيقة لأنها لا تعرفهُ، واندفع سليم إليه بغضب سافر ليلقنهُ درسًا قاسٍ، لكن تجمد محلهُ وانغرزت قدمه بأرضها عِندما تناهى لسمعه هُتاف ياسمين بلهفة مَشجت بشجن كان تذكرة نجاته.

يعقوب.
أرهف سماع نبرتها المشتاقة المُلتاعة لفراقه، التي أشعرته بعودته إلى موطنهُ بعد اغتراب طويل، فترك الصغيرة تنزل وتركض إلى سليم الذي وقف يشاهد بصمت، ونظر هو إلى داءه ودواءه، حياته ومماته، التي تتسبب في الألم والتي تمحوه كذلك.

كانت بعيدة لكن الآن تقترب وتتلاشى المسافة، والعشر خطوات أضحوا خمسة خطوات، والخمسة أصبحوا خطوتين ثم إلى رحابة صدره الاستقرار، كَمنت الحياة في عناقهما، أضاف عمرًا على عمره ذلك العناق الحميمي الحار، المحمل بمشاعر ملتهبة عتيقة قد تفور بأي وقت وتتفجر كبركان.

ارتفعت عن مستوى الأرض بقبضته، ورأسه مُندسة في كتفها مُغمض العينين ظافرًا بها، وتفاقم المشاعر أعجزه عن التعبير، وهي تنشج وتبكِ دون توقف وتدس برأسها في رقبته وقبضتها تشتد حولها بين تلك الخصلات الناعمة.
زمت يارا شفتيها وهي تراقبهما بعدم فهم، ثم رفعت رأسها إلى سليم الشاخص عليهما دون أن يطرف أو يُحيد فلم ينتبه إليها.

طال عناقهما لعشر دقائق صامتين هادئين، وقبضته التي تشتد حولها كهواءٍ عاصف قصف غُصن رقيق فكان يفعل المِثل بخصرها، فلم تتألم ولم تشتكي، بل رغبت بالأشد، بالشعور به فتُصدق أنهُ هُنا ولا تحلم وسوف تستيقظ على شعورها بتحطم ظهرها جرَّاء وقوعها من فوق الفراش بقسوة.

أنزلها أمامه وابعد رأسه لكي يتسنى له رؤية جمالها الآخاذ الذي حُرِم منهُ، ومداعبة بشرتها التي حُرِم نعومتها، وتألق مقلتاها الآسرة التي احتجزته قسرًا فأضحى عبدًا متيمًا حتى الممات.

مسحت وجنتها في راحة يده التي تتحسس وجهها بتلهف وهي تشهق حتى كادت تختنق، وجسدها ينتفض دون أن تجيد السيطرة على نفسها، ثم احتضنت وجنتاه بين راحتيّ يديها بلهفة وعيناها تفيض من الدمع وتمُر على كُل إنش في وجهه، وسألته بانتحاب عِندما استطاعت أن تخرج كلمات شِبة صارخة تعلو مع وتيرة بكائها.
إنت، هنا، معايا مش، مش بحلم صح؟

فيبتسم بحنان ويقترب بوجهه يكفكف عبراتها بشفتيه ويهمس بهيام، وانفاسه تلفح مسام بشرتها، وملمس شفتيه تقشعرها وتُرجفها وتوقد ما خمد في تلك السنوات.
معاكِ، عمري ما هسيبك تاني، إنتِ قدري.

فتضحك وتنهمر المزيد من العبرات، وكفها يتحسس وجنته فتوغزها ذقنه الشائكة، وجبينها يستكين فوق جبينه الصلب، وانفهما يتعانقان في حميمة لا تُذكر أمام ما سيحدث عِندما ينفرد بها، ، فشوق سنوات لا يكفيه التعبير بالكلمات فهناك ما هو أبلغ.
تقربت الصغيرة من ياسمين وشدت طرف بنطالها القماشي وسألتها بحزن بسبب رؤية إنهيارها أمامها هكذا.
مين ده يا مامي؟

استرعى انتباههم سؤال ثمرة حُبهما، فصوَّبت النظرات مع الرِقاب إليها ومالت ياسمين وحملتها لتكون بينهما، وأخبرتها بابتسامة ناعمة وعيناها تلمع وتسطع كقرص شمسٍ، ونظراتها تهيم به عشقًا.
ده بابي يا حبيبتي مش كُنتي بتسأليني عليه؟ هو أهو جِه عشانك.

شهقت بسعادة ومالت عليه صارخة ب بابي فحملها وضمها بحنان والتفت يدها الصغيرة حول رقبته تعانقهُ بقوة، وجذب بدوره ياسمين من خصرها إليه بخشونته المُعتادة وقد تضاعفت، فشهقت برقة واستمعت إلى همسه المُتيم المُعقب على قولها.
جيت عشانكم.

ابتسم سليم وأسند رأسه على إطار الباب ببعض الخيبة، لكن لا يُهم طالما هي سعيدة، وهو لا يتمنى سوى رؤيتها سعيدة مُبتهجة، فهو طوال السنوات المُنقضية لم يراها تضحك بتلكما السعادة، ولا حتى تبكِ بذلك الإفراط، إنه لن يُحقق نصف ما يحققه ذلك الغريب الذي يستحوذ عليها.

ابتسم ابتسامة أُخرى وهو يرى ذراعها يلتف حول خصره بنعومة في تمُلك إعتاد أن يراه فيما يخُص لارا، ويعقوب فعل المِثل حتى إلتصق جسدها به، ولثَّم جبينها بنعومة واقتطف وردة من وجنتها، وهمس بافتتان وهو يتأمل جمالها، وشفتيه تكاد تصل لأذنه من فرط الابتسام.
شعرك القصير..
ترقبت إجابته بتلهف ويدها امتدت إلى أطرافه مداعبة لترهف سماع نبرته العبثية.
This is my style.

ضحكت بنعومة وأسندت رأسها على كتفه وسارا معًا في طريقهما.
كلامها فقد عزيزًا، كلاهما تجسد الجحيم في حياتهما، خسرا الاثنين شيئًا كمن في نفسيهما، لكن لم يخسرا نفسيهما كذلك، الاثنين قاما بخيانة بعضهما البعض، وانتهت الجولة، وأدرك الاثنين أن يعقوب لا يصلح لغير ياسمين، ولا ياسمين ترغب بغير يعقوب.
ولا يُلدَغُ المؤمنُ من جُحْرٍ واحد مرتين وهُما ليسَ أهلاً للإيمان.

----------- تمت -----------.

أول حاجة، كل اللي علقوا وعملوا لايك على البوست اللي قبل ده حفظتهم ولو ملقتش تعليقهم بعد الفصل هخرب الدُنيا.
تاني حاجة، محدش ينسى مُعتصم باشا.
تالت حاجة، محدش يسألني عن قُصيّ ولمار.
رابع حاجة، حابة أشكر كل اللي دعموني وشجعوني بكلامهم الحلو عشان أكمل ليكم كل الحب يا قمرات.

تمت
نهاية الرواية
أرجوا أن تكون نالت إعجابكم
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة