قصص و روايات - نوفيلا :

نوفيلا غسق الأوس (ليلة دافئة) للكاتبة منال سالم مكتملة الفصل الحادي عشر والأخير

نوفيلا غسق الأوس للكاتبة منال سالم مكتملة

نوفيلا غسق الأوس ( ليلة دافئة ) للكاتبة منال سالم الفصل الحادي عشر والأخير
( الجزء السادس من ذئاب لا تعرف الحب )

عرفت خلال تأملها الشـــارد عبر الزجاج، لأمواج البحر المتكسرة على حاجز مبنى "البلازا"، أن لحظات التعاسة غير دائمة، مثل لحظات الفرحة أيضًا، كلاهما يمران على الإنسان ليختبر معنى الألم والسعادة، ووحده من يقف إلى جوارها في أشد لحظاتها ضعفًا، وفي أكثر لحظاتها فخرًا. التفتت "تقى" ناظرة نحو زوجها، متخلية عن تحديقها المستمتع، حين سألها بنبرة جافة:
-هي دي اللي ضايقتك؟

ارتعبت من رؤية المرأة المتحرشة بها تنساق خلف أحدهم، بشكلٍ شبه مذل، قبل أن يدفعها للجلوس على مقعدٍ بعينه؛ وكأنها على وشك المحاكمة، دققت النظر في ملامح زوجها الخالية من لمحات العطف، كانت على علمٍ مسبق بشراسته المميتة، وحتمًا لن يمرر ما حدث على خير، لذا على الفور اتجهت إليه، وتعلقت بذراعه، نظرت في عينيه برجاوات غريبة، وتوسلته بأنفاسٍ متهدجة:
-"أوس"، بلاش تأذيها، أنا مسامحة في حقي.

قال بوجومٍ لم تستلذه:
-اللي يريحك...
ثم تحولت أنظاره نحو "لميس"، وتابع بقساوة جزعت منها:
-بس حقي مابسمحش فيه.
هتف الرجل الذي استقر على المقعد المجاور لزوجته المخطئة يستعطفه، في محاولة أخيرة يائسة، عله يصفح عنهما:
-يا باشا، كانت غلطة، استحالة تتكرر تاني.
أشـــار له "أوس" بسبابته ليخرسه بصوته الأجش:
-ولا كلمة ..

وجهًا آخرًا مألوفًا تعرفت إليه "تقى"، انضم للمتواجدين؛ كان المحامي الخاص بزوجها، رأته يتحرك صوب الرجل، ومعه ملف ما، أسنده على الطاولة ليفتحه قبالته، ظهرت بعض الأوراق أمامه، ومعها قلم حبري، فأمره مشيرًا بعينيه:
-امضي على الورق وإنت ساكت.

لم تمضِ الليلة السابقة إلا وقد بات زمام أمر هذا الرجل تعيس الحظ، وزوجته الفظة، في يدِ من لا يشفق على المخطئين؛ وكأن بابًا من الجحيم قد فتح على مصرعيه، كل أسراره، خباياه، مواطن ضعفه وقوته، أصبحت متاحة للتصرف وفق رؤية صاحب السلطة هنا، والكلمة الأخيرة؛ "أوس الجندي". اعترض الرجل بتبرمٍ، وجسده يتلوى في حسرة:
-بس كده حرام، ده معناه إني هاخسر كل ما أملك.. صعب أمضي على الورق ده.

علق المحامي بعدم اكتراثٍ، وهو يغلق الملف:
-براحتك.
سلط "أوس" أنظاره عليه مطولاً، لينطق بعدها بلهجته النافذة:
-سيبه، وهنمشيها قانوني.

أيده محاميه في رأيه موضحًا باستفاضة مخاطر رفضه:
-اللي تحبه يا باشا، معندناش أي مانع، بس هتخش السجن يا حضرت، ده لأنك مختلس فلوس كتير، مش هتعرف تسدها لو اشتغلت طول عمرك، وخصوصًا بعد ما أسهم الشركة وقعت في البورصة، وجوا السجن الحبايب كتار، عايزين حقهم منك، باعتبار إنك مفلس، فاحتمال متكملش أسبوع فيه، ده غير المدام، في ناس كتير عايزة توجب معاها.

على مضضٍ اعتذرت "لميس"، وقد شاهدت بأم عينيها حجم الكارثة التي حطت على رأسها:
-أنا أسفة، بليز، ماتعملوش فينا حاجة، مكونتش أقصد.
أشــار لها "أوس" بنظرة أرعبتها، وجعلت الدماء تفر من عروقها:
-لسه دورك جاي.

جف حلقها كليًا، وسألته بصوت متلجلج:
-مش فاهمة؟
التوت شفتاه بابتسامة متغطرسة، قبل أن يرد بغموضٍ، جعلها تجفل أكثر:
-الجزاء من جنس العمل يا nanny!

قَصد احتقارها بنعتها بلقب الخادمة، وتأكد من تهذيبها بنفس الأسلوب المهين الذي امتهنته مع زوجته. برزت عينا "لميس" في محجريهما، وقد رأت دلوًا من المياه، وممسحة أرضيات، وخرقة شبه بالية يحملها أحدهم، ويقدمهم إليها. علامات النفور والتقزز كست ملامحها، انكمشت على نفسها متسائلة بتأفف ممتعض:
-جايبين دول ليه عندي؟

أولاها "أوس" ظهره، وأخبرها وهو يضم زوجته إلى صدره:
-حمامات البلازا محتاجة نضافة.
شهقت مصدومة من مهمتها المهينة التي فرضها عليها، ضربت بيديها على الطاولة في اعتراضٍ، ونهضت محتجة بشدة:
-استحالة أعمل كده!
ثم التفتت إلى زوجها تسأله في استنكارٍ:
-إنت موافق على ده؟
لم يتطلع إليها، ورد بتحسر وهو يدفن رأسه بين راحتيه:
-إنتي السبب، بيتي اتخرب.

لم يتخذ موقفًا ضده، بل لم يعارضه من الأساس، كان غارقًا لأخمص قدميه، في الخراب الذي طال أعماله في طرفة عين. شعرت "لميس" بالمذلة الشديدة، وإحدى العاملات تجرها إلى الخارج، لتؤدي مهمتها الجديدة بالإجبار، تفاجأت بوجود رفيقتها بالخارج، تنتظرها لإتمام العمل سويًا، مثلما تشاركتا في الفضيحة الملفقة، مع فارق عرض تلك اللحظة المهينة في بثٍ حي على معارف كلتيهما، ليزداد إحساسهما بالإذلال والخزي.

ســـارت "تقى" بجوار زوجها بخطوات متمهلة، نظرت نحوه بنظراتٍ مطولة؛ وكأنه تدرسه، تفسر طبيعة تصرفاته غير المفهومة، تأبطت ذراعه معقبة على ما حدث:
-مكونتش متخيلة إنك هتعمل كده.
رد ببساطة:
-أي حد يجي على اللي يخصني مش هارحمه.

هزت رأسها بإيماءة صغيرة، وقد شعرت بالرهبة تجتاحها من العنف المغلف لكلماته، أحس برجفتها الخفيفة، وبتوتر نظراتها، لذا أكد لها:
-مش عايزك تخافي مني.. أنا بأعمل ده كله عشان أحميكي.
ردت بتوجسٍ محسوس في صوتها:
-أنا خايفة عليك.
-متخافيش، مش سهل حد يأذيني.
تنهدت ترجوه بدلالٍ ناعم:
-بلاش تعادي حد يا "أوس".. أنا بأحبك، ومش عايزة حد يأذيك.

كم كان لنبرتها تأثيرًا سحريًا على بدنه، خاصة حين تناديه بتلك الطريقة، أما عن تعبيرها عن خوفها الواضح عليه، كان من أعظم ما يمكن أن يشعر به معها! على الفور غير مجرى الحديث بينهما ليقول بنبرة عازمة، دون أن يترك لها حق الاختيار:
-عشان اسمي ده بالذات هنقعد يوم زيادة.. أنا عندي كلام كتير ليكي.
تدلى فكها للأسفل في استنكارٍ، وهتفت معترضة:
-والولاد يا حبيبي؟ هنتأخر عليهم.

أومأ برأسه ملمحًا:
-الكاميرات شغالة لايف على أي شاشة في الفيلا 24 ساعة.
توردت بشرتها، وقد أدركت أن ليلة دافئة أخرى تنتظرها، فتمتمت هامسة:
-مابتفوتكش حاجة.
انتصب بكتفيه، خلال سيره بخطواته الواثقة، لتبدو هامته أكثر شموخًا، كمن استحوذ على سلطان الدنيا، وقوتها، ثم قال بلمحة من الغرور:
-طبعًا، أنا "أوس الجندي".

تمت
نهاية الرواية
أرجوا أن تكون نالت إعجابكم
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة