قصص و روايات - نوفيلا :

نوفيلا طفلة في قلب الفرعون للكاتبة رحمة سيد الفصل السابع

نوفيلا طفلة في قلب الفرعون للكاتبة رحمة سيد الفصل السابع

نوفيلا طفلة في قلب الفرعون للكاتبة رحمة سيد الفصل السابع

ركض يزيد بجنون نحو دنيا التي كانت تقف ببلاهه ضاحكة تنظر له وهو يتحدث وكأن لم يعد لعقلها وجود فلم تعد تستوعب ما يجرى...!
سحبها من يدها بلهفة يزمجر فيها بصوت حاول التحكم بأحباله فخرج خفيضًا:
-اجري يا دنيا مفيش وقت.

واخيرًا حصل على استجابة بطيئة عندما قبضت يدها على يده الخشنة بتحفز وهي تركض بالفعل معه، وفجأة وجدته ينحني ليفتح شيء كالقبو أظهر أنه توجد غرفة اخرى بالاسفل، أنزل دنيا بسرعة ثم تبعها ليغلق القبو عليهم مرة اخرى في نفس اللحظة التي بدأ الرجال فيها يطرقون باب المنزل بعنف وكأنهم سيكسرونه بعد لحظات...

امسك يزيد يد دنيا بإحكام، وكأنه يصك وعدًا صامتًا لها بالحماية مادامت تلك الأنفاس تدخل وتغادر صدره المنحور بعشقها...
فتح باب صغير كان في ذلك القبو ويبدو أنه يطل على شارع جانبي مباشرةً، وكالعادة أخرج دنيا اولًا ثم خرج هو ليمسك تلك السلسلة التي يرتديها دائمًا، ضغط عليها كما فعل في المرة السابقة ليرسل اشارة لفريقه بموقعه...

كاد يسير هو ودنيا التي كانت تتبعه بذهول لا تفهم اي شيء، ولكن فجأة سمعوا صوت احد الرجال وهو يعبر من جانبهم، فجذب يزيد دنيا بعنف من خصرها لتلتصق به حتى لا تظهر امام ذلك الرجل، وتلقائيًا امتدت يده تكتم تلك الشهقة التي كادت أن تتحرر من بين سجن شفتاها الساكن، فكان الوضع كالتالي...

احد الرجال يقف متفحصًا الشوارع بعيناه، بينما دنيا صدرها ملتصق بصدر يزيد الذي كان جامدًا متصنمًا بقلق رتيب ينغز مقر صلابته خوفًا على تلك الصغيرة، بينما هي أنفاسها المرتعدة تعانق أنفاسه الساخنة، وصدرها يعلو ويهبط بتوتر رهيب وهي تسبل اهدابها ليزيد هامسة وهي تحرك شفتاها ليفهمها:
-انا خايفة..!
ولم يكن محتاجًا لتلك الحروف ليدرك ذلك الخوف الذي استوطن عيناها كمُحتل مستوحش...!

ولكنه ضغط على خصرها برفق متمتمًا بصوت مغلق ولكنه حاني سمعته بصعوبة:
-متخافيش طول ما انا جمبك
منحته ابتسامة قلقة حررتها بصعوبة، ربما ما خفف خوفها ونفعها هو تأثير الخمر الذي لم يزول عنها تمامًا...
واخيرًا عاد الرجل لمكانه مع باقي الرجال ليركض يزيد ودنيا بيده نحو سيارة فريقه التي تنتظره، وكان اخر ما سمعه منهم هو صراخ احدهم بجنون باللهجة اللبنانية التي باتت تستفزه:.

-لك شو يعني اختفوا؟ إنشقت الارض وبلعتهن! الله يلعنكم ما بتفلحوا بشي ابدًا...

واخيرًا ركب كلاً من يزيد ودنيا السيارة بسلام لتنطلق بسرعة من تلك المنطقة، كان يتوقع يزيد أن يجدوه بالطبع، وصراحةً قد حمد الله أنهم لم يجدوه بسرعة بل وجدوهم بعد بضعة ايام، تنهد بارتياح عندما خرجوا من تلك المنطقة بسلام واحد زملائه الذي يتولى القيادة نظر له وهو يشير له بإصبعه بمعنى تم وقال:
-متقلقش يا باشا، عدت على خير.

اومأ مؤكدًا له، واخيرًا إنتبه لرأس دنيا التي استكانت على كتفه فجأةً فالتفت لها ليجدها غطت في نوم عميق، كالأطفال تمامًا...!
تابعها بنظرات تقطر شغفًا، نظرات عاشق، نظرات حارة، قلقة من القادم، نظرات محبوب لم يعترف حتى تلك اللحظة أنه سقط في أسر محبوبته...!
همس بينما يداه تربت على خصلاتها بحنان:
-نامي يا طفلتي، ربنا يقويني واقدر احميكي!.

في مصر
وكعادة تلك الأيام، لم يعد يهتم ياسر بعمله، لم يعد يهتم ب مسعد الشامي من الأساس، وكأن سبب اهتمامه ومحوره كان دنيا وفجأة تبخر ذلك المحور فلم يعد أي شيء كما كان...!

دلف ياسر احدى الملاهي الليلية، ولكن قبل أن يدلف وجد احد رجاله الذي كان معه عندما كان ثملًا يركض نحوه بتوتر مناديًا:
-ياسر أستنى
إلتفت ياسر نحوه بلامبالاة متساءلاً:
-خير عايز إيه يا إسلام؟
وضع المدعو بإسلام يده على كتفه ثم هتف بنبرة متوترة، وحروف متمزقة من القلق الذي يفوح منها:
-عايز اقولك حاجة مهمة تعالى نطلع بره
هز ياسر رأسه نافيًا ببرود:
-لأ مش عايز اطلع، هتقول هنا ولا لا.

حَجْم توتره الذي مس كل خلية به، ثم رفع رأسه بهدوء ليتابع اخيرًا بصوت أجش:
-انت المرة اللي فاتت لما كنت سكران قولتلي حاجات كتير يمكن ماكنش ينفع تقولها، قولتلي إن دنيا مش بنت مسعد الشامي و...
قص اسلام كل شيء على مسامعه بينما ياسر كان يقف بجمود، عضلة فكه اهتزت بلا شعور وهو يدرك أنه أطلق الرصاصة التي كانت مستقرة في جوف الماضي...!

وما إن انتهى اسلام من سرد ما حدث حتى قال ياسر بصلابة مُحذرة شابها نسمات مُهددة:
-الكلام ده مايطلعش بره، ومحدش يعرف انك سمعت مني الكلام ده، ولا حتى مسعد الشامي نفسه، فاهم ولا...
اومأ اسلام مؤكدًا بسرعة:
-طبعًا يا باشا، دا انا راجلك ولحم كتافي من خيرك..
اومأ ياسر برأسه دون رد ثم دلف لذلك الملهى، كاد يجلس بملل ولكن فجأة إتسعت عيناه بذهول والمشهد الماثل امامه يحرق اطرافه...!

فقد كانت ابنة خالته الصغيرة تقف على ساحة الرقص وسط الرجال تتمايل بميوعة وترتدي ملابس فااااضحة...!
عقله توقف عن ترجمة مكنونات تلك الصدمة، يحاول الاستيعاب أن ابنة خالته الوحيدة التي رباها على يداه ولم تفترق عنهم سوى عندما أصرّت أن تعيش بمفردها بمنزل والداها الراحلان، أصبحت فتاة ليل...!
وربما كانت تلك الحقيقة الوحيدة في حياته، الحقيقة التي كانت كالصخرة لأمواج الكذب الهائجة دومًا في حياته...

نهض لا اراديًا ولكن قبل أن يصل لها كان صاحب هذا الملهى يقترب منه بلهفة متمتمًا يسأله:
-خير يا باشا، محتاج حاجة؟
رفع إصبعه الذي كان يرتعش حرفيًا نحو ابنة خالته، فقهقه الرجل حينها بارتياح ومن ثم أردف بنبرة ماكرة:
-اااه انا قولت كده برضو، دي عهد، وشهرتها دودي، معاك حق في اختيارك، ناس كتير جدًا بتعجبهم بس هي مش اي حد بتروح معاه يعني..

كلمات ذلك الرجل كانت كبنزين يُسكب بين ثنايا بركان ثائر اوشك على الإنفجار، وألسنة اللهب تصاعدت وتصاعدت، حتى وصلت لأفق صبره فأحرقتها بجنون...
حينها نظر لذلك الرجل ولم ينطق سوى بكلمة واحدة إنطلقت من فمه كالسيف الحاد الذي لن يعود قبل أن يُصيب خصيمه...
عايزها الليلة
رمقه الرجل بنظرة ذات مغزى مستطردًا:
-بس دي غالية شوية يا باشا
-هاديك شيك على بياض...
حينها لم يتردد الرجل وهو يشير لاحد رجاله بسرعة صائحًا:.

-تعالى ياض خد الباشا لاوضة آآ...
ولكن ياسر قاطعه بجمود حاد مُقلق:
-لأ، انا هستنى في عربيتي عايزها في شقتي.

وبالفعل إنصرف دون كلمة اخرى، كاد مظهر ياسر أن يثير القلق في جوارح ذلك الرجل ولكن الطمع أعمى عيناه عن اي شيء اخر...
كان ينتظر بالخارج، يشعر أنه ينتظر على جمر مشتعل يُدمي ويحرق روحه بقسوة...
وخلال دقائق معدودة كانت عهد تتقدم من سيارته بهدوء، فالتوى فمه بابتسامة ساخرة حاقدة، لقد أقنعها بكل سهولة ذلك الحقير، صبرًا يا ابن ادم صبرًا...

شهقة عهد المرتعدة أعادته للواقع، انتقلت أنظاره لها ببطء، هاله الرعب الذي كان يسيل من عيناها بجنون هيستيري، شغل المقود ثم تحرك بسرعة رهيبة دون أن ينطق بحرف بينما هي تهمس بصوت لم تجده اصلًا:
-ي، ياسر!
بعد فترة كان يهبط من السيارة بسرعة غير عقلانية اطلاقًا، يسحبها من ذراعها كالبهيمة نحو تلك العمارة التي أجر بها شقة صغيرة مؤخرًا...

بينما هي تعترض بصمت مختنق وكأنها فقدت القدرة على تكوين جملة واحدة سليمة...!
وبمجرد أن فتح باب شقته حتى رماها للداخل بعنف فسقطت هي ارضًا متأوهه، دلف هو الاخر ليغلق الباب بالمفتاح ثم رماه بلامبالاة في احد اركان الشقة...
بدأ يقترب منها ببطء شديد بينما أصابعه تتحرك بآلية لتفتح ازرار قميصه ثم رماه ارضًا وكأنه لم يعد يطيق أي شيء على مسام جلده التي تغلي...

بينما هي اخذت تتراجع زاحفة ارضًا والرعب يلتهمها حية:
-اسمعني الاول يا ياسر، لو قربتلي هصوت وهلم عليك الجيران
ودون مقدمات كانت صفعة عنيفة تهبط على وجهها، للحظة شعرت أن وجنتها شُطرت نصفان من قوة وقسوة صفعته، وفجأة إنفجر ذلك البركان، وإنطلق الشيطان من جحره فأخذ ياسر يزمجر بجنون مُرعب:
-ليييية، ليييية بعتي نفسك بالرخيص يا رخيصة يا * لية تعملي فيا كده ليييية؟!..

مع كل كلمة كانت الصفعات تتوالى بقساوة على بشرتها الحساسة، فجاهدت هي لتخرج صوتها المبحوح بانهيار باكي:
-أنت السبب، أنت اللي بعتني الاول ومابقتش حتى تسأل عني ولا عن اخباري وكأني مش بنت خالتك الوحيدة اللي انت ربتها على ايدك وكأنها بنتك!
ازدادت صفعاته المجنونة على وجهها وهو يصرخ فيها بصوت زلزل ارجاء المنزل وعروق رقبته بارزة بوضوح وكأنها ستنفجر حتمًا:.

-ما إنتِ اللي مشيتي، إنتِ اللي سبتينا وعيشتي لوحدك عشان تروحي لل* دي يا فااااجرة يا *، بعتي نفسك بكام؟ الفلوس عمت عنيكي خلاص
اخذت تهز رأسها بضعف صارخة هي الاخرى في المقابل:
-لأ، انا مامشيتش عشان اروح للقذارة دي، انت اللي ماكنتش تعرف عني اي حاجة حتى لما كنت في بيتك وجمبك، انت السبب في كل اللي حصل يا ياسر انت السبب.

اصبحت مُسطحة ارضًا وقد فقدت القدرة تمامًا على المقاومة، وجهها وجسدها يأن بألم رهيب من صفعاته وركلاته العنيفة لها، لم تعد تحتمل، ألا يكفي ذلك الألم النفسي الذي ينهش روحها يوميًا، ويُذيب حيويتها كالمرض الذي لا خلاص منه...!
جذبها ياسر من خصلاتها الحمراء بعنف فصرخت بألم ولكنه لم يبالي وهو يقرب وجهها منه، أنفاسه تصفع وجهها الابيض الذي اصبح شاحب كالأموات، بينما الشياطين تتحكم بلسانه وعقله وهو يقول:.

-طب ما كنتي شوفتي ابن خالتك الاول، ده حتى انا اولى من الغريب، وكنت هدفعلك أجرتك برضه يا عاهرة يا بنت ال*
هزت رأسها نافية بهيستيرية، ليقترب هو منها اكثر، يشعر بالجنون، الجنون أسلم وأبسط تعبير لما يشعر به، حتى عندما فقد اثر دنيا تمامًا لم يكن يشعر بهذا القدر من الألم الحارق والجنون...!

جذب شعرها لأسفل بعنف، ودون شعور كان يدفن وجهه عند رقبتها، ويهدر متساءلاً بحروف مرتجفة محترقة بألم كحاله الان وهو ينتظر تلك الاجابة بنفس الترقب والجنون:
-حد لمسك؟
اومأت برأسها ودموعها تزداد انهمارًا كلما مرت الذكرى كالعلقم بذاكرتها، بينما ياسر يزمجر كأسد جريح وهو ينهض ليضرب الحائط بيده بهيستيرية...
ااااااااااااااااه.

يشعر أن شيء كان يخصه هو، شيء ملكه سُلب من بين يداه فجأة، شيء كان لامعًا، كان يظنه محصنًا في أبعد القلاع وأعلاها، ولكن فجأة وجده منتهكًا في اسفل قاع...
وبحركة مباغتة كان يستدير لها مرة اخرى بأعين حمراء يلمع الشر بين سطورها، فبدأ يقترب منها وهو يتخلص من ملابسه، بينما هي تتراجع بذعر نافية برأسها:
-انت هتعمل ايه، لا يا ياسر اوعى تقرب...
فتابع هو بصوت لا حياة فيه:.

-هعاين واشوف اذا كانت البضاعة تستاهل فلوسي اللي دفعتها ولا لا
-لا والنبي يا ياسر ابعد عنييييييي
زادت تلك البحة المتألمة التي اختلطت بصرختها عندما اصبح فوقها يمسك يداها بيد واحدة بينما يده الاخرى تمزق ملابسها بجنون وكأنه يود أن يثبت أنها مازالت ملكه هو رغم كل شيء...! يود أن يخمد تلك الثورة التي تأبى التراجع، فكانت عيناه تأكل جسدها أكلًا...

زاد صراخها المتوسل ليكتمه هو بفمه عندما اكتسح شفتاها ليُقبلها بعنف متعمد، شفتاه تدمي شفتاها بقسوة، ويصدح أنين خافت لم يدري يصدر عنها ام عنه...!

لبنان
في اجتماع يزيد مع باقي ضباط فريقه...
هب منتصبًا كمن لسعته أفعى، يرفض دون تردد وهو يهز رأسه:
-لا طبعًا، دنيا مش هتيجي معايا، انا اللي هدخل اجيب الميكروفيلم لوحدي بمساعدتكم
نهض احد الضباط كذلك يهتف بصوت جاد عقلاني يضاهي نبرة يزيد المُحملة بعاطفة حارقة:.

-يا يزيد رائف بيه معاه حق، البنت دي لازم تروح مش عشان تتفسح! لازم تروح لأن هي اللي كانت قريبة من مسعد الشامي، هي اللي لو شافت حد من مندوبين المافيا اللي في مصر هتعرفهم لو كانوا بيقابلوا مسعد، وكده برضو بطريقة غير مباشرة هنختبر وفائها لينا ونشوف اذا كانت فعلًا هتساعدك ولو قدرت تعرف حد منهم هتقول ولا لا..!

ظل يزيد يهز رأسه نافيًا، كلما تخيل ولو لمجرد تخيل أن يُصيبها مكروه وبسببه!، يشعر كما لو أن جزءًا كبيرًا من روحه يُنتزع بأشواك ضارية ليتركه فتات روح...!
حدق ب زياد الذي كان يتحدث، يرمقه بنظرة حازمة، صلبة لا تحمل ذرة تردد بالية:
-انا لو خدتها مش هكون مركز، هبقى حاسس إني مضغوط جدًا ولازم احميها ومش هكون مركز على هدفي، اخر كلام وعلى مسؤليتي انا اللي هروح وانتم هتبقوا ورايا زي ما خططنا.

أصر زياد على رأيه بريبة:
-بلاش يا يزيد، صدقني أنت بتخاطر وانت متعرفش اساسًا هي فعلًا في صفنا ولا ضدنا! ما يمكن بتكذب وبتمثل
ثم احتدت نبرته وغريزيًا تحولت لإيقاع الشك وهو يسأله مستنكرًا:
-وثقت فيها بسهولة كده يا حضرت الظابط؟ من امتى وانت بتلغي عقلك مع عدوك وخصوصًا لو عنصر ملاوع بالطريقة دي؟!

بدا وهو يناديه ب حضرت الظابط وكأنه يُعيده لنقطة البداية، يُذكره بما محته مشاعره التي فاضت فجأة نحو تلك الدنيا...!
نهض يزيد من مكانه يتنهد بتثاقل، صحيح، منذ متى وكان يزيد الشرقاوي بتلك الهشاشة الفكرية؟!..
هز رأسه نافيًا قبل أن تصله الاجابة من عقله، ليخرج صوته جامدًا رغم الضجة التي تحيط عقله:.

-لأ، انا ماوثقتش فيها، انا بفكر في شغلي مش اكتر! انا فطريًا هبقى بفكر في حمايتها حتى يمكن اكتر من حمايتي، لان هي هتبقى في حمايتي انا، وكده انا هزيد العبء على نفسي!
زفر زياد بيأس وهو يومئ موافقًا برأسه لينهض الجميع عدا يزيد و زياد...
حينها نهض زياد منفعلًا يهدر فيه بحدة صديق ينهر صديقه وليس زملاء عمل:.

-إيه يا يزيد؟ لحد امتى هتضحك على نفسك؟! انت اتجوزتها على اساس انك هتخليها جمبك لاطول فترة ممكنة عشان تاخد منها المعلومات اللي تهمنا بس باللين لان العنف مانفعش معاها، قولتلها انك عايز طفل برضه عشان تقنعها انها تفضل معاك لاطول فترة، عاملتها عادي جدًا ولا كأنها عِشرة عمر عشان تخليها تأمن لك، كل دا قولنا ماشي، انما تبدأ تأثر عليك وعلى شغلك تأثير سلبي لمجرد انك خايف عليها؟! لا يا يزيد لا والف لا، فوق انت مينفعش تثق فيها اصلًا بسهولة كده، فوق يا يزيد دي عدوة ليك وطول عمرها عايشة مع شيطان وتابع ليه في كل حاجة!

كلامه كان ترانيم يستجب لها عقله متشربًا كل كلمة بتمهل وادراك عقلاني، ولكن قلبه، تبًا لذلك القلب، قلبه يزمجر، يصرخ بجنون، ويخوض حربًا تتلاطم فيها تحذيرات العقل وتبريرات ذاك القلب...!
إلتفت له يزيد بصمت وملامحه مغلقة، ثم نطق بعد فترة صمت:
-فوقت يا زياد، فوقت متقلقش!
ثم رفع إصبعه في وجهه محذرًا بخشونة:
-بس برضه مش هاخدها معايا، افهم بقا انا خايف على شغلي اكتر من خوفي عليها.!

وقد إنتصر العقل، إنتصر متجاهلًا قلب يختض اعتراضًا بعنف داخله...
أجبر قدماه على التحرك خارج تلك الغرفة ليتوجه مباشرةً نحو الغرفة التي كانت دنيا تنام بها...
دلف بأقدام كالهلام تكاد تتهاوى، رمى نظرة ملتاعة لتلك الصغيرة التي تحتل ذلك الفراش الصغير، يا اللهي، لاول مرة يمزقه نزاع حاد بين قلبه وعقله...!

اقترب من دنيا يدفعها برفق للداخل فتحركت هي بانزعاج كطفلة مشاكسة لتنزوي في اخر الفراش، ليتمدد هو في المساحة الصغيرة المتبقية من الفراش...
إن كان العقل سينتصر لينتصر، ولكن بعد جولة واحدة يرفرف فيها القلب قربًا لها، جولة واحدة...!

مد ذراعه نحوها ليرفع رأسها ببطء يضعها فوق ذراعه، حينها تحركت بتلقائية لتنام على صدره في خفوت تام، أنفاسها رتيبة ساكنة في هدوء وسكينة طفولية، بينما هو يعيش عذاب قربها، نعم عذاب، عذاب قاتل، أنفاسها الساخنة التي تضرب وجهه عذاب، احساسه بقربها المهلك ذاك عذاب، شعوره بجسدها الغض بين احضانه دون أن يستطع أن يفعل بها ما يجيش بصدره ويحرقه ايضًا عذاب...

تنهد تنهيدة حارة تحمل في طياتها الكثير والكثير، ثم اغمض عيناه بهدوء وراحة لساعات، لساعات فقط ثم ستندلع تلك الحرب!

بعد ساعات قليلة...
بدأت دنيا تتململ ببطء في نومتها، فتحت عيونها الزرقاء بتمهل كقطة صغيرة، كادت تتحرك ولكن شعرت بذراعان يقيدانها بحزم، نظرت جانبها لتجد يزيد يحيط بها بين احضانه وذراعه الاخر يحيط خصرها وكأنها ستهرب من بين احضانه؟!..
ارتسمت ضحكة خافتة على ثغرها وهي تهمس لنفسها ببلاهه:
-لازم يكلبش فيا كده، ظابط بقا!..

ولكن تلك الابتسامة بدأت تنحدر شيءً فشيء لتختفي تمامًا وهي تدرك تلك الحقيقة، لم تكن تحلم او تهلوس، بل كانت حقيقة مريرة!..
حينها رفعت عيناها ببطء تتأمل ملامح يزيد، لطالما شعرت أنه ليس ذاك الفرعون الشيطاني الذي يَدعيه، هو ربما غامض، قاسي، هادئ ومظلم باستفزاز، ولكنه ليس شيطانًا!

وفجأة كان يزيد يفتح عيناه عندما رفعت إصبعها تمرره بخفة على ذقنه الكثيفة وابتسامة طفولية تعود لتحتل ثغرها، للحظة توقفت بقلق من المفاجأة، ولكن إصبعها لم يتوقف بل استمر صعودًا لعيناه تتحسسها ببطء هامسة ببراءة:
-تعرف إن رموشك تقيلة اوي وطويلة؟
حمحم بخشونة وهو يدفع يدها عنه ناهضًا في حركة واحدة، فحدقت هي بظهره متمتمة بتساؤل مستنكر:
-مالك يا يزيد؟

فصحح هو لها تلقائيًا بنبرة خشنة جادة وعملية بطريقة مستفزة لمشاعرها:
-يزيد باشا بما إنك عرفتي اللي فيها بقا...!
نهضت بهدوء متجاهلة كلمته، اقتربت منه بخفة تضع يدها على كتفه بتلقائية وتردد بنبرة مشاكسة لطالما كانت رقتها وطفوليتها تمس تلك النبضات الملتاعة بصدره:
-بجد مالك يا يزيد؟ أنت هتقولي على فكره يعني ف يلا قول!

حينها نفض يدها عن جسدها بحدة خفيفة، واستدار لها، متمسكًا كل التمسك بذلك القناع البارد الذي يخفي الصراع الحاد الناشب داخله، يتابع مستنكرًا بسخرية فجة:
-وجبتي الثقة دي منين اني هقولك يعني؟!
عقدت ذراعيها وهي تجيب بنفس النبرة:
-جبتها من إني مراتك مثلًا...

لأول مرة تنطقها صراحةً أنها زوجته، او لأول مرة تعترف بذلك فعليًا، ولكن اسفًا، ذلك الاعتراف لم يتلقى تهليلًا كما يجب، بل أحرقت أعصابها وتماسكها تلك السخرية التي تنضح من بين عيناه المظلمة كعادته، ليخرج صوته اجشًا، قاسيًا كقسوة السياط:.

-مراتي؟! ده بأمارة ايه يعني؟ ماتنسيش إن جوازنا مجرد صفقة، صفقة عملتها عشان شغلي زي ما عرفتي وانتِ كنتي موافقة عليها عشان غرض مُعين انك تخلصي مني، ف ياريت نتعامل على الاساس ده وماتتعامليش وكأننا متجوزين بحق وحقيقي!
كل كلمة كانت تسقط عليها كانت جلدة قاسية بسوط الواقع، يا الله، كم أسقطها من سابع سماء لسابع أرض؟!..
حاولت التماسك بثباتها الذي بدا انهياره واضحًا مع ارتعاش حروفها وهي تخبره بجمود ركيك:.

-طيب، بما إني خلاص عرفت الحقيقة وعرفت إنك مش متجوزني عشان الطفل، خلينا نتطلق احسن، جوازنا مابقاش له داعي!
إرتجف فكه حرفيًا، شتم ذلك العقل وشتم صديقه الذي ذبذب كل ما كان يحيكه قلبه دون شعور منه حتى، تبًا لكل شيء هو لا يريد سوى أن تكون جواره تحت اي مسمى حتى وإن كانت عدوة!..
استعاد صلابته الحادة وراح يزفر بضيق مستطردًا:
-اول ما نخلص اللي هنعمله هنا وننزل مصر، هطلقك!

وكم بدا متأثرًا، مرتجفًا محترقًا بأنين ملتاع ورافضًا لتلك الكلمة التي تخرج عنوة من بين شفتاه بضغط من ذلك العقل اللعين...!
لم يتحمل اكثر فخرج مسرعًا من تلك الغرفة تاركًا اياها تعاني مرارة الصدمة...

في نفس اليوم مساءًا...
كان يزيد في احدى الغرف يستعد استعداد تام لتلك المهمة، بينما دنيا حبيسة تلك الجدران، والكلمات تتقافز بعقلها من كلمة لاخرى، من حرف لحرف وهي تتذوق مرارة الفقدان التي تزحف لجوفها رويدًا رويدًا...
وفجأة سمعت صوت زياد المنفعل وهو يتحدث مع احد اصدقاؤه عن رفض يزيد اصطحابها وعن فائدتها له إن صاحبته...!

نبضة خلف الاخرى كانت تتسارع بجنون في فلك الخوف من الفقدان الحتمي حتى شعرت أنها ستخترق قفصها الصدري، وذلك القلق يكاد يحرق صدرها...!
لا تتخيل أنه لربما يذهب لتلك المهمة فتصبح الخطوة الفارقة بين عالمنا والعالم الاخر وليست مجرد مهمة وحسب...

بالرغم من أنها متيقنة أنها لن تحميه، بل هو من سيحميها إن ذهبت معه، ولكن حماقة الأنثى وتههورها، قلقها الحاني على من اصبح نبض قلبها، يفيضوا كالسيل على أفكارها فلم يعد للعقل وجود...
طرقت ذلك الباب المغلق عليها بعنف لتجد الباب يُفتح بعد دقيقة ولحسن حظها كان زياد صديق يزيد الحانق هو من فتح لها بوجه يقطر حنقًا ويسألها:
-خير؟
لم تتردد وهي تجبر لسانها على تلك المواجهة المحتدة:
-انا عايزه اروح مع يزيد.

صاح فيها مستنكرًا:
-نعم! تروحي معاه فين؟ هو رايح يتفسح؟!
هزت رأسها نافية تضبط نبرة صوتها على الجدية الصلبة:
-اروح معاه وهو بيجيب الميكروفيلم، انا سمعتك وانت بتقول اني هفيده لانه ممكن يشوف حد من مندوبين المافيا في مصر بس مش هيعرفهم وبالتالي ممكن يهربوا منكم وهو مايكونش عارف انهم مهمين، ارجوك خليني اروح حتى من غير ما يعرف
الافكار تتزاحم بعقله، فكرة تجعله خانع لجدية نبرتها والاخرى تقتل الاولى بضراوة...

ولكن مع استمرار إلحاحها الذي لم يخلو من اشباح القلق:
-ارجوك، اعتقد انكم اكيد هتكونوا وراه من على بُعد، انا هنزل معاكم انتم واول ما نوصل للمكان ده انا هروح ورا يزيد بسرعة! ارجوك انا عايزه افيدكم..
حينها زفر على مهل وبدأ عقله ينحدر نحو الافكار المؤيدة لها، فقال بصوت أجش:.

-طيب، بس على فكرة انتِ هتبقي تحت عينا برضو ف متحاوليش تعملي حاجة كده ولا كده، وبعدين ما اظنش إنك بالغباء اللي يخليكي لسة عايزه تروحي للي قتل والدتك!
ضغط على جرحها بقسوة، نعم، ولكن ذلك النزيف المُهلك لروحها اصبح كالوقود يمدها بطاقة غريبة للأنتقام...!
رفعت عيناها التي تحجرت بزرقتها ومن ثم اردفت بجمود:
-كويس أنك عارف إني مش بالغباء ده! انا بعرف انتقم من عدوي، وبعرف انتقم كويس اوي كمان.

اومأ زياد موافقًا على مضض ليستدير ويغادر استكمالًا للاستعداد...

وبالفعل بعد فترة كانت دنيا تنتقل مع باقي الضباط في سيارتهم دون علم يزيد...
وبمجرد أن اقتربوا من المنزل الذي يقيم به ذلك الرجل المدعو سراج الذي يخبئ الميكروفيلم، هبطت دنيا من سيارتهم لتركب موتوسيكل آخر مثل يزيد ولكنها لم تكن مغطاة الوجه مثل يزيد بل كانت مكشوفة الوجه، لأنهم حينما يروها لن يظنوا لوهله أنها تأتي مع الشرطة لأنها معروفة لهم أنها ابنة مسعد الشامي...

وعندما ترجل يزيد بخفة من الموتوسيكل متوجهًا نحو شارع جانبي يُخرج نحو ذلك المنزل المقصود، ركضت دنيا خلفه وما إن رأته حتى استطاعت لمح ذلك الغضب الأهوج الذي جعل ملامحه تنقبض بقسوة صارخة، بالرغم من أنه ملثم يغطي وجهه بقناع أسود ولكن عيناه كانت عنوان كافي لشروح مطولة من الغضب..
كانت ملتصقة به بخوف يداها استقرت على كتفاه، ومن ثم همست عند أذنه بحنان فطري داعب مشاعره:.

-اسفة، بس مكنتش هقدر استنى وانت رايح جهنم برجليك!
نظر حوله بحثًا عن سيارة فريقه ولكن فشل في ايجادها، شتم بصوت مسموع، ليسألها بحدة واضحة:
-معاكي سلاح طبعًا؟
اومأت مؤكدة برأسها وهمست له متابعة:
-ومعايا GPS متقلقش..

بدأا يتسللا بحذر في ذلك الشارع ويزيد في حالة يرثى لها، مزيج عجيب من القلق على تلك الصغيرة، الترصد، الحذر، والحنق يموج بين ضلوعه...!

وما إن اقتربا جدًا حتى أشار يزيد لها بيده أن تنتظر وتستعد، ومن ثم اخرج سلاحه الكاتم للصوت، ومن مكانه صوب ناحية الثلاث رجال الذين يقفون كحرس على البوابة، ليتساقطوا واحد خلف الاخر، ثم ركض يزيد بسرعة نحو السور ليقفز هو اولاً بسرعة وقفزت خلفه، كانوا يسيران ببطء يلتفتوا هنا وهناك، وفجأة كان شخص ما يجذب دنيا من الخلف بعنف نحوه بعيدًا عن يزيد فصرخت هي بفزع وقبل أن ترفع السلاح كان هو يرميه بعيدًا ويضع سلاحه عند رأسها...

حدث كل شيء بلحظات معدودة، لحظات كانت كالأشباح توغلت لداخل يزيد فجعلته مرتعدًا جازعًا من ذلك المشهد المتمثل امامه فلم تمر سوى دقيقة وكان عدد الرجال يزداد وهم يأتون لتلك الحديقة الصغيرة بينما دنيا عيناها تفيض بخوفًا حقيقيًا، دقيقة وكان سراج يبتسم ابتسامة واسعة وهو يصفق بسماجة متمتمًا بما جعل يزيد كالجماد يحاول الاستيعاب:
-تؤ تؤ تؤ، كده انا ازعل، هو احنا مش بينا اتفاق يا دندن وكنتي ماشيه فل؟!

جملة واحدة كانت تترنح بين افكار يزيد المذهول...
دنيا كانت على اتفاق مع هؤلاء المافيا ! لحظة، الثانية، الصدمة صدحت كصقف يندلع بلا رحمة في سماء صافية فيجعلها أشبه بالجحيم، و...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة