قصص و روايات - نوفيلا :

نوفيلا طفلة في قلب الفرعون للكاتبة رحمة سيد الفصل الثالث

نوفيلا طفلة في قلب الفرعون للكاتبة رحمة سيد الفصل الثالث

نوفيلا طفلة في قلب الفرعون للكاتبة رحمة سيد الفصل الثالث

بعد أيام...
كانت تسير ذهابًا وإيابًا في تلك الغرفة التي اصبحت سجنها الجديد، لم تراه منذ اخر مرة عندما اخبرها أنه سينفذ اتفاقهم وقتما يشاء هو، سوى عندما جاء ليخبرها بكل برود أنه سيُقيم حفلة صغيرة في المنزل ليُعلن زواجهم...!
اصبحت تهز رأسها بقوة اكبر وكأنها تود أن تخمد ذلك البركان المشحون بشتى الاسئلة داخلها..
لو كانت تفهمه بنسبة واحد بالمائة الان اصبحت صفر على اليسار...!

أصبح بالنسبة لها كأحدى الأساطير المعقودة بسحر، سحر أسود لن يُذاب إلا بالهلاك..!
طرقت على الباب بعنف وهي تنادي على تلك السيدة التي هي متيقنة أنها قريبة منها...
-إنتِ ياست ياللي برا، إنتِ يا حجه
سمعت سؤالها البارد من خلف الباب:
-نعم؟
حاولت حكم جنون ذلك الشيطان من الغضب الهائج بداخلها وردت بحدة ولكن على وتيرة هادئة:
-عايزه أدخل الحمام مش هقدر أستحمل لحد ما الناس اللي تحت تمشي.

غابت تلك السيدة مدة دقائق معدودة وبالفعل بعد لحظات كانت تفتح باب الغرفة بهدوء وهي تقول بنبرة آلية:
-اتفضلي، الفرعون قال سيبيها، كده كده إنتِ شوفتي بعينيكِ الحراس مترصصين برا من كل الجهات ازاي وأي محاولة بالهرب مش هتبقى في صالحك خالص!
رمت دنيا نظرة ساخرة نحوها ومن ثم راحت تردد بجمود متحفظ بالهدوء:
-قوليله إني اديته كلمتي ومش هاهرب لاني ماتعودتش أرجع في كلامي.

توجهت بهدوء نحو المرحاض مع تلك السيدة وهي تسرق نظرة لهؤلاء الرجال بالأسفل، وبالضبط كما توقعت...
اشباه رجال من تجار المخدرات والسلاح و، إلخ!
التوى فاهها بضحكة ساخرة لم تصل لشفتاها، لمَ توقعت أنه سيكون نظيفًا، مختلفًا، أنه سيكون شيء آخر يضاهي سواد والدها بمعنى أصح!؟..

ربما لأنها وُلدت لتجد نفسها في ذلك المستنقع، أب يغرسها به أكثر، ونور قوي، نور يشع من احدى ثنايا ذلك المستنقع ولكنه بعيد، بعيييد جدًا ومُهلك لقدرتها على الوصول له!
دلفت للمرحاض ولن تنكر ذلك الصوت داخلها الذي يحثها للبحث عن أي منفذ للهرب رغم ما سمعته وما قالته...
ولكن اسفًا لم تجد سوى نافذة صغيرة مغلقة بحديد، زفرت بيأس ثم تغسلت بهدوء تمسح وجهها عدة مرات وهي تتنهد...

إنتهت بعد فترة قليلة، خرجت من المرحاض بهدوء ولكن فجأة وجدت مَن يقبض على ذراعها بقوة وقبل أن تطلق العنان لتلك الصرخة كان هو يكتم فاهها بيده...
سحبها معه بحذر نحو الغرفة التي كانت تقطن بها وما إن دلفا حتى دفعته بعنف وهي تصرخ مزمجرة تلقائيًا:
-إبعد عني أنت مين!؟
خاب ظنها عندما اعتقدت لوهله أنه يزيد إذ وجدته شخصًا آخر لم تراه يومًا، ولكنها خمنت ببساطة أنه احد ضيوف ذاك الفرعون!

توهجت عيناها بضي الشراسة وهي تسأله بحذر:
-أنت مين وعايز إيه مني؟
عض على شفتاه بطريقة مقززة خبيثة وهو يرمقها بنظرة سلبتها ما يخفيها عنه دون أن يمسها!
ثم تابع بنفس المكر الشيطاني:
-محسوبك نادر، اما عايز منك إيه ف أنا شوفتك صدفة وإنتِ خارجة من الاوضه وبصراحة ماقدرتش ما أجيش وأتعرف على القمر ده!
كزت على أسنانها بعنف مغمضة العينين، تحاول السيطرة على أعصابها التي تحترق الان وهي تستطرد:.

-أنا آآ، انا مرات الف، يزيد، ولو عرف إنك فكرت حتى تطلع لي هنا مش هايعديها على خير
لا تدري لمَ استصعبت كلمة الفرعون في ذلك الموقف، ربما لأنها لن تفكر أن تتحامى يومًا بظل أسم الفرعون...!
ولكن يزيد، ذلك الرجل الحاني المشاكس المخبئ خلف قناع الفرعون له حكاية اخرى كالسرداب لن تراها او تعلمها بسهولة...

إنتبهت لذلك المعتوه عندما اقترب منها فجأة يحيط خصرها بجنون بينما شفتاه تطبع قبلات متلهفة على وجهها وهو يردد:
-وهو مين بس اللي هايقوله يا حلوه إنتِ!
في نفس اللحظة التي دفعته فيها دنيا عنها بكل بعنف وقوة امتلكتها، كان يزيد يدفع الباب بجنون وهو يدلف نحو ذلك الرجل صارخًا بصوت زلزل أركان المنزل:
-نااااااادر، يا * يا قذر بقا أنا تخش اوضة مراتي وبتحاول تقرب منها كمان يا * يا زبالة وربي ما هسيبك النهارده.

مع اخر كلماته كان يلكمه ويضربه بعشوائية هيستيرية وكأنه لا يعي اي شيء سوى أنه كان يقبلها ويقترب منها، يلمسها!
عيناه كانت حمراء، حمراء كما لم تراها دنيا يومًا منذ أن أتت، جهنم تنم عن احتراق شيء بصدره أشتعلت بها، اشتعلت ولن تنطفئ قبل أن تحرق ذاك الابله بلهب الغيرة الذي أشعلها...!
غيرة...؟!
وهل يغار، وعليها؟!، بالطبع لا، بل يغار على من تكون زوجته ولو بشكل صوري...

خرج من شروده على صوت نادر وهو يلهث محاولًا إلتقاط انفاسه فأصبح يهتف بلهفة:
-هي كانت بتستجيب لي قبل ما أنت تدخل واول ما دخلت بدأت تمثل إنها بتمنعني.

إن ظن أنه سيخلص نفسه من بين براثن الفرعون بهذه الكذبة فهو أحمق، أحمق لأن ذلك الجحيم بعينا يزيد استعر بجنون أقوى وأعنف ولم يخمد إطلاقًا...!
فازدادت ضرباته عنفًا وهو يصرخ فيه:
-وكمان بتتهمها، يعني بتطعني في شرفي يابن ال*
لم يتركه إلا عندما فقد وعيه تمامًا، حينها نهض لاهثًا يجذبه من ملابسه بلا اكتراث وسحبه كالبهيمة تمامًا نحو الخارج وهبط به للاسفل بنفس الطريقة الاكثر من مُهينة...

أصبح أمام باقي الرجال فرماه بازدراء قبل أن يصيح بنبرة غاضبة عاتية كالأعصار:
-أظن كلكم سمعتوا اللي حصل، ال* كان بيقول رايح الحمام وهو رايح بيتهجم على مراتي!
رفع رأسه بهيبة تخصه وحده وأكمل:
-حد عنده اعتراض على اللي عملته واللي هعمله فيه؟
هز جميعهم رؤسهم نافيين، فبدأ بعضهم يتمتم باستحقار
لا طبعًا، يستاهل
والاخر يتابع بعدم تصديق لتلك الجرأة التي يمتلكها ذلك الرجل
ازاي قدر وفي نص بيته ده إتجنن رسمي.

فيضحك اخر بسخرية وهو يجيبه
الظاهر إنه تقل في الشرب شويتين تلاتة!

أشار لهم يزيد بيده ليهدأوا، ثم خرج صوته أجش صلب قائلًا:
-شكرًا على زيارتكم تقدروا تتفضلوا
ثم صرخ مناديًا احد حراسه:
-ابراهييييم، خد الكلب ده ارميه عندك لحد ما يفوق ابقى ناديني هتسلى عليه لحد ما يتربى الرمة ابن ال* ده
وبالطبع امتثل ابراهيم وباقي الرجال لكلامه فحيوه بصمت وغادروا بكل هدوء...

ولكن يزيد لم يهدء ابدًا بل تكورت قبضة يده بعنف وهو يحدق بغرفة دنيا وفي اللحظة التالية كان يصعد كالأعصار المجنون لها...

كان مُسعد يجلس في غرفته، يضع قدم فوق الاخرى وعيناه ساكنة، مُلطخة ذلك السكون بآلاف الحروف ولكن اخذت وضع الصمت..!
وضع السيجار بين شفتاه ينفخ ذلك الدخان بشراهة...
دقيقة وكانت احداهن تقترب منه ببطء لتجلس على يد الكرسي جواره، تحيط عنقه بيداها الناعمة وحروفها المُدللة تخترق عزلته المشحونة:
-مالك يا سوسو؟!
نفض يداها عنه بعنف نوعًا ما ومن ثم زمجر فيها بخشونة:.

-إنتِ عارفاني مبحبش ام الدلع ده! وخصوصًا وأنا مضايق
اومأت موافقة على عجالة، الفترة التي أقامتها بين أحضان ذاك الرجل كانت حبل رقيق جدًا إنساب يجمع بين عقولهم ببطء حتى أصبحت طريقة تفكيره تترنح لها على سن ذاك الحبل بكل هدوووء...!
رفعت يداها تُدلك خصلاته برفق هامسة:
-أنا مابقتش فهماك يا مسعد، أنت إيه اللي مضايقك دلوقتي بالظبط؟
وعندما تدحرج الصمت لها بدلاً من اجابة واضحة، زفرت على مهل وراحت تتابع:.

-احنا عارفين إن دنيا مش هتنطق بحرف، وياسر هيرجعها او هيقتلها، مضايق لية بقا؟!
كان يهز رأسه نافيًا بصمت، كل ما يثير ضيقه في ذلك الموضوع أنه سيخسر جندي ذهبي صامد في حرب يحترق بها الذهب بلا نزاع!..
دنيا كانت كذراعه الأيمن برغم كل الرجال الذين يحيطون به، حتى ياسر!
هو مَن رسم خطوط عقل تلك الفتاة، هو مَن زرع بها نبتة الأخلاص الابدي له...

استفاق على صوت عشيقته تردد ضاحكة والسخرية تحتضن حروفها:
-اوعى تقولي إن مشاعر الأبوة صحيت فجأة جواك؟!
والحقيقة صرخت لتخرج للنور فجأة من بين جوف الظلام، فكان يجيب صارخًا دون أن يشعر بتلك الحروف المظلمة التي انسابت من بين شفتاه كالحرير:
-هي مش بنتي اصلًا عشان مشاعر الأبوة تصحى فجأة
سالته بأعين متسعة وصوت شحب فجأة:
-امال بنت مين؟!
رد على مهل بشرود:.

-دنيا مجرد واحدة ربيتها عشان تفيدني طول ما هي عايشة بس!
المفاجأة ألجمت لسانها، عقدت حروفها التي كادت تندفع للمتابعة بلسعة الصدمة!
لم تنطق فأكمل دون أن ينظر لها:
-دنيا بنت مراتي، أمها ماتت بعد ما ولدتها بشهر!
ولأول مرة تتجرأ لتسأل بصوت مبحوح نوعًا ما:
-ماتت ازاي؟!
بدا كالمسحور الذي اخضعه سحر غريب ليسلب الحقيقة من بين حواجزه بكل سلاسة!..
فأجاب بكل هدوء:.

-كنت بضربها لما نرفزتني وفجأة لقيتها طبت ساكتة، أتاريها كانت عندها القلب وماقالتليش او بمعنى أصح انا ماكنتش مهتم بيها، وماستحملتش وماتت بسكتة قلبية..!
لم تستطع كتم تلك الشهقة العنيفة التي خرجت من بين شفتاها، لينظر هو لها اخيرًا بنظرة خاوية متشعبة بالتهديد:
-إنتِ عرفتي سر من أسراري، وده معناه إن حياتك مُعرضة للخطر لو أي حاجة طلعت برا الأوضة دي.

ثم نهض بنفس الهدوء يغادر تلك الغرفة وكأنه لم يهددها بحياتها للتو وهو يخبرها أنه قتل والدة الطفلة التي تعتقده أبيها ويمكن أن تضحي بحياتها فداءًا له...!

دلف يزيد للغرفة التي تقطن بها دنيا بنفس الغضب الذي يكاد يحرق العالم بأكمله...!
إنتفضت هي واقفة بمجرد أن فُتح الباب لتنفجر فيه صارخة بتساؤل غاضب:
-إيه ده مش تخبط على الباب!
وفجأة وجدته يقترب منها بهدوء مقلق، بدأت تعود للخلف بنفس البطء، عيناه التي إنفجرت بها حمم بركانية تناثرت شظاياها وسط حروفه عندما هتف بخشونة حادة وهو يمسك ذراعها بعنف:
-أنا مش قولتلك ماتخرجيش من الأوضة دي؟

لم يتلقى أجابة فتابع بشراسة ذكرتها أنها تحدث الفرعون:
-شكلك حبيتي السجن القذر اللي تحت عشان تلمي نفسك
حاولت نفض ذراعها الذي أحمر من قبضته القاسية وهي تردف بنفس حدته:
-أنا مش متبعترة عشان ألم نفسي، و اه ياريت ترجعني السجن على الأقل مش هشوف الأشكال ال* اللي شوفتها هنا
أقترب منها اكثر، محى ذلك الفراغ الطفيف بينهما ليصبح ملتصقًا بها، تشعر بسخونة جسده تزامنًا مع غليان الدماء بعروقه...!

كاد يضطرب تنفسها من ذلك القرب الذي أصبح يبعثر توازنها وهي تنظر ارضًا لتجده يمسك فكها بعنفه المعتاد يرفعه مزمجرًا بجنون:
-لو كنتي سمعتي كلامي وماطلعتيش من اوضتك ماكنتيش شوفتي الاشكال ال* دي!
لم تجب بل أصبحت تحدق بعيناه، وآآهٍ من عيناه، عيناه التي اصبحت مثله تمامًا، نوعًا آخر من الطلاسم، ولكنها أشد إحكامًا وظلمة، طلاسم تخفي بين ثناياها حكايا الدنيا وما فيها!..

مغلقة ولكن يطغي عليها تلك الحمرة المخيفة التي تحتل عيناه عندما يصل لأقصى مراحل غضبه...!
وفجأة هتفت هي بصوت هادئ ظاهريًا ولكنه أصاب هدفه:
-أنت كل اللي حارقك إن واحد غيرك مد إيده على حاجة تخص الفرعون، مش عشان أنا مراتك ولا إنه مفروض صاحبك مثلًا..!
سمعت صوت صكيك أسنانه الحاد علامة على غضبه وجنونه اللذان ازدادا حد السماء...!

وفجأة كان يضغط على فكها أكثر حتى تأوهت بألم ولكنه كتم تأوهها عندما مال برأسه يلتقط شفتاها بقبلة مجنونة، عنيفة، إعصار من شتى المشاعر التي تجتاحه حاليًا!..
دقات قلبها تثور بجنون طالبة الهدوء الذي لن تناله وشفتاه تفعل بها الأفاعيل، أغمضت عيناها بعنف، لا يهدأ، تشعر بشيء يتسلل لجوارحها ببطء وعمق، ولازال يتعمق اكثر فأكثر، وهذا يُخيفها!

واخيرًا ابتعد بأنفاس مُبعثرة كخصلاته السوداء، يحدق بشفتاها التي كادت تتورم من ذلك الجنون المُسمى بقبلة..!
ليمسك فكها مرة اخرى يغوص بعيناها الزرقاء وهو يهمس بخشونة:
-شفايفك دي دايمًا بتستفزني بأي حروف بتخرج منها!
تركها في صمام ذهولها وأستدار ليغادر وهو يمسح على شعره عدة مرات بعنف ثم اخذ يزفر بضيق...!

بعد مرور يوم آخر،
في المطار...
كانت دنيا تصعد معه الطائرة عن جهل تام، عيناها تحتد مع مرور كل دقيقة وهي تزمجر فيه بغيظ جلي بين جموح بحر عيناها:
-مش هطلع إلا اما تفهمني انت واخدني على فين!
أغمض عيناه يحاول تهدأة نفسه، ومن ثم همس بهدوء كان كهدوء ما قبل العاصفة:
-اطلعي احسن لك، اما نطلع هفهمك
هزت رأسها نافية والعند يتضخم داخلها:.

-ابدًا، إنت جبت لي هدوم معرفش ازاي من غير ما اقيسها وخدتني زي البهيمه لحد هنا وانا مش عارفة احنا رايحين فين، خطوة كمان مش هتحرك من غير ما اعرف احنا هنغور ف أنهي داهيه!
كانت عواصف غامضة، مظلمة كالعادة تغيم بعيناه السوداء، دقيقة كانت زمن هذه العواصف التي غابت فجأة ليحل محلها أمطار خبيثة عابثة ومشاكسة وهو ينحني بحركة مباغتة ليضع يداه عند ركبتيها والاخرى عند ظهرها ويحملها على كتفه بكل عشوائية!..

ظلت تضربه هي على صدره صارخة:
-نزلني، نزلني يا همجي يا عديم الانسانيه
تجاهلها تمامًا وهو يصعد لتلك الطائرة الخاصة بكل برود وهي لاتزال تصرخ بانفعال...
صعدوا بالفعل فوضعها يزيد على احدى الكراسي بالطائرة ثم جلس جوارها بأريحية، فرد ظهره على الكرسي وهو يحرك يداه معًا متنهدًا لتصيح هي فيه فجأة بعصبية مُضحكة:
-وحياة أمك؟
كادت ضحكة تفلت من بين عبوس شفتاه ولكنه تمالك نفسه بصعوبة ليسألها وهو مغمض العينين:.

-عايزه إيه يا بيئة؟! صدقيني انا بحاول امسك نفسي عشان ما امدش ايدي عليكي
كادت تبكي وهي تجيب بطريقة طفولية:
-عايزه اطفح جعانة!
نبرتها المرتخية، حروفها المدببة ببوادر بكاء، لوي شفتاها التلقائي كالأطفال، كل شيء بها طفولي يجذبه لها دون أن يشعر..!
رمى نظرة جامدة نحو مضيفة الطيران وهو يشير لها بإصبعه لتومئ هي مؤكدة برأسها، غابت لدقائق ثم عادت وهي تسحب امامها منضدة صغيرة عليها الطعام...

وضعت لهم الطعام وهي تقف بهدوء، رفعت دنيا الغطاء الصغير الذي يغطي احدى الاطباق لترى به خمس أصابع ورق عنب فقط...!

مدت دنيا إصبعها تلتقط واحدًا لتضعه بفاهها وهي تستطعمه مرددة للمضيفة بفكاهه طفولية جعلت يزيد ينفجر ضاحكًا:
-إستوى خلاص إطفي على الحله وهاتيها.

تعالت ضحكات يزيد الرجولية، لأول مرة تشرق ضحكته هكذا منذ أن رأته، ضحكة خرجت من بين ثنايا قلبه لتدغدغ دقات قلبها تلقائيًا..!
بينما وقفت المضيفة متسعة الحدقتان مذهولة تضحك رغمًا عنها..
دقيقة وكانت الطائرة تقلع فشهت دنيا بتلقائية بقلق وهي تمسك بيد يزيد الموضوعة جوارها، لم يفكر يزيد مرتان وهو يضع يده عليها لتحتضن يده العريضة الخشنة يدها الصغيرة بحنان فطري...

إرتعشت كل خلية بها من هذه اللمسة الدافئة، وإرتعش جمودها وبرودها من حنو يكاد يُذيبها...!
وحينما لاحظ يزيد أبعد يده على الفور يتنحنح بخشونة هاتفًا:
-خلاص الطياره طلعت بلاش شغل الأطفال ده، ولا دي طريقة جديدة عشان تلفتي نظري ليكي بيها؟!
وقبل أن تجيب بما يناسبه كان يغمض عيناه بهدوء مع قوله الحاد الجامد:
-إتخمدي وبطلي فرك عايز أنام انا مش فاضيلك، متنسيش إنك مخطوفة يا، أنسة!

قال اخر جملة بسخرية مريرة واضحة لتكز هي على أسنانها بغيظ، لا يمكنه إتمام موقف ولو قصير دون أن يدمر صفوه بغلاظته القاسية تلك...!

بعد مرور ساعات...
هبطا من الطائرة واخيرًا، كانت دنيا تتلفت كل دقيقة حولها علها تستشف أين هي؟!..
حقيقة واحدة هي التي قدمت نفسها لها على طبق من ذهب، أنها ليست بمصر بل خارجها!

وكالعادة كلما شعرت بملمس يد يزيد على بشرة ذراعها الناعمة إرتعشت بشيء من الاستجابة التلقائية لذلك الدفئ الذي تلتمسه في لمسته...!
نظرت له بحدة لتجده ينظر أمامه بهدوء ولكن يداه لم تفلت يداها، زفرت بصوت مسموع قبل ان تقول بنبرة متجهمة:
-ممكن أعرف احنا رايحين فين دلوقتي؟!
لم ينظر لها حتى وهو يرد بجملة مقتضبة:
-ياريت تنقطيني بسُكاتك، انا عارف انا بعمل إيه.

توعدت، ثارت، تعاركت الحروف داخل جوفها لتصدح مهاجمة غروره ذاك، ولكنها كتمت كل ذلك بمهارة وهي تحاول تهدأة نفسها..!
كانا يسيران في شارع شبه خالٍ من السكان، وفجأة سمع يزيد صوت احتكاك عجلات سيارة يقترب منهم بسرعة...
بحركة مباغتة حمائية كان يجذب دنيا لتقف خلفه وهو يعود بها للخلف ببطء، وبالفعل كما توقع خلال لحظات كانت سيارة تخترق الرؤية امامهم وبضع رجال يهبطون منها...

لعن تحت انفاسه بصمت، لم يتوقع أن يجدوه وبمجرد وصوله المطار!
ثم حانت منه التفاتة سريعة لدنيا ترافق تمتمته الحانية:
-إهدي خالص وماتبصيش لهم مش هخلي حد يلمسك، ولو حصل اي حاجة اجري إنتِ هتلاقي عربية ظهرت اركبيها
اومأت دون شعور منها بلهفة، بالرغم من كونها كانت ذراع والدها الأيمن في معظم أعماله المشبوهه، ولكنها لم تدخل في تصادم جسدي فعلي وخاصةً مع مافيا سوى مرة في حياتها كلها...!

نظر يزيد لهم بكل ثبات، وخرج صوته هادئ وتحيطه هالة من الخشونة كالعادة وهو يهتف:
-عايزين إيه!
-إنتَ بتعرف ياللي بنريده مستر يزيد، بدنا الميكروفيلم اللي بيدين سراج واتباعه اللي أنت قلت إنه معك!
نطق احدهم بمكر هادئ وعيناه تتجول ملامح يزيد الصلبة وملامح تلك القطة التي لم تستطع محو وغزات الذعر الانثوية من بين كرة الثبات التي تحيط بها...!
هز رأسه نافيًا بنفس الهدوء الذي يكتم خلفه إنفجارات عدة:
-مش معايا حاجة.

كان يتحدث بهدوء ناظرًا له، وفي اللحظة التالية كان يقبض على يد دنيا جيدًا ليركضا معًا فجأة بسرعة...
إلتفت يزيد برأسه وهو يركض مع دنيا ليجدهم يركضون خلفهم كما توقع، ولكن ما لم يتوقعه هو إنطلاق الرصاص من خلفهم بشكل مفاجئ, وفجأة وجد دنيا تتصنم مكانها فجأة بشحوب و...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة