قصص و روايات - نوفيلا :

نوفيلا ختامية آل الجارحي للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الحادي عشر

نوفيلا ختامية آل الجارحي للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الحادي عشر

نوفيلا ختامية آل الجارحي للكاتبة آية محمد رفعت الفصل الحادي عشر

اليوم لم يكن سهلًا بالنسبة إليه، قضاه بالمرور برفقةٍ يحيى على الشركات والمقر الرئيسي، وقد تسنى له العودة قبل موعد الإفطار بساعتين، ولج ياسين لغرفة مكتب القصر، ليضع ما بحوذته من أوراقٍ هامة بخزانته، فوضع الأوراق على سطح المكتب إلى أن حرر مفتاحها برقمها السري، وما كاد بوضع الأوراق حتى تفاجئ بها تقتحم مكتبه وعينيها الغدافية تعلن عن نشوبٍ معركة دامية لم تحدث قبل!

استقام بوقفته بثباتٍ قاتل، وهو يجابه أُنثاه التي توشك أن تهاجمه بمخالبها الآن، وترقب لحظة تحرر كلماتها ليعلم ماذا يحدث معها بالتحديد؟ فأتت تلبي ندائه حينما صاحت باندفاعٍ: هو أنت ليه دايمًا بتحسسني إن الأولاد مسؤوليتك أنت لوحدك! وإني مينفعش أعرف أي شيء يخصهم!

ورفعت أصبعها تحذره وهي تضيف غاضبة: أنا ليا فيهم زي ما أنت ليك بالظبط ويمكن أكتر، كل مرة أكتشف شيء مخبيه عني بتجنن ده مش سر من أسرار مغارتك عشان تداريه عني، خرج أولادي بره دايرة غموضك يا ياسين يا جارحي!

تهدلت شفتيه عن بسمةٍ شبه ساخرة، جعلتها تحتد لذورةٍ غضبها، وخاصة حينما لم تجد أي رد فعل منه، راقبها بكل هدوءٍ ورزانة كمعتاده، وتحرك ببطءٍ ليستكمل عمله بنقل الأوراق لخزانته، فأتبعته وهي تصرخ بغيظٍ: أنا مش بكلمك، فهمني المرادي خبيت عني اللي حصل لعمر ليه؟!

أغلق باب الخزانة، ثم إلتفتت إليها يمنحها نظرة مطولة قبل أن يتجه للأريكة الجلدية السوداء، يتمدد عليها ببعض التعب ويده تحل جرافاته المرافق الدائم للمناسبات الرسمية، واضعًا معصمه على جبينه مغلقًا عينيه باستسلامٍ للنوم، تاركًا تلك الأعين الملتهبة تكاد تحرقه حيًا، لتنفجر عن صمتها حينما دنت منه: ياسين أنا بكلمك!
رد عليها بجمودٍ: لما تهدي من عصبيتك دي وقتها يمكن أرد!

جحظت عينيها بدهشةٍ، وإلتهمت فمها بغيظٍ كاد بأن يفجر أوردتها من بروده، التقطت آية نفسًا مطولًا ووقفت تراقبه لدقائق، خضعت إليه بنهايةٍ المطاف فاتجهت بهدوءٍ للمقعد المجاور لأريكته، وجلست بهدوءٍ تامٍ، جعله يبتسم برضا، فنهض عن الأريكة وجلس قبالتها وهو يراقب تحكمها بعصبيتها باجتيازٍ، فقال: شوفتي كده النقاش يكون لطيف، بدون ما تتعبي نفسك وتخرجي عن طبيعتك الهادية اللي ممكن تنسيني إنك مراتي!

واستكمل بخبثٍ وهو يفرك جبينه: ثم إن دي مقابلة تقابليني بيها وأنا بره طول اليوم وصايم في عز الحر!
رأف قلبها به ولكن عقلها مازال يجذبها لدوافع متعصبة، فذمت شفتيها بسخطٍ: كلنا صايمين وبنشتغل محدش قاعد هنا!

طوفها بعسليته بنظرةٍ متفحصة، فعلم أن غضبها لا يستهان به، لذا كان عليه التعامل بحذر لحل الأمر، فدنى منها مجددًا حتى بات مجاور لها، ثم قال بصوته الرخيم: محبتش أضيع عليكِ فرحة اليوم اللي قضيته مع الأولاد في الدار وأنا عارف إنتي بتستنيه إزاي.
رمشت بعينيها بارتباكٍ وقد بدت تهدأ عن غضبها، فأضاف بحبٍ: والحمد لله الموضوع كان بسيط والولد كويس وبخير لزمتها أيه أقلقك!

ردت عليه بحزنٍ: لازم بردو أعرف، حتى لو كان أيه.
واستكملت بصوتٍ أشبه لاختناق البكاء: ياسين أنا بقيت خايفة من كل شيء حواليا، بخاف لما أشوف حد من الأولاد متغير أو مهموم ويكون وراهم شيء أنا معرفوش وأنت مخبيه عني!

وتحررت تلك الدمعة المتحجرة وهي تخبره: أنت أجبرتني مسألش حد فيهم مالك لإني واثقة ومتأكدة إن لو فيهم شيء محدش هيتكلم، حتى الموضوع اللي حصل مع عدي معرفتوش غير بالصدفة! أي مشاكل بيواجهوها مش بعرفها!

انتظر انتهاء حديثها وقال برزانة: ده مبيحصلش غير مع عدي وعمر يا آية وده أنا متعمده لإنهم مش زي مليكة، الراجل لو إتعود من صغره يجري يشكي لامه اللي مزعله هيجي في يوم يخرج أسرار بيته بره والأسرار دي تخص مراته حتى لو كنا كلنا كويسين مع بعض، بس بالنهاية دي حياتهم الخاصة مينفعش حد يعرفها، تفاصيل شغلهم ومشاكله كل ده لازم يكون خاص بيهم الا لو في مشكلة وصلت لينا كلنا بدون تدبير وقتها هنتدخل وهنحل بس وجودنا في حياتهم مش لازم يكون دايم.

واستكمل ببعض الهدوء: انتي ربيتهم كويس وبقوا رجالة متجيش دلوقتي وتفكري في اللي ممكن يفسد التربية دي.
وأحاطها بذراعه وهو يستكمل بحنان: حبيبتي إنتي بتخلطي زعلك من اللي حصل مع عمر باللي إنتي زعلانه منه طول الفترة اللي فاتت، وده غلط، دول أولادك وليكي حق فيهم أكتر مني أنا بحاول أفهمك إنهم كبروا ومش محتاجين لوجودنا في حياتهم بكل تفاصلها، هيكون لينا تفاصيل معاهم طبعًا بس خاصة بينا احنا.

شككت بحديثه حينما قالت: بس أنت موجود دايمًا في أغلب مشاكلهم، إزاي بتطلب مني شيء أنت نفسك مش بتعمله؟

رد عليه بعقلانيةٍ: قولتلك إن لو الظروف أجبرتنا هنتدخل، وأنا على الرغم من إني بحاول أكون بعيد الا أن الظروف اللي بتجبرني أكون موجود دايمًا حوليهم، ومتنسيش إني ليا واجبات تجاه البنات ومقدرش أخذل تعشمهم فيا لإن مفيش أب بيتخلى عن بناته ولا أولاده في نفس الوقت، بحاول أخد قرارات متجيش على الطرفين، وفي نفس الوقت أحل بيها المشكلة الاساسية بينهم حتى لو هبان في عين الشباب إني بنصفهم، فأنتِ لازم تقدري إني بتصرف بالعقل ومتحاوليش تقارني مسؤولياتك تجاههم بيا.

تطلعت له بنظرةٍ ساهمة، فضمها إليه وربت على خصرها بحنانٍ، وهو يخبرها: مش عايزك تشغلي بالك بأي شيء، أنا هنا وطول ما فيا نفس مش هخليكي تعيشي جوه الدوامة دي بعينها، خليكي متأكدة إني بحميكي من متاهة مش هتبعد عنك الفكر!
هزت رأسها وابتعدت عنه بخفةٍ، فمنحها ابتسامة صافية أرغمتها على أن تبتسم له، فقال وهو يبتلع ريقه الجاف: ها طمنيني عملتوا فطار أيه النهاردة؟

كانت الصدمة متبادلة بين الطرفين، وخاصة بعدم توقع رؤية كلاهما بمكانٍ هكذا، على عكس الزوجتين بدت كلاهما بأن هناك إتفاق مسبق بينهما بالأمر، ولج عدي للداخل وجذب المقعد المجاور إليه فجلس يراقبه ببسمةٍ حملت السخرية بوضوحٍ، حتى صاح الأخير متعصبًا: هتفضل باصصلي كده كتير!
حك أنفه ومال يهمس إليه: بحاول أستودعب إني شايفك قدامي شحم ولحم!

راقبه بغيظٍ وخاصة حينما استطرد عدي بمكرٍ: قولي يا رحيم هو مراد عارف إنك هنا؟
كز على أسنانه بقوةٍ جعلت صوت اصطكاهما مسموع لمن يجاوره، فضحك وهو يردد: شكلك أول مرة تيجي المكان ده، بس متقلقش هتتأقلم.
واسترسل بشكٍ: إنت متأكد إنك مش جاي هنا تحت تهديد السلاح!

أغدفت زيتونته بغضبٍ جعل الأخير يبتلع جملته خلف ضحكاته المنفلتة، فتخلى رحيم عن صمته حينما قال بسخريةٍ: ده ترتيب احترافي متعرفوش إنت، ترتب وتدبر وتقابل مراد لوحده الصبح وتلاقيني في وشك بليل، شغل مخابرات بقى يا سيادة المقدم!
زوى حاجبيه بمكرٍ وصاح: أنت وصلت بيك إنك تراقب أخوك وفي رمضان يا رحيم!، أنا حقيقي مشوفتش ثقة عظيمة زي اللي بينكم حاجة تشرف!

ضحك بصوتٍ مسموع، وانحنى إليه يهمس له: مش العدو بس اللي بتراقب خطواته يا عدي، شغلك غير شغلنا، لما تشتغل في المخابرات هتتعلم تراقب نفسك مش عيلتك!
وعاد يستند بظهره للمقعد الوثير، وهو يستطرد بجديةٍ: أي مهمة عملناها لو وشنا اتكشف لحد مؤكد إن حياة واحد فينا في خطر، عشان كده مهمتي إني أحميه.

وعاد يستند لكتفه ليهمس مجددًا: أنا بعترف إني خسرت كتير من اللحظة اللي نهيت فيها العداء بيني وبين الجوكر وبقى للأسف الشديد أخويا، من يومها الحياة بقت مملة ومفيش فيها اللي يحمسني!
راقبه عدي بسكونٍ وفجأة تعالت ضحكاته بصورةٍ جعلت الأخير يبتسم، فأشار إليه: خلاص سيبك من مراد وتعالى حاربني أنا ووقتها هتعرف إن في الأصعب من أخوك.

نجح برسم علامات الذعر على وجهه وهو يجيبه بصدمةٍ: مجنون أنا عشان أواجه أسد شرس بيلتهم أي شخص يحاول يبص نحية شبله!
ضيق عينيه بدهشةٍ من فهم مغزى حديثه الغامض، فاسترسل رحيم موضحًا: أنا عاقل كفايا إني أختار طريق نهايته ياسين الجارحي!

لجوارهما.
مالت عليها رحمة تهمس بضيقٍ: هو ده اتفقنا!
أجابتها شجن بهدوءٍ وعينيها تراقب زوجها المنشغل بالحديث: أنا مصدومة والله، رحيم نادرًا لما كان بيجي معايا عند دكتور النسا، أول لما عرف إني رايحة صمم يجي معايا.
واستدارت إليها متفوهة بسخريةٍ: وبعدين ما أنتي كمان جايبة عدي وأنتي جاية!

ابتلعت ريقها بتوترٍ، قبل أن تخبرها بخجل: بصراحة أول ما قالي أجي معاكي فرحت ومصدقتش أصل عدي نفس اللي قولتيه عن جوزك، مجاش معايا في حملي الأول غير يوم الولادة عشان كده بحاول أستغل كل لحظة هو حابب يكون فيها جنبي.
منحتها ابتسامة صافية، ورددت بحبٍ: ربنا يعوضك خير يا حبيبتي.
واستكملت بمرحٍ: مش مهم نتبقى نرتبها ونتقابل مرة تانية.

بغرفة مكتب القصر.
انتهى الشباب من أعمالهم المتعلقة بالمقر معًا، فتمدد حازم على المقعد بانهاكٍ بدى على معالمه، وانتقل لصوته الشاحب: لسه كام ساعة على الآذان.
رفع معتز ساعة يده وهو يجيبه: ساعة الا ربع إجمد يا وحش.
لعق شقتيه الجافة وهو يردد بسخريةٍ: أجمد أيه أنا هموت من العطش النهاردة.

رتب أحمد أوراق الملفات وما أن انتهى حتى جذب أحد المقاعد ليجلس جوار أخيه، فابتسم قائلًا: ساعات بحس إنك عيل صغير وبتصوم لأول مرة! ما تنشف كده، وبعدين النهاردة مفيش نوم نهائي.
اعتدل حازم بجلسته وهو يتساءل بقلقٍ: ليه هو الشغل مخلصش؟
أجابه ياسين بنزقٍ من ذاكرته التي تتلاشى تدريجيًا حينما يزوره الجوع القارص: احتمال إن النهاردة تكون ليلة القدر، وزي كل سنة هنقيم الليل ولا عايز تضيع أجر الليلة العظيمة دي؟

ابتسامة عذباء انفرجت على شفتيه: لا طبعًا مستحيل، هنقضيه زي كل سنة بالمسجد ولا هنرجع هنا؟
أجابه رائد: مش عارف بس أعتقد عمي هيروح المسجد وإحنا أكيد وراه.
اقترب منهم مازن، وقال ببسمة حنين: أكتر حاجة كنت محروم منها برة مصر جوه الألفة والعيلة اللي جوه كل بيت على صينية فطار رمضان.

واستكمل بصوتٍ حزين: أنا اكتشفت إن صوت المساجد بالطراويح أعظم بكتير من هدوء غريب متعرفش إذا كان الآذان أذن ولا لا الا من ساعة موبيلك!
وطوفهم بنظرة عنيقة أتبعها نبرته الدافئة: وأنا وسطكم بحن لأيام طفولتي لما كنت بقعد مع عيلتي على سفرة واحدة قبل ما نتفرق وكل واحد فينا يسافر شغله في بلد شكل.
واسترسل بحبٍ: انتوا عوضتوني عن أحاسيس كتيرة اتدفنت من وقت طويل.

أحاطه معتز بذراعه، ليخبره ببسمة مرحة: لو محستش كده وسطينا تبقى عيبة كبيرة في حقنا، وبعدين أنت مالك مكبر المواضيع كدليه ما أنت واحد مننا كفايا إنك الوحيد اللي ادنله الأمان وبنت مننا!
أجابه ببسمة ممتنة: حبيبي يابو نسب
جلس رائد على الأريكة جوار جاسم وهو يراقبهما بنظرة شك، فقال: معتز ومازن بيحبوا في بعض تيجي من أنهي زاوية دي!

أجابه حازم وهو يفرد قدمه على المقعد قبالته باستهزاءٍ: ده تأثير الصيام تعالى بعد الفطار واتفرج على المذبحة اللي بينهم، والله مروج بنت عمك دي بتصعب عليا يا جدع، مبتبقاش عارفة تقف في صف أي طور فيهم!
إلتهبت أعيناهما واتجهت إليه، فمال برقبته على المقعد باسترخاء وهو يردد بعنجهيةٍ: أخويا الكبير قاعد جنبي يا طور منك له!

انتهوا كلاهما من الدخول برفقة زوجاتهما للطبيبة، فأصر عدي على الذهاب معًا لتناول الإفطار معًا، فاجتمعوا على الطاولة يترقبون سماع الآذان لتناول التمر المقدم مجانًا من للمطعم للصائمين سنة عن الحبيب عليه أفضل الصلاة والسلام، فتناولوه ومن ثم ارتشفوا القليل من المياه وبدأوا بتناول طعامهم، وما أن انتهوا نهضت شجن ورحمة لحمام السيدات للاغتسال، فوقفت رحمة تعدل حجابها إلى أن تنتهى شجن من تنظيف يدها، استدارت إليها وهي تردد ببسمة ماكرة: مقولتليش عرف أمته إنك حامل؟

فور تذكرها الأمر ارتسمت على ملامحها بسمة حياء، اصطحبها ارتباك واقتضاب بالرد: بعد ما رجع من المهمة، وصمم يجي معايا عند الدكتورة.
ابتسمت قائلة: المهم إننا اتقابلنا، أنا عندي كلام كتير أوي عايزة أقولهالك.
جذبت حقيبة يدها وهمست لها بعد تفكير: سبيهم يحكوا لبعض بطولاتهم المملة وتعالي نقعد على تربيزة تانية.
هزت رأسها وهي تخبرها: يلا.

بقصر الجارحي.

اجتمع الجميع على المائدة بعد أداء صلاة المغرب بالمسجد، فعادت الصغير في غياب أبيه اعتياده بالجلوس محله بالقرب من جده، اعتلت الفرحة معالمه حينما علم بأنه سيتناول طعامه بالخارج هذا اليوم، فأراد أن يكون لجواره على المائدة، بدأ الجميع بتناول الطعام ونظرات ياسين مُسلطة على عمر الذي يحاول قطع اللحم بسكينه وبالنهاية فشل، فأشار لياسين الصغير ببسمة هادئة: حبيبي إرجع مكانك وخلي إنكل عمر يقعد مكانك.

امتعضت ملامح الصغير بانزعاجٍ حينما تلاشت آماله بالجلوس جوار جده الحبيب، فترك المقعد وهو يراقبه بنظرةٍ حزينة لم يلاحظها ياسين، انتقل عمر للمقعد باستغرابٍ من طلب أبيه حتى الشباب تطلعوا لبعضهم البعض بذهولٍ، ازداد على الأوجه حينما قطع ياسين قطع اللحم بسكينه لقطع صغيرة، ثم نقلها لطبق عمر ليتمكن من تناول طعامه بسهولةٍ، راقبه عمر ببسمةٍ صغيرة، فتمعن بالتطلع إليه بحبٍ يتلألأ بعينيه ليجده يشير بشوكته للطعام متسائلًا: أصغرلك اللحمة عن كده؟

هز رأسه نافيًا وتناول طعامه وابتسامته لا تتخلى عنه، وعن وجوه الشباب ويحيى الذي يراقب ما يفعله صاحب القلب الذهبي رغم صرامة هيبته.

اندمج عدي مع رحيم بالحديث، حتى صاح الأخير وهو يتناول الحلوى ببطءٍ وتلذذ: مش ناوي تقولي سبب تجمعك المفاجئ بمراد أيه، ولا أعرف بطريقتي؟
مسح بمنديله الورقي بقايا الحلوى، وبنبرة خشنة صاح: هتعمل أيه هتراقبني زي ما بتراقب أخوك ولا هتسلط عليا اتنين بلطجية!

ضحك بصوته الرجولي، وأكمل تناول طعامه، فلازمهما هدوء انتهى حينما قال بجدية تامه: االلي بتفكر فيه ممكن يكون صح يا عدي، بس للأسف وجودنا هناك مش هيديهم فرصة إنهم يكملوا اللي بيعملوه، يعني بالمعنى الصريح طرف الخيط اتقطع.
زفر بمللٍ، واقترب بجلسته من الطاولةٍ وهو يردد بهدوءٍ: رحيم أنا واثق من كلامي الناس دي وراهم الأخطر من اللي احنا وصلناله، دي البداية لشيء مخيف.

ترك الملعقة عن يده، ودفع الطبق بنفورٍ مما يستمع إليه، فقال وهو يحاول التحلي بالهدوءٍ: ولتفترض يا عدي، الموضوع متتهي لو دورنا وراهم ألف سنة مش هنقدر نوصل لحاجة، لإن اللي اتدفن في قبر مش هتتعرف عليه الا لما ريحته تفوح، والله أعلم هيحصل أمته! (أشباح المخابرات. )
هز عدي رأسه باقتناع، ومال برأسه يتفحص المكان من حوله وهو يتساءل باستغرابٍ: هما إتاخروا ليه؟!

أبعد رحيم مقعده عن الطاولة يتفحص من حوله حتى سقطت زيتونته عليهما.
فنهضوا إليهما، فجذب عدي المقعد ورحيم المقعد المقابل إليه، ارتبكت رحمة وشجن حينما وجدهما لجوارهما، وخاصة حينما قال عدي بمكرٍ: مش مضطرين تدوروا على حجج عشان تتقابلوا.
ابتسم رحيم وهو يردد: معاك.

صعد أحمد لجناحه، فإتجه لمكتبه الصغير الموضوع بأحد زوايا يفتح حاسوبه ليعيد إرسال الملف لياسين، فوجد آسيل تخرج من الخزانة حاملة ملابسها متجهة للحمام، ابتسم وهو يصيح بسخرية: غريبة متقتلتيش النهاردة بدري ليه؟
أجابته ببسمةٍ واسعة: بعد الشاور متقلقش.
هز رأسه بيأسٍ منها، وعاد يستكمل ما يفعله بهدوءٍ تام.
بالداخل.

جمعت خصلاتها المتمردة برابطة، ثم فتحت الصنوبر تغسل يدها أولًا، فتأملت انعكاس صورتها بالمرآة قبل أن ترفع يدها بالمياه لتنظف وجهها، ومن ثم جذبت المنشفة تجفف المياه، تحاملت على الصنوبر حينما اهتز جسدها فجأة، فارتدت للخلف جراء ذاك الدوار الغريب، برقت بعينيها وهي تحاول التقاط صورة منتظمة للمرحاض الملتف من حولها، فتعلقت بالستار الملتف بالدُش، ازدادت ضربات قلبها بشكلٍ ملحوظ فسقطت على قدميها ورددت بصوت خافت: أحمد.

صوتها الواهن لم يكن مسموع إليه، فاستجابت لدوار رأسها الشديد ويدها مازالت متعلقة بالستار الذي استجاب لها فسقط معها مصدرًا ضوضاء كانت صاخبة لأحمد الذي هرع لباب الحمام يطرق وهو يصيح: أيه الصوت ده يا آسيل؟
لم يأتيه أي رد، فعاد يطرق على الباب مجددًا وهو يناديها بقلقٍ: آسيل، سامعاني؟!
لم يحتمل بقاءها صامته هكذا فردد بفزع: أنا هفتح الباب...

وحينما لم يستمع أيضًا لصوتها، حرر مقبض الباب فجحظت عينيه صدمة حينما وجدها مُمددة أرضًا، أسرع آليها يرفع جسدها عن الأرض وهو يصيح بقلقٍ: حبيبتي مالك؟!
لم يأتيه أي ردًا، فحملها للخارج ثم جذب ملابسها الموضوعة بالحمام، ليعاونها على ارتدائها بقلق يقتص من ملامحه المنقبضة، فردد بخوف: ردي عليا متقلقنيش عليكي عشان خاطري!
ما أن انتهى حتى هرع لهاتفه يطلب الطبيب مشددًا بضرورة حضوره في التو والحال.

عاد عدي للقصر برفقة زوجته، فوجد ياسين يجلس بالحديقة على الأرجيحةٍ، ويبدو عليه الحزن الشديد، أشار عدي لرحمة مرددًا: اطلعي أنتِ يا حبيبتي وأنا شوية وجاي.
أومأت برأسها بخفةٍ، وصعدت للأعلى.
اقترب عدي منه، يتأمل معالمه الحزينة بذهولٍ، فقطع شروده حينما قال: لسه صاحي لحد دلوقتي ليه يا ياسين؟
نهض الصغير عن الأرجيحة وهو يردد بهدوءٍ: محستش بالوقت أنا أسف
واتجه خطوتين للداخل وهو يستطرد: حالًا هطلع.

أارد أن يعلم ما به ولكنه لم يجد فرصة لذلك، رفع رأسه عاليًا يتأمل القصر بنظرة متفحصة، فوجد الضوء يحيط بالنوافذ بأكملها، فابتسم حينما تذكر بأن اليوم السابع والعشرون من رمضان، احتمالية ليلة القدر المباركة، الجميع مستيقظون بغرفهم للعبادة، ولا شك بأن ياسين الجارحي والشباب بالمسجد الآن، لذا توجه للمسجد على الفور لصلاة قيام الليل ما قبل صلاة الفجر.

بالأعلى.
انتهى الطبيب من فحصها، وجذب القلم يدون الأدوية المطلوبة لحالتها التي لم تستغرق دقائق لفهم ما أصابها، ومازال أحمد يجلس جوار زوجته، يده بيدها ورأسها على قدمه بانهاكٍ شديد، يترقب ما سيقوله بلهفةٍ، حتى آدهم وشذا وتالين التي كانت الأولى بسؤالها: طمني يا دكتور، مالها؟
أجابها وهو يعدل من نظاراته الطبية: سوء تغذية وده مش لطيف مع بداية الحمل.
ضيق أحمد حاجبيه بذهول: حمل!

رمشت آسيل بعدم استيعاب لما يقول، فأكد مجددًا: أيوه مدام آسيل حامل في شهرها التاني.
تهللت أسارير الجميع واتبع آدهم الطبيب للخارج، بعدما قدم له مبلغ من المال مرددًا بفرحة: شكرًا يا دكتور. اتفضل.
مالت آسيل على أحمد تتساءل بصدمة: سمعت اللي سمعته؟
ارتسمت بسمة جذابة على شفتيه وأكد لها بحب شديد: سمعت ومش مستغرب من كرم ربنا علينا.

اتكأت على ذراعه حتى استقامت بجلستها تردد بعدم تصديق: يا أحمد الدكتور مأكدلي بعد ولادتي أويس إني مش هعرف أحمل طبيعي تاني!
بنفس بسمته الهادئة قال: وأكدلنا بردو بعد خسارتنا الجنين الأول إنك مش هتعرفي تحملي طبيعي تاني وربنا كرمنا بآويس ودلوقتي من علينا بهدية تانية.
واسترسل وهو يضم وجهها بيده: عطايا ربنا عمرها ما بتنتهي يا آسيل، وأسبابها معروفة تربيتك لليان واحتوائك ليها، ربنا سبحانه وتعالى بيعوض.

أدمعت عينيها تأثرًا بكلمانه، فرددت بامتنان: الحمد لله.
وعادت تستند برأسها على صدره ويدها تمسد على بطنها كمحاولة للتصديق، ضمها أحمد إليه بعشق، وهمس لها ممازحًا إياها: طلع في سبب عذري لنومك الغريب!
انفجرت ضاحكة والأخر يشاركها الضحك، فغمز لها بخبث: طب أيه؟
زوت حاجبيها بعدم فهم: أيه؟!
أكمل بدهاءٍ شيطاني: أنتي لسه صاحية لحد دلوقتي وده حدث عالمي، ما نحتفل!

تقوست معالمها بغضب، فابعدته عنها وجذبت الغطاء وهي تشير له: الراجل لسه بيقولك حامل وتغذية وبتاع، لا يا حبيبي روح إعتكف في المسجد مع بابا والشباب وإبقى عدي علينا بعد السبوع يكون ربنا سهلها من عنده!
برق بعدم تصديق، وردد: بقى أخرتها كده؟
جذبت الغطاء على رأسها وهي تشير له بعدم مبالاة: شد الباب وراك!

بالمسجد.
صعد عمر برفقة الشباب للمسجد، فتوقف حينما وجد عدي على بعدٍ منهم، فترك الشباب وبقى محله ينتظره حتى صعد الدرج إليه، فردد بمشاكسة: مستنيني بنفسك!
ابتسم عمر وهو يلحق به للداخل، فانحنى عدي يخلع حذائه ثم وضعه جانبًا في الاستناد الخاص بالاحذية، رفع عمر قدميه في محاولة لنزع حذائه فكاد بالسقوط على وجهه، أسرع إليه عدي وهو يغمز له بسخرية: إجمد يا دوك البرستيج هيبقى في ذمة الله.

وجذب أحد المقاعد البلاستيكة ثم أشار له: اقعد هتكرم وأساعدك.
رفض عمر بحرجٍ صريحٍ: لا أنا هعرف. متقلقش.
وجلس على المقعد يخلع حذائه وما كاد بخلع الاخرى حتى وجد أخيه يخلعها عوضًا عنه، وربت على كتفه وهو يشير إليه: هيقيموا الصلاة!
لحق به على الفور، فوجده يبحث عن أبيه، ليسرع عدي بالوقوف على جانبي ياسين الحارحي الأيسر، بينما انضم عمر لجانبه الأيمن، وكأنهم يكملان جوانب حصنه القوي لتزداد قوته بعزوتهما!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة