قصص و روايات - نوفيلا :

نوفيلا الحب رحمة ترجى للكاتبة شاهندة الفصل السابع

نوفيلا الحب رحمة ترجى للكاتبة شاهندة الفصل السابع

نوفيلا الحب رحمة ترجى للكاتبة شاهندة الفصل السابع

لا أبغى غيرك ملاذا.

صدقت (رحمة)، ثم مررت كفيها على وجهها تمسح دموعها المنهمرة وهي تتطلع إلى هذا القبر الذي توسد فيه أحبتها التراب، مدت يد مرتعشة تلمس شاهد القبر والذي كتب عليه عائلة( القناديلى)، أغمضت عينيها وهي تترحم على زوجها (خالد) وطفلها الحبيب (جلال) ثم فتحتهما مجددا مع إنهمار دموعها. تأتى كل يوم منذ أن تذكرت كل شيئ إلى قبرهما، تروى تلك الورود التي زرعتها بجوار القبر ثم تقرأ لهما الفاتحة وبعض آيات القرآن، وضعت يدها على قلبها فللفراق وجع لا يحتمل، يصرخ قلبها مناجيا إياهما...

رحيلكما يقتلنى، الوقت يمر ببطئ ودقائقه جارحة.
ذكرياتي معكما تبعث الألم في أوصالي.
كنا نتقاسم كل شيئ، نحاول أن نطيل اللحظات سويا.
وكأننا أدركنا أن لحظاتنا معا قليلة، فكان علينا تقديرها.
فراقنا كان إرادة القدر.
ظننته كابوسا عابرا سأنساه، ولكنه أضحى واقعا مريرا.
لتصبح أيامي حالكة السواد لا ترى شمسا. وغاب عن عالمي الألوان.

أيامي تحتضر في فراقكما، ولولا إيماني ورحمة من الله رزقنى إياها لكنت الآن في هذا القبر. جواركم ولكن شتان بين اللحدين.
فأحدهما روضة من الجنة والآخر كان ليصير حفرة من النار.
منذ الردى وأنا أجسدك بحياتي يا(خالد)، ليس جنونا وإنما أردت حياة تضمك بين ذراعيها وتضمنى معك.
منذ الردى وانا أتناسى وجودك ياولدي، أدرك أننى إن ذكرتك سأتذكر لحظاتنا معا وسأتذكر ألم الفراق ونظراتك عند الوداع.

سيصبح الألم حيا، وستشتعل نيراني وأشجاني.
رحمكما الله ياقطعة من روحي.
رحمكما الله أحبتي.
أفتقدكم بشدة.
لم يعد حضني داركم وصدري وسادتكم.
بل صار القبر داركم والحجر وسادتكم والكفن ثوبكم.
تبا.
رحمتك ياالله.
إنتفضت على صوت جاء من خلفها وهو يقول بمرارة: مش كفاية يارحمة؟ عشان خاطرى إرحمى نفسك وإرحمينا. قلبنا واجعنا عليكى.

مسحت دموعها دون ان تلتفت إليه قائلة بألم: غصب عنى ياجلال، كأنى بعيش مع خبر موتهم للمرة التانية، وكأن مفاتش سنين على الفراق، وكأنى لسة إمبارح بس مابينهم والنهاردة راحوا منى. قلبى قايد نار، مش قادرة أغمض عينى من غير ماأشوفهم ولا قادرة آكل لقمة من غير ماأسمع صوتهم، وهم بيغيظونى ويقولولى إن الأكل زايد ملح واول ماادوق الأكل يضحكوا علية. ذكرياتي معاهم بتجنني.

أغمض عيناه بألم ثم فتحهما قائلا: حاسس بيكى بس غصب عنى لازم أفوقك، مش هيكونوا فرحانين في قبرهم وهم شايفينك بتتعذبى بالشكل ده، ولا هينبسطوا وهم عارفين انك بتقتلى نفسك بالبطيئ، ريحيهم في قبرهم بإنك تعيشى حياتك صح، وتكملى من بعدهم. فرحيهم بإنهم يحسوا إنك سعيدة ومبسوطة في حياتك زي ماكانوا بيتمنولك وهم عايشين، الفراق صعب بس ربك كان رحيم بينا ووعدنا ان يكون لقانا مع احبابنا اللى فارقونا في الجنة، ساعتها مش هنعيش معاهم سنة ولا اتنين ولا حتى مية، ده احنا هنعيش معاهم للأبد يارحمة.

إستدارت إليه تطالع عيناه بأمل قائلة: يعنى أكيد هشوفهم تانى في الجنة ياجلال؟!
هز رأسه مؤكدا، فأردفت قائلة بلهفة وهي تضم نفسها بذراعيها: وهحضنهم من تانى وأشم ريحتهم؟!
هز رأسه مجددا رغم قلبه الذي تمزق الما لمجرد تخيله لها وهي تغمر (خالد)بين ذراعيها، أردفت محذرة بإصبعها: أوعى تكون بتضحك علية ياجلال؟

نظر إليها بعتاب قائلا: أنا عمرى ماكذبت عليكى ولا هبدأ دلوقتى يارحمة، ربنا قال في كتابه المجيد، بسم الله الرحمن الرحيم.
(أولئك لهم عقبى الدار. جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم)
أغمضت عيناها ثم فتحتهما قائلة: صدق الله العظيم. إزاي بس نسيت؟

قال (جلال): الشيطان بيستغل نقطة ضعفك ويوسوس ليكى بكلامه الملعون عشان تقنطى من رحمة ربنا، بس دايما خلى إيمانك أقوى بإن ربك رءوف رحيم ومش ممكن هيإذيكى، وإنما بيبتليكى عشان ترجعيله ووقتها بيفرج كربك وبيعوضك وعوض ربك مفيش زيه عوض في الدنيا والآخرة يارحمة.
قالت بإرتياح: ونعم بالله.
مد يده إليها قائلا: قرب آذان المغرب، إيه رأيك نروح أقرب جامع ونصلى المغرب ونطلب من ربنا الصبر والعوض.

لم تتردد وهي تأخذ نفسا عميقا ثم تطلقه. تمد يدها إليه تمسكها فأطبق على أصابعها بكفه ليسيرا جنبا إلى جنب، حانت منها نظرة إلى الخلف حيث يقبع القبر، نظرت أمامها مجددا وهي تغمض عيناها وتخاطب احبتها في سرها قائلة: إلى أحبتي النائمون في جوف الأرض، أوجعتكم دموعي وأحزنتكم كلماتي. عذرا. سامحونى. لن أضعف بعد اليوم. سأكون أقوى من أجلكم. وستروني في زيارتي القادمة سعيدة. سأفتقدكم دوما. ولكنى سأحتمل على أمل أن يكون، لقاؤنا الجنة.

كانت (رحمة)تلف أصابع المحشى مع خالتها(فاطمة)، تثرثر الأخيرة حول ما فعله عم (نجاح )صاحب محل الخضروات بالسيدة(حنان)حين أرادت أن تختار الخضار بنفسها، وكيف هاج وماج واخبرها ان تشترى من غيره، تقول (فاطمة): بس على مين، مسكتلوش انا وطنطك ميرفت، هددناه إن إحنا نبلغ عنه أمين الشرطة اللى في آخر الشارع وان إحنا هنقوله على التسعيرة اللى بيغليها عن السوق، وشه إصفر وإحمر وبقى ناقص يبوس إيد طنطك حنان عشان تنقى اللى هي عايزاه.

ضحكت(رحمة)قائلة: والله انتى سكرة ياطمطم، كنتى هتبلغى عنه أمين الشرطة مرة واحدة. قلبك جمد اوى على فكرة.
إبتسمت (فاطمة)قائلة: أومال. بياعين طماعين، مزود في التسعيرة وكمان عايز ينقى هو على مزاجه، فاكرنا ستات مكسورين الجناح. ميعرفش اللى فيها. ده احنا جامدين أوى.
إنتفضا على صوت (جلال )وهو يقول ساخرا: يعنى عملتى فيها سبع الرجال تحت يابطة وسبتى إبنك كدة، ييجى ميلاقيش الأكل خالص ويجوع ياست الكل.

إبتسمت (رحمة)بينما قالت (فاطمة)وهي تنهض متجهة إلى الفرن تفتحه قائلة: عيب عليك ياواد، مبقاش أمك فاطمة اللى الحارة كلها بتحلف بيها، المحشى ده لبكرة، انا طابخالك مسقعة باللحمة المفرومة هتاكل صوابعك وراها.
إستنشق الرائحة قائلا: الله الله، هروح اغسل إيدى وأغير هدومي وراجعلكم.
لينقل بصره بينهما مردفا: محدش يبتدى من غيرى. مفهوم؟ تسلم إيدك يابطتي.

غادر بسرعة بينما تابعته (فاطمة)بعينيها قائلة بحنان: تسلم من كل شر ياضنايا، ياما نفسى أشوفك متجوز ومتدلع مع مراتك زي ماإنت مهنيني ومدلعنى.

مجددا تتذكر أن(جلال)سيفارقها إلى أخرى تحوز على اهتمامه وحبه، وكم تصيبها تلك الفكرة بحزن يقبع في قلبها ولكنها تكتمه بداخلها حتى لا يظهر على ملامحها، تدرك الآن أن مشاعرها تجاه (جلال)قد تخطت ذلك الرابط الأخوي والذي كان يجمعها به قديما، وانها انكرت ذلك في تلك الفترة الأخيرة لإدراكها أنها سيدة متزوجة وهو فقط الأخ الذي يهتم بها ويرعاها ولكن عقلها الباطن كان يدرك أن مشاعرها تجاهه لم تعد مشاعر أخوة كما كانت بالماضى وإنما تطورت لتصبح أقوى من ذلك بكثير، أيقظت مشاعرها تلك الغيرة التي شعرت بها من تلك الفتاة(نبيلة)وجعلتها تدرك أنها بكل أسف وقعت في الحب، مجددا، ولكن تلك المرة ادركت مشاعرها بعد فوات الأوان.

قالت بتردد: اخبار نبيلة وطنط نرجس إيه ياخالتي؟!
جلست الخالة مجددا تلف اصابع المحشى وهي تقول: زي الفل، نبيلة طايرة من الفرحة، اومال مش خلاص هتتجوز اللى بتحبه من سنتين، اما نرجس فكانت محبكاها حبتين بس انا لينت دماغها، ماهو لازم أي اتنين بيحبوا بعض يكملوا مع بعض. أومال.
ليس لزاما ياخالتي، فقد احببت مرتين.
أحدهما فارقني رغما عنى وأبعده عنى الردى.
والآخر أفارقه مرغمة، حتى يكون سعيدا مع من أحب.

وفى كلتا الحالتين لم أكمل قصتي مع من هويت.
أفاقت من افكارها على صوت خالتها وهي تقول: ناس طيبين وولاد حلال، والله يارحمة لو قعدتى مع نبيلة دى هتبقوا صحاب أوى، أصلها شبهك في الطبع، هادية كدة وخجولة وبتحب الورد.
تشبهنى حقا؟!
فليحبني إذا ويدعها ترحل.
تبا.
لقد جننت بالفعل.
أبغى ان يدع خطيبته وحبيبته لأجلي.
وأنا التي كنت حتى وقت قريب أشك في مشاعري.
أظن أنها غيرة أخوية.

او ربما أفتقد الغائب فتبعث وحشة الفراق الاضطراب في مشاعري.
لولا إدراكي أنى أحببته بالفعل ولكن حالتي المرضية حالت دون إدراك ماهية شعوري.
لأوقن أنى قد وقعت في الحب ولكن الوقت كان خاطئا بالكامل.
أفاقت مجددا من أفكارها على صوته وهو يقول بإبتسامة: فين طبق المسقعة ياامى؟
نهضت (فاطمة)قائلة: حالا ياحبيبى، ثوانى ويبقى قدامك أحلى طبق مسقعة ياجلجل.

طالعت (رحمة)إبتسامته بحب، لينظر إليها في تلك اللحظة فأسرعت تطرق برأسها، تهرب من عينيه ولكن ليس قبل ان يلمح نظرتها إليه، ليبتسم، في حنان.

طرقت الباب ولكن لا مجيب، دلفت إلى الحجرة تحمل فنجال قهوته التي طلبها منها، طالعت الحجرة فوجدتها خالية منه، فتقدمت بإتجاه المكتب ووضعت الفنجال عليه، حانت منها نظرة إلى سطح مكتبه لتجده فوضويا، إبتسمت بهدوء، وهي تضم اوراقه على جنب، ثم تمسك بعض الكتب، وتضعها في الدرج الأول منه، لتتجمد يديها وهي ترى تلك الخطابات التي تعرفها جيدا، تناولتهم وهي تراهم واحدا تلو الآخر. خطاباتها جميعا. مغلقة بيدها لم تفتح مطلقا، عقدت حاجبيها بحيرة، لتقع عيناها على ورقة بخط يده، يشبه كثيرا هذا الخط الذي كان في رسائل زوجها، كيف نسيت تلك الخطابات، لابد وأنه هو من كتبها، كان لابد وإن تدرك ذلك سابقا، فزوجها متوفى وحتى ان كان حيا، فلم تكن تلك كلماته ولا طريقته في التعبير عن مشاعره، كان يفضل الكتابة بالعامية، ولم يكن يهوى اللغة العربية الفصحى، يراها ثقيلة الظل لا يستسيغ حروفها، ولا تعبر عن مكنون قلبه، لطالما جادلته بسببها، تراها أجمل لغة تعبر عن المشاعر، بكلمة واحدة قد تصلك العديد من المشاعر، بكلمة واحدة قد تحيي املا في قلبك وبكلمة واحدة قد تسحق هذا الأمل، ولطالما عارضها.

تنهدت وهي تتناول تلك الورقة وتقرأ ما فيها.
أعشقك.
منذ ان عرفت حروف العشق.
ومنذ ان ادركت الهوى.
أعيش معك خيالاتي فتصبحين لى.
فالعشق معصيتي، ولا يجوز أن احمله لك في قلبى.
ولكن رغما عنى لا استطيع عنه توبة ولا اطلب غفرانا.
القلب كان لك دوما ودوما سيظل مشرعا أبوابه يدعوك لسكناه.
ربما تأتين وربما لا...
ولكنى ساظل ذلك العاشق الذي لا يبغى نسيانا.
حتى ان صار عشقك كلهيب شمس مشتعل كلما إقتربت إحترقت.
سأقترب بلا تردد.

أبغى إحتراقا بين يديك.
لعلك ترأفين بحالى وتطفئين لهيبي.
لعلك ترقين لعشقي وتستسلمين لبركان شوقي.
حبيبتي.
يامن تهفو روحي إليك.
وتخترقين ضفافي.
ساجدا في محرابك أبغى إستجابة لصلواتي.
صائما عن كل النساء عاداكى.
أقسم انك عيوني التي ارى بها.
ومعزوفتي التي لا يسمعها سواي.
أقسم أنك عشقي الذي يسير في شرياني.
العشق يضعف الجميع ولكنه يقوينى.
يسقي ورود الشوق في قلبي ويزرع بساتين الهوى في كياني.

يدعوننى أن أسلاكى فكيف بالله أسلاكى وأنتي أنفاس حياة تبقى القلب نابضا ودونك الروح تفنى.
لا أبغى غيرك ملاذا من الله و رحمة ترجى.

قطرات من الماء بللت تلك الورقة. لم تدرى أنها تبكى سوى الآن، وكيف لا تبكى وحروفه قد وصلت إلى كل ذرة في وجدانها، مشاعره تجبرها على التمنى، فقط لو كانت تلك المشاعر تخصها، فقط لو أحبها كحبيبته تلك، لما طلبت من الله شيئا آخر طيلة عمرها، انتفضت على صوته وهو يقول: بتعيطى ليه يارحمة؟!
مسحت دموعها تقول بإرتباك وهي تشير إلى الورقة: كلامك اثر فية شوية، بتحبها اوى. مش كدة؟

هز رأسه بهدوء، حاولت ان ترسم إبتسامة على شفتيها فجاءت باهتة تشوبها المرارة رغما عنها، أردفت وهي تطرق برأسها قائلة: والجوابات اللى كان خالد بيبعتهالى كنت انت اللى بتكتبها مش كدة؟
قال بهدوء: أيوة.
رفعت عيونها إليه قائلة: كنت بتتخيل إنك بتكتبهالها. صح؟
هز رأسه بهدوء، وعيونه تنفذ إلى روحها، لتقول بنبرة صادقة: ربنا يهنيك معاها ياجلال.
طالع ملامحها الرقيقة قائلا: يارب.

تعلقت عيونها بعينيه للحظة قبل ان تقول وهي تأخذ خطاباتها: أظن ملهمش لازمة عندك، هاخدهم.
قال بهدوء: خديهم، انا مفتحتهمش، دى جواباتك الخاصة وأكيد كان فيها حاجات تخصك انتى وخالد.
مجددا تتذكر أنها لا تصلح له، فقد عاشت قصة حب سابقة وألما لا يحتمل، بينما هو يستحق قلبا بريئا لم تؤلمه الحياة ولم تنهكه عثراتها. هزت رأسها بهدوء قبل أن تسير بإتجاه الباب، تمر بجانبه وهي تقول: قهوتك بردت، هعملك غيرها.

أمسك ذراعها يستوقفها قائلا: متتعبيش نفسك، هشربها كدة.
طالعته قائلة بحنان: تعبك راحة ياجلال. هعملك غيرها.
ترك ذراعها فغادرت، بينما تابعها حتى اختفت عن ناظريه، ليقترب من المكتب يمسك ورقته ويرفعها إلى ناظريه، يقرأها بمشاعر متقدة حتى وصل إلى آخر كلماته ليغمض عينيه مكررا.
لا أبغى غيرك ملاذا من الله و رحمة ترجى.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة