قصص و روايات - نوفيلا :

نوفيلا إلا طلاق المعتوه للكاتبة دينا ابراهيم الفصل الثالث

نوفيلا إلا طلاق المعتوه للكاتبة دينا ابراهيم الفصل الثالث

نوفيلا إلا طلاق المعتوه للكاتبة دينا ابراهيم الفصل الثالث

وقفت خديجة خلف ستار نافذة غرفتها منتظرة وصول زوجها، فقد تأخر اليوم على غير العادة وأصبحت الساعة تشير إلى الثانية صباحًا وهو لم يظهر بعد، زفرت وتضاربت مشاعرها ما بين القلق والغيرة خاصة بعد سماعها لمحادثته مع أحدى الفتيات، ترى هل هذا سبب تارة، هل تقابلا بالفعل؟
تقسم إنها ستقتلع عيناه من مقلتيه إن فعل، لكنها تمتمت في غضب:
-يقابلها ولا يتنيل على عينه وأنا مالي!

تأففت في نبرة حاقدة حزينة، ثم فتحت الستار تسمح للهواء بدخول رئتيها محاربة حالة الاختناق التي تتملكها من مجرد التفكير بوجوده مع امرأة غيرها، إلا إنها سرعان ما حاولت الاختباء عندما لمحت اقترابه من بعيد.

حاول طارق السيطرة على ردود أفعاله وقد تمرد قلبه في صدره ما أن لمح وقوفها وقبض عليها تحاول الفرار من أمام عينيه، مما يؤكد له شكوكه بأن وقوفها المتكرر في الليالي الماضية لم يكن بصدفة وإنما هي تنتظره بالفعل.
اتسعت ابتسامته متعمدًا خفض انظاره كي لا يثير حفيظتها وقد امتلاء قلبه بدفء غريب وأمل بانها لا تزال تهتم.

توجه ببطء قدر الإمكان إلى المبنى مستمتعًا بنظراتها فوقه ولكنه صعد إلى المنزل في الأخير، وبعد أن تأكد من خلود والدته للنوم كعادتها اتجه لأخذ حمام بارد مبدلًا ثيابه قبل أن يفتح شرفة غرفته ويتخذ مقعدًا فيها، تنهد بعد دقائق طويلة غير قادر على تفسير الراحة والسلام الضمني الذي يوفره له الجلوس هنا في هذا التوقيت كل ليلة ولا يستطيع إزالة هذا الإحساس بانه يشاركها لحظة بطريقة ما.

هز رأسه ضاحكًا على افكاره السخيفة فمن الواضح أنه فقد عقله، اعتدل في جلسته على المقعد ثم كتف ذراعيه خلف رأسه وهو ينظر إلى السماء المزينة بكل تلك النجوم اللامعة محاولًا الغرق في جمالها.

جو رائع مميز يشبه تلك الليالي الذي اعتاد فيها البقاء فيها مع زوجته وإجبارها على مشاركته التمارين الرياضية، عادة عشقها ومارسها طوال حياته ولكنه تخلى عنها فاقدًا لذة الحياة، تنهد وترك ذاكرته تعود به إلى أحد تلك الليالي المجنونة.

-لا مش قادرة اتنفس!
قالت خديجة في تحشرج يتملك صدرها وكأنها تحتضر، فضحك مجيبًا إياها:
-متعشيش الدور دول هما خمستاشر بوش أأب اللي عملتيهم.
وصلها صوت طارق الساخر والمتقطع بسبب استمراره في التمرين، فضاقت عيناها في اتهام هاتفة:
-خمستاشر دول كتير عليا أنا ست مش جون سينا!
اعتدلت في جلستها ثم تربعت وهي تفرغ باقي قارورة المياه داخل حلقها الجاف، لكنه ضحك مشاكسًا لها:.

-اومال كل شويه تهب في دماغك وتقوليلي عايزة أشتغل ليه؟
يا كسلانة!

حدجته نظرة قاتلة بينما تمسح فمها بباطن كفها، نعم هي تميل لمثل هذه الأفكار منذ سنوات خاصة مع انغماسه في العمل بينما تبقى هي وحيدة في المنزل ما بين ترتيبه والاهتمام بطفليه حتى انها فقدت الاتصال مع رفيقاتها القدامى دون تخطيط منها وصارت مرام شقيقته هي رفيقتها المقربة والوحيدة.

لا تدري كيف اندمجت وألهتها الحياة حتى وجدت نفسها في بؤرة الأسرة دون اي هدف أخر ولن تنكر أنها كثيرًا ما تفكر مشتاقة لإيجاد هدف وطموح تثبت به ذاتها في الحياة كما إن مثل هذه الفكرة لطالما تسيطر عليها كلما شعرت بالغيرة من مديرته الناجحة والمهمة!
فكرت ساخرة ثم تنهدت قبل أن ترمقه بنظرات حاقدة وهو يمارس التمارين بجدية وزاد حنقها عندما تابعت عضلات جسده التي تنقبض وتنبسط في مرونة مع حركته متسائلة:.

كيف يمكنه المحافظة على رشاقته وقوامه الرياضي رغم مرور خمس أعوام على زواجهما، ألا يفترض بالأزواج أن يكتسبن الشحوم واللحوم حول أمعائهم؟!
بالطبع ليس زوجها، كما إنها لا تراه يحمل في طفلين ما يقارب العامين أو يعاني من تغيير الهرمونات وزيادة الوزن وقت الحمل والرضاعة كما حدث لها هي.

مط شفتيها ففوق هذا وذاك هي في حالة تنافسية لا تتوقف منذ عامين خصيصًا عندما استطاع كسب وظيفة أحلامه على حد قوله مع امرأة تنافس عارضات الأزياء في جمالها ورشاقتها بينما هي تحارب منذ الأزل لتفقد ستة كيلوجرامات باقية ترفض الاختفاء.
ترى هل ستتغير مشاعر زوجها يومًا، بل أسوأ هل يغرق رأسه بمقارنتها مع غيرها من النساء النحيفات كما تغرق هي؟!
-بتبصيلي كده ليه ولا كأني قتلتلك قتيل!

أخرجها من أفكارها السوداوية، صوت طارق المستغرب من نظراتها، فاتسعت عيناها في براءة تخبره:
-لا أبدًا بقول كفاية رياضة كده ألا أنت بقيت هفتان أوي،
أقولك أقوم اعملك فته؟
-فته!
ردد طارق في نبرة منذهلة وأعين متسعة، فابتسمت له في براءة وهي تزحف نحوه تحتضنه وتستقر بذقنها فوق صدره المتعرق مستكمله بينما تميل برأسها للنظر داخل عينيه البنية:
-خلاص بلاش فته اعملك سندوتشات نوتيلا؟!

تحرك عقل طارق في كل الاتجاهات يحاول تفسير سلوكها المريب، متسائلًا هل ترى زوجته في مشاركتها له الرياضة تلميحًا وهميًا منه بضرورة انقاصها وزنها هو يعلم بهاجس ذاك بكنه عندما اقترح مشاركتها له كان يأمل أن تشاركه اهتماماته لا أكثر، كي يكسر مللها.
-حبيبتي أنتي لو جعانه ونفسك في الحاجات دي قومي كلي، صدقيني أنا معنديش مشكلة مع وزنك،
أنتي اللي مصره تعملي رجيم.

أخبرها في حنو أثناء ميله نحوها لطبع قبلة أعلى رأسها، فمطت شفتيها في احباط متسائلة:
-يعني مش عايز نوتيلا؟
ارتفع حاجبه غير قادر على فهم اصرارها المريب لكنه لم يرغب في احباطها أكثر وقد هالة غرابة الوضع والطلب فقال:
-ممكن نص رغيف صغير، عشان لسه متمرن وكده!
اتسعت ابتسامتها في سعادة ورضا أكثر مما ينبغي قبل أن تقفز راكضة نحو المطبخ وعقلها السخيف يخطط لإفساده من أجل الأخريات!

-مامي؟
جاء صوت أنس من أعلى بشكل طفيف ولكنه كان كافيًا لإخراج طارق من ذكرياته، أغمض جفونه يحاول التركيز وهو يتبع صوت هسهستها الخفية المنتهية بإغلاقها للشرفة.

أطلق صفير منخفض فقد كان من متأكد من مشاركتها له تلك اللحظات قبل أن يستقيم مقررًا الدخول بحثًا عن النوم، استلقى في تعب شديد يشعر وكأن جسده ينفصل إلى أجزاء إلا أن هذا لم يشفع له لدى عقله الذي كالعادة بدء جولته الليلية مع جلد الذات وهو يعود بذكرياته إلى اليوم الذي انقلبت فيها حياته.

هبطت خديجة مسرعة وهي تحمل حقيبة طفلتها تحاول إيجاد طريقة لإخراج هاتفها الجوال أثناء حملها ل أيتن باليد الأخرى حتى انقذها خروج سهيلة و مرام من شقتهم فقالت الجدة متعجبة من تجهيزاتها:
-أنتي هتاخدي ايتن معاكم ليه؟
سيبيها معايا.
-مش عارفة أنا قولت مرام ممكن تخلينا نتأخر وبعدين هي ممكن تدوخك ولا حاجة!
اخبرتها خديجة في صدق ناقلة نظراتها بين الامرأتين، فاقتربت سهيلة في ثقة تأخذ حفيدتها والحقيبة مؤكدة:.

-لا متقلقيش روحي أنتي بس مع مرام وحاولوا متتأخروش.
-حاضر يا ماما، يلا يا ديجة عشان طارق ما ينكدش علينا لو اتأخرنا
قالت مرام في عجلة وهي تجذب زوجة شقيقها نحو الأسفل، فاتبعتها في سكون وقد نجحت في إخراج الهاتف مقررة الاتصال بزوجها وابلاغه بخروجهما:
-ألو يا حبيبي عامل ايه؟
-كويس الحمدلله،
بصي معلش، الدنيا لبش في الشغل حاليًا فلو مفيش حاجة مهمة أقفلي وهتصل بيكي كمان شوية..

أجابها طارق المرتبك أكثر من اللازم فمطت شفتيها في عدم رضا قائلة:
-لا مفيش حاجة مهمة، أنا بقولك بس اني رايحة منطقة ، مع مرام عايزة تشتري حاجة لجهازها وهي كانت عايزة تعرف لو هتطلع بدري ممكن تعدي علينا عشان لو اتأخرنا ولا حاجة!
-لاء مش هطلع بدري بالعكس رايحين مشروع بعيد في منطقة ، يعني الناحية التانية من المحافظة،
ولاء مش هتتأخروا، قولي لمرام طارق بيقولك قبل ستة تكونوا في البيت، اتفقنا!

وصل صوته المحذر مرام الواقفة إلى جوارها فقلبت الفتاتان عيناهما متبادلين نظرة ذات مغزي قبل أن تبلغه خديجة بموافقتهما وتنهي المكالمة.
بينما أغلق طارق المكالمة وكاد يتجه لمقعده محاولًا إنجاز أخر مهامه ف مدام ميري في مزاج سيء لسبب مجهول اليوم، حسنًا ربما ليس مجهولًا بالنسبة له ولكنه يرفض الاعتراف به، وكأن عدم التفكير في الأمر سيفقده خطورته.

فرك خصلات شعره القصيرة وهو يتذكر غضبها بعد ما حدث أمس داخل جدران مكتبها عندما تعمدت مناداته، طالبه منه مساعدته لحل عطل ما في حاسوبها وكيف فاجأته عندما زادت من فجاجة لمساتها له بينما هو جالس يحاول الغرق في الحاسوب فقد وضعت صدرها الذي كاد يهرب من ضيق ثوبها حرفيًا في وجهه.
حرك رأسه في اشمئزاز متذكرًا رعشة الذعر التي تملكت جسده وقتها وانتفاضه منها هاربًا دون رجوع.

ورغم انها ليست المرة الأولى التي تبدي فيها ميري اهتمامها به كأنثى إلا إنه كان دائمًا حذرً يسير على الحبال حولها مادام اهتمامها لا يتعدى ملامسه ذراعه او صدره مدعية الصدفة أو اللامبالاة ولكن ما حدث أمس كان احتكاكًا مباشرًا وصريحًا برغبتها فيه كرجل، وهو بالتأكيد لن ينصاع لها ليس فقط لأنه يحب زوجته ويخلص لها بل لأنه لدية طفلة صغيرة قد يعاقبه الله فيها فيما بعد إن أخطأ مثل هذا الخطأ الشنيع.

-استغفر الله العظيم.
طأطأ وهو يحارب من أجل إيجاد حل يخرجه من هذا المأزق فهو لا يريد أن يخسر عمل سعى سنوات للحصول عليه يكفي المكانة المرموقة التي يتميز بها المكتب والمرتب الكبير الذي يُمنح له.
ولكنها بدءت ترقص على حبال صبره ومع كل رفض منه، يتحول مزاجها للأسوأ وكأنها تعاقبه وتحمله مسئولية عقابه هو ومن حوله من زملاءه.
-طارق هات التيم وتعالى ورايا.

انتفض ما أن أتاه صوتها العالي نسبيًا رغم نغمة نبرتها الرقيقة وتعمد عدم الامساك بنظراتها، مجيبًا:
-حاضر يا مدام ميري.
لم يفته قبضه يدها التي تكورت جانبها وهي تمر من جواره حانقة من تجاهله المتعمد، فرفع عيناه يتابع هيئتها الغاضبة داخل فستان أسود جذاب يليق بكل انحناءه في جسدها، لكنه هز رأسه سريعًا لا يريد الانتباه لمثل هذه التفاصيل.
-استغفر الله العظيم، عديها على خير يارب.

تحرك مناديًا الفريق متجهين خلفها في دقائق قليلة، امسك كعادته ورقة وقلم يدون فيها الملاحظات ومع انتهاء اللقاء وتحرك الفريق للانطلاق إلي مكان المشروع الهام، اوقفته ميري بصوتها في نبرته الانثوية الحادة:
-طارق خليك انت في مكان تاني هنشتغل عليه.
كاد يتوقف قلبه في تلك اللحظة ويصاب بأزمة قلبيه لأنها استثنته، لكنه تماسك والتفت يتساءل في تلعثم:
-والمشروع ده؟

-لا في حد مهم بالنسبة ليا طالب إعادة ديكورات شقته وعايزها في أسرع وقت،
يعني خليك أنت عشان بثق في دماغك وهتيجي معايا الزيارة عشان تبدء القياس على طول.
انهت جملتها وما ان اغلق زملاءه الباب خلفهم حتى اقتربت منه رافعة حاجب رفيع منمق بعناية، وهي تتفحصه وسط خطوات متروية هادئة إلا أن تلك اللمعة المريعة داخل عيناها التي لا يعرف لونهما الحقيقي من كثرة عدساتها الصناعية هي ما دبت التوجس في صدره.

قطعت افكاره عندما مالت نحوه تستنشق عطره الرجولي أثناء عبثها بخصلة من شعرها الأشقر المرتب بعناية بينما تخصه بابتسامه مغرية، إلا أن بصره اختص تلك التجاعيد المحيطة بزوايا فمها المطلي بلون يندرج تحت درجات الأحمر الهادئ، فابتعد خطوة يحاول إخفاء اشمئزازه دون إثارة غضبها.
لكنها لم تعلق وتوقفت عن إقدامها نحوه قبل أن تبتسم في سخرية آمره:
-معاك ٥ دقايق تكون جاهز عشان اللي جاي صعب!

رمقته بنظرة تؤكد له ان كلماتها لها معنى أكبر لكنه تجاهل ذلك وهرع للخارج، زفر ما أن جلس على مقعده ثم ما لبث أن يفكر في حل حتى سمع صوت ترحيبات زملاءه ليتفاجأ برجوع حسام صديقه وزميله في العمل، والوحيد الذي يعرف بتفاصيل محاولات ميري في التقرب منه، اتجه طارق نحوه يضمه في ترحيب قائلًا:
-مقولتش أنك راجع من اجازتك ليه؟
-قولت أعمل مفاجأة، أيه ده، رايحين فين؟

انهى جملته بسؤال موجه لزملائه المغادرين فأخبروه بضرورة ذهابهم من أجل مشروع ما، فجذبه طارق وهو يودعه زملائه قائلًا:
-سيبهم أحسن التانيه هتتحول عليهم لو طلعت لقيتهم وتعالى أنا هفهمك.
ما أن أخبره طارق حتى ابتسم حسام قائلًا في نبرة مشاكسة:
-طيب الحمدلله اني جيت متأخر وإلا كان زماني مفحوت في الصحاري معاهم،
وانت يا روءه مش طالع معاهم ولا هتقعد مع موظفين المعروضات تحت؟

-أيه الخفة دي، لا طبعا مش قاعد، أنا طالع مع مدام ميري بتقول في حد عزيز عليها عايز يغير ديكوراته وهبدء انهارده!
اتسعت ابتسامه حسام في فهم قبل أن يغمز مردفًا:
-أيوة يا عم، يا بختك!
نظر له طارق شزرًا مؤكدًا:
-والله عيب عليك، أومال لو مش عارف اللي فيها!
-يا ابني أنت مش وش نعمة ليه، ما تسايس أمورك ومتقولش لمراتك، ده يا ريتني كنت أنا جدا يعني!

أخبره حسام في خيبة أمل وكأن الخيانة أمر اعتيادي ومتعارف عليه، فهز طارق رأسه في ذهول متمتًا:
-استغفر الله العظيم، أنت شيطان يا ابني، أنا عندي بنت يعني مستحيل أعمل الغلط!
ارتفعت عيون حسام خلفه قبل ان يخبط بكفه في خفة امامه هامسًا:
-طيب اقفل بقى عشان الغلط جاي علينا!
جز طارق على اسنانه قبل أن يهمس مطالبًا:
-حسام أنت لسه راجع ومعندكش شغل، أرشق معايا وحياة أمك!

لم يتح لصديقه الرد إذ وصلتهما ميري وهي تعدل حقيبتها الصغيرة فوق كتفها متسائلة:
-أيه ده، حسام قطعت أجازتك ليه؟
-مفيش يا مدام ميري، لقيت نفسي زهقت قولت أنزل من تاني.
حركت رأسها في ملل وكأنها تهتم قبل أن تنقل نظرها نحو طارق، قائلة:
-يلا يا طارق.
-تمام يا مدام.
وقف في بطء وهو يتوسل لرفيقه بعينه، فتنهد حسام وهو ينقل بنظراته بينهما قبل أن يهم واقفًا هاتفًا في نبرة اقوى مما كان يرغب:.

-ممكن اجي معاكم، أنا مش ورايا حاجة...
توقف عن الحديث عندما شعر ببرودة انظارها فوقه ولكنه استكمل في نبرة خافتة قلقه:
-يعني ممكن اساعد لو تحبوا!
-اه فعلًا، على فكرة يا مدام ميري حسام شغله عالي أوي في الديكورات المنزلية.
نظرت له في غضب واستخفاف قبل أن تخبره في حدة أكثر من اللازم:
-والله، طيب ما على كده حسام ياخد شغلك أفضل!

لكنها توقفت عن المجادلة وقد اربكها نظرات كليهما المتعلقة بها فرسمت ابتسامه مجبرة كي لا يفضح أمرها، ثم قالت في موافقة:
-تمام تعالى، اتفضلوا قدامي.

انكمشت ملامحها في غل ما ان استدارا وقد اتخذ مخططها منحنى أخر، مرت ساعة تقريبًا عليهم في الطريق قبل أن يصلوا للمكان، التفت الرجلان حول المكان في انبهار بنظافة الحي، حتى أن حسام لكز طارق مشيرًا إلى وجود مول رائع على الطرف الأخر من الطريق في مقابلة البناية المنشودة.

لكن ما خطف انفاسهما بالفعل كانت الشقة التي ما ان فتحت لهم ميري بالمفتاح ودلفا خلفها حتى ظهر انبهارهم في قوة، ليعلو صوت صافرة صديقه المتسائل:
-أووبا أيه الجمال ده، طيب هما عايزين يغيروا الديكور ده ليه، ده جاحد!
-الراجل مالتي ريتش وبيحب التجديد كل فترة،
أيه هنقول للشغل لا ولا انتوا شايفين مش هتقدروا تعملوا الأحسن؟

سألت في تهكم عاقدة ذراعيها امامها فنظر كلا الرجلان لبعضهما البع١ في حرج قبل أن يتحركا لرفع المقاسات في صمت ولكن استوقف طارق تفكير ما فاستدار يترجمه في سؤال متعجب:
-هو مفيش حد مستنينا ليه؟
ابتسمت تلك البسمة الصفراء التي تصرخ كذب ثم ردت في انزعاج واضح:
-عشان العميل صديق ليا وهو وصلي فكرته ومش محتاج يكون موجود ممكن نشتغل بقى.

حرك رأسه حتى لو لم يقتنع، فتح دفتره مقررًا البدء في رفع المقاسات المطلوبة ولكن بعد دقائق قليلة قاطعهما صوت سباب ميري بالإنجليزية قبل أن تلتفت نحوهم هاتفة من بين أسنانها:
-نسيت الشنطة في المكتب ومش معايا موبايلي.
زفرت ثم فركت جبهتها مدعية التفكير قبل أن توجه حديثها إلى حسام في نبرة لا تضع مجال للاعتراض:
-حسام خد مفاتيح العربية وارجع المكتب هات شنطتي وتعالى بليز..
-اامم، حاضر يا مدام..

اتجه نحوها يجذب المفاتيح في بطء بينما يرمق طارق في اعتذار، فهم ليسوا أغبياء ويعلمن أن ما يحدث مقصود مئة بالمئة لإبعاده.
أغلق صديقه الباب خلفه وشعر طارق بأنفاسه تحصر في صدره من الذعر إلا إنه التفت نحو أحد الزوايا يحاول جاهدًا التركيز في عمله ولكنه وجد نفسه مدرك لكل خطوة تتخذها بالقرب منه.
حاول التحكم في ردود أفعاله عندما شعر بيدها تغطي أعلى ذراعه وسمعها تهمس:
-في حاجة في دماغك!

ابتلع ريقه في بطء وقد تصلبت عضلاته في رفض جوارها قبل أن يسأل في لهجة مرتبكة:
-قصد حضرتك أيه، مش فاهم!
ظهرت أسنانها البيضاء قبل أن تخبره في دلال جلي وهي تحرك كفها فوق ذراعه وتمرره فوق جذعه:
-التصميم طبعًا، اومال أنت فاكرني أقصد أيه؟
حاول الابتسام بيننا يبتعد في حذر عن قبضها لكنها اوقفته وهي تمد أصابعه نحو دفتره قائلة:
-هات الاسكتش أنا هساعدك في التدوين.

حرك رأسه في توتر ثم بلل شفتيه بينما يمد أصابعه بالدفتر نحوها، لكنه سحب كفه سريعًا ما أن تعمدت الإمساك بيده.
حاول تجاهل الوضع والتفت لإحضار المقياس لكنه تفاجأ بجسدها يندفع نحوه في عنف ما ان استدار نحوها فانتهت ملتصقة بصدره مجبرة إياه على الانزلاق نحو الحائط خلفه في قوة لتخرج كل أنفاسه من رئتيه وتتسع عيناه فعلى ما يبدو انها جنت لتتخطى الواقع وكل الحدود، جذب نفس كبير ثم هتف متسائلًا:.

-حضرتك بتعملي ايه؟!
-بحاول أخليك ما تهربش مني!
-ما انا باخد المقاسات ههرب ليه!
قالها في تلعثم مدعي الغباء وهو يدفع كتفيها يبعدها عنه حتى نجح في الفرار جانبًا عنها، علت ضحكتها الرنانة وهي تطالعه بنظراتها المتفحصة ثم أردفت:
-أنت فاهم كويس أوي، بلاش نلعب على بعض!
-أنا جعان!
انا هنزل أجيب اكل بسرعة أصل حسام اتأخر وأنا جعان، وحضرتك أكيد جعانه!

لا يعلم كم مرة كرر كلماته عن الجوع ولكن عقله كان في اجازة وكل ما يفكر به هو الفرار من أمامها وبالفعل اندفع نحو الباب يفتحه في توق وقلب يخفق من الذعر لكنه شعر بأصابعها تنغرس في عضلة ساعده توقفه بينما تحذره في فحيح منخفض:
-جعانة فعلًا بس أكلي غالي مش هتقدر عليه.
جذب ذراعه في حدة اشد من اللازم ثم اتجه يركض فوق الدرج هاتفًا:
-ميغلاش عليكي، ما كله من خيرك يا مدام.

ضربت ميري قدمها في الأرض لا تطيق صده لها فمنذ وفاة زوجها ولم يجذبها رجلًا كما يفعل طارق، بينما هرع هو إلى الأسفل ونحو الطريق مغمغمًا:
-الله يحرقك يا حسام الكلب؟!
بحث عن هاتفه فوق جيوبه لكنه انتهى بالسباب الغاضب عندما أكتشف نسيانه له في الأعلى، اخرج محفظته يحاول التشبث بكذبته عن الجوع وشراء الطعام، ولكنه بالفعل لا يملك داخلها الكثير من المال.

زفر في حدة وهو يلتفت حوله في غضب ولكنه قوبل بماكينة لسحب الأموال خاصة بالبنك الذي يملك فيه حسابه، بجوار باب المول التجاري أمامه مباشرة، ارتفع جانب فمه في ابتسامه مهزوزة فعلى الأقل لن يحرج نفسه أمامها.
تحرك يقطع الطريق متجهًا نحو الماكينة ثم وقف في منتصفه كالمعتوه مزمجرًا في غضب على غباءه فهو حتى لم يسأل عما تريد تناوله، حرك رأسه في يأس محدثًا نفسه:.

-مش مهم انا هسحب فلوس واقف استنى لحد ما حسام يجي أكيد مش هيتأخر وبعدين أطلع أسالها، ايوة صح كده...
شجع نفسه ومخططه بينما يقطع الطريق نحو الماكينة في خطوات مهتزة مضغوطة، رفع البطاقة في تلقائية يضعها في الماكينة ضاغطًا على الأرقام وهو ينظر خلفه في ريبة وكأنه ينتظر أن تظهر له من الفراغ.

علا صوت الماكينة تنبهه لخطأ في الأرقام، فزفر في حدة لا يصدق انه قد يخطئ في أرقام بطاقة الائتمان الخاصة به، سند كفه فوق رأسه يحاول التقاط انفاسه المخطوفة دون أي مبرر جسدي، ثم مسح قطرات العرق المتجمعة فوق جبينه في حركة عفوية يناشد الهدوء داخله.

حاول من جديد ولكنه قوبل بالفشل، رمش عدة مرات ثم زمجر في غضب مغتاظًا أن الحظ يعاكسه وأن الارتباك انساه كلمة السر، لكنه لم ييأس واستمر في إدخال الأرقام حتى انسحبت منه البطاقة بسبب محاولاته الخاطئة!

-لا إله إلا الله!
هتف طارق في صوت عالي إلى الفراغ من حوله، يحاول إنهاء تلك الذكريات الكريهة متمنيًا الهرب من دوامات حياته البشعة باللجوء للنوم!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة