قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية وصية والد للكاتب علي اليوسفي الفصل السابع والعشرون

رواية وصية والد للكاتب علي اليوسفي الفصل السابع والعشرون

رواية وصية والد للكاتب علي اليوسفي الفصل السابع والعشرون

ابتسم في وجه خيباتي بدبلوماسية، لكن يقبع خلفها دمع يختبئ على حافتها، أجبر مشاعري على الاستكانة والخنوع الدائم، وكل ذكرياتي الجميلة تتسابق للظهور أمامي ببرود موجع، فيما مقصلة الألم تعدم آخر أمل لي في الوصال.

تلك الليلة لم تكن الأخيرة حيث لا ينام فيها أحد، حتى مجد لم يغمض جفنه من فرط السعادة، آخيرا لقد حلت جميع المشاكل العالقة، حسب ظنه، فبعد نبأ حمل ريما ستتحسن علاقة شقيقه وزوجته، ولن يفكر أدهم بأماليا أو سواها، فضلا أن الأخيرة ستخطب قريبا ولن تشكل تهديدا على حياة شقيقه الهادئة من جديد.

فور أن أطلت الجوناء، استقام مجد من فراشه، ليشرع في تنفيذ ما دار في رأسه طيلة الليلة الماضية، يجب أن يعرف الجميع بنبأ حمل ريما، وحين أقول الجميع فأنا أقصد الجميع دون استثناء، خاصة آماليا...

إنها من أثقل الليالي عليها، من بعد حديثها مع أدهم أخذت دواءها، آملة في أن يساعدها للغط في النوم والهرب من كل تلك الضغوط، لكن وعلى مايبدو حتى العقار الدوائي قد تخلى عنها ورفض مساندتها..
كانت جالسة على فراشها، هي حتى لم تدخل تحت الغطاء طوال الليل، كأنها تأمل بأن يساعد برد الشتاء على إطفاء مايعتمل داخل صدرها من نيران
نار لا يعرفها سوى من تاه في دروب عشق مستحيل.

كانت تسند رأسها على لوح السرير الخشبي، منقلبة على جانبها شاردة في زجاج نافذة الشرفة، سمعت صوت طرقات أدهم اتبعها فتح الباب، لكنها لم تتحرك من رقدتها، طالعها أدهم بنظرات نادمة وهو الذي لم يصدق وأن تحسنت علاقتهما بعد تلك الليلة المجنونة، ليشعر الآن باتساع الشرخ بينهما.

تنهد بضيق وهو يتأمل شرودها، سار ناحيتها ليهمس باسمها، أدارت رأسها إليه لتقرأ في عينيه اعتذاره، لم تأبه فأعادت بصرها إلى وضعه الأول، لتقول بهمس ميت: الاعتذار لن يصلح خطأك أمس أدهم.
زفر أدهم بكمد ليقترب حتى جلس على حافة السرير، تطلع الى حيث تنظر هي، ليتحدث بندم دون أن يرفع عينيه إليها: أعلم ريما، وأعلم أن مجد يسحبنا إلى الهاوية.

لثوان ساد الصمت بينهما، حتى نطق أدهم: كل المواقف التي مررنا لم تكن بصعوبة هذه المعضلة، كيف سنحل هذه المشكلة ريما؟
اجابته ببساطة كأنها كانت تفكر في الحل طول الليلة الماضية: فلننتظر فترة قصيرة، ثم نزعم أنني أجهضت.
في الحقيقة أدهم لم يعجزه الحل، إنما أراد اختلاق أي حديث ليتكلم معها، لكن يبدو أنها قررت معاقبته، حسنا هو يستحق هذا بكل الأحوال.

رمقها بنظرة متفحصة فلم تتحرك قيد أنملة، لقد جرحها بشكه بها أمس، ربما عليه الإنتظار حتى يشفى جرحها قليلا، استقام من مكانه متجها إلى الحمام، تاركا ريما تصارع وحدتها بنفسها، عادت لتضع له الأعذار ربما لأنها تعرفه جيدا، و لتقنع نفسها بأن أدهم مظلوم مثلها تماما، لكن الفرق أنها تحسب كل حرف تنطقه، اما هو ففاشل في إخفاء حقيقة أفكاره...

أليس الوقت باكرا على الزيارات؟
دمدمت بها آماليا بغرابة وهي تستمع إلى جرس الباب، توجهت آمينة لترى الطارق، فألقت نور نظرة إلى ساعتها لتجد أن الوقت لم يتجاوز الثامنة والنصف، حقا مازال الوقت باكرا جدا.

وضعت أماليا كوب العصير الطازج أعلى مائدة الإفطار، وعيناها معلقة بالباب وقد خفق فؤادها بقوة، خاصة مع ظهور مجد حاملا في يده علبة ( شوكولا) كبيرة وباقة ورد ملونة، لا تعلم لماذا لكنها في كل مرة ترى مجد فيها لا تستبشر خيرا.
هرعت نور لاستقبال خطيبها، فيما بقيت أماليا تجلس مكانها تكتف ذراعيها على الطاولة أمامها، مع غياب عليا التي بقيت في غرفتها بسبب بعض الإعياء الذي أصابها أمس.

تساءلت نور بدلال وهي تحمل باقة الورد بين يديها: ماسبب زيارتك إلينا في هذا المبكر؟
ابتسم مجد بمكر وهو يرفع العلبة التي بين يديه، مجيبا: عندي خبر سعيد كنت أرغب بمشاركتك إياه، ولم أستطع الصبر أكثر.
قطبت جبينها بتفكير ثم اردفت ببسمة لطيفة: حقا؟ وماهو هذا الخبر السعيد؟

اتسعت ابتسامته الماكرة وشد ظهره، وهو يسدد إلى آماليا نظرة لم تفهمها، كانت نظرة شماتة، ليجيب بتلذذ كأنما يتعمد حرقها: ستزيد عائلتنا قطعة سكر.
خفق قلبها بهلع من مغزى حديثه، لكن نور لم تستوعب مقصده فتسائلت: ماذا تعني مجد؟
حرص على أن تكون نبرته واضحة كفاية لتسمعه أماليا، حيث قال بوضوح: شقيقي أدهم وريما سيرزقان بطفل قريبا.

ارتد جسدها للخلف بحركة عصبية، جعلت كأس العصير الذي كان مسنودا أمامها يهتز فتنسكب مته بضع قطرات، تجمعت الدموع في عينيها وهي تنظر إلى الأمام، بينمامجد، ورغم أنه. لم ير تقاسيمه وجهها جيدا كونه يرى جانبها فقط، لكنه يكاد يجزم أنها تحترق كمدا الآن، غصتها تكاد تخنقها فتحركت لتصعد إلى الأعلى بخطوات متعجلة تخفي خلفها قهرها، لم تهتم نور لكل هذا فقط قفزت بسعادة لتعانق مجد وهي تتمتم بتبريكات متتالية، ربت هو على كتفها مراقبا أماليا حتى اختفت، ليتيقن تماما أنه قطع آخر أمل لها في الحصول على أدهم...

لم يخرج أدهم إلى المصنع، بل قضى يومه في صالة الألعاب، كأنه يفرغ فيها غضبه من كل مايجري حوله، كانت ريما ايضاةقد قررت عدم الذهاب إلى محلها، واكتفت بتكليف ايمان بإدارته، لفت حول كتفيها شالا صوفيا سميكا، تريد الخروج إلى الحديقة علها تروح عن قلبها مايكتمه، عندما وقعت عيناها على أدهم من خلال باب الصالة الزجاجي، وهو يضرب كيس الملاكمة، شردت في منظره وهي تعلم مدى حرارة تلك النيران التي تحرقه.

وكمن تقرأ الأفكار، عادت بها ذاكرتها إلى تلك الأيام، فبعد عقد قران ريما وأدهم، لم يقاوم جسد فارس حروقه وأوجاعه، فمات بعد يوم واحد، وبوفاته أغلقت قضية القتل المرفوعة ضده، الا أن أقارب ريما لم يغلقوا ثأرهم، بل بدأوا بمضايقة أدهم الذي وقف في سرادق العزاء والذي أقيم في قرية والده، حتى نشب عراك كبير هناك فاضطر اهل القرية لإلغاء العزاء، ولم يسمح المحامي له. بالعودة مع عائلته المتبقية إلى منزله، بل أجبره على تركه واستئجار منزل جديد لا يعرفه اهل القتيل.

لكنهم لم يتركوهم، استطاعوا إيجادهم حتى بعد أن غيروا عنوانهم، وعادوا لمضايقتهم حتى حرموا من الخروج من المنزل، وفشلت السلطات في ايقافهم حتى اقترح عليهم المحامي السفر إلى بريطانيا حيث أحد أصدقاء والد أدهم القدامى.
وهكذا، خلال أقل من شهر انقلبت حياتهما كليا، ليبدآا سويا معاناة جديدة في بلد جديد، ومتحكم جديد...

أنهكته تلك الذكريات حتى لهث، استند أدهم بكلتا يداه محاوطا الكيس، أغمض عيناه محاولا تنظيم أنفاسه، كل شيء حوله خارج عن سيطرته، لا شيء بإمكانه التحكم فيه، ومجد مازال يزيد الأمر سوءا.
لكن ماذنب ريما لتعيش حياة ليست لها؟ حياة أجبرت عليها؟

فتح عيناه وقد لمعت عيناه بأمل، الصدق ينجي اما الكذب فيلقي بك إلى التهلكة، إذا يجب أن يعرف مجد الحقيقة، سيخبره بكل شيء وأولهم قراره، سيطلق ريما لتعيش حياة تستحقها، فهي تستحق الراحة يكفي ماضاع من عمرها فلقد ظلمها بما فيه الكفاية، يكفي والله ما تعانيه، .
منذ أن استند أدهم على كيس الرمل، غادرت ريما إلى الحديقة، نفخت بضيق إلا يجدر بأحدنا أن يشفى من جراحه؟

ربما مجد متعلق بها هي كونها اعتنت به بعد وفاة والدته، لكنه لم يتعلق بأدهم بذات الدرجة، اذا فهناك أمل في أن يقبل مجد بزواج أدهم من آماليا، فهي ستخبره بأنها أجهضت وبعد الإجهاض لا امل في إنجابها، لكن أولا يجب أن تحادث آماليا قبل أن تتهور وتقبل خطبة هادي، وهي ماتزال تعشق أدهم.

لماذا تأثرت بهكذا خبر إلى هذه الدرجة مع أنه كان متوقعا؟
حقا لا تدري، مع ذلك حاولت تجاوز هذا الخبر فذهبت إلى عملها، لكنها تفاجأت بعد عودتها من العيادة بعلبة كان قد أرسلها هادي إليها، مع دعوة إلى العشاء.
تطلعت آماليا إلى انعكاس وجهها في مرآة غرفتها، لترى شخصا آخر، هذه ليست هي، هذه أنثى أخرى، هي لا تحب لبس الفساتين فلماذا تلبس هذا الآن.؟

فستان رمادي من الحرير، ذو أكمام كاملة وفتحة طويلة على الظهر، غطاها شعرها الأشقر، مساحيق تجميل قوية رغم أنها ليست بحاجتها إليها، لكن نور أصرت على وضعها. لقد كان ذوق هادي راق للغاية، فلون الفستان الرمادي تلائم مع بشرتها وتناسق مع جسدها كأنه صمم خصيصا لها.

وقفت نور خلفها ترمقها بنظرة متفحصة، وعلى وجهها ابتسامة جذابة، أسندت ذقنها على كتف أختها وهي تنظر إلى انعكاس صورتيهما معا قائلة بتنهيدة مرتاحة: كم أنت جميلة آماليا، هنيئا لهادي بك.
اكتفت الأخرى بالصمت ناظرة إليها بجمود، وحقا لا تصدق كيف انقادت خلف شقيقتها، فعليا هي انقادت خلف خطة مرسومة بعناية من قبل نور ومجد، ومع أن هادي شخص جيد، الا أنها لا تشعر بالراحة، تخاف من أن تظلمه معها.

ظهرت عليا في انعكاس المرأة خلفها، نظراتها تخبرها عن عدم رضاها عما يجري، حتى خيل إلى آماليا أنها قرأت في عيني أمها تأنيبا ولوما، وهي تستحقهما على أي حال.

تقدمت عليا منها حتى باتت تقف خلفها مباشرة، كتفت كلتا يديها لتتحدث، متأملة في انعكاس صورتيهما: هل أنت متأكدة من خيارك آماليا؟
لم تجبها فورا، بينما رفعت نور رأسها لتوجه نظرها إلى صورة امها قائلة: مالذي تقولينه امي؟ طبعا هي متأكدة.

نظرت عليا إلى نور نظرة فهمت مغزاها، كانت تزجرها بعدم التدخل، فأعادت نظرها إلى صورة آماليا، التي طالعتها بعدم ثقة، نعم لم تكن متأكدة مما هي مقبلة عليه، تعلم أن هادي شاب كامل تقريبا، لكنها ورغم كل مميزاته لم تشعر بأنها تهتم حقا لأمره، ومع علمها المسبق بسبب تلك الدعوة تشعر بالازدراء تجاه نفسها، ذهابها معه معناه أنها موافقة على طلبه، لكنها ليست موافقة ولن تكون أبدا، جرحها المفتوح والذي يزداد عمقا كل مرة لن يندمل بهذه السهولة، ولن يكون هادي طبيبها.

عادت عليا لتعيد سؤالها من جديد، فأغمضت عينيها بألم وهي تشير برأسها بالنفي بخفة، ارتخت تعابير عليا بينما تجهمت قسمات نور قائلة بامتعاض وصدمة: ماذا تقصدين آماليا؟ ألم تكوني موافقة منذ دقيقة؟
صاحت عليا بتحذير قبل أن تتخطى الأخرى حدودها: نور، دعي شقيقتك تتخذ قرارها دون ضغط.

استدارت نور لتنظر إلى والدتها التي أشارت لها بحزم، فتحت فمها تريد الحديث لكن كلمات آماليا الضعيفة اخرستها: لم أوافق أبدا نور، وكل لقاءاتي معه كانت لأجل أن أرضيك.
استدارت إلى جانبها لتقابل وجه شقيقتها المحتقن، مضيفة بنبرة متعبة: سامحيني نور، لكنني لن أتزوج بهادي.

التمعت عيناها بالدموع ضاغطة على شفتيها، وهي تشعر بأن كل خططها تنهار أمامها، اقتربت عليا لتحاوط كتفيها وقد استشعرت قرب انهيارها، لتهمس بجانب أذنها: عزيزتي نور؛ لا تجزعي، سنجد حلا للوصية أعدك، لكن ليس بإجبار آماليا على الزواج.
نظرت إليها نور بخيبه لتضيف والدتها بنبرة عطوف: صدقيني عزيزتي، هذا ليس الحل أبدا.

اختنقت نور بغصتها لتجري من امامهما هاربة إلى غرفتها، أحنت آماليا رأسها بحزن فاقتربت عليا منها لتربت على كتفها، قائلة بدعم: لا بأس آماليا، نور ستتفهم الأمر، اعطها بعض الوقت فقط.
أشارت لها بالإيجاب، لتسمع كلتاهما صوت الجرس في الطابق السفلي، خفق قلبهابهلع فيما همست لها عليا: بدلي ثيابك وتعالي، سأخبر أمينة بأن تؤخره.

جلس هادي في صالة الضيوف وحيدا، بانتظار نزول آماليا ليذهبا إلى المطعم الذي سبق وأن حجزه ليتقدم لها هناك، عدل رابطة عنقه( البابيون) ببعض التوتر، مرر يده على سترة بزته الرسمية، والتي اتخذت اللون الرمادي لتتلائم مع الفستان الذي انتقاه لأماليا.

فرك كفيه ببعضهما ليحصل على بعض الدفء، لكنه وقف من فوره و تجمدت نظراته على محبوبته وهي تنزل الدرجات الرخامية، ابتسم لثانية سرعان مااختفت كما ظهرت فجأة وهو يتفحص ملابسها العادية، والتي تمثلت في سروال جينز اسود وكنزة صوفية ذات لون نبيتي.
راقبها هادي بصدمة حتى باتت تقف أمامه، حاملة في يدها علبة كرتونية كبيرة الحجم، بان التردد على محياها لكنها نطقت بعد حين بابتسامة مرتبكة: كيف حالك هادي؟

شرد في منظرها الذي احزن فؤاده، وتقريبا علم ماخلفها، صدق ظنه عندما قالت بعد أن استجمعت شجاعتها الهاربة: اسمع هادي، أنا لا أحبذ الكذب، ولأنك شاب خلوق لا أريد خداعك.

سكتت لثانية تعاين ملامحه المصدومة، لم يتوقع حقا أن تكون على علم بنيته بل وترفضها فورا، نعم لم تخبره من قبل بأنها تحبه ولم تخدعه، لكنه سبق وأن بنى أحلامه على موافقتها، تسلل البرد إلى جسده رغم دفء الصالة حيث كانا يقفان، أخفض أنظاره إلى العلبة ليسمعها تضيف: أنت رجل متكامل هادي صدقا، لكنني لست المناسبة لك.

حسنا بهذه الجملة أرضت جزءا من غروره، ولملمت بعضا من كرامته المهدورة على الاقل سبب رفضها ليس اختلاف طبقتيهما، قربت العلبة الكرتونية منه أكثر لتتمتم باعتذار: أنا آسفة هادي، أنت تستحق من هي أفضل مني بكثير.
تنفس بعمق ليضبط صدمته، رسم ابتسامة باهتة على شفتيه ليجيبها بخفوت: لا تعتذري آماليا، لم يحدث شيء يجبرك على الإعتذار.
تناول العلبة منها ليضيف ببسمته الكاذبة: أتمنى لك الأفضل دائما.

لم تعلق ولم ينتظرها لتفعل، استدار هادي ليخرج بخيبته وأحلامه الضائعة، تاركا آماليا خلفه تفكر في صحة مافعلته، لكنها اقتنعت بعد صراع طفيف مع نفسها، استحضر عقلها مشهد ضياء عندما تقدم لها، وكم كان هادي يشبهه في الذوق الرفيع والخلق، لكنها لا تريد خداعهم، من الأفضل لها أن تعيش وحيدة على أن تخدع شخصا كل ذنبه أنه أحبها.

كانت نور تراقب حديثهما من الطابق العلوي بعيون تشتعل نارا؛ هاقد فشلت خطتها ومجد دون نتيجة تذكر، رغم أن الوقت ما زال مبكرا على تنفيذ الوصية، لكنها لا تستطيع البقاء واقفة مكتوفة الأيدي وتنتظر حتى تضيع الشركة منها وتضيع معها أحلامها.

عادت إلى غرفتها تدور حول نفسها بغضب، استلت جهازها لتهاتف مجد، وتخبره بآخر المستجدات، وليفكرا معا في خطة جديدة، قابلها الآخر بالصمت التام مما جعل الشك يساورها بأن الخط انقطع، فهتفت تناديه حتى أتاها صوته باردا: لا زلت معك نور.
تساءلت بريبة وهي تعرف أن سكوته لا يبشر بالخير: بم تفكر مجد؟

ظل صامتا لثوان، كان تفكيره حينها يتجه إلى أدهم، التمعت عيناه بشر إذا آماليا ماتزال تصر على الإيقاع به حتى بعد معرفتها بحمل زوجته، هي إذا تلعب بالنار، وليس مثل مجد من يسمح بأذية أحبائه، وليس هو من يستسلم بسهولة.
تحدث بصوت غامض: اسمعي نور، في حياة آماليا سر ولا بد لنا من كشفه.
ضيقت عيناها بريبة فجلست على فراشها هاتفة بسؤال: لم أفهم، ماذا تقصد؟
أجابها ببرود تام: لا أعلم، لكن يجب أن نفتش غرفتها.

ابتسمت بسخرية تجيبه: نبحث في غرفتها؟ لماذا؟ هل هي متهمة بترويج المخدرات مثلا؟
حتما إنها فكرة حسنة، لو أنه يعرف أحدهم ممن يبيع هكذا ممنوعات لما تردد في توريط آماليا ليتخلص من شرها، عاد إلى رشده عندما هتفت الأخرى بحنق: أنا احترق هنا بالمناسبة، وانت تشرد كل ثانية!
أخذ نفسا مطولا قبل أن يجيبها بتمهل: لا عزيزتي، ماقصدته أننا لو بحثنا في غرفة آماليا لوجدنا ماقد يدلنا على ماتخفيه شقيقتك عن الجميع.

بدت لها الفكرة معقولة، ربما هذا التفسير الوحيد لما يحدث مع آماليا، فهادي، وعلى حسب علمها، ليس أول شاب يتقدم لها وترفضه، فهناك أيضا نبيل، رغم أنه يحبها حقا وتقدم إليها مرات عديدة لكنها ظلت ترفض.
أغلقت الهاتف مع خطيبها لتشرد بتفكير، كيف ستدخل مجد إلى غرفة آماليا مع وجود امها في المنزل، التمعت عيناها بمكر، وقد خطر في بالها خاطر.

كان جانب عليا يؤلمها منذ فترة ؛ لذلك أصرت نور، ومع سبق التصميم، على ذهاب والدتها إلى المشفى لإجراء بعض التحاليل والفحوصات، لكن عليا رفضت كونها تقبع في العدة الشرعية، الا أن نور لم تيأس حتى اقنعتها بالذهاب برفقة أمينة، ولم يبق في القصر سوى سارة وقد تخلصت منها كذلك وارسلتها إلى السوق...

وقفت نور في منتصف الصالة تبتسم بخبث، تنتظر قدوم خطيبها بعدما حادثته، ثوان حتى سمعت صوت الجرس فسارعت لتفتح الباب بعجالة، ظهر من خلفه مجد مبتسما ببشاشة بعد ان ركن سيارته بعيدا عن القصر، ليصعدا من فورهما إلى غرفة آماليا في مهمة بحث عن المجهول.

قررت بأن تحادثها اليوم وتعترف لها بكل شيء، وتطلب منها الصبر معها حتى تمهد الأمر لمجد، ربما أدهم جرحها لكنه لم يقصد وهي لا تفعل لأجله هو فقط، لكن آماليا معذبة بالعشق مثلها ولا تتمنى هذا العذاب حتى لأعدائها...
حادثت إيمان التي اتصلت بالممرضة التي تدير المواعيد في العيادة، لتعرف منها أن آماليا الآن في طريقها إلى قصر عائلتها، لتقرر الذهاب إلى هناك ومحادثتها.

كانت آماليا قد علمت بشأن ذهاب والدتها إلى المشفى، بعدما هاتفتها الأخيرة لتطلب إليها جلب بعض الأوراق الرسمية وبعض التحاليل القديمة من المنزل لأجل الطبيب، وأخبرتها بأن لا أحد موجود هناك.

دلفت آماليا إلى القصر وهي تنادي على سارة إلا أنها لم تجدها، رغم استغرابها لكنها خمنت ذهابها في مشوار مهم، صعدت إلى غرفة والديها واستخرجت الأوراق المطلوبة، ثم عادت إلى الأسفل لتخرج، لم تفتح غرفتها فلم تر شقيقتها وهي تحبس أنفاسها، وتقف مختبأة خلف الستائر وقد وقف مجد بجانبها يكتم تنفسه، حتى شعرا بابتعادها، تقدما صوب الباب ليفتحاه ليخرجا بهدوء، لكن تجمدت قدما مجد على وقع ذاك الصوت المميز، فوقف مراقبا لما سيجري بينهما.

كانت اماليا قد انتهت، فتحت الباب تريد المغادرة لكنها تفاجأت بظهور ريما أمامها من العدم، ازدردت ريقها بدهشة ووجل معا، تقدمت ريما بابتسامتها العفوية هاتفة: كيف حالك اماليا؟ أريد التحدث معك في أمر ما لو سمحت؟
رمشت عيناها بجزع لا تعرف مصدره، لكنها ومن باب الأدب تنحت للجانب مشيرة لها بالدخول، حتى جلست ريما على إحدى الارائك في الصالة متحدثة بلباقة: اعتذر على الإزعاج و قدومي دون موعد مسبق.

أجبرت آماليا شفتيها على الابتسام وهي تجلس، مغالبة توترها: لا تعتذري ريما، لا إزعاج أبدا فلا أحد سوانا في المنزل.
شعرت ريما بالراحة لعدم وجود أحد، فيما بللت آماليا شفتيها قائلة بنبرة جاهدت أن تكون تلقائية: أنا فقط استغربت من قدومك إلى هنا، فإن أردت الاطمئنان على الجنين عليك الذهاب إلى العي...
أنا لست حاملا يا آماليا.

هكذا قاطعتها ريما فجأة ودون مقدمات، لتندهش آماليا وتجحظ مقلتا مجد، وتشهق نور بخفة واضعة يدها فوق فمها، تطلعت الى مجد الذي أمسك السور الرخامي ليضغط عليه بكل قوته، فيما تساءلت آماليا بابتسامة بلهاء متوترة: كيف؟ ولكن مجد...
لم تستطع أن تكمل جملتها لدهشتها، فابتسمت ريما مجيبة ببساطة: الحقيقة هذا ماأتيت لأحادثك به.

رفرفت بعينيها باستغراب، فشبكت ربما كلتا يديها لتضيف كأن الأمر طبيعي بالنسبة إليها: اسمعيني آماليا، أنا لا أحب اللف والدوران حول الموضوع، لذا وباختصار شديد، أنا أعلم أنك وأدهم حبيبان.
شعرت بتدفق الدم الهائل داخل شرايينها مقابل جفاف وجهها من الدماء، حتى انقلب إلى صفحة صفراء شاحبة، هل اعتقدت ريما أنها عشيقة أدهم؟
يا للخزي والعار!

حركت شفتيها بفراغ تريد تكذيب شكوك تلك الجالسة أمامها بهدوء تحسد عليه، وكأن المعني بالحديث ليس زوجها، الا أن الاثنتان دهشتا وهما تستمعان إلى صوت مجد الغاضب: أيتها الحثالة!
شحب وجه ريما لمرأى مجد ينزل الدرج بخطوات متعجلة، وقد اربد وجهه بغضب قاتم قد يحرق كل شيئ أمامه دونما رحمة، وقد علمت أن غضبته هذه لن تمر على خير أبدا.

اما آماليا فقد كانت دهشتها مختلطة باستغراب، كيف يظهر مجد من العدم ومن خلفه كانت نور، ألم تنادي منذ قليل لكن لم يجبها أحد؟
استفاقت من خاطرتها السريعة على صوت ريما المرتجف، وقد وقفت في مواجهة ذاك الثائر: مجد عزيزي اهدء أرجوك، دعني فقط أفهمك الأمر.
صرخ مجد في وجهها وهو يشير إلى آماليا: كيف لي أن اهدء وأنا اعلم أنها تخطط لإغواء أدهم وخداعه؟
هل كان هذا الكلام موجها إليها هي؟

صعبت على آماليا نفسها أن ينعتها مجد بهكذا كلام مشين، فتحدثت بكبرباء مختلط بحزم: إياك أن تتجاوز حدودك مجد.
التفتت ريما نحوها بنظرة استعطاف لم تفهم سببها، لكنها فعلت عندما حاول مجد الهجوم عليها وضربها، لتحول بينهما ريما وقد استحال وجهه الى اللون الاحمر الدامي صارخا: لم اتجاوز حدودي بعد أيتها العانس الحقيرة، ألم تجدي لك سوى أدهم؟

صدمتها كلماته الجارحة حرفيا، فانشل لسانها عن الحديث بكلمة او دفع اتهاماته عنها، لكنها انتبهت إلى صوت ريما المرتجف وهي ترجوه وقد حاوطت وجهه بكفيها: أرجوك مجد أتوسل إليك لا تغضب، فقط انظر إلي وتنفس ببطء.
كانت نور تتابع مايحدث باستغراب ودهشة وهي حقا لا تفهم ماحدث ويحدث، بينما صاح مجد بكل ماتبقى له من قوة: لا ريما لن اهدأ، إنها تريد إبعادكما عن بعضكما مثله، وأنا، انا، لن، اسمح...

ثقل لسانه وتقطعت حروفه في كلماته الأخيرة، وقد غدى وجهه كتلة حمراء تشع حرارة قبل أن يسقط فجأة على الأرض، وسط استغراب الأختين وصدمتهما، وصراخ ريما التي جلست بجانبه تضربه على وجنتيه بخفة تحاول إفاقته: لا لا مجد أرجوك، كلمني أتوسل إليك مجد، استفق بالله عليك...
رفعت عيناها الباكية إلى ذينك الجامدتان بمفاجأة، لتصيح ناسية كل قواعد اللباقة: لا تقفا هكذا، اطلبا الإسعاف، حالا.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة