قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية وصية والد للكاتب علي اليوسفي الفصل الثاني والعشرون

رواية وصية والد للكاتب علي اليوسفي الفصل الثاني والعشرون

رواية وصية والد للكاتب علي اليوسفي الفصل الثاني والعشرون

علمتني الحياة أن أبكي وحيدا، أودع آلامي في أوراق دفتري، ثم أمزقها إذا مااشتد علي الوجع، فأشعر ببعض الراحة.

دلفت نور إلى القصر لتجد عليا تنتظرها عند المدخل عاقدة ذراعيها، طالعت هيئتها التي لا تبشر بالخير خاصة أنه من الواضح أن والدتها لم تنم طيلة الليل، ازدردت ريقها بوجل وهي تتقدم بخطوات خائفة، تعلم أن فعلتها أمس لن تمرر بسهولة، لذا وكما أوصاها مجد عمدت إلى اللين، رسمت على وجهها ملامح مستكينة لتتقدم صوب أمها بثقة مصطنعة، هاتفة ببسمة لتقاطعها قبل أن تنطق بحرف: آسفة أمي، أعلم أيا كان ماسأقوله ليس مبررا لما فعلته وقلته أمس، لكنني أعتذر.

كانت قد وقفت أمامها تماما عند قولها هذه الجملة، رفرفت بعينيها كقطة مسالمة لتضمن الحصول على عفو والدتها، وللحق فقد اجادت تمثيلها بشكل اذهلها هي ذاتها، أسبلت عليا يديها لتنظر إلى ابنتها بنظرات متفحصة، في النهاية هي والدتها وافضل من يعرفها، حدثتها بنبرة حملت لوما وعتابا: أنا اسامحك نور، رغم أن حديثك أمس لم يكن ملائما البتة.

مست كلماتها مشاعر نور فهي على حق، كادت أن تجيب عندما سمعت كلتاهما صوت إغلاق باب سيارة ما، التفتت الاثنتين إلى بوابة القصر لتريا آماليا تعطي سائق سيارة الأجرة ماله، ثم تستدير نحو القصر لتمشي بخطوات ثابتة، اتسعت ابتسامة نور لتنزل الدرجات الرخامية وتقابل شقيقتها، واضعة يديها خلف ظهرها وتميل برأسها للجانب، أسبلت عيناها ببراءة هاتفة: ( امول ) حبيبتي، أنا آسفة.

وقفت آماليا أمامها تنفخ بامتعاض من الأسلوب ذاته الذي تنتهجه نور معها كلما أخطأت، رمقتها بلا مبالاة لتحاول تجاوزها، فأسرعت نور لتقف أمامها هاتفة بلهفة واضعة يدها على أذنها: هذه أذني شديها لو أردت فقط سامحيني.
تململت آماليا في وقفتها ناظرة إليها مجيبة بحنق: لا نور، هذه المرة لن تنفعك حركاتك الطفولية هذه.

أسرعت الأخيرة لتمسكها من ذراعها قائلة بنبرة كمن يوشك على البكاء: أرجوك آماليا سامحيني، أنا لم أقصد جرحك أقسم لك.
ربما الأمر غباء أو أنه مشاعر الاخوة الصادقة التي تحملها آماليا اجبرتها على مسامحتها، حاولت الاحتفاظ بملامح الغضب على وجهها لكنها فشلت عندما زمت نور فمها وغامت عيناها كأنها ستبكي حقا، ابتسمت لتأخذها في أحضانها هامسة بحنان: اسامحك أيتها الحمقاء، وهل في يدي غير هذا لأفعله؟!

سالت عبرات نور حقيقة، برغم أنها تحملها اللوم لكنها داخليا تعرف أنه ليس لشقيقتها يد في الوصية، عاضدتها آماليا في بكائها فهي بحاجة إلى كتف لتبكي عليه عل فؤادها الجريح يشفى!
تأثرت عليا بمنظر الشقيقتين، خطت إلى الأسفل لتشارك في عناقهما الأخوي الخالي من مشاعر مزيفة، أو نفوس كدرها الطمع والمال.

يبدو أن مجد مصر على إخراج أسوء مافي شقيقه، طالعه أدهم بعيون متسعة وانفاس متلاحقة يسأله باستهجان: ماذا قلت مجد؟
لم تتزحزح ابتسامته الماكرة وهو يستفيض شرحا غير عابئ بوجه أدهم المحتقن: كما أخبرتك، سأتدبر صدفة ما لأعرفهما إلى بعض، هادي شاب وسيم يلفت النظر، و آماليا جميلة رقيقة، متأكد أنهما سيتفقان.

صدمته شلت لسانه، رغم هذا كاد أن يوبخ مجد، إلا أن الأخير لم يعطه الفرصة وهو يضرب الطاولة بحماس ليقف من فوره، مخاطبا أخيه بنبرة لم تخلو من السعادة: يجب ان أخبر نور، سأبدأ بمخططي منذ الآن، أراك لاحقا.
شيعه أدهم بعيون تكاد تخرج من محجريها، مجنون مجد ام ماذا؟ بل ويخبره بخطته بكل حماس كمن وجد الحل السحري لسد ثقب الأوزون أو مشكلة الاحتباس الحراري؟

كور قبضته ناظرا حوله بضياع، سيقوده مجد إلى هاوية الجنون لا محال، يزوج آماليا؟
ابتسم بسخرية لمجرد تخيله أن تتزوج من سواه وأمام عينيه، بل وبتدبير من شقيقه الذي ترك آماليا لأجله؟
عقله يتوسل الرحمة، سينفجر من فرط التفكير ألا يكفي ماحدث في الأمس؟ ليأتي شقيقه الأحمق ويزيدها عليه؟

نفخ بضيق ولا يعرف مع من سيتحدث، كلما تذكر مافعله مع ريما، أغمض عينيه بألم حينما أتى على ذكرها، المسكينة أكثر من قدم تنازلات فيهم، رغم هذا ماتزال تتلقى الصفعات منهم واحدة تلو الأخرى دون كلل أو ملل.
سينتظر بعض الوقت حتى تنسى ويلتئم جرحها ثم يعتذر إليها ويصالحها، فهو الآن ليس بحالة تسمح له باختلاق الأعذار لأحدهم.

عاد مجد إلى المنزل بعدما التقى بنور وحدثها، أخبرها بضرورة ألا تتصادم مع آماليا حاليا ليمشي مخططه كما يريد، فأخبرته ام ميسر بأن ريما لم تخرج من غرفتها متعللة ببعض الإرهاق، لم يصدق مجد حجتها الواهية فقرر أن يصعد إليها.
بدى الهرب أفضل حل متاح أمامها حاليا، جريمة أدهم أحدثت شرخا في روحها لن يلتئم بسهولة، فلم تخرج من غرفتها قط، وتدثرت في فراشها لتخفي آلمها.

وضعت هاتفها على الطاولة الخشبية الصغيرة قربهاة، بعدما حادثتها إيمان التي سألتها عن موعد فتح المحل المغلق منذ أسبوع، لتخبرها أنها ستفعل في الغد، ربما هذا سينفض بعض التعب عن روحها، أجفلت بخفة عندما سمعت طرقات على باب الغرفة، شدت الغطاء على نفسها ظنا منها أنه أدهم إلى أن أتاها صوت مجد يطلب الأذن بالدخول فسمحت له.

رسمت ابتسامتها المدعية على ثغرها الرقيق وهي ترى مجد يدخل إليها، اعتدلت قليلا في جلستها ليقابلها مجد بعيون متفحصة، ليسألها: آتيت أطمئن عليك، أخبرتني أم ميسر أنك مرهقة.
ماتزال محتفظة ببسمتها المزيفة وهي تجيبه بصوت ارهقه السهاد: لا تقلق عزيزي، يبدو أنني على وشك الإصابة بنزلة برد، سآتناول الدواء وعصير البرتقال وأصبح أفضل.

لم تمر عليه حجتها التي بدت سخيفة، تفرس في ملامحها المتعبة وعينيها المنتفخة، ليسألها مباشرة بنبرة باردة: ما الذي يحدث بينك وبين أدهم ريما؟
جحظت عيناها فزعا وهربت الدماء من عروقها لظنها أن مجد قد استمع لماحدث بينهما أمس، فيما تابع هو محاولا دفعها لقول الحقيقة: أرى أن الحال بينكما ليس على مايرام منذ مدة، كذلك رأيت أدهم ليلة أمس خارجا من المنزل بعد منتصف الليل، فما الذي تخفيانه عني؟

هدأت أنفاسها المتسارعة حينما استمعت لباقي حديثه، فعلمت أنه لم يعرف الكثير، تصنعت ابتسامتها الكاذبة مجددا، بللت شفتيها قائلة بنبرة حاولت جعلها مقنعة قدر الإمكان: لا عزيزي، إنها تهيؤات فقط، لا مشاكل بيني وبين أدهم مطلقا.
ضيق عينيه ليسألها بتقرير: ماذا عن خروج أدهم ليلة أمس؟

ارتجفت ريما لشعورها بأنها جالسة امام محقق ما، لتبحث في ذهنها عن كذبة سريعة ومقنعة، ثم أجابت بصوت متذبذب حالما وجدتها: لقد هاتفه أحد أصدقاءه يطلب مساعدته بعد أن فرغت عجلة سيارته من الهواء في منتصف الطريق.

حاولت قدر الإمكان جعل ملامحها طبيعية وهي تجيبه على أسئلته المربكة، والحق يقال أنها استطاعت إقناعه، ربما ليس كليا رغم إجاباتها المنطقية وتعابيرها الهادئة، لكن مازال بعض الشك بداخله يساوره، كاد يسألها مجددا ليقطع شكه بالخبر اليقين، إلا أن رنين هاتفها قاطعه، شعرت ريما بأن الهاتف انقذها لكنها سرعان مافزع فؤادها وهي تقرأ اسم أيمن يزين الشاشة، مدت يدها لتأخذ الهاتف سريعا ثم أغلقت المكالمة مما آثار ريبة مجد الذي سألها بشك: من صاحب الاتصال ريما؟

لم تكن متأكدة إن كان قد قرأ الإسم أم لا، لكن خطرت في ذهنها كذبة سارعت في إخباره إياها: إنها إيمان، تريد معرفة متى سأفتح المحل.
وصوت مقيت يصدح داخل عقلها بسخرية: يبدو أن الكذب أصبح بالنسبة لك منهج حياة!

ربما هو لم يستطع قراءة الإسم لكنه متأكد أنها كاذبة، ارتجافتها التي ماتزال واضحة وملامحها المرتبكة، كلها دلالات على أن ريما لم تكن صادقة معه كليا، رغم هذا زفر من أنفه ليخبرها مدعيا الاقتناع فيما هو يهم بالنهوض: حسنا ريما، خذي راحتك في الحديث مع إيمان، أنا سأخرج إلى عملي.

بدت كالآلة وهي تومئ له لتشيعه بعيناها حتى صفق الباب خلفه، وكان هذا بمثابة إشارة لها لتنهار، سالت عبراتها تلقائيا وهي تضرب برأسها حافة السرير خلفها، عاد الرنين مجددا لتطالع اسم أيمن لتزيد عبراتها وقهرها، لا تعرف حقا على من ستلقي اللوم، يبدو أنها الملام الوحيد هنا! ش!

عاد الرنين مرة ثالثة بإلحاح أجبرها على يبدو أنه أعند من أن يستسلم بهذه السهولة، مسحت دموعها وأجلت حلقها مجيبة بصوت جعلته اعتياديا: نعم؟
أتاها صوته بلهفة فشل في إخفائها: أين أنت ريما؟ لقد تأخرت؟
أغمضت عينيها بألم أصابها وهي تسمع صوته المتلهف وحروف اسمها منه، ارتجف فكها قبل أن تجيب بجمود افتعلته: أنا متعبة قليلا، لن استطيع القدوم.

ثوان من الصمت الثقيل خيم على كليهما، كاد أن يكذبها لولا صوتها المتعب بشكل واضح، خفق فؤاده بعنف قلقا عليها لكنه سرعان ماسيطر على نبرته الباردة مجيبا: لا بأس، سأخبر ريما بهذا، إلى اللقاء.
أغلق دون أن يسمع جوابها، عضت على شفتيها فيما يدها التي تحمل الهاتف تنخفض عن أذنها، لم يعد بها جلد للمقاومة، كل شيء ضدها، حتى أنفاسها التي تتسارع كلما سمعت باسمه، حتى خافقها خائن، حتى ظروفها المتعبة خائنة...

استفاق أيمن منذ ساعة تقريبا، ليشعر بصداع قاتل في رأسه ورؤيته مشوشة، طبعا هذا أقل مايتوقعه بعد احتساء ثلاث زجاجات مشروب كحولي يتقاسمها مع أدهم، لكن اول ماتوارد إلى ذهنه هو موعد قدوم ريما، طالع الساعة ليكتشف أنها قد تعدت موعدها، لا بأس ربما هي في الطريق، انتفض من فوره ليطمئن على ابنته أولا، والتي كانت مستفيقة تلعب لوحدها بملل بانتظار ريما.

أسرع ليأخذ حماما ساخنا عله يستفيق جيدا وشعور خفي داخله يرفض أن تراه بهذه الهيئة الفوضوية، حضر لصغيرته وجبة إفطارها لكنها رفضتها لتتشاركها مع ريما، وجد أيمن نفسه بلا وعي ينتظر حضورها هو الآخر، قضى معظم وقته يجول بنظراته على الساعة المعلقة على الحائط، وبين ساعة يده الفاخرة، وعندما تأخرت عن موعدها أكثر من المعتاد قرر محادثتها، محاولا إقناع نفسه بأنه يريد أن يطمئن لأجل ابنته، رفضت الاتصال الأول فاعتقد أنها أضحت قريبة، وقف عند النافذة ينتظر طلتها البهية لكنها لم تظهر للآن، عاود الاتصال مرة ثانية حتى انقطع دون اجابه، أعاد الكرة ثالثة ببعض القلق لتجيبه بصوت بدى عليه الإرهاق، شعر بخفقة قاتلة لمعرفته بتعبها، أغلق الهاتف نافخا بضيق من نفسه، لماذا عاد ليهتم بها، لماذا؟

لماذا ماتزال هي المسيطرة على قلبه ومسؤولة عن سعادته وشقائه معا؟

انتصف الليل عندما قرر أدهم العودة إلى المنزل، طرق على الباب مرتين ليفتحه بهدوء وعيناه معلقتان في الأرض، تنحنح بخفوت مناديا على ريما لكن لم يأتيه أي رد، رفع أنظاره ليجد الجناح فارغا، قطب جبينه باستغراب سرعان ما زال وهو يستمع إلى صوت المياه القادم من الحمام، ليعلم أن ريما هناك، حسنا هذا أفضل لهما على حد سواء، فانشغاله بأمر مخطط مجد ارهقه وليس به من جلد لمواجهة ريما الآن، فكر في الدخول إلى غرفة الملابس حيث يبيت فورا، لكنه عاد أدراجه إلى الطاولة بجانب سرير ريما، أخرج ورقة وقلم ليكتب لريما جملة مقتضبة فلا تفزع: أنا في غرفتي، اطرقي الباب لو أردت شيئا.

أخذ الورقة ليعلقها على المرآة الخاصة بريما فتراها فور خروجها، ثم تابع مسيره إلى غرفته متمنيا داخله ألا يكون قد سبب لها جرحا غائرا، فيخسر صداقتها للأبد، لو أنها فقط تعطيه العذر، لو!

خرجت ريما من الحمام مرتدية بدلة رياضية سميكة، تحمل في يدها منشفة قطنية تجفف بها خصلاتها المبتلة، وقفت أمام مرآتها لتشهق بخفة عندما رأت تلك الورقة، ازدردت ريقها وهي تشيح بأنظارها تلقائيا إلى باب الغرفة التي غاب خلفها، وفي داخلها تشعر بالشفقة عليه، أدهم ليس حقيرا ولا ينساق خلف نزواته، ماحدث أمس كان خطأ، ربما كاد يكلفها الكثير لكنه في النهاية خطأ غير مقصود!

هذا الصباح حمل الكثير من المشاعر المتضاربة، لأشخاص صحوا ذات يوم ليجدوا أنفسهم في وضع لا يحسدون عليه.
خرجت ريما باكرا قبل أن يستفيق أدهم، متجهة إلى منزل أيمن، توقفت أمام الباب لتقرع الجرس وتنتظر لحظات قبل أن تعود وتقرعه مجددا، لا شك أنه نائم الآن وكذلك الصغيرة، لكنها ستكون مشغولة طول اليوم ولن يتسنى لها العودة لرؤيتها.

مضت لحظات أخرى حتى انتبهت إلى فتح باب المصعد خلفها، استدارت بعفوية لتنقلب ملامح وجهها وهي تطالع إيناس التي تفاجأت كذلك، زوت ما بين حاجبيها لتسأل تلك الغريبة بغرابة: هل هناك خطب ما أيتها الآنسة؟
ازدردت ريما ريقها بوجل لترسم بسمتها الرقيقة على محياها، ثم مدت يدها إلى ايناس معرفة بنفسها: اسمي ريما، مدام ريما الرسام.
ضيقت إيناس عينيها بتفحص، يالهذه الصدفة الغريبة، اسمها كاسم ابنة أيمن؟

صاعقة مهولة ضربت رأسها لتنتفض حواسها كلها دفعة واحدة، الآن تذكرت أين رأت هذا الوجه، إنها تشبه نتالي زوجة أيمن المتوفية لدرجة غير معقولة، هذا إن استثنينا بالطبع لون العينين والشعر.!
انتبهت لتوها إلى اليد الرقيقة أمامها، لتشعر بالحرج فرفعت يدها لتبادلها السلام مع بسمة بسيطة قائلة: إيناس خليل.
لم تستطع ايناس منع نفسها من تفحص ريما، تكاد تقسم أنها نتالي ذاتها، ماهذه الصدفة الغريبة أيضا؟

أجلت ريما حلقها لتردف بتوتر: في الحقيقة كان لدي موعد مع السيد أيمن و...
بترت حديثها واستدارت كلتاهما عندما فتح الباب من خلفها، ليظهر أيمن متثائبا بنعاس ويفرك شعره بيديه، استفاقت عيناه الناعسة وهو يرى شقيقته تقف خارجا برفقة ريما، ازدرد ريقه ناقلا بصره بين كلتيهما بفزع، سرعان مااخرجته ريما من حالته تلك متحدثة بتلقائية: صباح الخير سيد أيمن، أعتذر إن كنت قد أتيت باكرا بشأن العمل.

رفرف بعيناه بذهول قبل أن ينتبه إلى كذبتها المتقنة، والحق يقال فقد قالتها بثبات تحسد عليه، ادعى الابتسام مشيرا لها بتفهم، ثم نقل نظره إلى شقيقته التي كانت تراقب حديثهما بعين الفضول ليخبرها: ادخلي عزيزتي إيناس، لا يصح أن تبقي واقفة هنا.
ضيقت إيناس عينيها لتسأله بغتة بنبرة حملت بعض السخرية: هل ستترك المدام ريما واقفة على الباب؟ هل يصح هذا؟

بقيت بسمته الكاذبة كما هي ليجيبها: لا بأس عزيزتي، فريما تريد ملفا ما متعلق في العمل، ستأخذه وترحل.
اردفت الأخرى بتأييد لحديثه: نعم هذا صحيح، علي الرحيل فورا.
اكتفت إيناس بالاستماع إلى كذبتهما، فهي ليست حمقاء لتصدق أن ريما صديقة قديمة لأيمن كما أخبرتها الأخيرة سابقا وفي الوقت ذاته تناديه بالسيد أيمن؟
ثم أن شقيقها يعمل وحيدا في مكتبه المستقل، فماهي طبيعة العمل الذي قد يجمعهما؟

من الواضح أن شقيقها الأصغر يملك أسرارا كبيرة في حياته.

مرت لحظات حتى حركت إيناس رأسها بتفهم لتدلف إلى المنزل، راقبها كلاهما بابتسامة بلهاء، سرعان ما تحولت إلى ضحكات خافتة تشاركها كلاهما، و بعفوية مطلقة رفع كفه ليضرب كفها لنجاحهما في خداع إيناس، تجمدت ابتسامتها عندما وعت ماحدث، أما هو فقد تاه في ضحكتها وظل يبتسم ببلاهة لثوان، أجلت حلقها متحدثة بتوتر انعكس على نبرتها: آسفة على قدومي باكرا، كان يجب أن أحادثك.

حرك رأسه بتفهم دون حديث، لتضيف بخفوت: إلى اللقاء.
تحركت خطوتين قبل أن تعود لتهمس أمامه: آسفة مرة أخرى.

تحركت هذه لمرة لتهبط الدرج متخلية عن المصعد، كأن قدميها ركبتا بساط الريح فلم تعد تشعر بهما، وقف يراقبها ببسمته السعيدة، لا يعلم حقا لم هو سعيد، شعوره بخفقات متتالية تضرب قفصه الصدري لمجرد سماعه ضحكتها لا يوصف، تنهد مخللا شعره ليعود إلى منزله، غافلا عن عيني شقيقته التي راقبت كل ماحدث بينهما، ليتزايد ذاك الشعور بعدم الراحة تجاه علاقة شقيقها بتلك الآنسة، أو السيدة!

وقفت بجانب سيارتها تستند عليها بلهاث خفيف، كفها يتلمس وجهها الذي تصاعدت حرارته متجاوزة الحرارة الطبيعية له، كورت يدها تضعها على صدرها تبتسم بسعادة لا مجال لوصفها، ثم تضحك بخفوت ببراءة طفلة في السابعة، حقا هذا الشعور لا يعيه إلا من عايشه حقيقة.
لمسة خفيفة على كتفها جعلتها تجفل شاهقة بخفة، أغمضت عينيها ووضعت يدها على صدرها الثائر مخاطبة إيمان بلوم: لقد أسقطت قلبي بين قدمي إيمان!

بابتسامة مرهقة أجابتها الأخرى: ألم تكوني بانتظاري؟
ازدردت ريقها بتوتر لتهمس فيما هي تركب سيارتها: نعم بالطبع انتظرك انتي.
استقرت إيمان بجانبها لتردف بتعب: اذا هيا إلى المحل.

نظرا لإغلاقه لأيام فقد امتلأت الأرفف والملابس بالغبار، لم تحضر الفتاة الأخرى لتساعدهن في التنظيف، فتولت ريما وإيمان هذه المهمة، غرقت كلتاهما في العمل الجاد حتى انتهيا تقريبا.
كانت ريما تمسح بخرقة قديمة الأرضية حول مكتبها الخشبي، عندما حضرت إيمان بوجه مرهق وانفاس متلاحقة بخفة تسألها: فلنحرك الطاولة ليتسنى لك التنظيف بشكل أفضل؟

اعتدلت في وقفتها لتستند بإحدى كفيها على عصا الممسحة، وباليد الأخرى تجفف العرق عن جبينها مجيبة بتنهيدة طويلة: إنها ثقيلة للغاية إيمان، أشك أننا قادرتان على تحريكها لوحدنا.
زمت الأخرى فمها بتفكير قبل أن تقول بعزم: بلى نستطيع، تعالي فلتساعديني.

أسندت ريما الممسحة إلى الحائط لتقترب من إيمان، تعاونت كلتاهما في دفع الطاولة الثقيلة مصدرة صوت صرير مزعج، اعتدلت ريما في وقفتها لتضع كلتا يديها على خصرها قائلة بفخر: لقد نجحنا.
لم تجبها إيمان ولم تعتدل في وقفتها، قطبت جبينها ناظرة إليها باستغراب، مالبثت أن اتسعت عيناها عندما سمعت صرخة إيمان المستغيثة: انجديني ريما، أنا أجهض!

تعطلت حواسها كليا وهي ترى إيمان تتلوى من الألم مفترشة الأرضية المبللة، وتحاوط بطنها الصغير بكفيها، صرخة أخرى من ايمان أعادت لها وعيها، لتسرع بطلب الاسعاف من فورها.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة