قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية وصية والد للكاتب علي اليوسفي الفصل التاسع عشر

رواية وصية والد للكاتب علي اليوسفي الفصل التاسع عشر

رواية وصية والد للكاتب علي اليوسفي الفصل التاسع عشر

أشعر أن الماضي دائما مايأتيني مرتديا قناع قط لطيف تائه، وحينما أداعبه وأمسك يده بصفاء سريرتي ينقلب فجأة إلى ذئب شرير، يركض بي محاولا إلقائي في بئر الذكريات، حيث إن سقطت فلا عودة.

لم تزل نور كالمهرة الثائرة تصول وتجول ذهابا وإيابا في مكتب والدها مذ غادر قاسم، حديثه مصيبة بكل المعايير، فيما آماليا جالسة على شرودها، واجمة في نقطة في الأرضية الكريستالية، وعليا بجانبها تجلس بكتفين متهدلين، ضجيج رأسها لا يهدأ من كثرة التفكير في فعلة عمار وأسبابها.
وقفت نور فجأة أمام والدتها تهتف بصوت محتقن: ما الذي سنفعله الآن أمي؟ كيف سنحل هذه المشكلة؟

رفعت عليا رأسها صوب آبنتها، لتحدثها بصوت رخيم ماتزال بحة الحزن واضحة فيه: اهدأي الآن نور، لن نستطيع التفكير في أي حل نافع وأنت في هذه الحال.
صاحت بحدة متناسية الظرف المحيط: كيف لي أن اهدأ امي؟ أخبريني كيف ونحن على وشك أن نصبح معدومين ومسلوبين من كل املاكنا؟ ونحن على حافة الإفلاس كيف؟
حاولت عليا امتصاص حالة الغضب المسيطرة على ابنتها قائلة برزانة: أخبرتك نور، لن نصل إلى حل وانت هكذا.

عادت نور إلى حالتها الأولى بين ذهاب وإياب، تضرب كلتا كفيها ببعضهما بغضب حتى وقفت فجأة لتقول كمن تذكر شيئا: سأطعن بصحة الوصية.
قطبت عليا جبينها لتجيبها باستهجان: أجننت؟ ستطعنين بصحة والدك العقلية؟
صاحت كمن فقد عقله: لماذا هو لم يفكر في تبعات وصيته قبل أن يموت؟

وقفت عليا قبالتها لتنهرها بصوت جاد رغم تعبها وحزنها: لن أرد على حديثك لأنك غاضبة الآن، لكن إن كنت قد نسيتي فعمك قاسم قال إن الوصية مثبتة في المحكمة، لذا لن تستفيدي من الطعن شيئا سوى غضبي عليك.
ضغطت نور على فكيها بقوة تكاد تجعل أسنانها تصرخ توسلا بالرحمة، حتى تابعت عليا حديثها بنبرة عطوف وهي تمسح على يدها: اذهبي الآن وارتاحي حبيبتي، في الغد لنا كلام آخر.

تأكدت نور أنها لن تجني شيئا من بقائها سوى المزيد من المجادلات والمهاترات التي لن تفضي إلى نتيجة، زفرت بضيق وهي تشد على شعرها الحر، تحركت خارجة تدب الأرض بعصبية، تنهدت عليا بحزن لتجلس مكانها بجانب آماليا التي لم تنطق بحرف حتى الآن، طالعتها بآسى وهي تشعر بما يعتمل داخلها من تخبط، همست آماليا بصوت خفيض وماتزال تنظر إلى الأرض: لماذا أمي؟ لم فعل أبي هذا بي؟

زفرت عليا بحيرة ولا تعرف بم تجيبها، مسحت على ظهرها بحنو قائلة بحنان: لا أدري آماليا، حقا لا أعرف بم كان يفكر والدك عندما فعلها.
تنفست بعمق لتضيف بصوت مختنق: لكنني على يقين أن مافعله فيه مصلحة الجميع.

سقطت دمعة من عينيها لم تقاومها لفراق سندها وما ستتحمله في غيابه، فأغمضت آماليا عينيها لتجهش بالبكاء هي الأخرى، قربتها عليا منها لتدفنها في أحضانها، أسندت رأسها على رأس آماليا لتذرف عبراتها هي الأخرى بصمت، وهي على يقين تام أن الأيام القادمة ستحمل لها ولابنتيها الكثير من المفاجآت.

لم تجلس العائلة إلى مائدة الإفطار كالعادة، مذ رحل رب هذا البيت وقد تشتت أهله وانقلب حالهم، قلبت عليا طعامها بملل في طبقها، تطلعت إلى مكان ابنتيها الفارغ، فكلتاهما رفضت تناول الطعام، رفعت رأسها إلى نور التي كانت تهبط الدرج بخطوات سريعة، قطبت عليا جبينها باستغراب لمنظر ابنتها الذي لا يوحي بذهابها إلى الجامعة، فهتفت تناديها لتقف نور كمن تفاجأ بوجودها، فقالت بنبرة عادية: صباح الخير أمي.

تحركت عليا حتى وقفت أمام ابنتها تسألها بجدية: إلى أين أنت ذاهبة في هذا الوقت المبكر؟
تنهدت نور بقليل من الضيق مجيبة: سأخرج لأتناول الفطور مع مجد أمي، لقد حادثته منذ قليل وهو الآن بانتظاري.
رفعت عليا حاجبيها لتردف بنبرة حملت معها اللوم: ولماذا لم تخبريني؟
تململت نور في وقفتها متحدثة: ها أنا أخبرك الآن أمي، فهل أستطيع الذهاب؟

طالعتها أمها بتفاجأ، هذه ليست نور، منذ أربعة أيام لم تكن هكذا، حسنا لا يجب أن تضغط عليها، ربما رحيل والدها ووصيته التي لم تكن في الحسبان قد أثرت عليها، لا بأس إنها ابنتها وتربيتها في النهاية.
تنفست بعمق مجيبة بعطف ممزوج بجدية: لا بأس نور اذهبي، لكن في المرة القادمة ابلغيني لو سمحت.

أشارت لها موافقة بلا مبالاة وتحركت من فورها خارجة إلى لقاء مجد، تاركة عليا خلفها تغمض عينيها طالبة الصبر و الجلد من الله على القادم من الأيام، رفعت رأسها إلى الأعلى قبل أن تحث خطاها، لتصعد إلى غرفة آماليا.

لم تغمض جفنيها طوال الليل، وهي تدور في حلقة مفرغة، وتسأل نفسها ذات السؤال، لماذا، لم يكن والدها يوما ظالما ولم يفرق بينها وبين نور، فلماذا يفعلها الآن؟
لم يضغط عليها للزواج في حياته فلماذا يضعها الآن في هذا الموقف؟ يخيرها بين بيع ممتلكاتهم والافلاس أو الزواج؟
نفخت بضيق وهي تدفن رأسها بين كفيها، رأسها يكاد ينفجر وقد يقودها تفكيرها إلى الجنون قريبا، أو ربما إلى الانتحار؟

طرقات متتابعة على باب غرفتها أخرجتها من أفكارها السوداء، دلفت عليا لتجد آماليا جالسة على سريرها وماتزال بثيابها منذ الأمس، شحوب وجهها المتعب أخبرها أنها لم تنم، اصطنعت ابتسامة صغيرة ارتسمت فوق شفتيها لتقابلها آماليا بالعبوس، اقتربت منها لتمسح على جانب صدغها قائلة بحنان: لم تنامي عزيزتي، أليس كذلك؟

تنهدت آماليا وهي تشير لها برأسها بالنفي بحركة ضعيفة، ربتت عليا على كتفها مضيفة: لا تحملي نفسك الذنب حبيبتي.
أغمضت عينيها وهي تخفض رأسها قائلة بتعب: لا أستطيع أمي، بقيت أسأل نفسي طوال الليل علني أصل إلى الإجابة، لكنني دوما أصل إلى طريق مسدود.
جلست بجانبها لتمسح على كتفها قائلة: اسمعيني آماليا، أنا حقا لا أعرف لماذا قرر والدك في آخر أيامه كتابة هكذا وصية، لكنني متأكدة أن هناك سببا قويا خلفها.

التفتت آماليا نحوها لتقاطعها بحنق: لكن ما فعله غير عادل أبدا أمي، لم يجبرني على الزواج في حياته فكيف له أن يفعلها بعد وفاته؟
طالعتها عليا بنظرات متفحصة، لتسألها بعين ضيقة: دعيني اسألك إذا آماليا، لماذا ترفضين الزواج؟

أجفلت عيناها إلى الجانب الآخر، تنهدت بتعب ولا تجد لها إجابة، ظلت هكذا لثوان حتى اقتنعت عليا أن ماتخفيه آماليا كبير، كبير جدا ولن تتمكن من معرفته الآن، ربتت على كتفها من جديد قبل أن تستقيم لتحدثها: لن اضغط عليك أبدا لمعرفة السبب آماليا، لكن يجب أن تعرفي أن الأيام القادمة لن تكون سهلة.

رفعت رأسها إلى والدتها التي أضافت: أنت تعرفين كم كانت نور متحمسة لاستلام إدارة الشركة، لذا يجب أن تتهيأي لأي رد فعل غير متوقع منها.
سكتت للحظة قبل أن تتابع بصوت حازم، واضعة يدها على وجنة آماليا: لكن مهما حدث عزيزتي تذكري، أنها شقيقتك الصغيرة، مهما فعلت لا تسمحي لها بالابتعاد عنك، عديني بهذا آماليا أرجوك؟

ناظرتها آماليا بجزع، فأمسكت كفها لتقبل باطنها ثم تمتمت بنبرة متأثرة: أعدك أمي، مهما حدث سأبقى بجانبها.
تنهدت عليا بارتياح لتضيف بحبور: والآن تحركي، خذي حماما ساخنا وارتاحي، انفض الحزن عن روحك، فحياتك مازالت في بدايتها.

مر الآن أسبوع كامل على وفاة عمار، وأربعة أيام على فتح الوصية، والتي لم تستطع نور تقبلها فحلمها في إدارة الشركة التي درست وتعبت لأجلها مهدد الآن، ذهبت إلى محام آخر يعرفه مجد، ليخبرها بأن الوصية واجبة التنفيذ ولا مجال لكسرها، خاصة أنها مثبتة في المحكمة، وأن الطريقة الوحيدة للحفاظ على الشركة هي بتنفيذ الوصية بحذافيرها.

لم تزل آماليا تفكر كذلك في أمر الوصية، بيد أنها لاحظت تبدل حال شقيقتها معها وهذا زاد حزنها، وإن التمست لها العذر، وقد عادت إلى العمل في عيادتها فقط ومددت إجازتها من المشفى.

صدم أدهم بمضمون الوصية عندما أخبره مجد، لكنه وبعد مشاوراته مع ريما عادت الأخيرة لتبث فيه الأمل، خاصة بعدما قص عليها ماحدث بينهما في حديقة قصر عائلتها، لذا فقد قرر أن يحدث آماليا اليوم، سينتظرها خارج القصر في موعد ذهابها إلى عيادتها.

استمرت ريما في الذهاب إلى منزل أيمن وقد زاد تعلقها في الصغيرة ريما بشكل أقلقها هي ذاتها، إلا أن أيمن كانت تعاملاته رسمية جادة معها لأبعد الحدود، بمجرد أن تدخل إلى غرفة ابنته يخرج هو من المنزل.

خرجت ريما من غرفة الطفلة الصغيرة كالعادة، بعد أن اعطتها دواؤها، لقد لاحظت تحسنا كبيرا في صحتها لذا تعتقد أن مهمتها انتهت هنا، ويجب أن تبتعد عنها حماية لكلتيهما معا.
حضر أيمن كالعادة ليجد ريما ما تزال في انتظاره في صالة منزله، ارتبكت في البداية عندما رمقها بنظرة متفحصة، سرعان ما استعادت ثباتها لتقول بصوت متذبذب: أريد أن أتحدث معك في أمر.
فزع قلبه بين ضلوعه فقال بلهفة: هل ريما بخير؟

لم تستطع منع ابتسامة صغيرة ارتسمت فوق شفتيها مشيرة له بالنفي، ضيق أيمن عينيه بشك مستريب ليقترب حتى أضحى أمامها يفصلهما بضع خطوات فقط قائلا: إذا ما الأمر؟

وجوده معها و على هذه المسافة القريبة منها أصابها بخفقة قاتلة، كادت تفقد وعيها على إثرها لكنها تمالكت نفسها، أجلت حلقها لتقول بصوت خفيض: كما تلاحظ، فإن ريما الصغيرة قد تحسنت كثيرا، صحتها باتت أفضل وكذلك نفسيتها، لذا اعتقد أن دوري يجب أن ينتهي قريبا.

تجهم وجهه مع بداية حديثها وقد فهم ما ترمي إليه، ناظرها بشكل أقلقها وربما أخافها، ازدردت ريقها لتخفض رأسها بعيدا عن عينيه المخيفة، ولا يعرف هو نفسه ماذا أصابه بعد كلماتها تلك، مايعرفه أنه شعر بالضيق لمجرد اقتراحها فكرة أن تختفي من حياته مجددا.
صمته أثار ريبتها فرفعت رأسها إليه بتردد لتجده كالمستغرق في تفكير عقيم، فتمتمت بهمس: هذا أفضل لنا جميعا، كلما زاد تعلقها بي زادت احتمالية انتكاسها من جديد.

رمشت عيناه دون أن يتفوه بحرف، فتململت في وقفتها ولم تجد ما تضيفه. حتى استأذنت أخيرا لتتحرك إلى الخارج، لم تكد تمسك بمقبض الباب حتى صدح صوته من خلفها يناديها بحنين لم تصدقه: ريما.

كان حريا بها أن تكون سعيدة فهو لأول مرة يناديها باسمها، لكنها شعرت بأمر مريب، قطبت جبينها لتلتفت صوبه، فوجدته مازال يوليها ظهره مما زاد من قلقها، ظل على حاله هذا لثوان حتى استدار ليواجهها، كانت ملامح وجهه وحدها كفيلة بجعل خافقها ينتفض فزعا، تنهد بتعب قبل أن ينطق بصوت ثقيل: لا تغادري حياة ابنتي بهذه الطريقة، فهذا سيحطمها.
ثقل صوته أكثر وهو يضيف بنبرة خافتة لكنها صادقة: أنا أكثر من يعرف هذا الشعور.

نظراته إليها كانت مزيجا من الرجاء والقسوة مما ارعبها، ليضيف أخيرا ما جعلها تتمنى زوالها حالا: أنت مدينة لي بهذا، على الأقل دعينا نمهد الأمر لها قبلا.

كلماته كانت قاسية على روحها أكثر مما قد يتخيل، فعلا إنها مدينة له بتفسير، لكنها لم تعد تملك هذا الحق، غامت عسليتيها أمام العواصف التي تهدد في عينيه، لم تجد ما تجيبه فخرجت دون أن تنبس بحرف، ولاتعلم مافعلته في أيمن بهذا حقا، أسقط جسده على أقرب كرسي ليدفن رأسه بين راحتيه، ضغط جانبي جبينه بقسوة كأنه يعتصره، لماذا تريد خيانة ثقة ابنته كما خانته قبلا، لماذا؟

نفخ بضيق من نفسه أولا ومنها أكثر، ليسحب هاتفه ويحادث شقيقته يخبرها بأن تبقى مع ابنته لاضطراره الخروج مساء.
لا يدرك أيمن وقوعه في مستنقع جديد، مستنقع ضحل لا يمكن الفرار منه إلا بالغرق داخله!

وصلت إلى المنزل تزامنا مع وقت الغداء، لتجد مجد وأدهم قد بدآا لتوهما، لم تتمكن من الهرب فاغتسلت واتخذت مكانها بجانب أدهم، الذي سأل شقيقه محاولا معرفة آخر الأخبار: إذا مجد، ماذا فعلت نور بشأن وصية والدها؟
زفر الآخر بضيق مجيبا بنبرة محتقنة لا تخلو من الغضب دون أن يرفع رأسه عن طبقه: لم تفعل شيء وتكاد تجن، مافعله والدها لا يعقل.

لوهلة ارتسمت ابتسامة ساخرة على وجه أدهم، سرعان ما استبدلها بالاهتمام متسائلا: ألم تجد طريقة لتنفيذها دون خسارة الشركة والقصر؟
تحدث مجد بنبرة مغتاظة: بلى، أن تتزوج حضرة شقيقتها المحترمة والتي لم تبد أي اعتراض على الوصية كأنها قد راقت لها.

كور أدهم قبضته وكاد أن يرد على شقيقه، الا أن لمسة ريما الرقيقة على كفه جعلته يتراجع، شعرت ريما بأن أدهم سينفجر في وجه مجد لظنه السيء بأماليا، فأشارت له بعينيها أن يهدأ ففعل على مضض.
تنهد مجد قبل أن يرفع الفوطة الصغيرة أمامه ليمسح بها فمه، ثم تحدث ببساطة: بالمناسبة، لقد طلبت من أم ميسر تحضير مائدة معتبرة للعشاء، فقد دعوت أيمن إلى هنا مساء.

شرقت ريما في لقمتها فسعلت بشدة كمن سمع خبرا مرعبا؛ وللحق هكذا خبر أكثر من مرعب، ضربها أدهم بخفه على ظهرها، ولم يكن في حال أفضل، قدوم أيمن إلى هنا يعني قدوم المصائب، ستضطر ريما للتواجد معهم وهذا معناه أن يتعرف إليها، ولن يضمن ردة فعله حينها، شربت ريما من كوب الماء الذي قدمه لها أدهم لتقول لمجد بصوت مبحوح: هل سيأتي إلى هنا؟

نبرتها الخائفة لم ترق مجد الذي كتف يديه على الطاولة متسائلا بجدية: وهل في قدومه ما يزعجك ريما؟
ارتبكت ولم تعرف بماذا تجيبه، فأشاحت بنظرها إلى أدهم الذي انقذها فورا: لا مجد بالطبع ريما لم تقصد، لكن ما عنته أن أيمن حاليا أعزب وقد يشعر بالحرج من ريما.
بدى ما يقوله أدهم منطقي بالنسبة إلى مجد، خاصة وأن نبرته كانت ثابتة صادقة، وأضاف أدهم: برأيي أن ندعوه للعشاء في أحد المطاعم، أقصد ليأخذ راحته وكذلك نحن.

ساد الصمت لثوان كانت أشق على ريما من شهور، حتى ابتسم مجد بخفة ليتحرك من مكانه هاتفا: فعلا معك حق، سأحجز في مطعم اعرفه ثم سأتحدث مع أيمن وابلغه بالتغيير.
تنفست ريما براحة عقب رحيله، ثم التفتت ناحية أدهم باستجداء، أشار لها بأن لا حيلة بيده، فمجد مصر على استحضار روح الماضي إلى العلن.

ضاق صبر نور ذرعا بتجاهل والدتها لأمر الوصية وكذلك آماليا، كأن أمر الشركة يهم نور فقط، نزلت إلى الصالة حيث تواجدت عليا هاتفة بحنق: ماذا امي؟ اراك جالسة بأريحية وكأن حياتنا في أفضل أحوالها؟
توقعت عليا انفجارا قريبا من ابنتها خاصة وأنها تعرف ما تعنيه الشركة لها، فرفعت رأسها إليها ببطء قائلة بنبرة هادئة: ماذا في يدي لأفعله نور؟ أعتقد أنك سمعت مضمون الوصية جيدا؟

كانت آماليا قد ارتدت ثيابها الداكنة تريد الخروج إلى العيادة كالعادة، علها تخرج من قوقعة حزنها وتعود إلى حياتها الطبيعية.
كانت تلف الوشاح الصوفي ذو اللون الرمادي حول رقبتها عندما أصبحت عند مقدمة الدرج لتسمع صوت نور الغاضب: إذا فلننفذ الوصية كما هي.
قطبت عليا جبينها بعدم فهم متسائلة بشك: ماذا تعنين؟
كتفت نور يديها أمام صدرها لتقول ببساطة: فلنجعل آماليا تتزوج.

سمعت آماليا كلمتها الأخيرة فثنت حاجبيها باستغراب، لتسمع عليا تجيبها باستنكار: مالذي تقصدينه؟ أنت تعلمين أن شقيقتك ترفض الزواج؟
رفعت كتفيها بلا مبالاة قائلة: فلنجبرها إذا.
تفاجأت عليا من كلماتها فأردفت بحسم: أياك وقول هذا الحديث الفارغ مجددا نور.
تأففت الأخرى بضيق لتحرر يديها مضيفة بنبرة لم تخلو من السخرية المبطنة: أنت معي ام معها أمي؟ أنا ابنتك وليست هي، وأنا المظلومة الوحيدة في وصية أبينا المحترم.

نزلت كلماتها كالصاعقة على رأس عليا و آماليا المختبئة، شهقت بدموع عندما سمعت صدى الصفعة التي نزلت على وجنة نور، التي وضعت يدها على مكان الصفعة لتطالع والدتها بصدمة، لم تكتف عليا بفعلتها بل تابعت توبيخها بحزم: اسمعي ما سأقوله جيدا نور لأنني لن أعيده مجددا، إن كنت ابنة بطني فأماليا ابنة قلبي، هناك ولدت وتربت، فلا تخيريني بينكما لأن خياري لن يعجبك أبدا.

تسارعت أنفاسها بغيظ متزايد، لم تصدق نور أذنها وهي تسمع حديث والدتها، هل تأخذ صف شقيقتها الأكبر ضدها هي، وهي ابنتها الحقيقية؟
صرخت نور في وجه عليا متناسية أنها تقف أمام والدتها: تفضلينها هي علي امي؟ ألست أنا من ستخسر كل شيء بسبب اضرابها عن الزواج؟، وأنا من ستغدو مفلسة في الشارع بسبب عقدة تلك العانس المدللة؟

كادت عليا أن تجيبها عندما هبطت آماليا على الدرج، لتقف أمام شقيقتها صارخة بها بحرقة ودموعها تجري بلا رادع: وما ذنبي انا؟ لم أطلب من أبي أن يربط مستقبلك بهذه العانس المدللة.
صرخت نور تجيبها: سأخسر كل شيء بسببك، والحل بيدك أنت فماذا أفعل؟

لم تجبها شقيقتها الباكية، فتحولت ملامحها إلى السخرية مضيفة بتهكم: طبعا هذا آخر اهتماماتك، فأنت قد ضمنت مستقبلك بوجود أملاك والدتك والعيادة، أما أنا فلأذهب إلى الجحيم لن يهمك الأمر.

سكتت آماليا للحظة لتنظر إليها بصدمة، حركت رأسها للجانبين بخيبة امل قبل أن تتحرك إلى الخارج، تحمل خيبتها ووجعها، ولا تدري أي جرح يؤلمها أكثر، شيعتها عليا بشفقة حتى اختفت، لتعيد نظرها الغاضب إلى نور التي صرخت بغيظ، لتصعد إلى غرفتها تدب الأرض بغضب، تنهدت عليا بحزن على حال الاختين لتتحرك وتنظر من نافذة الصالة إلى مدخل القصر، حيث خرجت آماليا تحت المطر غير آبهة ببرودة الطقس، والذي تأمل ان يبرد الاشتعال داخل روحها.

لقد صدمتها شقيقتها حرفيا، نعم تعلم كم حلمت نور في اليوم الذي تستلم فيه إدارة الشركة وأن وصية أبيها قد دمرت احلامها، لكن هذا أبدا لا يعطيها الحق بالتطاول والتنمر عليها بهذا الشكل.
قطبت عليا جبينها عندما رأت سيارة أدهم تصطف بالقرب من مدخل القصر، زوت ما بين حاجبيها بشك فبقيت تتابع ماسيحدث بينهما.

كان أدهم قد قرر مصارحة آماليا بالحقيقة، لذا اعتزم الذهاب إلى القصر وينتظر خروجها الى عيادتها كالمعتاد، ثنى حاجبيه بريبة وهو يراها تمشي تحت المطر دون الاكتراث للعواقب، ترجل مسرعا حاملا مظلته لينادي باسمها، توقفت لتنظر إليه وبالكاد ميزته من بين دموعها وقطرات المياه.
فلنكن صريحين، هذا أسوأ وقت اختاره أدهم للظهور أمامها، الآن!

تسارعت أنفاسها بغضب يزيد مع كل خطوة يخطوها نحوها، فصرخت به: ماذا تريد الآن؟ اخبرني؟
تجمدت قدماه على بعد خطوتين منها، أخفض مظلته ليناظرها باستغراب فلا يعلم لم هي غاضبة منه الآن، فيما أضافت آماليا وهي تقطع المسافة الفاصلة بينهما لتضربه على صدره: ابتعد عني، يكفي مااحدثته في داخلي من خراب، اغرب عن وجهي لا أطيق رؤيتك أيها الوغد الحقير!

أطلقت كلماتها في وجهه ثم تابعت مسيرها باكية، حقا تشعر بأن حياتها قد انقلبت منذ ظهوره أمامها من جديد، بينما بقي أدهم ينظر إلى أثرها باستغراب مختلط بخيبة، أعتقد أنها ستعطيه فرصة التبرير بعدما حدث بينهما في الحديقة، هي من طلبت عناقه قبلا، فمالذي حدث الآن؟

انتبه إلى ثيابه التي ابتلت بفعل الأمطار، تنهد بحزن فيبدو أن الأقدار ستبقى ضده مهما فعل، عاد أخيرا إلى سيارته غافلا عن عيني عليا التي راقبت ماحدث بينهما، رغم أنها لم تسمع صراخ آماليا، إلا أنها استشفت أن ما بين أدهم وآماليا الكثير من الأسرار، انتبهت من تفكيرها على خطوات نور التي هبطت الدرج بسرعة؛ التفتت لتراها قد ابدلت ثيابها خارجة هي الأخرى، زفرت بحزن إلى مآل عائلتها الصغيرة، رفعت رأسها إلى السماء تدعو لنفسها بالثبات لتهمس بدموع: رحمك الله ياعمار، فقط لو أعرف بم كنت تفكر يومها، فقط!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة