قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية وصال مقطوع للكاتبة إيمان عادل الفصل السابع والثلاثون

رواية وصال مقطوع للكاتبة إيمان عادل الفصل السابع والثلاثون

رواية وصال مقطوع للكاتبة إيمان عادل الفصل السابع والثلاثون

وشاح رأسها حالك السواد كظلمة هذه الليلة، تقف في ركن مظلم على طريقٍ سريع ذو إضاءة ضعيفة، الجو العام قابض وصوت الرياح التي لا تتماشى مع هذا الوقت من العام حيث كانت أشبه بنحيب أمٍ على وشك أن تفقد وليدها ولقد كان كل ذلك يناسب المشهد المرسوم بدقة.

تقف ريتال بأعين ذابلة قد أرهقها كثرة البكاء، خيط رفيع من الدماء يتساقط من يمناها لم يعرف لها الناظر مصدر، طالعها بهلع بينما يعتصر قلبه آلم لم يشعر بمثله من قبل، حاول التحرك نحوها لكن خانته قدماه التي باتت وكأنها لُصقت بصمغ عربي في الأرض من أسفله، أخرجت من أحدى جيوبها آلة حادة لم يتبين هو ماهيتها لكنه كان يعلم أنها كفيلة بأن تتسبب لها في ضرر بليغ، ضرر قد يودي بحياتها وقد كان ذلك هو الغرض على أي حال!

حاول أن يصرخ لعله يمنعها من إكمال ما بدأته لكن صوته لم يغادر حلقه بل كان أقرب لخوار حيوان ذبيح، نبضات قلبه تسارعت وشعر بصعوبة في التنفس كلما ضغطت هي على يدها أكثر بتلك الآلة الحادة لتتحول قطرات الدماء إلى شلالات وفي النهاية صدر صوته أخيرًا صارخًا:.

ريتال لا! مع نهاية الحروف الأخيرة من جملته استيقظ تليد فزعًا من نومه، قطرات العرق تتصب من جسده كله تقريبًا وصدره يعلو ويهبط بشدة، نظر حوله لثوانٍ يحاول إستيعاب ما يحدث قبل أن يُدرك أن كل ذلك كان مجرد كابوس لا أكثر ليحمد الله أن حبيبته بخير في الواقع أو هكذا كان يتمنى.
غادر حجرته ليجد لوچين تقف على عتبات بابه، عاد خطوتين نحو الخلف بفزع فهو لم يتوقع رؤيتها وقبل أن يسألها سبقته هي قائلة:.

كنت معدية من قدام الأوضة وسمعت صوتك it was a nightmare wasn t it لقد كان كابوسًا أليس كذلك؟
ممكن بعد إذنك يا لوچين تراعي المسافة اللي المفروض تكون بينا، أحنا اه في لندن حرفيًا بس خليكي فاكرة إنه You can not enter my room whenever you want ليس بإمكانك الدخول إلى حجرتي متى شئتِ.

هو أنتَ ليه بتتعامل معايا كده؟ أنا بحاول أقرب منك وأفهمك بس طول الوقت بتبعدني.
أجبهالك على بلاطة وبكل صراحة؟ أنا في واحدة في حياتي بحبها ومكتفي بيها جدًا ومستحيل سمعاني مستحيل عيني تزوغ على واحدة غيرها مهما كانت حلوة أو جذابة أو مهما قدمت تنازلات فاللي أنتِ بتعمليه ده كله مفيش منه أي فايدة.

أفصح تليد عن ما كان يحتفظ به لنفسه وبنبرة لا تخلو من الإستياء والإشمئزاز فلقد سئم من الطريقة التي تحوم بها لوچين حوله منذ أن جاء إلى هذا المنزل، في البداية ظن أنه يستطيع أن يضعها عند حد من خلال تجاهلها أو الرد بإقتضاب من حين لآخر لكنه الآن أدرك أنه كان يتوجب عليه من البداية أن يوضح الأمور بطريقة مباشرة دون الحاجة إلى التلميحات أو ما شابه.

مين دي يعني؟ فيها أيه زيادة عني؟ سألته بغيظ وحرقة بلكنة مصرية سيئة لتصدر ضحكة ساخرة من تليد رغمًا عنه لكنها سرعان ما أختفت وهو يسألها بإمتعاض واضح:
أنتِ مين أنتِ يا بنتي أصلًا؟ هو أنا أعرفك أساسًا ولا علشان كنا عيال صغيرة بنلعب مع بعض وجو لما نكبر هنتجوز ده يبقى في بينا حاجة؟ والله أنتِ صعبانة عليا يا لوچين عايشة في الوهم حرفيًا!

صاح تليد موبخًا إياها وهو يبوح بكل ما كان يجول في باله منذ قدومه إلى هنا، إن لوچين فتاة جميلة من الناحية الشكلية وشخصية لطيفة لكنه لا يُخطط للإرتباط بها قط أو التقرب منها بالصورة اللي قد رسمتها هي في خيالها، أجل تليد ليس بالشخص الأكثر إلتزامًا أو إحترامًا لكنه على الأقل يعلم حدوده والخطوط التي لا يجوز تجاوزها قط.

تركها تليد واقفة في صدمة من نبرته الحادة ويظن أنه لمح دمعة قد هربت من عيناها، بدل تليد ثيابه سريعًا قبل أن يغادر المنزل بلا وجهة محدده، إن عقله مشتت بحياته هنا ولوچين أما عن قلبه فإنه منشغل بريتال وعائلته في مصر لكن كل ذلك لن يفيد في الوقت الحالي.

ما سيُفيده الآن في هذه المرحلة هو صب كل تركيزه في المذاكرة وبجانبها إيجاد عمل مقبول بدوام جزئي بالإضافة إلى الأموال التي يُرسلها والديه بحيث يستطيع إستئجار حجرة صغيرة أو كما يطلقون عليه إستوديو ليبقى فيه بمفرده بدلًا من الوقوع في شرور علاقته الغير مفهومة بلوچين.

بالعودة إلى مصر أم الدنيا، كان الجميع ما يزالون في مرحلة إستيعاب الخبر السعيد الذي أعلنته زينة وكان على رأسهم ريتال بالفعل والتي قررت أن تقضي نصف الأسبوع بمنزل جدها والنصف الآخر في منزل والدتها وزوجها فهي لن تقوى على ترك والدتها طيلة الفترة القادمة لتُساعدها في شتى الأمور من الناحية الجسدية وكذلك دعمها نفسيًا فتلك المرحلة لن تكون يسيرة قط، كانت ريتال تجلس برفقة والدتها في حديقة منزلها الواسعة وأمام المسبح الكبير.

مبسوطة يا ريتال علشان هيبقى ليكي أخ أو أخت؟ سألت زينة للمرة الألف لتقهقه ريتال وهي تعانق والدتها قبل أن تقول ممازحة:
وممكن تؤام يا ماما الله أعلم.
يالهوي تخيلي، هو كله رزق من ربنا طبعًا بس هتبقى حاجة صعبة أوي وفجأة كده يبقى ليكي اتنين أخوات مش واحد أو واحدة بس. علقت زينة لتندثر ابتسامة ريتال على الفور وقبل أن تُفكر في الرد المناسب سبقها فؤاد مُردفًا الآتي:.

طب ما ريتال عندها أخوات يا حبيبتي متقلقيش هي هتتعود وهتبقى مبسوطة وهي أخت كبيرة لتلاتة أو أربعة.
أيه ده ثواني بس يا فؤاد تلاتة أو أربعة ازاي هو أنتَ بتعد ازاي ولا أنا حامل في كام؟ سألت زينة بحيرة ليقترب فؤاد ليجلس إلى جانبها بينما يضع أمامها طبق كبير يحوي أنواع مختلفة من الفاكهة.

أنتِ مش حاسبة فريدة ويوسف ولا أيه؟ مش دول أخوات ريتال الصغيرين برضوا.

فريدة الصغيرة طبعًا أختها وحبيبتها بس يوسف ده بقى،.

أيه يا زينة؟ يوسف أيه؟ ما هو كمان أخوها أيًا كانت الظروف واللي حصل هو برضوا أخوها ومن دمها وليه حق عليها. كان فؤاد يتحدث بعقلانية بحتة ولقد كان مُحقًا فحتى وإن كانت ريتال تبغض والدها وزوجته إلا أن شقيقها الذي قد أتم الخمس سنوات منذ أشهر قليلة له كامل الحق أن يحظى بكل ذرة إهتمام وحب من شقيقته الكبرى فهو لا ذنب له في كل تلك الصراعات كما لم يكن ذنب ريتال.

هو أنتَ قاصد تضايقني يعني يا فؤاد؟ أنا مش فاهماك بصراحة.

مش بستفزك ولا أي حاجة يا حبيبتي ومشاعرك وإحساسك فوق دماغي وعلى عيني والله أنا بس بلفت نظرك للموضوع مش أكتر. لم تُجيب زينة عن جملته بل طالعته بغيظ شديد قبل أن تستقيم من مقعدها وتتركه هو ريتال متجهة نحو الداخل.

معلش يا أونكل أكيد الحمل ضاغط على أعصاب ماما وكمان حضرتك عارفة حساسية الموضوع ده بالنسبة ليها، حتى لو هي كانت بدأت حياة جديدة مع حضرتك وحاولت تتخطى اللي حصل فآثر الجرح اللي في قلبها عمره ما هيروح.

أنا عارف يا حبيبتي الكلام ده كويس وعارف إن الكلام عن والدك أو مراته أو أخوكي بيوجعها بس هي لازم تبقى مُدركة إن يوسف في الأول والآخر أخوكي ولو في يوم من الأيام حصل أي ظروف من أي نوع فمش هيبقى ليه حد غيرك، أنتِ أخته الكبيرة وسنده في الدنيا دي.

حضرتك عندك حق، أنا فعلًا بحس إني مقصرة في حقه، في الأول مش هكدب مكنتش بطيقه ولما كان بيكلمني مكنتش برد عليه من الأساس بس بعدين أدركت إنه ضحية زيي زيه، مكنش ليه ذنب في أي حاجة حصلت، مش هو اللي خلى بابا يبعد ويسيبنا بالشهور والسنين يعني.

أفصحت ريتال بصدق عن ما توصلت إليه أخيرًا وبصعوبة شديدة، وإن كان البوح بمثل هذا الحديث يؤلم قلبها إلا أنها تعلمت فصل الأمور والأشخاص عن الحدث المؤلم نفسه، فهي لم تكن الضحية الوحيدة لتلك المأساة بل كان هناك عدة ضحايا ولقد كان عليها أن تحاول مراعاة مشاعرهم ووضع نفسها في موضعهم لترى الأمور من وجهة نظر مُختلفة حتى وإن كان الآلم واحد.

أنا فخور بيكي إنك وصلتي بتفكيرك للنقطة دي، زي ما أنتِ أتعرضتي للإضطهاد منهم في العائلة في وقت من الأوقات علشان اللي حصل بين زينة وباباكي فاللي بيحصل مع أخوكي دلوقتي هو نفس الحاجة، مؤكد محدش عايز يتعامل معاه ومحملينه ذنب باباكي ومراته وهو مجرد طفل صغير معملش حاجة تخليهم واخدين منه موقف.

للأسف يا أونكل الدنيا مش عادلة إطلاقًا، أنا كمان مكنش ليا أي ذنب بس قعدت شهور شايفة قرف ومعاملة وحشة لمجرد إن أنا بنت زينة اللي رفضت وضع مُهين ومش مناسب بالنسبة ليها. لم يجد ما يقوله لذا ساد الصمت لبرهة قبل أن يُربت على يدها بحنان ثم يقول:.

الحمدلله إنك بقيتي معانا ووسطنا دلوقتي، إن شاء الله كل اللي جاي خير وأحسن بكتير من اللي راح وأنا واثق إنك هتبقي أخت جميلة وحنينة زي ما أنتِ بنت مُتفاهمة وذكية ومراعية للي حواليكِ.

شكرًا يا أونكل ربنا يخليك، أنا هقوم بقى أشوف ماما راحت فين. تمتمت ريتال بقليل من الخجل قبل أن تطلب الإذن منه بالذهاب للبحث عن والدتها فهي تعلم مدى حساسيتها لتلك الأمور وفي وضعها هذا بالتحديد لن ترغب قط في إحزانها أو إزعاجها.

مرت الأيام التالية بهدوء شديد، كان تليد يخطر على بال ريتال من الحين للآخر ولقد كانت تمنع نفسها من متابعته وسماع آخر أخباره فذلك لن يُفيد في شيء سوى جعل الجرح أكثر عمقًا، أما عن صالح فلقد كان يُراسلها كل بضع أيام ولقد كانت ريتال تتجاهل رسائله وتُجيب عنها في اليوم التالي ولم يكن الأمر متعمدًا على الدوام بل كانت تنشغل بالجامعة بل كان البيت يسرق جزء كبير من يومها وتفكيرها كذلك فكونها تتأرجح بين منزل جدها ومنزل زوج والدتها لم يكن بالأمر السهل.

كانت الأيام تمر حتى وجدت ريتال نفسها على وشك أن تنتهى من الفصل الدراسي الأول لعامها الأول بالجامعة مما يعني المزيد من المعلومات والإختبارات الصغيرة المتبوعة بالمشاريع التي يتوجب عليهم إنجازها في مجاميع الأمر الذي لم يروق لها كثيرًا فلقد رأت ريتال ذلك السيناريو من قبل...

سيتم وضعها في مجموعة عشوائية بغض النظر أن أي مجموعة ستكون عشوائية بالنسبة إليها نظرًا لأنها لا تعرف سوى فتاتين أو ثلاث من زميلاتها، على أي حال سيتم اختيار المجموعة لتنفيذ أحد الأنشطة وستُنفذ بلا شك خشية فقدان العلامات الدراسية أو الأسوء كونها فتاة جامعية هو أنها قد تُضطر إلى إعادة المادة الدراسية بأكملها.

بكل تأكيد سيكون هناك فتى لعوب في المجموعة خاصتها وسيحاول جاهدًا التقرب إليها بحجة ذلك النشاط أو المشروع وسينتهي الأمر بنهاية لن تروقها، هي على دراية تامة بكل ذلك لكن أسوء ما في الأمر أنها لن تجرؤ على الإعتراض أو طلب تغيير المجموعة بل ستجلس في صمت وتشاهد ذلك المشهد يتكرر للمرة الثانية رغمًا عن أنفها!

لقد كانت كل مجموعة مكونة من خمسة أفراد وكانت ريتال أول اسم نُطق في مجموعتها ويليها ندى، ورزان لقد كانت الفتاتان ناقر ونقير كما يقولون، أصدقاء منذ المرحلة الثانوية ولقد جمعهم القدر المُكلل بالجد والإجتهاد إلى الكلية ذاتها لقد كانوا يذكرونها كثيرًا بعالية وحنين لكن لسوء الحظ أن كلًا منهم كان لها طريقًا آخر في هذه المرحلة الدراسية وفرقتهم الأماكن لكن بفضل مواقع التواصل ما يزال ثلاثتهم على تواصل ببعضهم البعض.

أما عن الفرد الرابع فلقد كانت فتاة إنطوائية لا تتحدث مع أي شخص وكان الجميع بالكاد يعرفون اسمها ولقد كانت تدعى ياسمين أما عن الطالب الأخير في المجموعة فكما توقعت ريتال لقد كان شاب والذي كان يُدعى مازن.

تاني؟ تاني يا ريتال؟ هنعيد نفس الحدوتة من الأول تاني؟

سألت ريتال نفسها بإستنكار شديد وهي تضحك بمرارة، طالعها من يجلسون حولها ببعض التعجب فعلى ما يبدو أنها فتاة مجنونة تتحدث إلى نفسها بل وتجد حديثها لنفسها مُضحك.

لسه مبدأناش حاجة والبنت دماغها ساحت. علقت رزان لتضحك قرينتها ولكن لحسن الحظ أن صوتهم لم يصل إلى أذن ريتال.

بعد مرور عشرة دقائق جلست كل مجموعة بالقرب من بعضهم البعض ولقد فعلت مجموعة ريتال الشيء نفسه ولقد جلس أربعتهم بالقرب من بعضهم البعض ولكن المجموعة كان ينقصها ذلك ال، مازن الذي لم يظهر قط حتى بعد أن قامت المُعيدة بتكرار اسمه عدة مرات، بدأت رزان حديثها والتي من الواضح أنها قد نصبت نفسها قائدة لهذا المشروع وفي الواقع لم تمانع ريتال ذلك فهي لا طاقة لها لقيادة السفينة.

طيب يا بنات أحنا هنقسم الشغل على أربعة لحد ما الباشا مجهول الهوية ده يظهر.

تلاقيه عرف إن فيها بروچيكت فقال يغيب بقى السكشن ده واللي جاي علشان يخلع من الشغل ويجي على ال Presentation (العرض) علشان ياخد العشر درجات على طول. قامت ندى بوضع فرضية على الفور والتي كانت منطقية إلى حدٍ كبير وفي الواقع لم تمانع أحدى الفتيات الثلاثة من ذلك فعلى أي حال يتوجب عليهم العمل معًا لإنهاء ذلك المشروع وكونهم ثلاثة أو أربعة لن يُشكل فارق كبير لكن ياسمين كان لها رأي آخر حيث صاحت بغيظ شديد قائلة:.

لا طبعًا هو لو مشتغلش معانا أحنا هنقول للدكتور تخصم الدرجات دي منه، أحنا منتعبش وهو يجي ياخد الحاجة عالجاهز طالما هو مستهتر كده يبقى يتخصمله ولا يشيل المادة حتى.

يا ستار يارب، أيه يا بنتي الغل ده؟ مالك؟ أحنا من أولها هنبدأ كده؟ سألت رزان بإمتعاض شديد لتُطالعها ياسمين بغيظ ولكونها ليست شخصية قوية في العادة فلم تستطع أن تُكمل في إعتراضها.

وأنتِ يا ريتان مش عايزة تقولي حاجة أنتِ كمان؟ لم تستمع ريتال إلى أي كلمة قالتها بعد أن اخطأت في نطق اسمها، أغمضت ريتال عيناها لثوانٍ قبل أن تُصحح لها الاسم قائلة:
ريتا، ل، ريتال باللام ده أولًا، ثانيًا حاسة إن كل الناس بدأو يتفقوا عالموضوع بتاع البرزينتيشن وبياخدوا رأي الدكتور وبيقسموا الحاجة على بعض وأحنا أيه بنتناقش في حاجات مش مهمة أوي.

عندك حق يا بنتي والله.

جلس الفتيات يعملن في هدوء نسبي فا بالطبع لم تكن تمر عشرة دقائق كاملة بدون صدور أي تعليق ينم عن إعتراض من ياسمين وستقوم رزان بمجادلتها وسيتوجب على ريتال فض النزاع مرة آخرى، لكن كل ذلك لم يكن يُهم فريتال كانت تشعر براحة إلى حدٍ كبير كونها تعمل في مجموعة من الفتيات وإن كانت تشعر بشعور سيء بداخلها وكأن أحدهم يراقبها أو يُطالعها بإستمرار لكنها كلما رفعت رأسها لتنظر حولها وجدت الجميع منغمسًا في عمله.

في نفس الموعد في الإسبوع التالي كانت ريتال تنتظر حضور المُعيدة والفتيات جالسة في الصيف الأخير أي الأقرب نحو باب المعمل، دلف إلى المكان شاب طويل القامة ضخم البنية، يُخفي عضلات كبيرة أسفل ذلك القميص الأسود والذي لحسن الحظ لم يكن ضيق بطريقة سخيفة، أسمر البشرة حليق اللحية ذو عين زاهية بلون العسل، كان يسير بقليل من الصعوبة بمساعدة عكاز يُمسك به في يمناه لوجود مشكلة ما في قدمه اليُسرى لم تتبينها ريتال في البداية وكما يحدث دائمًا ترك ذلك الشاب كل الحضور وأقترب قليلًا من ريتال ليسألها عن الآتي:.

دكتورة لو سمحتِ أنا كنت غايب السكشن اللي فات وعرفت إننا اتقسمنا مجموعات متعرفيش أنا في أني مجموعة؟

مازن؟ سألته ريتال بتلقائية شديدة ودون تفكير، هي لم تعرف قط هيئة مازن ولم تراه من قبل ولكن لسبب ما شعرت بأنه في الغالب هو.

اه مضبوط، أنا مازن هو أنا معاكي في الجروب ولا حضرتك المعيدة ولا أيه؟

سأل مازن بجدية تامة امتزجت بالحيرة وفي موضع آخر لكانت ريتال سخرت منه لكنها فهمت سؤاله نظرًا لأن معظم المُعيدات في نفس طول قامة ريتال، هربت ضحكة رقيقة منها قبل أن تقول بإستنكار:
مُعيدة؟ لا أنا طالبة زيك عادي، وأيوا أحنا مع بعض في الجروب.

طيب أنا أسف جدًا علشان فوت معاكوا شغل الإسبوع اللي فات كله بس أنا كان عندي مشكلة كده في رجلي ومعرفتش أجي.

ألف سلامة عليك.

الله يسلمك شكرًا، طيب معلش هتعبك معايا لو ينفع تشرحيلي بس اختارتوا موضوع أيه وبدأتوا كتابة البرزنتيشن ولا لا، طلب منها بأدب شديد متحاشيًا النظر نحوها مباشرة مما جعل التواصل معه أكثر سهولة فهو لم يتسبب في حرج أو عدم راحة لريتال لكن على الرغم من ذلك كان التوتر مايزال واضحًا على تعابير وجهها.

أكيد طبعًا مفيش مشكلة، تعالى الأول أعرفك على باقي الجروب وبعدين نشرحلك كل حاجة.

عرفته على بقية الفتيات سريعًا ولقد كانت تتوقع أن تعامله ياسمين بسخافة كما تُعاملها هي والفتاتين لكن على العكس تمامًا لقد تبدلت نبرتها وكانت أكثر رقًا ولطفًا بمجرد أن رأت حُسن وجاذبية مازن.

أنتَ بقى مازن؟ أخيرًا شرفت. قالت بنبرة مائعة لتقلب ريتال عيناها بتملل عن غير عمد لكن مازن قد رأى ردة فعلها وما لم تعرفه ريتال أنه ليس بلُقمة صائغة وأن تلك النبرة ونوعية الأحاديث تلك لا تؤثر فيه بل ولا تروق له من الأساس.

أيوا أنا، هو أنا كان عليا حُكم ولا أيه؟

لا بس أصل مش بنشوفك في ولا مادة ومجتش الإسبوع اللي فات يعني ومسمعناش عنك يعني.

وأنتِ مستنية تسمعي عني فين؟ في طبق اليوم؟ سأل مازن ساخرًا مستنكرًا حديثها ليمتعض وجه ياسمين بينما ضحكت الفتاتين بصوتٍ مسموع، أما عن ريتال فلقد كانت تراقب المشهد بأكمله في صمت فذلك النوع من المحادثات قد مرت عليها من قبل ولم ولن تكن مهتمة قط بالمشاركة فيها أو حتى إبداء ردة فعل نحوها.

طيب لو فقرة خفة الدم خلصت ممكن نشوف بقى هنعمل أيه؟

مش هنلحق نخلص حاجة علشان السكشن لازم نختار يوم الإسبوع ده نقعد ساعة كده بعد ما نخلص السكاشن وحد يجيب لاب توب وننجز البرزنتيشن. أقترحت ندى ليومئ الجميع موافقون على ذلك الإقتراح فيما عدا ريتال التي تنهدت تنهيدة طويلة وهي تشعر أن الأمر كله غير مبشر بالخير.

في نهاية الإسبوع اجتمع أربعتهم كما اتفقوا بالقرب من كافتيريا الجامعة، كانت ريتال أول الحضور وتبعها مازن الذي جلس إلى جانبها في هدوء بعد أن ألقى التحية عليها، ساد الصمت بينهم لبرهة قبل أن يقطعه مازن وهو يقول:
تفتكري هقع وأنا طالع أقدم البرزنتيشن؟ أنتِ عارفة الدكاترة بيقفوا على خشبة عالية كده،.

متقلقش أنتَ معاك العكاز وهتطلع على مهلك بس حاول متتوترش أوي يعني.

احتمال على وقت البرزنتيشن أكون فكيت الجبس بس هتبقى رجلي لسه تعباني طبعًا. أومئت ريتال بهدوء دون أن تنبس ببنت شفة، عاد الصمت سيدًا للمكان من جديد قبل أن يقطعه صوت مازن وهو يسألها بحيرة:
هو أنتِ على طول ساكتة كده؟ هي مش حاجة وحشة الهدوء طبعًا بس،.

أظن مفيش حاجة نتكلم فيها أنت وأنتَ، آخرنا في الكلام هو البروچيكت ده وبس علشان أنا ولا بتعرف ولا ليا في الجو ده. كانت نبرة ريتال حادة بعض الشيء على غير المعتاد منها لكن الجرح الذي خلفه تليد ومن قبله صالح جعلها أكثر صرامة وحدة مع الغرباء، هي لن تسمح لأحد ليس بينها وبينه أي صلة قرابة أن يقترب ويخترق حواجزها.

عظيم. تمتم بها وقد نمت ابتسامة صغيرة على ثغره فعلى عكس ما توقعت هي لقد نال استحسانه كثيرًا ما قالته قبل قليل.

حضرت باقي المجموعة ليباشروا عملهم، كانت ريتال الأبرع في صياغة المعلومات بشكل مختصر جذاب كي لا يمل المستمعون من القراءة لأنهم على أي حال سيتلقون جميع المعلومات حول المواضيع التي تم عرضها بإستفاضة، ساعة ونصف كانت كفيلة لإنجاز قدر لا بأس به قبل أن تستأذنهم ريتال في الرحيل لشعورها بقليل من التعب، ألقت التحية على الجميع قبل أن تغادر المكان وهي مازالت تشعر بتلك الأعين التي تراقبها عن كثب.

بعد مرور عشرة أيام كانت الحياة تسير بوتيرة جيدة وإن كانت روتينية بطيئة، ريتال تحاول أن تجمع أكبر جزء ممكن من المعلومات وأيضًا قامت بالحصول على نسخ من اختبارات لأعوام سابقة لجميع المواد الدراسية فهي لا تنوي المُخاطرة بالتقدير العام للعام الأول لها في الجامعة وبينما كانت تقوم بمراجعة الجزء النظري من التجارب المعملية العلمية أُقتحمت حجرتها في بيت جدها بواسطة فريدة.

بسم الله الرحمن الرحيم، البني آدم بيخبط وهو داخل في أيه؟

معلشي أنا أسفة. أعتذرت فريدة بجدية على الرغم من أن ريتال كانت تُمازحها، عقدت الأخيرة حاجبيها وهي تسأل بتعجب:
مالك يا فريدة كبرتي الموضوع ليه؟ أنا كنت بهزر معاكي على فكرة. وضحت ريتال وهي تبتسم ابتسامة صغيرة مشوبة بالقلق على قرينتها، أخذت فريدة نفس عميق وساد الصمت لبرهة.

ريتال ممكن أقولك حاجة ومتزعليش مني ولا تشوفي إن أنا واطية أو مش كويسة، قالت فريدة بتوتر حقيقي بينما كان يدها ترتجف، أمسكت ريتال بيدها في محاولة منها لطمئنة المتحدثة والتي كادت عيناها أن تدمع من فرط التوتر.

مالك يا فريدة في أيه؟ أتكلمي يا بنتي أكيد طبعًا مش هقول ولا أفكر في كده قوليلي بس في أيه؟

ياسين كلمني،.

نبست فريدة لتُطالعها ريتال بقليل من الصدمة قبل أن تسألها بإستنكار مشوب بالتوتر كذلك قائلة:.

ياسين كلمك؟ بمناسبة أيه يعني؟ قالك حاجة عني؟ عن تليد أقصد يعني عننا؟ كانت اللهفة تملئ حديثه ريتال فلقد كانت تتمنى أن الغرض من وراء تلك المحادثة هو إخبارها أي معلومة تخص تليد على أي حال فماذا عساه ياسين يريد من فريدة غير ذلك؟ أن تعمل كحلقة وصل بينها وبين تليد كما المثل بالنسبة إلى ياسين لكن ما جاء بعد سؤالها لم يكن متوقع بتاتًا بالنسبة إليها.

لا، الموضوع ميخصش تليد خالص ولا يخصك أنتِ كمان الموضوع يخصني أنا،.

يخصك أنتِ؟ لا لا ثواني، اللي أنا فهمته صح؟

أنا أسفة يا ريتال بجد، أنا عارفة إن أنا أنانية بس هو ياسين كلمني وطلب مني رقم بابا، هو يعني قال بصراحة كده إنه معجب بيا.

أعلنت فريدة دفعة واحدة بتلعثم واضح وهي تتجنب النظر إلى أعين ريتال خوفًا من ردة فعلها لكن ريتال ظلت تنظر إليها بنظرات غير مفهومة قبل أن تجذب فريدة في عناقٍ قوي بينما تُمتم بجمل حماسية لم تتبينها ريتال في البداية.

بتهزري بجد! مش مصدقة نفسي، ألف ألف مبروك يا روح قلبي.

الله يبارك فيكي يا ريتال، لسه بدري عالمباركات بس شكرًا، هو أنتِ بجد مش زعلانة مني؟

هزعل منك ليه يا هبلة أنتِ؟ سألت ريتال بجدية وهي تنظر إلى أعين فريدة الدامعة، أزدردت فريدة ما في فمها قبل أن توضح سبب ذلك التوتر مُردفة:
علشان يعني ده ياسين صاحب تليد وإن بإرتباطي بيه هبقى بحكم عليكي تشوفي تليد كتير وإنه طول الوقت يفضل بيجي على بالك.

ولا عمري كنت هفكر فيها ولا هحسبها كده، فريدة أنتِ أختي وأنا مش عايزة أي حاجة في الدنيا دي غير إني أشوفك مبسوطة وأنا عارفة إن ياسين ده بني آدم محترم واتأكدت لما قرر إنه يدخل البيت من بابه مش يقضيها رغي ول?ل?ة من ورا أهلك.

كذبت ريتال في بداية حديثها حيث أن عقلها بالفعل قادها إلى تلك المُعضلة، ارتباط فريدة بياسين سيفرض عليها بلا شك وجود تليد إن لم يكن الآن فبعد سنة أو اثنتين أو حتى خمس، هي لن تتمكن من التخلص منه ولا طرده من عقلها كليًا لكن ذلك لا يمنع كونها تشعر بالسعادة من أجل فريدة فلقد كان ذلك الجزء هو الصدق في حديثها.

فريدة فتاة ذات خُلق، صديقة وفية وأخت داعمة وهي تستحق أن تحظى بنهاية سعيدة إلى جوار شاب مثل ياسين صادق في مشاعره يُحبها وتُحبه.

أنتِ سرحتي فين؟

أنا معاكي أهو، قوليلي هيجي أمتى وهتتفقوا على أيه ولا معندكيش أي تفاصيل؟

بصي هو لما كلم بابا وكده قاله إنه هيجيب عائلته معاه يتفقوا ويقرأو فاتحة وعلشان الإمتحانات قربت وكده هنعمل خطوبة صغيرة في اجازة نص السنة إن شاء الله. وضحت فريدة لتومئ ريتال بحماس شديد قبل أن تقول:
طب حلو أوي إن شاء الله الإتفاقات تمشي حلو وترضي الطرفين ونفرح بيكي بقى يا فوفو.

يارب، أنا بس قلقانة من حاجة، دلوقتي ياسين من القاهرة وأنا من اسكندرية وأكيد هو هيبقى عايز إننا نسكن هناك لما نتجوز وماما وبابا أكيد هيرفضوا حاجة زي دي،.

تصدقي مركزتش خالص، يعني أنتِ المرة دي اللي هتسبيني وترجعي القاهرة؟ سألت بحزن شديد ودمعت عيناها على الفور تأثرًا لمجرد التفكير في إبتعاد فريدة عنها بعد أن وجدت لنفسها أختًا وصديقة وفية.

بس بس أنتِ هتعيطي من دلوقتي؟ أكيد هيبقى في حل وبعدين أنا مش هتجوز قبل سنتين أو سنتين ونص كمان متقلقيش. قالت فريدة وعلى الرغم من أن ريتال كانت تعرف أن ذلك حقيقي لكن ذلك لم يكن يُشكل فارقًا بالنسبة إليها ففي النهاية سيأتي اليوم الذي سترحل فيه عنها ونظرًا لأن حياة ريتال بأكملها قد نُقلت إلى الإسكندرية فلن يكون من اليسير بالنسبة إليها زيارة القاهرة بصورة مستمرة.

بالعودة إلى منزل العائلة بالقاهرة، كانت الأيام تمر بشعة كئيبة منذ أن علم عبدالرحمن بأمر انتظار زينة لمولودها الأول من زوجها الحالي، لقد أسودت الدنيا في عيناه كما لم تفعل من قبل والآن كان قادرًا على تصور قدر الآلم الذي جعلها تعيشه في يومٍ من الأيام لكن الفارق الوحيد هنا أنها لم تتعمد جرح قلبه ولم تقوم بإهانة كرامته، لم تخونه، لم تتركه وحيدًا لوقتٍ طويل، لم تُهمل ابنتهما بل فعلت فعلتها تلك بعد أن تأكدت تمامًا أنه لا رجاء منه وأنه إنسان أناني غير سوي يتلذذ برؤية دموعها والآن بات عليه هو أن يذرف عشرات بل مئات الدموع ندمًا على خسارته التي لن تعوض.

كانت الجدة تجلس على طاولة الطعام وإلى جانبها الأيمن ابنها عبدالرحمن وبجانبه زوجته وابنها وإلى الأيسر غادة وإلى جانبها كانت تجلس نانسي، كان الكل يتناول طعامه في صمت فيما عدا عبدالرحمن الذي لم تمتد يده إلى الطعام.

يا عبدالرحمن يا ابني مش هتاكلك لُقمة؟

سيبيه يا ماما هو على طول قالب وشه علينا كده ومش عايز ياكل معرفش ماله، مبقتش عيشة دي والله يا بودي. علقت سالي على حديث أم زوجها في حين أن عبدالرحمن لم يُطالعها قط ولم يُجيب عن سؤال والدته كذلك، اشمئز وجه المُستمعة قبل أن تقول بضيق شديد:
قولتلك مية مرة متقوليليش يا ماما أنا مش أمك ياختي أنا حماتك تقوليلي يا حماتي.

ليه كده بس يا ماما؟ أنا عايزة أعرف أنا عملت لحضرتك أيه يعني لكل ده؟

أهو كده، أنتِ بقى مش بتنزليلي من زور! الله يمسيكِ بالخير ياللي في بالي كنتِ نسمة ولا حد بيسمعلك حس ولا بتعملي مشاكل.

اه قولي كده بقى يا حجة، علشان هي كانت تحت رجليكي وبتخدمك وحاطة جزمة في بوقها بقيت حبيبة القلب غريبة يعني يا ماما ده اللي أعرفه إنك كنتِ مطلعة عينيها ومش عتقاها برضوا، دلوقتي حيليت في عينيك علشان جت اللي بتقولك لا وبتمشي كل حاجة على كيفها؟ كان حديث سالي أشبه بالأعيرة النارية، تصيح بغيظ شديد بنبرة أشبه بالتوبيخ لوالدة زوجها دون مراعاة فارق العمر أو صلة القرابة أو أي شيء.

لكن على الرغم من سوء أدب سالي إلا أنها كانت محقة في جزئية كبيرة فتلك التي تتحدث بحزن، وندم واشتياق شديد إلى زوجة ابنها السابقة كانت تعاملها أسوء معاملة وكانت توبخها بسبب وبدون بل وكانت تُميز في التعامل بين أحفادها حيث كانت ريتال الأقل أهمية على الدوام والآن أصبحت سالي ساحرة شريرة لأنها ترفض تسلط والدة عبدالرحمن هذا بالطبع مع العلم بأن سالي شخصية غير سوية لم تتعلم إحترام من يكبرونها في العمر والمقام.

شايف مجايبك ياسي عبدالرحمن؟ سايب أمك بتتهزق وأنتَ قاعد ساكت يا دكر؟ صاحت شقيقته موبخة إياه ليقوم عبدالرحمن بحركة خاطفة ويجذب سالي بقوة من خصلات شعرها لتصرخ الأخيرة بألم.

أنتِ ازاي تكلمي أمي بالشكل ده؟ أنتِ أتجننتِ؟ لو محدش علمك الأدب أنا أعلمهولك وبعدها أرميكِ جنب أقرب كوم زبالة!

بتمد إيدك عليا؟ فاكرها رجولة؟

وأرمي عليكِ اليمين كمان يا، كاد عبدالرحمن أن يسبها لولا أن دفعته سالي وقد أفلتت نفسها من بين يديه قبل أن تصرخ في وجهه مهددة إياه قائلة:.

إعملها يا عبدالرحمن! لو راجل إعملها وأنتَ عارف أنا وقتها هعمل فيك أيه كويس! تجهم وجه الجميع وخاصة والدة عبدالرحمن التي طالعت ابنها في انتظار سماع تفسير لذلك التهديد الغير مفهوم، نظر إليها ابنها بإنكسار قبل أن يرحل عن المكان وهو يتبع زوجته نحو الأعلى تارك الجميع في حالة من الزهول وصغيرة في رعب وقد بكى خوفًا من ما قد رأه للتو.

تعالى يا حبيبي متخافش تعالى في حضني. طلبت منه جدته ليهرول نحوها مختبئًا بين أحضانها الحنونة، قبلت رأسه وهي تهمس قائلة:
لا حول ولا قوة إلا بالله، يا حسرة قلبي عليك يا حبيبي، متاخد بذنب أمك وأبوك.

هو في أيه بالضبط يا ماما؟ البت دي ماسكة أيه على أخويا عملاله رعب للدرجة دي؟

معرفش يا بنتي، قفلي عالموضوع العيال قاعدة كفاية فضايح، كلوا يا حبايبي بألف هنا. أجابت ابنتها من بين أسنانها قبل أن تتابع حديثها بصوتٍ مسموع لتومئ غادة بقلة حيلة، خيم الصمت على المكان مرة آخرى فيما عدا صوت الملاعق حتى قطع ذلك الهدوء صوت صالح المرح وهو يقول:.

نانسي، عوامتك وشنطة السفر ويلا بينا علشان عندنا طالعة الجمعة الجاية إن شاء الله. كان حديث صالح المرح لا يتناسب تمامًا مع الدراما التي حدثت قبل قليل، طالعه الكل بحيرة قبل أن تطرح نانسي السؤال الآتي ساخرة ردًا على جملته.

يااه سبحان الله هو المصيف جيه بسرعة كده؟

مصيف أيه أحنا في الشتاء مساء الفل! بعيدًا بقى عن خفة الدم بتاعتي أنا وأنتِ عندنا طالعة في إسكندرية، خطوبة.

بتهزر؟ تليد رجع وهيخطب ريتال؟ سألت نانسي بحماس شديد ليُطالعها الجميع بحيرة حيث أنهم لم يعرفوا من هو تليد أما عن صالح فلقد إمتعض وجهه قبل أن يُصحح المعلومة مستنكرًا:
لا طبعًا! ريتال مين اللي تتخطب؟ ريتال لسه صغيرة عالكلام ده، دي فريدة بنت خالتها هتتخطب لواحد اسمه ياسين وطنط زينة عزمتني أنا وأنتِ. وضح صالح بنبرة لا تخلو من الضيق أومئت نانسي بتفهم في البداية قبل أن تُعقب على حديثه ساخرة:.

ما هو يا عم الذكي ياسين ده يبقى البوي فريند بتاع تليد. قالت نانسي قبل أن تُدرك ما قالته حينما طالعها صالح بصدمة وهو يسألها مستنكرًا:
نعم يا أختي؟

البيست فريند، البيست فريند بتاع تليد والله. صحتت نانسي جملتها ليقلب صالح عيناه وهو يقول:
هو الواد المُقرف ده ورانا ورانا!

لا حضرتك أحنا كده اللي وراه، دي قريبة ريتال أصلًا مش قريبتنا أحنا والناس علشان عندهم ذوق عزمونا يعني.

ما علينا، جهزي بقى حاجتك أنا عارف إنك كده كده بتتمرقعي ومش بتحضري محاضرات فممكن نسافر إسكندرية الخميس بليل.

ونقعد فين بقى يا فالح؟

أنتِ هتباتي في بيت بابا طنط زينة وأنا هشوف حد من صحابي بتوع إسكندرية أقضي معاه اليوم وأبات عنده والصبح أجيلكوا من بدري إن شاء الله. وضح صالح لتومئ نانسي بتفهم قبل أن تنبس بالآتي ساخرة:
هنروح نتسنكح عالناس يعني؟ تحفة! لم تسمع نانسي ما علق به صالح فلقد كان منشغلة بشيء آخر تمامًا فلقد وصلها إشعار من هاتفها أن أحدهم قام بإرسال طلب صداقة على تطبيق فيس بوك والذي لم يكن سوى أدهم، الدكتور أدهم!

ابتسمت نانسي بسعادة حقيقية وهي تقبل الطلب على الفور دون ذرة تردد قبل أن تبدأ في أخذ جولة داخل حسابه، لقد فعلت ذلك من قبل لكن نظرًا لأنها لم تكن من الأصدقاء فلم تتمكن من رؤية جميع منشوراته وصوره الشخصية القديمة.

أنا عارف الإبتسامة البلهاء دي كويس، حب جديد ولا أيه الدنيا؟ علق صالح بصوتٍ بالكاد مسموع بالنسبة إليها كي لا يصل صوته إلى أذن جدته وعمته، أخرج نانسي من شرودها لتُطالعه بضيق شديد قبل أن تقول:
خليك في حالك يا بتاع ريري ها! سخرت منه نانسي ليمتعض وجهه لكنها لم تهتم بل سحبت هاتفها وطلبت الإذن من جدتها ووالدتها وصعدت نحو الأعلى لتُكمل جولتها في حسابه.

في مساء يوم الخميس قام صالح بإيصال نانسي إلى منزل جد ريتال، لم يصعد ليُلقي التحية بل لوح لريتال الواقفة في الشرفة وإلى جانبها نانسي وبعد أن تأكد صالح من سلامتها غادر المكان متجهًا إلى قهوة شهيرة بالإسكندرية.

متحمسة يا فريدة؟

متحمسة جدًا بجد ومتوترة أوي أوي، خايفة يختلفوا على الإتفاقات أو ياسين يحس طلبات بابا كتير أوي،.

يا بنتي اصبري بس وتفائلي بالخير كده، إن شاء الله الإتفاقات تتم على خير.

مش متخيلة بجد إنك عرفتي توقعي ياسين مش متخيلة كم البنات اللي حاولت معاه.

أفندم؟ وهما يعرفوه منين إن شاء الله؟

صحاب تليد، أي بنت من صحاب تليد أكبر منه في السن بسنة مثلًا أو اتنين كان عينهم على ياسين. كانت نانسي تتحدث بعفويتها أو حماقتها المعتادة ولم يكن حديثها سخيف بالنسبة إلى فريدة وحدها بل وإلى ريتال كذلك، فذكر تليد وذكر عدد الفتيات اللواتي يشغلن حصة كبيرة من حياته هو أمر مؤلم وبغيض بلا شك.

أنا غالبًا شكلي بعك.

بس أنا واثقة إلى ياسين بيصدهم، ياسين مش بتاع لعب لأنه لو كان عايز يلعب كان هيدخلي من سكك تانية بس هو ابن ناس ومتربي وطالب القرب مني في الحلال. تحدثت فريدة بثقة شديدة، ثقة لم تملكها ريتال فهي لا تستطيع قول الشيء ذاته عن تليد فبعد أن قام بذكر الزواج وجعل العلاقة خاصتهم تأخذ منحنى رسمي إلى أنه تراجع مرة آخرى وقرر أن يغادر البلد بأكملها وذهب يركض وراء السراب من وجهة نظر ريتال ومستقبلًا أفضل من وجهة نظره.

ريتال أنتِ معانا؟ سألت نانسي لتجفل المستمعة وهي ترمش مرتين قبل أن تقول:
اه اه معاكوا، أنا جعانة تعالوا نشوف حاجة ناكلها ولا نطلبها.

لا أنتِ مش معانا خالص أنا لسه بقول هنطلب كبده وسجق. قالت فريدة لتُدرك ريتال أنها بالفعل لم تكن تستمع لأيًا مما دار بينها من حديث هي ونانسي قبل ثوانٍ.

مرت الليلة هادئة وجاء الصباح بسرعة لم تتخيلها فريدة وإن كانت تنتظر من الشمس أن تغرب كي يسطع القمر خاصتها، ذلك الذي مال قلبها نحوه دون حديث طويل أو غزل صريح بل كانت تلك المرات القليلة التي جمعتهم والإبتسامات الخجولة كفيلة بجعل قلبها يدق من أجله وفقط من أجله.

في تمام السابعة كانت فريدة على أتم الإستعداد وكانت تجلس بتوتر في انتظار ياسين وعائلته، حاول الجميع تهدأتها لكن لم يفلح أحد غير جدها الحنون.

حبيبة جدو تعالي عايزك خمس دقائق.

عيوني يا جدو. أردفت بلطف وهي تقترب لتجلس إلى جانبه ليُشير رضوان على الفور إلى الجميع أن يغادروا الصالة حتى يتحدث إلى حفيدته على إنفراد تام.

كل خمس دقائق هقولك إن شكلك زي العسل يا روح قلب جدو، مش متخيل إن السنين عدت كده بالسرعة دي، من كام سنة بس كنت قاعد مع ماما وبابا بختار معاهم أحسن حضانة ليكي والنهاردة هقعد معاهم بس علشان تختاري شريك حياتك.

ربنا يخليك لينا يا حبيبي ويبارك في عمرك.

ويخليكي يا حبيبتي، هسألك سؤال وتردي عليا بصراحة ومن غير كسوف، عايزاه يا فريدة؟ عايزه تبدأي معاه حياتك وشايفاه مناسب؟ سأل جدها سؤال لم يخطر على بالها، أحمرت وجنتيها على الفور وهي تتحاشى النظر إلى أعين جدها قبل أن تومئ بخجل شديد وقد نمت ابتسامة صغيرة على ثغرها جعلت الرجل الكبير الذي أمامها يقهقه بنغمة مميزة قبل أن يقول بحنان:.

ماشي يا ستي الله يسهلك، أوعدك لو لاقيت إنه بني آدم فعلًا يستحق جوهرة زيك هعمل كل اللي في إيدي علشان أقنعهم يوافقوا بيه حتى ولو كنت هقاسم معاهم ومعاه في العفش والحاجة اللي هتتشرى أنا عندي كان فريدة يعني؟

حبيب قلبي أنتَ يا جدو وأغلى حاجة عندي. قالت فريدة وهي تستقيم من مقعدها لتقترب من جدها وتسحب يده برقة لتطبع عليها قبلة صغيرة قبل أن يجذبها هو في عناق لطيف.

الناس خلاص على وصول روحي حطى الطرحة على رأسك بقى. أومئت هي قبل أن تذهب لإرتداء وشاح الرأس خاصتها وتتأكد من أن مظهرها مرتب وأن كل شيء جاهز لإستقبال الضيوف.

كانت فريدة ترتدي ثوب بلون القهوة مع غطاء للرأس باللون البني كذلك لكنها أفتح قليلًا، زينت وجهها بقليل من مساحيق التجميل بمساعدة ريتال لتُبرز جمال ملامحها وبالتأكيد لم تتخلى عن حذاء ذو كعبٍ عالٍ نظرًا لفارق الطول بينها وبين ياسين.

كان الجميع يعملون كخلية نحل وكان الجميع يشعر بالتوتر فهي أول عروس في الأحفاد الذي كان عددهم ليس بكبير على أي حال، كان الحضور هم الجد ووالديها بالطبع وخالتها زينة وزوجها، ريتال، نانسي وأخيرًا صالح وبمجرد أن أقترب الموعد جلس الرجال في الخارج والنساء وقفن معًا في المطبخ ليقوموا بتجهيز الأطباق والطبق الكريستالي الذي يحوي بداخله نوع فاخر من الشيكولاتة التي إبتاعها فؤاد من أجلهم.

كانت فريدة تقف إلى جانب ريتال ونانسي في الطرقة يراقبون باب شقة جدها وبمجرد أن صدح صوت جرس الباب في المكان انتفضت فريدة من موضعها لتُطمئنها ريتال وهي تُربت على يدها.

فتح جدها الباب ووقف من خلفه والد فريدة، ظهر ياسين أولًا ومن خلفه والديه وأخته التي تصغره بخمسة أعوام أي تقريبًا في عامها السابع أو الثامن عشر، رحب الجد بزوج حفيدته المُستقبلي وعائلته بحفاوة قبل أن يسمح لهم بالدخول، كانت ريتال تقوم بتصوير كل ما يحدث من خلف الستار وبالطبع لم تنسى إلتقاط كل تعبيرات فريدة.

وسعوا كده عايزين نخرج نسلم ونخرج حاجة ساقعة. قالت خالة ريتال لتُفسح الفتاتين المجال، بعد أن ألقت السيدتين التحية عادت خالة ريتال بينما بقيت زينة في الخارج إلى جانب زوجها.

ماما هو أنا المفروض هخرج أسلم دلوقتي ولا أنا اللي بخرج الحاجة اللي هيشربوها ولا أيه؟

باباكي هينده عليكِ دلوقتي وهخرجك تسلمي أما الآنسة ريتال بقى فهي اللي هتخرج الكاسات. أعلنت خالتها لتتوتر ريتال، وقبل أن تعترض صدح صوت زوج خالتها مناديًا على ابنته العروس.

أرتجف جسد فريدة حينما سمعت صوتها، أمسكت والدتها بيدها برفق وهي تقودها نحو الخارج، تسير بخطوات بطيئة وتحاول رسم ابتسامة لطيفة على شفتيها فتظهر رقيقة مشوبة بالتوتر، ألقت التحية على والد ياسين دون أن تصافحه أما والدته فلقد جذبت فريدة في عناق لطيف وهي تُبسمل قائلة:
بسم الله ما شاء الله تبارك الرحمن، زي القمر أحلى بكتير من الصور.

شكرًا يا طنط ربنا يخليكي. نبست فريدة وهي تفصل العناق برفق قبل أن تنتقل إلى شقيقته وتفعل المثل معها.

وقعت عيناها على ياسين، للمرة الأولى ينظر إليها نظرة مطولة وإن كانت متوترة، لمعت عيناها وهو ينظر إليها ليبتسم ابتسامة واسعة وهو يهمس:
ازيك يا فريدة.

ال، الحمدلله، لم يجرؤ لسانها على التفوه بالمزيد، لم تستطع حتى أن تسأله عن حاله وإن كان باديًا للجميع أن حاله من حالها، يذوبون داخل دوامة من العشق الذي أحاط به الحلال والصواب فياسين لم يرغب بها يومًا بعيدًا عن ذلك الطريق فمنذ أن وقعت عيناه عليها للمرة الأولى وهو يرى فيها حبيبة وزوجة له، منحها ياسين باقة الزهور الحمراء التي إبتاعها من أجلها لتتناولها من يده بتوتر واضح.

بعد أن جلست فريدة إلى جانب أبيها خرجت ريتال بخطوات مضطربة وهي تحمل الصينية الثقيلة نسبيًا، وضعتها أعلى الطاولة لتتنفس الصعداء وبينما تفعل كانت عيناها مواجهة خاصة صالح، يُطالعها بإنبهار شديد وكأنه يراها للمرة الأولى وعقله الأحمق قد جعله يتخيل لو أن ريتال تُقدم تلك الصواني حين يطلب يدها للزواج، ثوانٍ ضئيلة كانت كفيلة بجعله يغوص في عالمٍ آخر حيث هو وهي دون أي قيود أو ذكريات مؤلمة قد سحقت قلب كليهما من قبل.

ابتعدت ريتال عن الطاولة متحاشية النظر نحو أعين صالح المثبتة عليها كان ذلك قبل أن يقوم الجد بتعرفيها إلى الضيوف لتُلقي عليهم التحية بخجل، مجرد رؤيتها لوجه ياسين جعلها تتذكر تليد وبشكل أدق المقابلة الأخيرة، حينما سحق قلبها الضعيف سحقًا وكأنه لم ينبض من أجله يومًا...

البيت نور، اسكندرية كلها نورت بالزيارة الكريمة دي، يا أهلًا وسهلًا. قال الجد قاطعًا الصمت ليحث والد ياسين على بدء الحديث، حمحم الرجل بقليل من التوتر نظرًا لأنها المرة الأولى - من بعد زواجه بالطبع - التي يُشارك فيها بجلسة كتلك ويتوجب عليه أن يتحدث، بمجرد أنهى الجد جملته أشار والد فريدة بعيناه لزوجته بمعنى أن تصطحب الفتاتين نحو الداخل بحيث يبقى الرجال والشباب فقط.

المكان منور بأصحابه يا حج ربنا يبارك في عمرك، أحنا جايين النهاردة ويزيدنا شرف إننا نطلب إيد الدكتورة فريدة للباشمهندس ياسين، ياسين اتخرج السنة اللي فاتت دي وشغال حاليًا في شركة كبيرة وبمرتب كويس جدًا لحد في سنة الحمدلله.

كانت هذه بداية حديثه والد ياسين والذي تطرق إلى صلب الموضوع كما يقولون دون أن يتكبد عناء الثرثرة في مقدمات لا فائدة منها، أومئ والدة فريدة برضا قبل أن يقول:
بسم الله ما شاء الله ربنا يباركلك فيه، طيب بالنسبة للشقة حضرتك هيقعدها فين؟ أصل أنا بصراحة رافض موضوع الشقق الإيجار دي تمامًا مش برتاح خالص للحكاية دي.

ياسين عنده شقة بإسمه في أكتوبر إن شاء لما نتفق هتشرفونا تشوفوها بنفسكوا، هي جاهزة عالفرش بإذن الله.

طيب حضرتك عارف يا حج إن أحنا هنا تقسيمة الجواز والشروط مختلفة عن القاهرة بس أحنا مش هنتقل عليكوا أوي برضوا، أحنا مش هنحط رقم معين للشبكة لكن الفرش وكده، ابتسم والد ياسين ابتسامة مشوبة بقليل من التوتر وهو يعتدل في جلسته مستعدًا لسماع ما سيقوله والد العروس.

أحنا هنا المعظم بيخلي الأجهزة، المطبخ، السجاد والفرش وأوضتين على العريس، العروسة بتشيل أوضة والصالون ممكن نقسمه بالنص.

أنا عارف طبعًا يا حج إن شرعًا العريس ملزم يفرش البيت كله من أول لآخره بس الظروف الأيام دي بقيت صعبة وهو شاب لسه في بداية حياته، أنا طبعًا كوالده هساعد بس، قال والد ياسين بنبرة ودودة لكن لم يبدو على والد فريدة الإقتناع، ساد الصمت لبرهة من الوقت ليُغلف التوتر تعابير وجه كلًا من العروسين لكن قرر جدها أن يقطع الصمت قائلًا:
طيب أنا متكفل بالسجاد والستائر ودي هتبقى المجاملة بتاعتي لأحفادي حبايبي.

ربنا يبارك في عمرك يا حج. أردف والد ياسين برضا فلقد أنقذه جد العروس من بعض المسئوليات وإن كانت مازالت الأعباء كثيرة لكن إن كان هذا اختيار ابنه البكري فلا مانع لديه.

وأنا في جهازين طالعين من ذمتي للعروسة. أضاف فؤاد ليومئ الجميع برضا قبل أن يقوم ياسين بشكره بأدب وإستحياء، تلك المجاملات لم تروق كثيرًا لوالد فريدة لكنه لم يكن ليرفض المجاملات والهدايا لأنها ببساطة لم تكن من أجله هو بل من أجل ابنته، ساد الصمت لبرهة قبل أن يقطعه والد فريدة وهو يطرح السؤال الآتي:
طب وبالنسبة للفرح؟ أكيد طبعًا هنعمله هنا في اسكندرية مش كده؟

بس يا حاج العروسة هتعيش في القاهرة فأظن يعني إن الأوقع إننا نعمل الفرح عندنا. كانت وجهة نظر والد ياسين منطقية لكن والد فريدة لم يبدو عليه الإقتناع كثيرًا وعاد التوتر يلوح في الأجواء مرة آخرى، كان الحديث عن الزفاف باكرًا قليلًا نظرًا لأن الزفاف لن يتم قبل سنة ونصف من الآن على الأقل.

طيب أنا عندي إقتراح بعد إذن حضراتكوا، أحنا ممكن نعمل كتب كتاب في مسجد كبير هنا ونعزم اللي حضرتك تحبهم كلهم وبعد شهرين مثلًا نعمل فرح في القاهرة، ممكن نقسم فلوس تكلفة السفر بينا وبين بعض، نجيب أتوبيس مثلًا أو اتنين لقرايب حضرتك والمعازيم اللي من هنا. أخذ والد فريدة يُفكر قليلًا وساد الصمت لبرهة قبل أن يقول:.

فكرة مش بطالة وقرب الفرح برضوا نقرر، كده كده مظنش ناويين تتجوزوا قبل سنة ونص سنتين من دلوقتي مش كده؟ أصل فريدة لسه في آخر سنة في الكلية ومش عايز حاجة تشغلها.

اه طبعًا يا عمي. أجابه ياسين سريعًا ولقد كانت لفظة عمي ذات وقع غريب على أذنه، هربت ضحكة رقيقة من فريدة ونظرًا لهدوء المكان استطاع ياسين سماعها ليبتسم تلقائيًا.

طيب على بركة الله، نقرأ الفاتحة؟ سأل فؤاد ليومئ الجميع قبل أن ينادي رضوان على حفيدته لتخرج هي وجميع من معها ليشاركوهم قراءة الفاتحة، بمجرد أن انتهى الجميع أطلقت والدة فريدة زغرودة عالية وتبعتها والدة ريتال قبل أن تدلف إلى الداخل وتعود وهي تحمل صينية بها أنواع مختلفة من الحلوى.

ألف مبروك يا فوفو يا قمر. أردفت ريتال وهي تجذب فريدة في عناق قوي قبل أن تفصله حينما لمحت بعيناها ياسين الذي كان ينتظر المباركة لفريدة على أحر من جمر.

ألف مبروك يا عروسة.

ألف مبروك يا عريس، مكنتش متخيلة الموضوع يطلع جد على فكرة، لحد الصبح كنت متوقعة إنها إشتغالة.

يااه عالثقة يااه. علق ساخرًا قبل أن يُخرج من أحد جيوبه علبة من القطيفة ويناولها لفريدة التي أمسكت بها بتوتر واضح حتى كادت العلبة أن تسقط من يدها لولا أن دعمت ريتال يدها.

أمسكي نفسك. علقت نانسي ساخرة لكن فريدة لم تكن منتبهة لها بتاتًا بل كانت تحاول فتح العلبة والتي تبين أن بداخلها سلسال رفيع من الذهب يحمل حرف الفاء باللغة العربية.

دي تحفة، حلوة أوي أوي.

مبسوط إنها عجبتك، دي حاجة مؤقتة كده لحد ما تلبسي الدبلة قريب إن شاء الله.

ياسين أنا، تمتمت فريدة لتلمع أعين ياسين، تلك المخبولة على وشك الإعتراف بمشاعرها على الملأ لكنها بالطبع لم تفعل فلم تكن تلك قط شخصية فريدة فلقد كان إخفاء المشاعر عن طريق السخرية أمر شائع بالنسبة إليها.

ياسين أنا بجد مهبطة ومحتاجة حاجة مسكرة وفي حتة كنافة بالشيكولاتة هموت عليها.

طالعها ياسين بصدمة محاولًا إستيعاب ما تفوهت به قبل ثوانٍ قبل أن يسأل الله أن يمنحه الصبر، بعد أن تناولت فريدة ما يحلوا لها قامت ريتال بإلتقاط بضع صور لهم معًا وصور عائلية إلتقطها صالح.

نانسي ممكن تصوريني أنا وريتال جنب قرينا الفاتحة دي؟

مالك؟ سألته نانسي مستنكرة لتضطرب معالم صالح قبل أن يُعدل من جملته قائلًا:
قصدي جنب الديكور والزينة يعني والبوكية وكده مالك يا نانسي في أيه؟

ماشي يا أخويا، تعالي يا ريتال أما نشوف آخرتها معاكوا أيه. قالت نانسي بينما تلتقط الصور، في تلك اللحظة كان ياسين يطالع الثلاثة بقليل من الضيق، إنه يشتاق إلى تليد كثيرًا ولا يكاد يصدق أن يومًا كهذا قد جاء دون أن يكون بجانبه والأسوء هو رؤية صالح بجانب ريتال.

أجل لقد كان ياسين أفضل العارفين بعيوب صديقه وشقيقه الأصغر لكنه واثق كذلك من أن تليد يكن مشاعر قوية تجاه ريتال وأن مشهد كهذا قد يُشعل النار قلبه لكن للأسف ما باليد حيلة فلقد اتخذ تليد قراره منذ أشهر مضت والآن يدفع الضريبة كاملة.

بعد مرور ساعة تقريبًا حاولت والدة فريدة إقناع الضيوف بالبقاء لتناول العشاء لكنهم رفضوا بأدب خجلًا وأيضًا لأنهم يتوجب عليهم العودة إلى القاهرة، أقترح عليهم فؤاد أن يستضيفهم في ال?يلا خاصته حيث أنها تكفي للجميع لكنهم مرة آخرى رفضوا بأدب ورحلوا عائدين إلى القاهرة.

بمجرد رحليهم أمسكت نانسي بهاتفها لتقوم بإختيار صورة لتضعها فريدة كصورة شخصية وكإعلان عن أنها قد خطت خطوة هامة نحو حياة سعيدة كما أنها ساعدتها في اختيار جملة تضعها ووقع الاختيار بعد حيرة طويلة على الجملة التالية:
(لقد هَلّ طيف رفيق العمر).

بمجرد أن تم نشر الصورة والإشارة إلى ياسين فيها كُتبت عشرات التعليقات بين التهنئة والمباركات، على الفور قامت نانسي بنشر صورة تجمع العائلة بأكملها وآخرى تضم الشباب فقط (ياسين، فريدة، نانسي، ريتال وأخيرًا صالح) وقامت بالإشارة إلى الجميع، كانت السعادة تغمر الكل في تلك اللحظة لكن على الجانب الآخر لم يكن للسعادة أي وجود...

كان يُطالع تليد الصور بصدمة، لقد كان هذا الحفل كله من أجل قراءة الفاتحة وعقد الإتفاقيات من أجل فريدة وياسين لذا من المنطقي وجود ريتال لكن ذلك الوغد صالح؟ ما شأنه بمناسبة كتلك فهو ذو قرابة لريتال من ناحية الأب لا الأم فلماذا قام بحشر أنفه والقدوم إلى إحتفالية كتلك؟

كان من المفترض أن يكون تليد هناك بدلًا منه إلى جانب صديقه وأخاه الأكبر ياسين وإلى جانب ريتال، الفتاة التي أحبها قلبه بصدق هكذا كان يُفكر ولكنه لم يُدرك قط أن كل ذلك كان نتيجة لقراراته ألم يختار هو السفر والإبتعاد عن كل شيء؟ ألم يُلقي بنفسه في أحضان الغربة تاركًا دفء الوطن؟ فما باله يتذمر الآن مُلقيًا اللوم على أي شيء وكل شيء دون أن يلوم نفسه؟

كان المفروض أنا اللي أكون جنبك مش هو، كان المفروض نكون أحنا اللي قاعديين مكان ياسين وفريدة بس للظروف أحكام، كل اللي أقدر أقوله وحشتيني أوي يا ريتال.

أرسل تليد الرسالة إلى ريتال دون ذرة تفكير أو تردد، دون أن يدري أنه يدعس فتات ما تبقى من قلبها المكسور وقلبه...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة