رواية وصال مقطوع للكاتبة إيمان عادل الفصل الرابع والثلاثون
كان القارب الكبير مكون من طابقين الجميع في العلوي أما السفلي فكان جزء منه مخصص للعاملين أما الجزء الآخر البعيد مُظلم وهادئ، دلف عبدالرحمن إلى الطابق السفلي وقبل أن يصعد إلى الأعلى لمحته ريتال عن طريق المصادفة لكنها لم ترى السكين في يده لكن رؤيته بمفردها جعلتها تصاب بحالة من الذعر والهلع فهي واثقة من أنه لا ينوي خيرًا بتاتًا.
وبدلًا من أن تركض لتنبه أي شخص ليساعدها أو على الأقل يمنعه من الدخول وجدت نفسها تهرول نحو الأسفل بأقصى سرعة ليلحق بها تليد والذي لم يفهم ما الخطب لكن لغة جسدها التي تنم عن الهلع وجد نفسه يحلق بها تلقائيًا.
لم يدرِ كلاهما أن صالح كان يراقبهم وحينما لمح ذلك المشهد المريب، ريتال تركض وتليد من خلفها يحاول اللحاق بها قفزت إلى عقله عدة سيناريوهات بشعة لا تمت للواقع بصلة لكنها كانت كفيلة بجعله يركض من خلفهم كذلك لكن في أثناء توجهه نحو الأسفل صدح صوت عمته وهي تناديه متوبعًا بخاصة جدته ليُطلق سبة بصوتٍ أقرب إلى الهمس ومن ثم يذهب ليرى سبل مناداته منه تاركًا تليد وريتال.
ريتال مالك في أيه؟ كان يسأل تليد وهو يركض من خلفها لكنها لم تُجيب عن سؤاله بل لم تسمعه من الأساس فصخب صوت أفكارها ومخاوفها جعلها غير قادرة على سماع أي شيء آخر، كادت أن تتعثر في ثوبها عدة مرات وفي أقل من دقيقة كانت تقف أمام والدها وبالتحديد على بعد خطوات قليلة منه.
فرحانة بأمك طبعًا ولابسة فستان، هي دي آخرة التربية الزبالة بتاعت زينة بنتي فرحانة علشان في راجل تاني بقى عشيق أمها!
مسمحلكش ولا أسمح لأي مخلوق يتكلم عن أمي بالإسلوب ده، أمي دي اللي أستحملت قرف وغياب وخيانة وبخل وحافظت على شرفك وعرضك سنين جاي دلوقتي تقول عليها كده؟ لما أنا تربية زبالة أومال أنتَ تربيتك تبقى أيه؟
صرخت ريتال في وجهه بحرقة غير مُدركة لم تتفوه به، مهما كان الوضع لم يجدر عليها محادثة والدها بهذا الأسلوب أو التفوه بجملتها الأخيرة، أشتعلت أعين عبدالرحمن غضبًا ورفع يده على الفور ليصفعها لولا أن وقف تليد في المنتصف ليمنعه من ذلك بينما يُردف الآتي بحنق:
إيدك يا نجم لتوحشك!
ومين العيل ده كمان؟ طبعًا ما أنتِ تلاقيكِ صايعة زي أمك!
صاح عبدالرحمن بإستياء وقبل أن يُتابع حديثه لكمه تليد لكمة قوية جعلته يسقط على الأرض ومعه السكين خاصته الذي أصدر صوت مسموع، طالعت ريتال (السلاح الأبيض) المُلقى على الأرض بأعين متسعة والآن قد أدركت غرض والدها من هذه الزيارة، لم يكن سكينًا عاديًا كما رأت بالأعلى بل كان واحدٍ ضخم وحاد يُشبه خاصة القصاب، نبضات قلبها تتسارع والعرق يتصبب على جبينها بقوة على الرغم من كون الجو بارد نسبيًا، ثوانٍ مرت كدهر كامل بينما تنتقل عيناها بين والدها والسكين خاصته...
حركة سريعة صدرت منها وهي تهرول نحو السكين لكن والدها كان أقرب لذا أمسك به أولًا، حاولت أن تجذب السكين منه بقوة وسط صياح تليد الذي يطلب منها أن تترك السكين لأنه يعلم إلى أين سيؤول الأمر، وبالفعل أخترق المكان صوت صراخ ريتال التي جُرح كف يدها بالسكين لكنها لم تتنازل عنه حتى دفعها والدها بقدمه لتسقط على الأرضية بقوة بعيدًا عنه، آلم إجتاح كامل جسدها في حين أن تليد ركض نحوها متلهفًا ليتأكد أنها لم تضرب رأسها أو شيء من هذا القبيل وبمجرد أن فعل هرول نحو عبدالرحمن مرة آخرى.
رفع الأخير السلاح أمام وجه تليد ليبتسم ابتسامة صغيرة جانبية قبل أن يركل يد عبدالرحمن التي تحمل السلاح بقدمه لتسقط السكين بعيدًا عنه مرة آخرى، ابتسم تليد بإنتصار قبل أن يلكم عبدالرحمن لكمات متتالية بالتبادل مع ركلات في كل منطقة طالتها قدم تليد في حين أن والد ريتال استطاع بالكاد أن يلكمه مرة واحدة، سقط عبدالرحمن أرضًا وذهب تليد ليفحص ريتال ويساعدها على النهوض، لحسن الحظ أن الموسيقى كانت صاخبة للدرجة التي لم تجعل الذين بالأعلى يلاحظون ما يحدث ونظرًا لضعف الإضاءة في الطابق السفلي وفي تلك البقعة تحديدًا من القارب فلم يراهم أحد بوضوح.
أنتِ كويسة؟ قومي معايا،.
أنتَ كويس؟ ماما، أوعى يطلع لماما،
هو مين ده؟ أنا مش فاهم أي حاجة، أصاب الموقف كاملًا تليد بالبلاهة للدرجة التي جعلته لم يستوعب أن من يحاول إيذاء ريتال ووالدتها وزوج والدتها هو والد ريتال شخصيًا!
تليد حاسب!
صرخت بها ريتال بقوة وهي تدفع بتليد إلى جانبها لتُفاديه وتُجرح هي بالسكين في كتفها بدلًا عنه، في الواقع لم يكن ينوي عبدالرحمن إصابته أو أصابتها لقد كان ينوي ضرب تليد بحيث تخور قواه فلا يتمكن من منعه من الصعود لكن ما حدث غير ذلك، كل شيء حدث سريعًا، آلم شديد أحتل كتفها ودماء تناثرت لتلوث ثوبها الجديد وتكشف عن جزء من كتفها المصاب، في تلك اللحظة شعر عبدالرحمن بأن الزمن قد توقف...
دمعت عيناه وهو يُلقي بالسكين بينما ينظر إلى دماء ابنته التي ملئت يده، كيف وصلت قسوته وحقارته ووحشيته أن يؤذي ابنته بذلك الشكل؟ كيف تمكن من تدميرها نفسيًا ومعنويًا إلى هذه الدرجة؟ كيف استطاع أن يتحول إلى وحشٍ ينهش في لحم مَن مِن لحمه ودمه؟ لقد تحول عبدالرحمن إلى مسخٍ بلا مسخ دميم يستحق العقاب بل والإعدام حتى!
صياح تليد المُرتعب وهو يُمسك بجسدها التي خارت قواه من فرط الموقف، صراخ مريم التي كانت برفقة صالح متوجهين لرؤية سبب غياب تليد وريتال عن الأنظار متبوعين بلكمات عديدة سددها صالح لعبدالرحمن دون أن ينتظر ليفهم ماذا حدث.
ريتال، ريتال خليكِ معايا، ريتال أوعي تغمضي عينك أبوس إيدك!
نبس تليد من وسط دموعه ولقد كانت المرة الأولى التي تراه ريتال وهو يبكي، أغمضت عيناها لثوانٍ قبل أن تقول الآتي بوهن:
أنا كويسة، متخافش مفيش حاجة،.
أوعى أنتَ كده، وريني، قالت مريم وهي تدفع تليد بعيدًا عن ريتال بخفة لتُقوم بضمها إلى صدرها بعد أن قامت بفحص الجرح في كتفها.
متخافيش يا ريتال أنتِ هتبقي كويسة، خليكِ بس صاحية معايا.
أنا مش، مش خايفة، أنتوا اللي خايفين! نبست ريتال بقليل من الضيق والسخرية التي لا تناسب الموقف بتاتًا قبل أن تحاول الإعتدال بصعوبة ننج عنها تآوه بسيط قبل أن تتابع حديثها وهي تطلب من مريم الآتي بترجي:
مريم لو سمحتِ، محدش يقول لماما أي حاجة، مش عايزة اليوم يبوظ.
أنتِ في أيه ولا في أيه بس؟
علشان خاطري يا مريم. أومئت مريم ليسود الصوت لبرهة قبل أن يقطعه صوت تليد وهو يطلب من صالح الآتي:
صالح أطلع أنتَ فوق علشان طنط زينة متقلقش
وأنا هاخد ريتال ومريم معايا عالمستشفى.
طب والحيوان ده هنسيبه لوحده يعني؟ صرخت مريم بإستنكار شديد ليزفر تليد بضيق لقد توقف عقله عن التفكير ولا يدرِ ماذا عليه أن يفعل.
أحنا نطلبله البوليس.
أنا، أنا مكنش قصدي،.
مكنش قصدك؟ مكنش قصدك تضرب ريتال ولا مكنش قصدك تيجي علشان تموت زينة وفؤاد ولا كان في دماغك أيه؟ صرخت مريم في وجهه بإشمئزاز شديد، أغمض عيناه لتنهمر الدموع التي أمتزجت مع الدماء التي لوثت وجهه من فرط اللكم، قامت مريم بإراحة جسد ريتال على الحائط قبل أن تستقيم من جلستها وتنظر إلى أعين عبدالرحمن بتحدٍ قبل أن تقول:.
شايف الست والدتك المحترمة اللي قاعدة فوق دي؟ أنا بقى هحزنها عليك النهاردة علشان أنتَ بني آدم قذر، لا أنا أسفة أنتَ مش بني آدم أصلًا!
أنا، أنا، ريتال أنا أسف يا بنتي،.
بنتك؟ نهارنا أبيض أنا كل ده كنت بضرب في حمايا! صرخ تليد في صدمة وهو يضع كلتا يديه فوق رأسه لترمقه مريم بإزدراء قبل أن تسأله الآتي بإستنكار واضح:
بذمتك وقته نحنحة ده؟ وقته؟
معلش الإفيه حكم! وبعدين ده ال Coping mechanism آلية المواجهة بتاعي بهزر وقت المصايب. فسر تليد بجدية لتقلب مريم عيناها قبل أن تقول:.
طيب خليكوا هنا وعينكوا على عبدالرحمن أنا هطلع ثواني أجيب جوزي علشان يبقى في راجل معانا وبعدها صالح يطلع فوق وأنا هاخد ريتال على أقرب مستشفى. أردفت مريم بكل بساطة دون أن تُدرك أنها أهانت كلًا من تليد وصالح عن غير عمد ليُطالع كلاهما الآخر قبل أن ينظروا إليها بإستنكار واضح، حمحمت مريم قبل أن تقول:
لا مؤاخذة يا كباتن بس أحنا في مصيبة ومش وقت قمص عيال.
تمتمت وهي تصعد نحو الأعلى، غابت لدقيقتين قبل أن تعود برفقة زوجها بعد أن شرحت لها بإختصار المعركة التي حدثت قبل قليل، كان يود أن يضرب عبدالرحمن لكنه لم يجد في وجهه أو جسده بقعة سليمة ليفعل.
بص بقى أنتَ تكتف الزبون ده وترميه في العربية وأول لما الفرح يخلص هنطلع على القسم نعمل محضر فيه.
بوشه ده أحنا اللي هنعمل المحضر؟ ده أحتمال يسيبوه ويقبضوا علينا أحنا. علق زوج مريم ساخرًا لتزفر بضيق قبل أن تُجيب عن تساؤلاته مُردفة بحنق:
لا أنا عارفة أنا بقولك أيه، يا ابني ألاعيب القانون كلها في جيبي.
صالح يلا على فوق ولو زينة سألت قولها روحنا نتصور، ريتال داخت فجبتلها عصير أي حاجة تخليها تتلهي يعني وأنتِ يا ريتال يلا بينا، هحاول بأي طريقة أجبلك فستان تاني تلبسيه ونبقى نقول أي حاجة لزينة الفتسان أتدلق عليه حاجة أتقطع منك اللي يجي في بالنا بقى،.
ماشي تمام. أردفت ريتال وهي تُغلق عيناها بآلم، بالفعل لم يكن الجرح عميقًا لكن ذلك لم يمنع كونه مؤلم بل وينغزها.
كان تليد مستندًا على الحائط مغمض العينين وقد ضغط بيده على رأسه بقوة، عقدت ريتال حاجبيها وهي تنظر إليه بحيرة قبل أن تسأله:
تليد أنتَ كويس؟
أنا أسف،.
على أيه؟
علشان معرفتش أحميكِ لو كنت أتحركت خطوة واحدة بدري مكنش حصلك حاجة.
متكبرش الموضوع أنا كويسة.
كويسة؟ أبوكِ ضربك بالسكينة بالغلط وتقوليلي إنك كويسة؟ أبوكِ كان عايز يخلص على مامتك في يوم فرحها وتقولي إنك كويسة؟ أيه يا بنتي أنتِ جبل؟ سألها تليد بإنفعال وبنبرة أشبه بالصياح ولقد كان غرضه هو ليس جعلها تشعر بالسوء بل أن تنزع قناع القوة التي ترتديه الآن لأن بفعلتها تلك ستنهار بشكل سيء للغاية فيما بعد وهو لا يريد من ذلك أن يحدث.
طالعته ريتال بأعين مُحمرة كالدماء قبل أن تُشير برأسها ب لا قبل أن تنفجر باكية بصوتٍ مسموع بينما تُخفي وجهها بيدها وكأنها ترفض أن تُظهر ضعفها أمامهم، في غضون دقيقتين تقريبًا عادت مريم لتصطحب ريتال إلى المستشفى وقد رافقهم تليد وأثناء قيادتها طرحت ريتال السؤال الآتي بنبرة لا تخلو من الإنكسار:
مريم هو، هو، لو أتقبض عليه وعملنا محضر هياخد كام سنة سجن؟
مؤبد أو سجن مشدد لأن دي هتعتبر قضية شروع في قتل، لو في أي كاميرات مصوراه ولو طلع لسه شاري السكينة مثلًا قبل ما يجي وفي فاتورة هيبقى دليل كبير وكمان أنتِ وتليد هتشهدوا باللي حصل، حضرتك متعورة وهنعمل تقرير طبي وتليد واخد بونيه في وشه وكده كده شاهد لأنه كان موجود في اللي حصل.
مؤبد؟
أنتِ خايفة عليه ولا أيه؟
مهما حصل يا مريم ده أبويا، يعني لو أتسجن، أنتِ متخيلة حياتي هتبقى ازاي؟ هيبقى أبويا رد سجون عمري ما هعرف أشتغل في مكان محترم ولا حد هيرضى يتجوزني، قالت من وسط دموعها لينظر إليها تليد مستنكرًا من حديثها وإن كان متفهمًا نسبيًا لم تحاول أن تقوله ليقاطعها مُردفًا:
اللي عايزين يتجوزوكِ كتير، قصدي أكيد يعني لو حد بيحبك فعلًا مش هتفرق معاه حاجة زي كده هو أكيد هيبقى مقدر الوضع،.
أنتَ بتقول أي كلام علشان مقلقش، يعني أنتَ مثلًا باباك هيوافق تناسب واحدة باباها رد سجون علشان كان عايز يأذي مامتها؟
فرغ فاه تليد ولم يجد ما يقوله، إن قال أجل فسيكون كاذب فحتى لو لم يُشكل الأمر فارقًا بالنسبة إليه فحتمًا سيشكل فارقًا بالنسبة لوالديه، ساد الصمت لبرهة لتومئ ريتال وقد وصلها رد تليد من خلال صمته ولقد تأكدت وجهة نظرها، قطع الصمت صوت مريم وهي تسأل ريتال بجدية وبإهتمام حقيقي قائلة:
طب أنتِ أيه اللي يريحك دلوقتي؟
معرفش، أنا خايفة على ماما وأونكل فؤاد بس في نفس الوقت لو بابا أتسجن، أنا، أنا حياتي كلها هتدمر، تمتمت ريتال بوهن لتُطلق مريم تنهيدة طويلة قبل أن تقول الآتي مع ابتسامة صغيرة جاهدت لترسمها على ثغرها وهي تنظر إليها من خلال إنعكاسها في المرآة.
طيب أحنا نوصل المستشفى ونتطمن عليكِ وإن شاء الله هنلاقي حل.
في غضون بضع دقائق توقفت مريم أمام أحدي المستشفيات وعلى الفور قام الأطباء بفعل اللازم من أجل ريتال ولحسن الحظ أن الجرح لم يكن غائر لكنه كان يؤلمها وقد شعرت بعدة وخزات، كان ينتظرها تليد في الخارج بقلق شديد في حين أن مريم ذهبت سريعًا لشراء ثوب آخر من أجلها، بعد مرور خمسة عشرة دقيقة تقريبًا عادت مريم وفي يدها ثوب بلون ثوب ريتال نفسه لكن التصميم كان يختلف قليلًا، ساعدتها على إرتدائه وفي طريقها نحو الخارج كادت أن تصطدم بتليد الذي كان يحمل رزمة من المال في يده لتعقد حاجبيها وهي تسأله قائلة:.
سرقت بنك ولا أيه؟
بنك؟ دول خمستلاف جنيه بس! وبعدين مفيش أنا روحت سحبت فلوس من المكنة.
ده ليه بقى؟ هتنقط العريس والعروسة؟ سألته مريم ساخرة وإن كانت قد فهمت غرضه من إحضار المال، قلب تليد عيناه بتملل قبل أن يُجيبها قائلًا:
لا كنت بخلص حاجات في الحسابات يالا بينا، فين ريتال؟
بتضبط الطرحة وخارجة.
طيب هي كويسة ولا تعبانة أوي؟ سأل بقلق واضح وهو يُبعد خصلات شعره المموجة بعيدًا عن عيناه لتبتسم مريم ابتسامة جانبية صغيرة قبل أن تُعقب مُردفة الآتي بينما تدفع تليد في كتفه بخفة:
لا كويسة يا عم الحنين.
غادرت ريتال الحجرة بوجه شاحب بعد أن بدلت ثوبها، أمسكت بكتفها بقليل من الأمل وهي تسير نحوهم ببطء، طالعها تليد بأعين قلقة وقبل أن يسألها سبقته هي قائلة الآتي مطمئنة إياه:
أنا تمام مفيش حاجة متقلقش، أحنا محتاجين نرجع بسرعة قبل ما ماما تاخد بالها.
هي أكيد خدت بالها وزمانها فضحت الدنيا بس مش مهم المهم إنك بخير.
مريم، هو أحنا هنعمل أيه في موضوع بابا؟
أنتِ مش عايزاه يتحبس وأنا عايزاه يتربى، أنا لاقيت حل وسط كده يعني قرصة ودن، أنا مش هحبسه دلوقتي بس هيبقى معايا اللي أحبسه بيه بعدين لو حب يعمل حاجة كده ولا كده.
ده ازاي بقى؟
لا ده شغلي أنا بقى، عالعموم الدكتورة اللي هنا حبيبتي وجابتلي تقرير طبي باللي حصل يعني لو حصل حاجة كده أو كده ممكن نبلغ عنه.
أنا بصراحة مش مقتنع خالص باللي بتعملوه ده بس لو ده هيريحك يا ريتال خلاص.
علق تليد بإمتعاض واضح فهو لا يرى بُدٍ من كل هذا فمن وجهة نظره الإلقاء بوالد ريتال داخل السجن لسنوات حتى يتعفن بداخله ويندثر آثره هو الحل الامثل والمنطقي كذلك لكن لم يكن بيده حيلة سوى الإنصياع لرغبة ريتال.
عاد ثلاثتهم إلى هناك وبمجرد أن خطت قدم ريتال المكان وجدت والدتها في وجهها تنظر إليها بهلع وهي تحمل في يدها ثوب زفافها وكأنها تنوي الرحيل، أزدردت ريتال ما في فمها بصعوبة وحاولت أن تُخفي الآلم حتى لا تقلق والدتها قبل أن تسبق والدتها وتسأل هي أولًا:
أيه يا ماما أنتِ ماشية ولا رايحة فين؟
نازلة تدور عليكِ مع إني قولتلها إنك زي الفل بس أنتِ عارفة طنط زينة قلوقة شوية.
قال صالح محاولًا تدارك الموقف سريعًا قبل أن تنفعل والدتها من فرط القلق، كان فؤاد يقف إلى جانب زينة ممسكًا بيدها كنوع من الدعم ومجددًا حاولت ريتال السيطرة على الوضع واضطرت للكذب مُردفة الآتي:
أنا، أنا تعبت شوية ومريم خدتني ال، الصيد، الصيدلية اللي قريب من هنا. ضيقت زينة عيناها بعدم تصديق قبل أن تقول الآتي مستنكرة:.
تعبتي شوية أيه؟ بقالك فوق النص ساعة مش ظاهرة والدنيا متوترة، و، أيه اللي غير فستانك؟ أيه اللي حصل متكدبيش عليا!
مفيش حاجة يا زينة أهدي ووطي صوتك، هي جالها بانك أتاك من الزحمة والهزة بتاعت المركب ومعدتها قلبت ورجعت يعني فجبنا فستان تاني.
رجعت على الفستان تنضفيه مش تجيبي واحد تاني، أنا قلبي مش متطمن خالص أنتوا مخبين عني حاجة أنا عارفة.
رمقت مريم شقيقها بنظرة ذات مغزى ولقد فهمها على الفور، هناك شيء سيء حدث لكن عليه إقناع زينة بعكس ذلك لحين انقضاء الحفل على الأقل ومن ثم يمكنهم مناقشة ما حدث.
أنتِ كويسة بجد يا ريتال ولا بتضحكوا عليا؟
يا ماما أنا زي الفل صدقيني، فكي بقى ده الليلة فرحك يا جميل.
تمتمت ريتال لتسحبها زينة في عناق قوي لتحاول ريتال كتم أنينها كي لا تسمعها والدتها، تدخلت مريم سريعًا لتفصل العناق وتنقذ ريتال التي تنفست الصعداء قبل أن تصعد نحو الأعلى وتجلس على أقرب كُرسي تراه أمامها.
جلس تليد إلى يسارها وصالح إلى يمينها ولكن على مسافة بعيدة نسبيًا عنها، حمحمت ريتال في حرج قبل أن تسأل بتهكم:
في أيه يا رجالة هو أنا مقبوض عليا؟
لا أنا كنت عايز اتطمن عليكِ معرفش العيل اللزج ده أيه اللي جابه بس مش مهم، أنا يا تليد كنت عايز أقولك شكرًا على وقفتك جنب ريتال النهاردة وعلى اللي عملته مع عمي عبدالرحمن وكده.
قصدك اللي عملته فيه، عالعموم عفوًا هما الرجالة الجدعان اللي بجد بيسدوا في وقت الشدة وأنا مقدرش أشوف ريتال محتجالي وأقف أتفرج عليها أنا متعودتش أخذل الناس اللي بيحبوني. كان تليد يتحدث بجدية ممتزجة بسخريته المعتادة وفي نهاية حديثه قام بدهس جروح صالح حينما لمح على كونه قد خذل ريتال من قبل حينما كانت في حاجة إليه، أبتلع صالح الغصة التي في حلقه قبل أن يقول:.
بغض النظر عن كلامك السخيف بس الحمدلله إنها جت على أد كده، قوليلي يا ريتال الجرح عميق؟ تحدث صالح بنبرة هادئة ومن ثم سألها عن جرحها بصوتٍ عالٍ ليضع تليد يده على فم صالح على الفور بينما يصيح:
ششش بس يخربيتك هتفضحنا! ما هي قاعدة زي القردة قدامك أهي، سوري يعني يا ريتال.
أنتوا خليتوا فيها سوري؟ بقولكوا أيه أنا هقوم أقعد مع نانسي وأنتوا ألعبوا مع بعض.
أردفت ريتال قبل أن تستقيم من مقعدها وصعوبة وتذهب إلى جلوس بجانب نانسي والتي حاولت جاهدة أن تعرف السبب الحقيقي وراء إختفاء ريتال لكن الأخيرة حاولت أن تكذب كذبات منطقية نسبيًا كي تقتنع نانسي.
مر ما تبقى من اليوم في سلام وإن كان زائف، لم يتسنى لمريم إخبار فؤاد بما حدث بجميع تفاصيله بل أكتفت بإخباره أن زوج زينة السابق حاول إرتكاب فعل شنيع وأنهم قاموا بإنقاذ ما يمكن إنقاذه دون أن تذكر أمر جرح ريتال والشجار الذي دار بين والدها وبين تليد، عادت ريتال إلى منزل جدها في ذلك اليوم وإن كانت مريم قد عرضت عليها أن تبقى عندها لليلة لكنها رفضت لعدة أسباب ومن أهمها أنها لن تقوى على ترك جدها بمفرده في الليلة الأولى لغياب والدتها للمرة الثانية في حياته.
ريتال متعمليش أي مجهود خالص وتلات أيام وهعدي عليكِ نروح للدكتورة نتطمن على الجرح. قالت مريم في نهاية الزفاف بينما يتوجه الجميع نحو السيارات.
حاضر متقلقيش أنا تمام.
بلاش تمثيل بقى أنا عارفة إنك تعبانة، عالعموم ياريت تقولي لمستر رضوان اللي حصل من غير تفاصيل بس علشان يبقى معانا عالخط.
لا طبعًا جدو لو عرف اللي حصل ممكن يروح فيها أنتِ بتهزري يا مريم؟
وتفتكري إنه لو شاف الجرح بالصدفة مش هيروح فيها؟ ده هيروح فيها وتيجي روحه بعدها تطلع عين أهلنا علشان خبينا عليه.
يا ستي بعد الشر عنه! صاحت ريتال في وجهها، قاطع المشهد صوت خطوات تليد الذي جاء ليودع ريتال قبل أن يعود إلى القاهرة مرة آخرى لكن هذه المرة لم يكن يعلم متى سيكون اللقاء التالي لهم.
خلاص هتمشي؟
الوقت اتأخر وماما مسافرة كمان يومين وكمان ياسين خد دور برد ومحتاج يرتاح.
توصلوا بالسلامة إن شاء الله بس، مينفعش تسافروا الصبح؟ هتسوق ازاي بليل كده؟
خايفة عليا؟ قصدي علينا؟
أكيد طبعًا خايفة عليك، عليكوا! عدلت ريتال من جملتها سريعًا ليبتسم تليد ابتسامة واسعة قبل أن تتلاشى وهو ينظر نحوها بجدية وقد لمعت عيناه قبل أن يقول بنبرة حنونة:.
أنا همشي دلوقتي بس أوعدك إن أنا هرجع تاني، هرجع وأنا حد ليه قيمة وراجل بجد، هرجعلك وقت ما أحس إن أنا أستحقك فعلًا، أنا عارف إن اللي بيحصل غلط ولازم يكون في بينا حدود وعارف إنك بتضايقي، أنا أسف لو في يوم زعلتك أو كنت سبب في دمعة من عينك.
أنا، مش عارفة أقولك أيه، تليد،.
ريتال أنا بحبك. غادرت الكلمات فمه دون إرادة منه، نبضات قلبها تسارعت وشعرت بملايين من تلك الكائنات ذات الأجنحة الملونة تغزو معدتها، كل ذرة في كيانها تصرخ بحبه، تود أن تصيح في وجهه وأمام الجميع أنها تبادله الشعور ذاته أو هكذا كانت تحسب حينها لكنها كبحت نفسها بصعوبة فلقد كانت تعلم مدى خطورة ذلك وأنه لا ينبغي عليها فعل ذلك.
في الواقع لم يكن تليد ينتظر أي ردٍ منها ولقد أدرك على الفور جرم ما أرتكبه لكنه لم يندم فلقد باح بما كتمه في صدره لأيامٍ كثيرة والآن أصبح بإمكانه الرحيل وقد اطمئن من أنها تعرف حقيقية مشاعره نحوها وقبل أن تُعلق على جملته كان قد أختفى من أمامها وقد دلف إلى داخل سيارته.
مالك واقفة كده ليه؟ صدر هذا السؤال من صالح الذي ظهر من اللامكان لتنتفض ريتال وتبسمل بصوتٍ منخفض قبل أن تقول:
أنا، بسلم على الناس، وكده يعني.
مالك بتترعشي ليه؟ بردانة؟ سأل صالح وقبل أن تُجيب ريتال قام بنزع معطف بذلته الرسمية ووضعه على كتفها لتبتسم هي ابتسامة مجاملة صغيرة دون أن تُدرك أن تليد قد رأى ما حدث للتو أثناء تحركه بواسطة السيارة.
شكرًا على الچاكيت بس أنا مش بردانة وعلى فكرة كل اللي حصل ده مش هيخليني أنسى الخناقة اللي حصل فوق وكلامك معايا. تمتم ريتال بضيق واضح وهي تُبعد المعطف عن كتفيها وتمنحه إياه قبل أن تبتعد عن بضع خطوات وتقف إلى جانب سائر المدعويين، حمحم صالح بحرج قبل أن يتنهد تنهيدة طويلة وهو ينظر إليها بحيرة.
في تلك الأثناء كان تليد يقود السيارة بقليل من الغيظ، هو على ثقة تامة من أن ريتال لم تعد تشعر بأي شيء نحو صالح فلقد كان ذلك واضحًا من نظرة عيناها ونبرتها لكن ذلك لم يُقلل من شعوره بالغيرة، كان ياسين يراقب لغة جسد تليد كالمعتاد قبل أن يباغته بالسؤال الآتي:.
تليد هو أنتَ قولت لريتال أيه قبل ما تركب؟ أزدرد تليد ما في فمه بصعوبة قبل أن يحمحم محاولًا إيجاد الرد المناسب ولحسن الحظ أن والدته كانت منشغلة في محادثة زوجها في الهاتف لذا استطاع تليد أن يُجيب عن سؤال ياسين دون كذب.
قولتلها، قولتلها إن أنا بحبها.
أنتَ بتستهبل يا تليد؟ هو مش أحنا اتفقنا،.
هخطبها يا ياسين خطبها، أخلص السنة دي وأدخل الجامعة وهنزل أشتغل وهروح أتقدملها. اندهش ياسين قليلًا من رد تليد الغير متوقع فلقد توقع أن يدافع عن نفسه فقط أو أن يحاول إيجاد أي مبررات لكن رده كان مفاجئًا بالنسبة له، فرغ ثغر المستمع للحظة قبل أن يقول:
ولو برضوا مش وقته ومش مكانه خالص، طنط زينة متفقة معاك على حاجة وأنتَ قولتلها إنك هتحط حدود لكلامك معاها وطالما اتفقت على حاجة خليك راجل وأد كلمتك.
والله عارف إن أنا غلطان وهحاول أصلح غلطتي، عالعموم أهم حاجة دلوقتي إن أنا وهي نركز في المذاكرة والأمتحانات ولو على صحتها أنا خدت رقم مريم دي هبقى اطمن عليها منها.
ماشي يا تليد لما نشوف. تمتم ياسين بحنق وقد عقد كلتا ذراعيه أمام صدره.
بالعودة إلى حيث تقف ريتال التي ذهبت لتسأل مريم بخصوص ما ستفعله حيال والدها والذي سيلاحظ الكل اختفاؤه فور عودتهم إلى المنزل بالقاهرة.
الزبون في العربية هخلص كلام معاه وبعدين هبقى أسربه بمعرفتي.
هتتفقي معاه على أيه؟
مش شغلك بقى يا ريتال أنا عارفة هتصرف معاه ازاي المهم أنتِ تخلي بالك من نفسك يلا روحي سلمي على مامتك وأتعاملي عادي.
قالت مريم وهي تدفعها في كتفها بخفة لتبتعد بعيدًا عن السيارة حتى لا تلمح والدها بالداخل، أومئت ريتال بقلة حيلة قبل أن تذهب لتوديع والدتها.
مامتي خلي بالك على نفسك وربنا يسعدك يا روح قلبي يارب، مش متخيلة يا ماما إن أنا أشوفك فرحانة خلاني مبسوطة ازاي؟ الحمدلله يا حبيبتي إن شوفت الابتسامة والضحكة اللي من القلب على وشك تاني.
أنتِ نور عيوني يا ريتال، بنتي وأختي وصحبتي وكل حاجة ليا في الدنيا دي، مش متخيلة إن أنا هقعد بالأيام مشوفكيش تاني هتوحشيني أوي.
يا مامتي هي كلها عشر أيام وهترجعوا بالسلامة إن شاء الله وبعدين أنتِ يا ماما أصلًا هتبقي مبسوطة وبتتفسحى مش هتفتكريني أصلًا. قالت ريتال ممازحة إياها وقبل أن تُعقب زينة على حديثها سبقها صوت فؤاد وهو يقول الآتي بمرح:
هنبدأها حسد وضغينة يا ريتال هانم؟ ليكِ عليا يا ستي أول لما تخلصي السنة دي بإذن الله هنسافر المكان اللي أنتِ عايزاه سواء برا مصر أو جوا.
إن شاء الله، تروحوا وترجعوا بالسلامة إن شاء الله يا حبايبي.
ودعتهم ريتال قبل أن تذهب لركوب السيارة مع جدها، في الأيام القليلة التالية كانت ريتال تقضيها برفقة جدها والذهاب إلى الدروس وكل بضع أيام كانت تزورها مريم لإصطحابها إلى الطبيب.
حينما عادت والدتها من شهر العسل ذهبت ريتال لزيارتها لكنها رفضت البقاء على الرغم من إصرار زينة الشديدة حيث أن ريتال رفضت ترك جدها بمفرده والذي بدوره كان يرفض الإنتقال إلى ?يلا د. فؤاد فهو لم يرى أي فائدة من ذلك فلقد كان يملك بيتًا خاص به فلما يقوم بإزعاج ابنته وزوجها؟ هكذا كان يفكر.
بصي يا ماما أنا بالعافية أقنعت جدو إننا نيجي كل أسبوع مثلًا نقضي يوم أو اتنين هنا وأنا زي ما أتفقت معاكي هعدي عليكِ كل يوم نقعد شوية بس أكتر من كده مش هقدر.
يا ريتال أنا استحملت عشر أيام بالعافية وأنتِ بعيد عني على أمل إني أرجع وتيجي تعيشي معانا هنا أنتِ وبابا جاية دلوقتي تقوليلي مش هقدر؟
زينة براحة شوية على البنت في أيه؟ وبعدين هي مضغوطة لوحدها من المذاكرة والدروس فخليها على راحتها.
دلوقتي بقيت أنا اللي بضغطها؟ طب خلاص تمام أوي يا فؤاد أنتَ وريتال. قالت والدتها بغيظ شديد وقد عقدت يديها أمام صدرها ليتنهد فؤاد وهو يبتسم ابتسامة صغيرة بينما يُشير إلى ريتال بعيناه أن تقوم بإرضاء والدتها، استقامت ريتال من جلستها لتذهب للجلوس إلى جانب والدتها وتتشبث في كتفها بينما تقول:.
يا مامتي يا حبيبتي، دروسي كلها أقرب من بيت جدو عن هنا وكمان ورقي والملازم وكل حاجة هناك وأنا خلاص خدت على بيت جدو ولو نقلت هنا دلوقتي حاسة إني هبقى مشتتة ومش مرتاحة وده آخر شعور أنا محتجاه دلوقتي أوعدك هخلص السنة اللي ما يعلم بيها إلا ربنا دي وهعملك اللي أنتِ عايزاه اتفقنا؟
أنتِ بتاكلي بعقلي حلاوة أنا عارفة بس هعمل نفسي مصدقة اللي بتقوليه.
يا سلام عالعقل والحكمة والتسامح يا ماما.
أومال أنتِ فاكرة أيه؟ زوزو مُبهرة. غمغم فؤاد وهو يطبع قبلة على وجنتها قبل أن يستأذنهم في الرحيل ليتابع أعماله في العيادة خاصته.
هحاول متأخرش ومتتعبيش نفسك في تجهيز عشاء يا زينة أنا هجيب أكل معايا وأنا جاي، ريتال مش محتاج أقول إن البيت بيتك تجولي فيه زي ما أنتِ عايزة والأوضة بتاعتك فوق شوفي لو ناقصها أي حاجة علشان نشتريها.
شكرًا يا عمو ربنا يخليك. تمتمت ريتال بإمتنان حقيقي، لقد حدثتها زينة في أنها يمكنها مناداته ب بابا إن كانت ترغب في ذلك لكن ريتال لم تشعر بأنها قادرة على فعل ذلك بعد.
ريتال موبايلك بيرن، رقم غريب.
طب عيب كده يا ماما نبص في تليفونات الناس مش قولتلك مية مرة كده عيب؟ عقبت ريتال بسخرية شديدة وهي تسحب الهاتف من يد والدتها لتُجيب عن المكالمة وهي تتجه نحو الخارج حيث الحديقة الخلفية للمنزل.
ألو، مين معايا؟
ريتال أنا صالح، ممكن متقفليش أبوس إيدك؟ أنا محتاج أتكلم معاكِ ضروري، دماغي هتنفجر من كتر التفكير وحاسس قلبي هيقف من الزعل،.
خير يا صالح؟ أيه اللي حصل؟ عطر وعمو بخير وتيته ولا في أيه؟ وأيه الرقم ده؟
أنا وسارة سيبنا بعض. مزيج من المشاعر عصفت بقلب ريتال في تلك اللحظة.
لم تدرِ ماذا عليها أن تقول وبما تُعلق؟ لقد كانت تظن في السابق أنها قد تسعد كثيرًا بحدوث أمر كهذا لكن الآن هي لا تدرِ أي شعور يراودها لكن بكل تأكيد هي ليست سعيدة، ربما شعرت بالإنتصار لأن نظرتها نحو تلك الشمطاء كانت صحيحة لكن في الوقت ذاته هي لا تشعر بالسعادة بالمعنى الحقيقي فلقد محت تمامًا من رأسها فكرة أن تجمعها علاقة عاطفية بصالح...
أنتِ سمعاني؟
سمعاك بس، مش عارفة أقولك أيه،.
متقوليش حاجة، أكيد أنتِ شايفاني غبي ومغفل وساذج كمان، كله قالي من الأول إنها طماعة ومش كويسة بس أنا نشفت دماغي وصممت، تحدث صالح بنبرة منكسرة وقد توقعت ريتال أنه كان يبكي أو كان يبكي قبل أن يهاتفها فلقد كانت هناك بحة مميزة في صوته، حمحمت هي ولا هي تعرف ما الرد المناسب لكنها في النهاية قالت:
أهدى بس، أكيد طبعًا أنا مش بفكر كده.
متكدبيش عليا، أنا فعلًا كنت ساذج، بابا كان عنده حق لما قال إنها طمعانة فيا هي وأهلها ومش كده وبس دي عايزة يبقى ليها صحاب ولاد وكل حاجة بقولها معترضة عليها، هي عايزاني صورة جنبها مش حبيب وراجل في حياتها.
طب هو، يعني أيه اللي حصل وخلاك توصل للمرحلة دي؟
أنا كنت بحاول أستحمل وأعدي حاجات كتير علشان بحبها في حين إنها مكنش عندها إستعداد تتحمل ولو حاجة واحدة بس علشاني، أكتشفت إن معندهاش ذرة رضا ودايمًا عينها على رزق اللي في إيد غيرها، شوفت صاحبتي جالها شبكة بكام شوفت بنت خالتي هتسكن فين، شوفت خطيب بنت عمتي جابلها عربية ازاي، تعبت وقرفت من كتر المقارنة!
بصق صالح كلماته بحنق شديد ولقد كان الغضب يفوح من حديثه، أغمضت ريتال عيناها وهي تستمع إلى صراخه قبل أن تعقب عن حديثه بسؤال آخر:
مش أنتَ كنت معرفها ظروفك من الأول؟
كانت عارفة وموافقة بس اللي أكتشفته إنها كانت موافقة علشان عارفة إني هورث بس بصراحة اللي جاب الناهية بينا هو عطر.
عطر؟
سألت ريتال وعلى الفور قام عقلها بإسترجاع الموقف الذي رأته بين عطر وتلك الحمقاء يوم حفل الخطبة وكيف أن ريتال قامت بتهديدها من أجل الدفاع عن عطر، لكن هل يا تُرى عطر قد أخبرت صالح بما حدث؟ على الفور جاءتها إجابة سؤالها وكانت كالآتي:.
عطر حكتلي على كل حاجة وإنك اتخانقتي مع سارة علشانها وبجد شكرًا إنك عملتي كده، أكيد كان نفسي إنك أنتِ اللي تحكيلي حاجة زي كده بس أنا عارف إن أنا وقتها مكنتش هسمع وكنت هفتكر إنها غيرة بنات مش أكتر.
غيرة بنات؟ وأنا هغير عليك ليه يا صالح؟ كنت خطيبي ولا جوزي؟ سألته بإستنكار وبسخرية واضحة وهي تضحك فهي لن تسمح له برؤية بقايا تلك المشاعر الدفينة ولن تدعه يُفكر في أنها مازالت ترغب في وجوده بالقرب منها بصورة عاطفية.
ما علينا، المهم أنا أكتشفت إنها عايزة تبعدني خالص عن عطر وفي نفس الوقت حاطة عينها على ورثها في ماما، بإختصار هي إنسانة بشعة ومكفهاش كل ده لا دي لما عرفت إني عايز أفسخ الخطوبة رفضت ترجعلي الشبكة بتاعتي.
يا خبر أبيض! دي حرامية كمان!
مش فارق معاها إن الشبكة دي جبتها بتعبي وشقايا، ربنا يسامحها بس أنا مش مسامح في حقي، بابا عرف وبهدل الدنيا وقالي أنه هيحل الموضوع بطريقته وربنا يستر،.
ضربك؟ انزلق السؤال من فم ريتال دون أن تُدرك، قضمت على شفتيها بإستياء وكادت أن تعتذر منه لولا أن أجاب بنبرة ساخرة تنم عن مرارة شديدة:
وده سؤال يعني بذمتك؟ عجني طبعًا.
أنا أسفة السؤال كان وقح شوية، إن شاء الله كل حاجة هتتحل متقلقش أهم حاجة تركز على مذاكرتك علشان تتخرج بقى وتاخد بالك على عطر هي ملهاش حد غيرك.
حاضر، شكرًا.
على أيه؟ أنا معملتش حاجة.
شكرًا إنك سمعتيني، أنا كنت محتاج حد يسمعني من غير ما يقطمني أو يسمعني كلمتين في جنابي، أنا طولت عليكِ ولازم أقفل وربنا يوفقك في المذاكرة والأمتحانات.
شكرًا ويوفقك يارب.
هكذا أنهت ريتال المكالمة بعد أن قامت بتوصيته بأن يُرسل سلامها إلا الجميع فيما عدا والدها بالطبع والتي لم تسمع أي خبر بشأنه منذ ما حدث في ذلك اليوم لكنها كانت قد توقعت، مؤكد أنه وجد حجة ما تُبرر وجود كل تلك الكدمات والجروح في وجهه وبدنه وبالتأكيد لم تقتنع زوجته وأفتعلت شجار كبير ولربما انتهى به الحال يضربها كما كان يفعل ما والدتها في السابق ولقد كان توقع ريتال هو أقرب ما يكون للذي حدث بالفعل.
بضع أشهر من الإنغماس مرت ببطء حيث كانت ريتال داخل ثنايا الكتب والمُذكرات تحاول أنقاذ ما يمكن إنقاذه، تحاول تحصيل كل ما يمكنها تحصيله من معلومات في كافة المواد الدراسية، عشرات من أوراق الامتحانات مُلقاة في كل مكان وبالتأكيد هي لم تستطع الإجابة عن كل ذلك لكن وجود تلك النسخ معها جعلها تشعر بالأمان بطريقة أو بآخرى.
أسابيع وأشهر من الإنعزال التام عن رفاقها القدامى وعن عائلة أبيها حتى أنها بالكاد هاتفت نانسي مرة أو اثنتين خلال تلك المدة أما عن صالح فهي لم تتحدث إليه منذ تلك المرة الأخيرة لكنه كان يهاتف والدتها كثيرًا ليطمئن على صحتها النفسية والجسدية وكذلك كيف تسير أمور الثانوية العامة معها.
أما عن تليد فلم تعلم عنه شيء بتاتًا فلقد كان كلاهما مستغرقًا في البحث عن مستقبله والذي كان له الأهمية الآن أكثر من أي شيء آخر بالإضافة إلا أن ريتال لم تعد تشعر بالراحة من قربها الزائد بتليد دون وجود سبب واضح أو شيء حقيقي بينهم فالأمر الآن ليس سوى غراميات بين اثنين في سن المراهقة وهو أمر لا تود ريتال أن تنغمس فيه أكثر من ذلك، قاطع تفكيرها صوت زينة التي جاءت لزيارة بيت والدها وهي تُعلن الآتي:.
ريتال أحنا هيكون عندنا جلسة إن شاء الله قبل الإمتحانات على طول.
بس يا ماما الساعتين اللي هيروحوا في الجلسة وساعة في الطريق دول أنا أولى بيهم أنا لسه في حاجات كتير لازم أذاكرها وأراجع عليها. أبدت ريتال إعتراضها بوضوح وبنبرة هجومية لتتنهد زينة تنهيدة طويلة قبل أن تحاول إقناعها بهدوء مُردفة:.
حبيبتي اللي ساعتين ولا التلاتة اللي بتتكلمي عليهم دول هيحددوا حاجات كتير، الوقت ده مش بيضيع في الفاضي هي هتساعدك تركزي وتحاولي تبقي أهدى وتريحي أعصابك شوية وده هينعكس عليكِ الفترة الجاية خلي بالك الإمتحانات هتقعد حوالي شهر مش أسبوع مثلًا.
أنتِ كده يا ماما بتطمنيني يعني؟
بقولك أيه أنا بتناقش ليه أصلًا؟ أنا خلاص أصلًا حجزت ميعاد الجلسة ومتقلقيش مش هيبقى عندك مراجعة اليوم ده. قالت زينة بنفاذ صبر لكن هذه المرة لم تستطع ريتال الأعتراض فلقد نفذت طاقتها في الجدال.
بالفعل نفذت ريتال ما قالته والدتها وذهبت إلى جلستين قبل بدء الإختبارات النهائية، لقد ساعدتها تلك الجلسات نسبيًا على التحسين من حالتها النفسية وتقليل التوتر على الأقل لفترة لكن كلما أقترب موعد الإختبار الأول شعرت بمعدتها تتقلص وآلم الرأس يتضاعف بشكل ملحوظ وبالطبع لم تحظى بنومٍ هادئ قط فلقد كانت الكوابيس تُنغص عليها ليلها ونومتها، في مرة ترى في نومها أنها قد فوتت موعد الإختبار والتي تليها ترى أنها قد نسيت كل شيء والثالثة ترى أنها قد نسيت كتابة بياناتها ولقد أختلطت الأوراق وإلخ...
مر الإختبار الأول بخير والذي يليله والذي يليه حتى حان موعد اختبار الفيزياء والتي كانت تخشاها وتمقطها ريتال أكثر من أي شيء وكما كانت تخاف وتتوقع ريتال لم يكن الإختبار جيد على الإطلاق وبمجرد أن غادرت مقر لجنة الإمتحانات ركضت نحو زينة في الخارج.
أيه الأخبار؟ أنتِ كويسة؟
الإمتحان كان وحش أوي يا ماما بجد، خايفة حلمي يضيع، نبست ريتال من وسط دموعها لتضمها زينة بقوة وتُمسد على رأسها بحنان بينما تحاول طمئنتها قائلة الآتي بصوتٍ حاولت أن تجعله ثابتًا قدر الإمكان:.
يا حبيبتي فداكِ أي حاجة متزعليش نفسك، في داهية ألف امتحان، أهدي بس وإن شاء الله خير يلا نروح. لم يؤثر حديث زينة عليها قط فلقد تابعت البكاء حتى وصولهم إلى منزل زينة وفؤاد، رفضت ريتال تناول الطعام وصعدت إلى حجرتها التي قام فؤاد بتجهيزها من أجلها لتحدى بقيلولة لعل ذلك يُخفف من حزنها وخيبتها قليلًا.
في ذلك الوقت كان تليد يمر بوضع شبيه لكنه في الواقع لم يكن في حالة هلع مثلها بل كان يشعر بالضيق لا أكثر وفي داخلها كانت هناك رغبة شديدة في مهاتفتها والإطمئنان عليها لكنه أراد الإلتزام بوعوده هذه المرة لذا انتظر أن يرى أي منشور أو حالة منها على أيًا من مواقع التواصل الإجتماعي لعل ذلك يطمئن قلبه.
استيقظت ريتال في السابعة والنصف مساءًا، كانت زينة منشغلة في تحضير وجبة العشاء وكان ذلك أفضل بالنسبة إلى ريتال فلا طاقة لها للحديث، ذهبت للجلوس في الحديقة الخلفية للمنزل حيث كانت فريدة تلهو مع الداداة خاصتها أو المُربية بمعنى أصح والتي كانت كبيرة في العم وكانت تعتني بفريدة وتساعد في الأعمال المنزلية كذلك.
قاطع هدوء جلسة ريتال وبكاءها الصامت صوت زوج والدتها الذي وقف أمامها بقامته المهيبة وقال الآتي بنبرة أبٍ حنون:
ممكن أقعد معاكي شوية؟
أكيد بس أنا، حقيقي مش قادرة أتكلم في حاجة والله. قالت بصوتٍ مبحوح من فرط البكاء، ربت فؤاد على يدها بلطف قبل أن يقول:
أنا عارف صدقيني ومش عايزك تتكلمي عايزك بس تسمعيني خمس دقائق بس ممكن؟
أكيد أتفضل.
طبعًا أنتِ العياط ده كله والزعل علشان خايفة المادة دي تنقصك كتير ومتلحقيش طب أو أسنان مش كده؟ أومئت ريتال بإنكسار وبأعين دامعة ليبتسم فؤاد ابتسامة صغيرة وهو يمنحها منديلًا ورقيًا قبل أن يقول:
على فكرة أنا لسه عند كلامي لو عايزة تدخلي جامعة خاصة أي كلية نفسك فيها أنا معنديش أي مشكلة نهائي بس أنا عارف إنك مش حابة ده.
أيوا أنا عايزة أدخل كلية بمجموعي أنا ومش حابة إن حضرتك وماما تدفعوا مبالغ ضخمة كل سنة علشاني، لم تكن ريتال ترغب في ضغطهم من الناحية المادية وحتى وإن كان فؤاد مقتدرًا فهي ترغب في الدراسة في جامعة حكومية كما أنها لم تستطع تجاوز الحاجز الذي بينها وبين زوج والدتها فيما يخص الأمور المادية بالتحديد.
طيب حيث كده بقى نتكلم عن الكليات ومجموعك، أيه اللي هيجرا مثلًا لو مجموعك مجبش طب؟ طب كلية حلوة أكيد وحلم ناس كتير لكن في كليات تانية حلوة جدًا ودراستها ممتعة أكتر منها كمان، وبعدين أيه يضمنلك أصلًا إنك لما تدخلي طب هتحبيها أو تنجحي فيها؟
معرفش بس، ده حلمي من سنين وحضرتك دكتور أهو وشاطر ما شاء الله ومبسوط.
صح بس مش كل اللي دخلوا طب كانوا مبسوطين أو نجحوا، في ناس تفوقت وناس اتشهرت بس في ناس منجحتش وفي ناس ندمت إنها دخلت الكلية دي من الأساس وفي اللي عمل Career shifting تغير مجال العمل بعد سنين الدراسة والتعب دي كلها.
وضح لها ولقد كان محقًا فالعديد من الأطباء والمهندسين وغيرهم من المجالات قاموا بتغير مجال العمل والدراسة تغيرًا كاملًا بعد مرور سنوات ولقد أصبحوا أكثر سعادة بعد ذلك، تنهدت ريتال تنهيدة طويلة وهي تعبث في أصابعها قبل أن تقول الآتي بقلة حيلة أمتزجت بالحيرة:
بس أنا لو مدخلتش طب بشري هدخل أيه؟ أنا مش عايزة حاجة تانية أصلًا،.
بصي يا ريتال يا حبيبتي أنتِ ممكن تكوني نفسك في الطب بنسبة 30? مثلًا لكن صدقيني ال 70? الباقيين دول من تأثير المجتمع والصورة اللي هو حاطتها لكليات القمة علشان تبقي شاطرة وناجحة يعني لو علمي علوم لازم طب، علمي رياضة لازم هندسة أدبي يبقى لازم إقتصاد وعلوم سياسية أو ألسن لكن صدقيني في كليات تانية كتير كويسة ودراستها ممتعة وممكن تبقي ناجحة فيها أكتر من دول بكتير.
زي أيه طيب؟ سألت ريتال بإهتمام حقيقي وإن كانت نبرتها مشوبة بقليل من الحزن لأنه يتوجب عليها التفكير في خطط آخرى غير خطتها الأساسية وهو الشيء الذي لم تعتاده هي كثيرًا فهي دائمًا ما كانت تعتمد الخطة (أ) وإن فشلت فإنها تضيع داخل دوامة من الإكتئاب لكن الآن بات عليها أن تضع خطة (ب، ت، ث، ج، إلخ).
عندك مثلًا كلية الطب البيطري دراستها ممتعة جدًا وقوية خاصة لو أنتِ بتحبي الحيوانات في العموم وهتدرسي تشريح وميكروبيولوجي وأمراض وجراحة كمان، ولو بتحبي البحث العلمي والمعلومات التقيلة الجامدة وواقفة المعامل عندك كلية العلوم. بدأت ريتال تنتبه له أكثر بكثير وقد ظهر ذلك من خلال لغة جسدها حيث أعتدلت في جلستها وقد لمعت عيناها، ابتسم فؤاد قبل أن يتابع حديثه قائلًا:.
وكمان لو عايزة حاجة قريبة شوية للطب وبرضوا دراستها شديدة مش سهلة عندك كلية تمريض المناهج بتاعتهم أتطورت جدًا وبقت روعة وطبعًا لو بتحبي النبات والزرع بكل أنواعه وتحبي تعرفي كل حاجة عن الحشرات أرشحلك كلية الزراعة، كلية عريقة وبقى ليها مستقبل كبير وشهرة واسعة في الوقت الحالي.
حضرتك حمستني أوي، ممكن تكمل؟
من عيوني يا آنسة ريتال، بصي يا ستي أي كلية هتدخليها لو ذاكرتي أول بأول ممكن يجيلك تعيين وتبقي أستاذة في الجامعة ودي مرتبة علمية كبيرة جدًا، ده غير في كليات أدبية عظيمة واللي دراستها ممتعة اللي ممكن تكون مفتوحة قدامك والقائمة تطول يعني وبما إنك ليكي في الرسم في عندنا فنون جميلة وفنون تطبيقية كمان.
حضرتك عندك حق،.
بصي يا ريتو يا حبيبتي من الآخر النجاح والفشل في الحياة ملوش علاقة بالكلية اللي بتدخليها لكن ليها علاقة بشخصك أنتِ وهتعملي وتحققي أيه وأنا واثق إن أي كلية هتدخليها هتبقى ناجحة ومتفوقة فيها بإذن الله، أنا عارف إن أنتِ ليكِ حلم وإنك شايفة إن هو الحاجة الوحيدة اللي هتخليكِ سعيدة وإن الكلية دي الوحيدة اللي هيبقى ليكِ مكانة بيها لكن صدقيني ده مش حقيقي، أنتِ تقدري تنجحي وتحققي ذاتك في أي مكان علشان القيمة الحقيقية بتكمن فيكِ وفي شخصك مش في كلية معينة.
كان يتحدث بحنان شديد أمتزج بنصائح أبوية تنبع من حب ومعزة حقيقية، لوهلة نسيت ريتال أنه ليس أبيها البيولوجي ولقد تمنت لو كان كذلك لكن على أي حال لم يكن الأب والأم هم من يقوموا بالإنجاب بل من يقوموا بالتربية والدعم وإظهار الحب، ابتسمت ريتال ابتسامة واسعة وقد دمعت عيناها رغمًا عنها قبل أن تشكره مُردفة الآتي بإمتنان شديد:.
شكرًا بجد على كلام حضرتك ووقتك مش عارفة كانت حالتي هتبقى ازاي لو مكنتش سمعت الكلام ده شكرًا يا، شكرًا يا بابا.
صدرت لفظة بابا من ريتال دون أن تنتبه لكن في الوقت ذاته لقد كانت تعنيها، ففي تلك الأشهر القليلة الماضية رأت منه كل معاني الأبوة بالصورة المعنوية وحتى المادية ولقد استطاع أن يكتسب ذلك اللقب بمعاملته اللطيفة واهتمامه بها كما يفعل تمامًا مع طفلته فريدة والتي اتخذتها ريتال كشقيقة لها وقد رأت في ذلك تعويضًا ولو قليل عن غياب شقيقها الصغير يوسف.
مرت الأيام التي تلي تلك المحادثة سريعًا فلقد كان حديث فؤاد معها مُشجعًا ومطمئنًا لها وبمثابة إعادة شحن لطاقتها، غادرت ريتال لجنة الإختبارات بحماس غير معتاد وحينما لمحت طيف والدتها هرولت نحوها لتضمها في عناق قوي بينما تقول الآتي بسعادة حقيقية لم تختبرها منذ مدة طويلة:
وأخيرًا خلصت، الحمدلله.
تحبي نتغدى برا النهاردة؟
لا لا، أنا مش عايزة أي حاجة، عايزة بس أرجع على شقة جدو النهاردة أنام براحتي ومحدش يصحيني ولا أسمع صوت منبه ولا أشوف ولا ألمح المدرسين تاني في حياتي وأخلص من الكوابيس والبانك أتاك اللي كانت بتجيلي بسبب السنة دي.
خلاص يا حبيبتي اللي يريحك بس أصلًا جدك كان ناوي يقضي يومين عندنا فممكن تقعدي معاه وبعدها تيجوا مع بعض.
اتفقنا يا مامتي.
قالت ريتال وهي تضم والدتها بلطف وفي طريقها نحو السيارة لتعود إلى منزل جدها بواسطة السيارة التي قامت زينة بطلبها، بمجرد أن جلست ريتال داخل السيارة أمسكت بهاتفتها بسعادة شديدة والآن قد عادت حريتها مرة آخرى، لن تبكي من تراكم المذاكرة والدروس، لن تضطر إلى حذف جميع التطبيقات وإغلاق هاتفها معظم الوقت، الآن سيتثنى لها اللعب واللهو كما تشاء ومشاهدة كل ما فاتها من أفلام ومسلسلات أو هكذا كانت تخطط قبل أن تصلها تلك الرسالة على أحدى تطبيقات التواصل الإجتماعي من شخص مجهول...
طبعًا أنتِ صدقتي إن تليد بيحبك بجد وإنه ناوي ياخد خطوات رسمي زي ما كان بيوهمك، طب هو اللي بيحب حد بيخبي عليه إنه هيسافر برا مصر خمس سنين علشان يدرس؟
تلاشت ابتسامة ريتال على الفور حينما قرأت تلك الكلمات المكتوبة داخل الرسالة المشؤومة، لقد حسبت في البداية أن تليد يراسلها من رقمٍ آخر على سبيل الدعابة لكن الآن أدركت أن الوضع ليس مضحكًا قط...