قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية وصال مقطوع للكاتبة إيمان عادل الفصل الحادي والخمسون

رواية وصال مقطوع للكاتبة إيمان عادل الفصل الحادي والخمسون

رواية وصال مقطوع للكاتبة إيمان عادل الفصل الحادي والخمسون

لم ينوي صالح التدخل وقطع تلك المحادثة بل أراد مراقبة ردة فعل نانسي الصادقة النابعة من داخلها دون أن يعكر وجوده صفو فكرها المشتت بينه وبين ذلك الشاب الوغد ذو الطلة البهية الذي أوقع نانسي بحبه، ذلك الذي حطم قلبها في السابق - تمامًا كما فعل هو مع ريتال - لكن الفارق الوحيد أن ذلك الأدهم كان أكثر جرأة منه ولم يدع تردده يتمكن منه حتى يرى حبيبته تقع في حب آخر غيره وحتى الآن وللمرة الثانية ترك صالح خوفه من المجهول وما سيحدث بالتحكم فيه ومنعه من أن يخطو ليُخرب ذلك المشهد ويجذب نانسي من يدها مُعلنًا رفضه التام لأن يظفر بها شخصًا غيره ولم يكن يعلم هل كان ذلك لأنه لم يقع في حبها بعمق كريتال أم لأنه ببساطة شخص جبان، إنهزامي لا يقوى على سلب مُبتغاه من بين أذرع الدنيا بل كعادته يقف منزوي على نفسه في أحد الأركان يراقب من يريدها قلبه أو عقله وربما كلاهما في صحبة غيره.

أنا فعلًا وحش وأستاهل ضرب الجزم علشان اللي عملته وحقك إنك ترفضيني ومتسامحنيش أنا هبقى متفهم جدًا لرد فعلك، ولو في حد تاني دخل حياتك برضوا حقك،.

أنا مفيش حد في حياتي أنا اللي في حياتكوا، مركونة عالرف لحد ما تقرروا أنتوا عايزين أيه، عارف أنتَ وهو شبه بعض جدًا حتى بإختلاف الظروف وكل حاجة بس المرة دي بقى يا أدهم أنا مش هحارب علشان حاجة أو علشان حد أنتوا اللي هتحاربوا علشاني.

بصقت كلماتها قبل أن تسير مبتعدة عنه وفي طريقها لمحت صالح الذي كان مختبيء ولو وهلة كذبت نانسي عيناها قبل أن تقرر أنه لا يهم سواء إن كان صالح أو شخص يُشبهه في النهاية لقد قالت ما أرادت قوله وقد سمعه كلاهما والآن ما باتت هي تكترث بشيء سواها هي؛ نانسي فقط هي كل ما يهم الآن فلقد قضت سنوات تمنح الإهتمام لمن لا يستحق ولو ذرة منه.

في ذلك الوقت كانت ريتال قد جلست إلى جانب فريدة داخل منزلها هي وياسين وبالتحديد أعلى الفراش داخل الحجرة الرئيسية حيث كانت ريتال تساعدها في ترتيب ثيابها الجديدة داخل خزانتها هي وياسين أو بمعنى أدق خزانة فريدة والرف الصغير خاصة ياسين.

أنا حاسة إني أنانية أوي في العلاقة دي يا فريدة دايمًا باخد بس مش بقدم لتليد أي حاجة في المقابل. طالعتها فريدة لدهشة لثوانٍ وهي تحاول إستيعاب ما تقوله ريتال وما الذي قادها إلى تلك المحادثة فجأة قبل أن تُعقب فريدة على حديثها قائلة الآتي في محاولة منها لطمأنتها:
أنا شايفة إن ده الطبيعي بصراحة، هو الراجل هو اللي لازم يتعب ويفضل يقدم في حاجات علشان ينول الرضا.

مش بتكلم عن جو إن الراجل بطبعه صياد وهو اللي يجري وراكي ويزحف على رموشة والجو ده، أنا بتكلم في العلاقة بعد ما بينا اتنين في حياة بعض وداخلين على جواز، علقت ريتال على حديث فريدة لتُطالعها الأخيرة بحيرة قبل أن تتابع ريتال حديثها موضحة مقصدها.

تليد دايمًا بيدعمني، بيفاجئني، بيجبلي الحاجة قبل ما أبقى مدركة إن نفسي فيها، أصر عليا على الرغم من إني واثقة إن أهله كانوا معترضين لكن لو بصيتي للموضوع من ناحيتي أنا هتلاقي إني مقدمتش ليه أي حاجة ده أنا حتى مش ببل ريقه بكلمة حلوة.

مش عارفة يا ريتال، حاسة إنك مكبرة الموضوع بصراحة، أنا شايفة إنك بتحبيه وده كفاية.

لا، الحب أفعال مش بس كلام، ده حتى الكلام مش بقوله، أنا لازم أثبت لتليد إني فعلًا بحبه لازم أوريله غلاوته عندي، لازم أهتم بيه أكتر، أنا كنت غرقانة جوا مشاكلي وحياتي للدرجة اللي خليتني عامية عنه لكن ده مينفعش، قالت ريتال قبل أن تشيح بوجهها عن فريدة وتُطالع مياه البحر الصافية من خلال الشرفة قبل أن تستطرد قائلة:.

تليد كان جنبي في أضعف لحظاتي، حضر أسوء نسخة مني، شافني في وقت محدش كان شايفني فيه، حس بيا وحبني لما كنت فاكرة إني متحبش، وعارفة المبهر في ده كله أيه؟ إنه عمره ما استنى مني أي حاجة في المقابل كل اللي كان بيتمناه إني أكون جنبه؛ جنبه وبس.

هيحصل وقريب جدًا، هي بس مسألة وقت وإن شاء الله هتتجمعوا مع بعض ومفيش أي حاجة تانية في الدنيا هتقدر تفرقكوا وساعتها بقى يا ستي أبقي عوضيه عن كل المرمطة اللي شافها منك من ثانوي ولحد النهاردة.

يارب يا فريدة يارب، عارفة في حاجة كمان شاغلة تفكيري جامد، بعد ما تتجوزوا بفترة مش كبيرة هتبقى حفلة التخرج بتاعت تليد وطبعًا هتكون برا ومش هعرف أكون معاه للأسف،.

أهي دي حاجة تزعل فعلًا، معلش التكنولوجيا مسابتش حاجة كلميه فيديو كول وقتها وكأنك معاه ولم يرجع بالسلامة ياستي نبقى نحتفل بيه هنا وسطينا. أومئت ريتال بضيق شديد قبل أن تحاول إلهاء نفسها عن التفكير بالأمر عن طريق إكمال ما تفعله من ترتيب لثياب وأغراض فريدة.

بإقتراب موعد زفاف فريدة وياسين كانت ريتال تستعد للزفاف ولإستقبال تليد وعودته كذلك، تستعد نفسيًا للإلقاء مع تذكير نفسها كل بضع ثوانٍ من أنه لن يطول كثيرًا لأنه سيتوجب عليه العودة مرة آخرى لكن لا بأس فبعد بضع أشهر - قد تزيد المدة قليلًا - سيحين موعد اللقاء الذي لا نية في فراق بعده حيث سيجتمع القلبان في منزل واحد برباط مقدس.

وقفت ريتال على أبواب ساحة المطار الخارجية، يلفحها الهواء من كل الجهات لذا جذبت ثيابها أكثر لتحظى بحماية من تلك الرياح، وقفت إلى جانبها فريدة بينما جلس ياسين على الكرسي يتحدث في الهاتف من حين لآخر ليتأكد من إتمام جميع اللمسات الأخيرة فيما يخص منزله هو وفريدة مما جعل ريتال تشعر بالمزيد من الذنب فلقد رفضت الأخيرة حضور أيًا منهم معها لإستقبال تليد فكلاهما منهمك في تجهيزات الزفاف الذي تبقى على موعده أيام معدودة ويتوجب عليهم إما الحصول على قسط من الراحة أو على الأقل التواجد في عش الزوجية خاصتهم للتأكد من أن كل شيء تم تجهيزه لكن عوضًا عن ذلك كانوا بجانبها في المطار الدولي لإستقبال تليد.

الطيارة اتأخرت. تمتمت ريتال بعد أن تنهدت تنهيدة طويلة لتُربت فريدة على كتفها بحنان في محاولة منها لطمئنتها.

متقلقيش زمانه على وصول إن شاء الله. حاول ياسين طمأنتها ظنًا منه أن توترها قد وصل إلى قمته ولربما سقط منهارة أمامهم الآن لكنها فعلت العكس تمامًا! وقف ثابتة تبتسم ابتسامة صغيرة قبل أن تقول الآتي بنبرة حالمة وكأنها في عالمٍ غير العالم.

عارفة، عمره ما اتأخر عليا، بس أنا دائمًا كنت بتأخر عليه.

مش فاهم حاجة. علق ياسين ببلاهة لتقوم فريدة بنكزه بخفة قبل أن تقول:
مش لازم أنتَ تفهم أنا فاهمة هي قصدها أيه.

بمجرد ظهور تليد في المكان لمعت أعين ريتال وقد زينها دمعة سعادة للقاء حبيبها وفي تلك اللحظة تمنت لو أن والدتها قد وافقت على مقترح عقد القران قبل الزفاف حتى يتسنى لها أن تعانقه في لحظة كتلك لكن لسوء الحظ لم توافق والدتها وعلى ما يبدو أن فؤاد لم يقتنع كثيرًا كذلك.

حمدلله عالسلامة.

كان هذا آخر ما تذكره ريتال فمنذ تلك اللحظة وتوالت الأحداث بسرعة شديدة، من ترتيبات الزفاف إلى حفل الحناء إلى صباح يوم حفل الزفاف حيث وقفت ريتال داخل الجناح الكبير لتستعد إلى جوار فريدة، كانت تلك الأيام من النوادر حيث كانت ريتال تشعر بسعادة حقيقية حتى وإن كانت الدموع قد خالطتها في بعض الحيان فلا بأس فتلك لم تكن سوى دموع الفرحة كما يقولون.

لقد تحقق الحلم فريدة تُزف إلى ياسين وعلى الجانبين وقف ريتال وتليد ليشهدوا على تلك القصة التي كان كلاهما جزء لا يتجزأ منها، كالعادة تناسقت ألوان ثوب ريتال مع بذلة تليد وبالطبع لم يتوقف هو عن مغازلتها من بداية اليوم وحتى نهايته.

كانت ريتال تتحرك بحركات كثيرة، جسدها يتناغم مع الموسيقى وقد أصابتها عدوى السعادة في المكان، إنها بجانب عائلتها وترى شقيقتها وصديقتها المقربة بين أحضان الشخص الذي وقع اختيار قلبها وعقلها عليه ولقد كانت ريتال تُشكل عامل هام في وجود تلك العلاقة ولم يكن ذلك فقط ما يُسعدها بل وجود تليد إلى جانبها وفرحته الحقيقية بصديق عمره، لقد كان كل شيء غاية في الجمال كان ذلك قبل أن يصدح في المكان أحدى الأغاني التي تتحدث عن الأب وابنته، شعرت ريتال بغصة في حلقها دون إرادتها وهي تستمتع إلى الكلمات بينما تشاهد والد فريدة وهو يضمها بين ذراعيه والدموع تنساب من عيناه كأي أب طبيعي في مثل هذه اللحظة وهنا أدركت ريتال أنها لن تعيش لحظة كتلك قط...

وللأسف الشديد لم يكن السبب في ذلك هو وفاة والدها بل حتى وإن كان على قيد الحياة لم يكن ليضمها بمثل هذا الحب وما كانت لتدمع عيناه خشية فراق ابنته الصغيرة التي لم تعد كذلك بل أصبحت عروسًا تُزف إلى من اختاره فؤادها وعقلها، غلفت الدموع عيناها وتسارعت نبضات قلبها قبل أن تشعر بصعوبة في التنفس، نظرت حولها لتتأكد من أن لا أحد منتبه لها قبل أن تسير بخطوات سريعة نحو الخارج فما عادت تُطيق جدران ذلك المكان التي تضغط على قفصها الصدري مانعة إياها من التنفس.

غادرت القاعة لتجلس بالساحة الخارجية ظنًا منها أن أحدًا لم يلحظ غيابها ولكن بمجرد جلوسها على أحظ المقاعد وجدت تليد يهرول نحو ليجثو أمامها على ركبتيه وهو يسألها بقلق حقيقي:
ريتال أنتِ كويسة؟ أيه اللي حصل؟ حد ضايقك؟ حد قالك حاجة؟

مفيش حاجة أنا، أنا كويسة، قالت من وسط دموعها لكنه لم يقتنع بالطبع فلقد كان عيناه ممتلئة بالدموع ويديها ترتجف بينما كانت تعض على شفتها السفلى بإضطراب واضح.

كويسة ازاي بس؟ سألها تليد بإستنكار واضح وقبل أن تُجيب عنه أدرك تليد الأمر، كلمات تلك الأغنية التي كان صوتها مازال يصل إلى مسامعهم في الخارج هو من تسبب في هذا الإنهيار، لم يجد تليد ما يقوله أو يفعله غير أنه سحب يد ريتال ليضعها بين كفيه قبل أن يقول بتأثر شديد:
أنا أسف يا حبيبتي، أسف على كل حاجة مريتي بيها، أسف عالوجع اللي أنتِ حاسة بيه، أوعدك إني هعوضك عن كل ده،.

طول ما أحنا عايشين هنفضل نتوجع يا تليد، وكل وجع جديد بيفتح جروح قديمة،.

بس المرة دي مش هتبقي لوحدك يا ريتال، خلاص محدش فينا هيبقى مضطر يواجه حاجة لوحده هنقسم كل حاجة علينا أحنا الإتنين، الفرح والضحك والتفكير والتوتر والوجع والحزن، كل حاجة هتبقى مقسومة بيني أنا وأنتِ ووقتها الفرح هيتضاعف والحزن هيقل النص.

تحدث تليد بجدية تامة مصدقًا لكل كلمة نطق بها، نظر نحوها محاولًا طمأنة إياها لتُطالعه بأعين دامعة وبنظرات ممتنة، ساد الصمت لبرهة كان يعلم تليد جيدًا أن تلك اللحظات كانت قاتلة بالنسبة إلى ريتال فصمتها يعني أنها تفكر والتفكير الزائد ليس إلا لعنة، فرغ ثغر ريتال وكأنها تنوي التحدث ولكن على ما يبدو أن الكلمات قد غادرتها قبل أن تقول أخيرًا:.

كان نفسي تشوفني زمان يا تليد، كان نفسي تشوف ريتال قبل ما اللي حصل يشوهها ويكسر نفسها ويخليها خايفة، كان في نسخة من ريتال بس مبقتش موجودة.

تحدثت ريتال عن نسختها الأصغر بضمير الغائب وكأنها لا تنتمي لها، لم تعد هي ولم يعد يجمعهن شيء غير الاسم لكن تلك الريتال ذات الملابس المدرسية والإبتسامة الحالمة ومشاعر المراهقة لم يعد لها أي أثر وكأنها لم تكن يومًا، استمع لها تليد حتى النهاية تاركًا إياها تعبر عن تلك الكلمات التي حبست داخل قلبها لأيام وأشهر بل ومنذ سنوات قبل أن يُعقب على حديثها قائلًا الآتي بكل حب ودعم:.

بس أنا عايز أقول شكرًا لكل حاجة خلتك زي ما أنتِ كده، أنا كنت موجود من بدري ممكن مكنتش بالقرب الكافي في البداية لكن حضرت جزء لا بأس به يعني. أعتدلت ريتال في جلستها ومالت نحوه قليلًا وكأنها تستمع إليه بكل جوارحها بل وبكامل جسدها، لمعت عيناها وهي تستمع لحياتها من وجهة نظره هو، من منطلق المشاهد المشارك في الأحداث لا بطل الحكاية.

كل حاجة حصلت غيرت فيكي حاجة صح، اتكسرتي كتير واتجرحتي كتير لكن ده طبيعي، تعرفي الماس علشان يبقى الماس اللي بنشوفه وبيتدفع فيه أرقام خيالية أتعرض لضغة وحرارة وتكسير وصِقل واتمرمط حرفيًا علشان يظهر جماله الحقيقي وقيمته الحقيقية العالية دي، أهو أنتِ نفس الفكرة بقى، كل حاجة حصلت من دول خليتك الشخص اللي أنتِ عليه دلوقتي، ناجحة وقوية ومُبهرة وأهم حاجة شخصية حنينة بتهتم باللي حواليها ومشاعرهم مش أنانية وحقودة.

أنتَ بجد شايفني كده يا تليد؟ سألت ريتال بأعين دامعة أمتزجت بإبتسامة صغيرة، ود تليد لو يكفكف دموعها عنها لكنه لم يستطع في الوقت الحالي لكن بداخله قد اتخذ عهد على نفسه ألا يُبكيها قط بل وألا يسمحه لأي شخص أو شيء بإحزانها.

وأكتر من كده كمان، مفيش كلمات تقدر تعبر أنا بحبك أد أيه وشايفك ازاي، ريتال بقولك أيه ما تيجي نتجوز؟ صدرت جملته بجدية تامة جعلت ريتال تُدرك مدى الإرهاق البدني والذهني الذي تعرض له في الفترة الأخيرة والذي كان نتيجته أن يتفوه بمثل هذه الحماقة لتنظر هي نحوه بصمت لثوانٍ محاولة إستيعاب ما قاله قبل أن تعلق ساخرة:.

لا يا شيخ؟ اقتراح جديد تصدق مخطرش على بالي نهائي، أومال الدبل اللي في إيدينا دي تبقى أيه؟ تليد أنتَ الدخان بتاع Show التورتة خلى دماغك تهنج؟

بعيدًا عن خفة الدم أنا بتكلم جد، نكتب الكتاب قبل ما أسافر المرة دي.

ما أنتَ عارف إن ماما مش موافقة، بيخافوا يحصل مشاكل وبدل ما يبقى فسخ خطوبة يبقى طلاق وتبقى أتحسبت جوازة وبعدين أمتى بس يا تليد ده كلها يومين تلاتة وترجع.

بعد الشر! ده مستحيل يحصل بينا طبعًا إن شاء الله، أنا بس كل فكرتي إن أحنا مش بنتكلم براحتنا ولما بنزل اجازة مبنقدرش نخرج زي ما أحنا عايزين وطبعًا أنا عارف إن ده الصح وهما أهلك وعندهم حق يخافوا عليكي لكن لو أحنا كاتبين الكتاب هنبقى بنروح ونيجي براحتنا مع مراعاة الأصول طبعًا والاتفاق اللي بينا، وبالنسبة لأن الوقت ضيق ملكيش دعوة بالقصة دي.

أكد تليد في نهاية حديثه حسن نيته كي لا تُسيء ريتال فهمه، ابتسمت هي في خجل وأشاحت بوجهها بعيدًا عنه بعد أن وصلها مقصده من الحديث، لم تكن تمانع بالطبع مقترحه لكنها تعلم أنها حتى وإن قامت بإقناع والدها فإن إقناع والدتها هو شيء شبه مستحيل كون زينة تعاني من مشاكل في الثقة نابعة عن تجربتها السيئة ويأبى عقلها الفصل بين زوجها السابق وبين سائر الرجال - فيما عدا فؤاد -.

هتكلم مع ماما، هقنعها توافق.

وأنا كمان هكلم دكتور فؤاد تاني، مش هرجع لندن غير وأنتِ مراتي يا ريتال، ده وعد مني. قال تليد بجدية تامة وهو يُمسك بيدها، طالعت عيناه بحثًا عن الطمأنينة والدفء وكالعادة وجدت كليهما بل وأكثر من ذلك...

والله؟ يعني سايبنا جوا لوحدنا وقاعدين بتحبوا في بعض هنا؟ قاطع لحظتهم الرومانسية تلك صوت فريدة التي غادرت قاعة الزفاف ووقفت أمامهم وقد عقدت ذراعيها بإمتعاض واضح.

أيه الجنان ده يا فريدة أنتِ سيبتي الفرح في نصه؟ فين ياسين؟ سأل تليد وقبل أن تُجيب عنه فريدة كان ياسين قد ظهر بالفعل حيث كان يهرول نحو الخارج بتيه قبل أن يقف ليلتقط أنفاسه بعد أن وجد ضالته.

فريدة! سايباني وطالعة تجري من القاعة الناس تقول عليكِ أيه؟ هربتي؟ مجبرة عالجوازة؟

يا حبيبي هربت أيه بس ده أحنا كتبنا الكتاب خلاص يعني أتدبسنا للأبد! عقبت فريدة على ما قاله زوجها العزيز بسخرية شديدة ليزيدهم تليد من الشعر بيت مُردفًا بإستهزاء:
هو حرفيًا يا ياسين أنتَ اللي مجبر،.

هو أنتوا بجد سايبني في القاعة لوحدي؟ صاحت نانسي بغيظ شديد وهي تحمل ذيل ثوبها بصعوبة كي لا تتعثر ليقلب تليد عيناه بتملل قبل أن يقول ساخرًا:
بعد إذن المغامرون الخمسة ممكن نرجع القاعة بقى علشان هي كده فضيت بجد وهيطلعوا يشتمونا كلنا في أي لحظة.

أهو المخبر بتاعنا جيه، قوموا بينا يلا. تمتم تليد وهو يُمسك بيد ريتال مساعدًا إياها على النهوض.

مر ما تبقى من الزفاف سريعًا، كانت ريتال تجلس داخل سيارة العروس بالأمام إلى جانب تليد بينما جلست فريدة إلى جانب ياسين بالخلف، توقفت السيارة أسفل منزلهم لتتوقف جميع السيارات حتى يقوموا بتوديع العروسين.

عقبال ما أوصلكوا بيتكوا كده إن شاء الله. قال ياسين وهو يُربت على كتف تليد بإمتنان حقيقي.

يارب بقى يارب ده الواحد اتخنق يا راجل، المهم يلا إتكل على الله بقى أنتَ وعروستك، إنچوي.
قال تليد وهو يغادر السيارة ليقف برفقة العائلة بالأسفل حتى يتأكدوا من صعود العروسين وفعل ذلك التصرف الكليشية وهو التلويح لهم من الأعلى.

عقبالنا.

قريب إن شاء الله بس محدش يجي يوصلنا بقى علشان مبحبش الجو ده. قالت ريتال وهي تضحك بخجل ليُطالعها تليد بإبتسامة خبيثة قبل أن يعقب:
ولا أنا هي مش طالبة صداع فعلًا وبعدين إن شاء الله هنطلع من الفرح على المطار على طول هنسيب لهم البلد كلها ونهرب.

فكرة حلوة عامة موافقة، تليد هو لو ماما وبابا وافقوا ياسين وفريدة هيعرفوا يجوا كتب الكتاب؟ دول عرسان جداد أكيد مش هيجوا.

ياستي يوافقوا بس وأنا هجيبهم لحد عندك وبعدين أنا أجلت ميعاد سفري كام يوم يعني معانا أسبوع أهو وكده كده ياسين قالي مش هيسافروا الإسبوع ده هو واخد اجازة جواز من الشغل 21 يوم فمش هيسافر أول كام يوم فيهم.

هتكلم معاهم بكرة إن شاء الله، أوعدك إني هقنعهم. تمتمت ريتال مطمئنة إياه وإن كانت تخشى بداخلها رفض والدتها لكنها عزمت على تنفيذ هذا القرار ولن تتراجع عنه، أما بالنسبة إلى تليد فلقد كان يريد الإقدام على تلك الخطوة من أجل الأسباب التي ذكرها لريتال في السابق ولكن السبب الأهم الذي لم يذكره هو أنه يخشى فقدانها، يخشى حدوث شيء فتنتهي الأمور بكلمة واحدة وفي حدث سخيف، لقد أعتاد على غير المعتاد في علاقته بريتال منذ تعارفهمها وهو يخشى الفراق أكثر من أي شيء فلا قدرة له على احتمال الحياة بدون ريتال.

مر اليوم التالي للزفاف بهدوء شديد، كانت ريتال تشعر بقدر كبير من القلق فهي لا تدري كيف تبدأ هذا الحديث مع والديها دون أن يتحول الأمر إلى شجار كالمعتاد، قضت أغلب اليوم برفقة أخيها الصغير وكذلك فريدة الصغيرة فور عودتها من منزل خالتها وفي مساء ذلك اليوم وحينما قررت البحث عن والديها للتحدث إليهما كانا هما يتحدثون في أمر آخر بدورهم داخل حجرتهم.

زينة،.

أنا موافقة أبدأ علاج نفسي يا فؤاد.

طالعها بدهشة شديدة ولم تكن تلك الدهشة فقط لأنه لم يكن يتوقع منها تقبل الأمر بهذه البساطة بل لأنها علمت أنه ينوي أن يُفاتحها في ذلك الأمر ولقد قامت بجعل الأمر أكثر سهولة بالنسبة إليه وأزاحت الحرج عنه.

أنا كنت،.

أنا عارفة، سمعتك وأنتَ بتكلم ريتال وعارفة من قبلها كمان، في يوم موبايلي كان فاصل وأنتَ أديتني موبايلك وأنا بدور على حاجة ظهرلي إنك كنت بتدور على عيادات وبتشوف أماكن مختصة بالأسر وبال Couples.

فُوجئ فؤاد بما قالته هي، ولم يستطح كبح نفسه من لوم ذاته على عدم حذف نتائج البحث خاصته فهو لم يريد بالطبع أن تعلم ما في نيته بهذه الطريقة، فرك كفيه معًا بقليل من التوتر قبل أن يقول الآتي بنبرة لا تخلو من تأنيب الضمير ممزوجًا بالحزن.

أتمنى متكونيش أتضايقتي، أنا بعمل كل ده علشانك، علشانا وعلشان ولادنا.

أنا عارفة، أنا معرفتش أكون زوجة كويسة والأسوء إني معرفتش أكون أم أصلًا! تحدثت زينة بآلم شديد ينم عن وعي وإدراك بالجرم الذي أرتكبته في حق ريتال، لم يرغب فؤاد في مقاطعتها كي تبوح بكل ما في داخلها كما أنه يعلم أن لا شيء مما سيقوله سيغير من نظرتها لذا تركها تتابع حديثها:.

كل اللي أعرفه عن الأم إنها بتلبي احتياجات ولادها الأساسية من أكل وشرب ولبس ومذاكرة وده مش دوري الجوهري أساسًا! أنا دوري في حياتهم أكبر وأعمق من كده بكتير، أنا دمرت حياة ريتال قبل كده ونفسي أصلح أي حاجة بعلاقتي بيها وفي نفس الوقت مش عايزة أكرر نفس التجربة مع فريدة وإياد،.

عين العقل يا حبيبتي، أنا فخور بيكي فوق ما تتخيلي، مفيش كلام يقدر يوصف أنا مبسوط ازاي دلوقتي بالكلام ده. قال فؤاد وهو يضمها في عناق قوي قبل أن يطبع قبلة حنونة على جبينها.

قاطع تلك اللحظة الرومانسية إقتحام ريتال للمكان دون أن تطرق الباب ولم تنتظر أن يدعوها فؤاد للجلوس حيث قامت بإزاحة بعضًا من الثياب الموضوعة على الأريكة المقابلة للفراش وجلست عليها ببساطة شديدة.

أيه يا حبيبتي في ديناصور برا ولا في أيه خلاكي تقتحمي المكان كده من ما تخبطي؟ سألتها زينة بسخرية لتبتسم ريتال بتوتر قبل أن تُجيب قائلة:
عايزة أتكلم معاكي، معاكوا، عايزة أتكلم معاكوا في موضوع مهم.

أكيد يا حبيبتي قولي ولو عايزة تحكي لماما بس أنا ممكن استنى برا.

لا طبعًا يا بابا ده موضوع أنتوا الإتنين لازم تكونوا موافقين عليه، طيب خليني ابدأ الكلام بسؤال للأول، ممكن أعرف أنتوا ليه معارضين إن أنا وتليد نكتب الكتاب قبل الفرح؟ أمتعض وجه زينة حينما ذكرت ريتال ذلك الأمر وفي غضون ثوانٍ كانت قد نسيت تمامًا ما قالته لفؤاد قبل قليل عن رغبتها في تحسين علاقتها بريتال ورغبتها في أن تصبح أم داعمة وأكثر تفهمًا.

أنا قولت كده برضوا، لعب في دماغك صح؟

هو بابا لما بيقترح عليكي حاجة ولا بيعرض عليكي فكرة يبقى كده بيلعب في دماغك؟ كان سؤال ريتال ماكرًا، رفعت زينة أحدى حاجبيها بإستنكار شديد قبل أن تُعقب بإنفعال لم يكن هناك أي داعي له مُردفة:
بس فؤاد يبقى جوزي مش واحد من الشارع!

وتليد ده هيبقى جوزي يا ماما هو كمان مش واحد من الشارع، لمرة واحدة في حياتك سيبيني أعمل اللي أنا عايزاه يا ماما ولو غلطت فأنا لوحدي اللي هتحمل نتيجة غلطتي.

في غلطات بتكلفك عمرك كله يا ريتال.

يا ماما أنا مش أنتِ، تليد مش عبدالرحمن دي مش حياتك السابقة أنتِ ليه مش عايزة تفهميني؟ ليه كل مرة لازم أقول الكلام ده بصوت عالي وأجرح نفسي وأجرحك؟ قالت ريتال بإنفعال شديد لكن دون أن تبكي هذه المرة فلقد سئمت البكاء والنحيب وحان وقت النقاش العقلاني.

بصي يا ريتال مامتك خايفة علشان أحيانًا بيحصل خلفات قبل الفرح بأيام بعد الشر عنك يعني ولو كاتبين الكتاب بتتحسب عليكي جوازة لكن ده مش معناه إن زينة مش واثقة في تليد أو شايفاه شخص مش كويس لأن لو دي الحقيقة مش هنوافق إنك تتجوزيه أصلًا سواء دلوقتي أو بعد عشر سنين. فسر فؤاد الأمر بهدوء في حين أن زينة أخذت تُطالع كليهما بإستياء واضح، تنهد ريتال تنهيدة طويلة قبل أن تقول:.

أنا فاهمة يا بابا بس أنا نفسي يبقى ليا حرية الإختيار في حاجة مرة.

طيب يا ريتال خليني أتناقش مع مامتك في الموضوع ده ونتكلم تاني الصبح إن شاء الله.

غادرت ريتال الحجرة بضيق شديد، لم تكن تعلم ريتال هل كانت والدتها ترفض الكثير من الأشياء من فرط خوفها أن تقع ابنتها في الحفر ذاتها أم أنها كانت ترفض رؤيتها سعيدة لأنها لم تكن كذلك...
أبعدت ريتال الإحتمال الثاني سريعًا عن رأسها فهي لن تقدر على التفكير في والدتها على هذا النحو حتى وإن كانت تلك الرؤية منطقية لبعض الأسباب...

على فكرة يا فؤاد ريتال بتستغل تجربتها السيئة علشان تستعطفنا علشان ننفذ اللي في بالها واللي مش كل مرة هيكون صح! ولو فضلت عالوضع ده فعمرنا ما هنقدر نقولها لا على أي حاجة لأن أي إعتراض مننا هتاخد هي الرد بتاع أنا يتيمة وأبويا كان قاسي وحياتي وحشة وكأننا عايزين نأذيها وفي الحقيقة أنا مش عايزة حاجة في الدنيا دي غير مصلحتها!

وضحت زينة وجهة نظرها وعلى الرغم من تحفظ فؤاد على بعض ما قالته زينة إلا أنه كان متفهمًا لوجهة نظرها، لقد حاول فؤاد منذ ظهوره في حياة زينة وريتال أن يحقق كل ما تتمناه أيًا منهن ولربما يكون قد بالغ قليلًا للدرجة التي جعلت ريتال تنقلب ضد والدتها وينتقل الشجار من العالم المحيط بريتال إلى داخل دائرتها المقربة.

طيب أهدي وخلينا نفكر، كده كده الموضوع اللي ريتال أتكلمت فيه ده محتاج تفكير وبرضوا نعرض الموضوع على والدك ونشوف رأيه أيه، ماشي ريتال بتضغط علينا في بعض الأوقات بس ده مش معناه إن اللي هي اتعرضتله سهل، البنت عاشت سنين بيتفرض عليها أحداث وأوضاع غصب عنها فمش غريب أبدًا إنها تصاب بداء العناد وتحاول تكسر القواعد وتبني قواعد خاصة بيها هي وتاخد قرارات صح من وجهة نظرها.

يا فؤاد أنا فاهمة بس مش عايزاها تستعجل، قول عني أنانية قول عني أم وحشة بس أنا مش عايزاها تتجوز وتسيبني أنا ملحقتش أعيش معاها في ظروف كويسة وهادية غير آخر فترة ومن بعد ظهورك في حياتنا يقوم يجي هو يسرقها مني في غمضة عين كده. باحت زينة بما كانت تكتمه في صدرها وقد هربت منها دمعة على حين غرة، تنهد فؤاد تنهيدة صغيرة وهو يُربت على يدها قبل أن يقول بإبتسامة صغيرة:.

أخيرًا يا زينة بقيتي تقولي اللي جواكي بشكل واضح وصريح؟ شعورك طبيعي جدًا ولو إنه في جزء أناني مش هننكر بس ده مش علشان أنتِ أم وحشة لا بالعكس ده أي أم وأب بيحسوا بشوية غيرة صغيرين كده لما ولادهم بيجوا بيتجوزا ويحسوا إن في طرف جديد اقتحم حياتهم وهيبقى ليه أكبر جزء بعد كده ومش الأم والأب بس لا أنا لما جيت أجوز الهانم المحامية المشهورة أختي كنت حاسس بنفس الحاجة.

طمأنها فؤاد موضحًا لها الأمور بنبرته الحنونة التي لا تخلو من التفاهم لتنظر إليه زينة بعيون دامعة وهي تسأله بلهفة:
يعني أنا مش وحشة؟

أنتِ عمرك ما كنتي وحشة يا زينة لكن لازم تفهمي حاجة، مش معنى إن الشعور ده منطقي وطبيعي إنك تستسلمي ليه وتحاول تعطلي حاجات، بصي أنا شايف إننا محتاجين نفكر في موضوع كتب الكتاب ده بهدوء ونشوف أيه أحسن حاجة تتعمل لو حسينا أننا خلاص موافقين يبقى عالبركة لو حسينا أننا رافضين يبقى لازم نتكلم مع البنت بهدوء ونوضحلها وجهة نظرنا بوضوح علشان تقتنع ومتفتكرش أننا بنعند معاها والسلام.

ماشي يا حبيبي اللي تشوفه.

في صباح اليوم التالي استيقظت ريتال باكرًا وبدلت ثيابها سريعًا ذاهبة إلى منزل جدها بعد أن تركت رسالة لوالديها تخبرهم بمغادرتها بالمنزل كي لا يصيبهم القلق، كانت ريتال ترغب في عرض الأمر برمته على جدها فهي لم تتحدث معه بشأن عقد قرانها هي وتليد قبل الزفاف وفي الواقع لم تكن تتوقع ردة فعل جدها بشأن هذا الأمر.

صباح الخير يا أحلى جدو في الدنيا. قالت ريتال بعد أن دلفت إلى داخل المنزل بواسطة المفتاح خاصتها فهي لم تريد إزعاج جدها، كان جدها يجلس على الأريكة المقابلة للشرفة مرتديًا نظاراته الطبية يتأمل الصور الفوتوغرافية الخاصة بزفاف فريدة بينما أغرورقت عيناه بالدموع.

أهلًا أهل؟ يا حبيبة جدو. قال مرحبًا بها لتقترب هي منه وتُقبل يده أولًا قبل أن تنظر نحوه بقلق شديد بينما تُردف:
مالك يا جدو أنتَ بتعيط؟ أيه اللي حصل بس؟

مفيش يا حبيبتي، فريدة أختك وحشتني أوي وأنتِ كمان هتوحشيني أوي لما تتجوزي، أنا طبعًا الكون مش سايعني من الفرحة إن ربنا أداني العمر علشان أشوف كل واحدة فيكوا واقفة على رجلها وناجحة وجنبها راجل بيحبها وبيخاف عليها بس كل الفكرة إن قلبي واجعني من بُعدها وإن كلها كام شهر وأنتِ كمان هتحصليها، والبيت اللي كان دافي بصوت ضحككوا وهزاركوا وكلامكوا الحنين هترجع حيطانه باردة من تاني،.

قال جدها من وسط دموعه التي انهمرت بسرعة كسرعة مرور عمره؛ تمامًا كلمح البصر هذا ما كان يجول في خاطره قبل أن تقترب منه حفيدته عزيزة قلبه لتُكفكف دموعه بيدها بينما تقول:
أنا هبقى بزورك طول الوقت يا جدو ده وعد مني وبعدها إن شاء الله هجيبلك نونة كده تقعد تلعب معاها وتتلهي بيها.

ربنا يديني العمر يا حبيبتي لحد ما أشيل ولادك أنتِ وفريدة وباقي أحفادي حبايبي كمان، المهم قوليلي أنتِ كنتِ عايزاني في حاجة؟

لازم أبقى عايزة حاجة يعني؟ مينفعش أكون بتطمن على جدو حبيبي عادي لازم مصلحة؟ راوغت ريتال وهي تحاول أن تُخفي ابتسامتها ليُطالعها جدها بنظرة ذات مغزى فهو يستطيع قراءة أعين من أمامه وخاصة ريتال التي حفظ كل تفاصيلها منذ أول أيام لهم معًا حينما خطت قدمها الإسكندرية لأول مرة لمقابلة جدها.

يا بنت بطلي لماضة أنا شايف في عينك إن في حاجة شغلاكي وعايزة تقوليها.

فاهمني أنتَ يا جدو حتى من غير ما أنطق، أيوا في حاجة، تليد، كان عايزنا نكتب الكتاب قبل ما يرجع يسافر المرة دي. عرضت ريتال الأمر عليه وأخذت تبحث في وجهه عن ردة فعل أو تعقيب على حديثها لكن لا شيء، لقد كانت تعابير وجه جدها هاظئة فقط تنم عن تفكير عميق.

وأنتِ موافقة طبعًا ومش محتاج أخمن إن زينة رفضت رفض تام علشان كده جيتي هنا.

سواء ماما كانت وافقت أو رفضت أنا كنت هرجع ليك يا جدو في الموضوع لكن تخمينك صح في إنها رفضت بالتلاتة، لسه مش قادرة تطمن لتليد وبتعاقبني بذنب تجربتها السيئة اللي مكانتش ذنبي أنا من الأساس.

لا يا ريتال أنتِ كده بتظلمي والدتك وبتقسي عليها، هي ساعات اه بتتصرف غلط لكن المرة دي هي خايفة عليكي فعلًا وحقها.

يعني حضرتك رافض برضوا يا جدو؟

أنا لسه مقولتش رأيي في الموضوع ولكن مش فاهم الغرض منه، الولد على طول مسافر يعني ولا في خروج ولا هو داخل وخارج من بيتكوا علشان نبقى عايزين نحجم الموضوع ولما بتتقابلوا برا بيبقى حد مننا معاكوا وقت ما بينزل اجازة والكلام في التليفون ما بيبقى قدمنا برضوا فأيه الحكمة؟

كان حديث جدها مقنع ولا بأس به لكن ريتال كانت تشعر أن تلك الخطوة ستجعلها أقرب من تليد، ستزيد من طمأنينة قلبها بأن الأمر جاد وعلى بعد خطوة أو اثنتين من التحول إلى واقع ورفض عائلتها لتلك الفكرة جعلها تتشبث بها أكثر بصورة لا إرادية حتى وإن كان حديثهم يحمل نقاط منطقية!

أحنا خايفين حاجة تبعدنا عن بعض يا جدو، خايفين أهلي أو أهله يعندوا والموضوع كله يبوظ، حضرتك شايف حياتي متلغبطة ازاي وكل فترة يحصل كارثة تلغبط كل حاجة وأنا لو حصل، لو حصل حاجة، تبعدني عنه أنا قلبي مش هيستحمل يا جدو وبجد هموت فيها، كانت ريتال تنطق بتلك الكلمات بصعوبة بالغة وكأن هناك ألف خنجر يطعن قلبها، لقد كان فراق تليد هو أسوء من أسوء كوابيسها وعلى الرغم من إيمانها التام بأنها لن تستطيع أن تعاند القدر لكنها تريد أن تشعر بالأمان قدر المستطاع.

أنا عارف كل ده ومقدر وألف بعد الشر عنك يا حبيبتي بس الموضوع برضوا محتاج تفكير منطقي ونركن العاطفة على جنب شوية، أديني فرصة يومين أفكر وأرد عليكي وأنتي في اليومين دول عايزك تصلي صلاة استخارة وتقللي كلام مع تليد قدر الإمكان علشان تعرفي تفكري صح ماشي يا نور عين جدو؟

حاضر يا حبيبي.

قررت ريتال قضاء تلك الليلة في منزل جدها بعيدًا عن والديها لكي تسمح لنفسها ولهم بالتفكير بهدوء، هاتفها تليد متحدثًا إليها بلهفة في انتظار سماع كلمات الموافقة التي تمنى سماعها منذ أشهر لكن ريتال أخبرته بأن الأمر ما يزال قيد التفكير والمراجعة قبل أن تُصدر والدتها الفرمان.

لم يكن تليد مستاءًا من الانتظار لكنه كان يخشى إنقضاء الوقت واضطراره للعودة إلى الخارج، لم يكن ينوي إقامة حفل كبير على أي حال فلقد كان ينوي الإكتفاء بالأقربون مع وجود أعمدة إنارة وتوزيع الحلوى على الجيران والمعارف بغرض الإشهار أما عن الحفل الكبير فسيكون بعد المدة المحددة لإقامة زفاف كبير يليق بحبيبته.

في صباح اليوم التالي استيقظت ريتال على عدة أصوات صادرة من الخارج ولوهلة شعرت بالتيه وكأنها غير مدركة أين تكون لكن سرعان ما تذكرت أنها جاءت للمبيت في منزل جدها لكن صوت والديها في الخارج هو ما أصابها بالحيرة، سارت ريتال بخطوات خفيفة نحو باب حجرتها الموصد وقبل أن تقوم بفتحه جاءها صوت النقاش الذي احتد بين جدها ووالدتها في الخارج.

أنا مش فاهم برضوا يا زينة أنتِ إعتراضك في الأساس على فكرة كتب الكتاب قبل الفرح ولا معترضة عالولد نفسه ولا معترضة إن ريتال تتجوز ولا مشكلتك فين!

معنديش مشكلة يا بابا أعملوا اللي أنتوا عايزينه كلكه وأولع أنا بقى.

هو أنتِ مش هتكبري وتعقلي أبدًا؟ مفيش فايدة خالص يعني؟ بنتك كبرت وبقت على وش جواز وأنتِ اللي فيكي فيكي برضوا؟ وبخها والدها بإستياء شديد فهو لم يرغب في النطق بتلك الكلمات الجارحة أمام زوجها لكنها كانت تثير أعصابه للدرجة التي تجعله يقول ما يتبادر إلى ذهنه دون تفكير.

يا بابا أنا خايفة عليها وبعدين نفترض إن،.

زينة حبيبتي ممكن بلاش فرضيات سيئة؟ ولو يا ستي بعد الشر حصل حاجة واختلفوا وانفصلوا ما اللي هيتجوزها بعدين ده هيبقى بني آدم بيفهم وعنده مخ وهيبقى عارف إن كان مكتوب كتابها بس من غير ما تروح بيت الزوجية يعني كل الفكرة إنه كأنهم لسه مخطوبين لكن بيتكلموا وبينزلوا في إطار شرعي وبحدود واضحة.

وأنتَ تضمن منين إنك تلاقي حد بالتفكير ده؟ سألت زينة غير سامحة لنفسها بالتفكير فيما قاله فؤاد ولو لثانية وقبل أن يُجيب عن سؤالها بهدوء سبقه صوت ريتال التي توجهت نحو الخارج قائلة:
زي ما حضرتك لاقيتي بابا فؤاد كده يا ماما.

طالعتها زينة بصمت وإن كان الإعتراض باديًا على تعبيرات وجهها إلا أنها لم تستطع أن تجادل أكثر من ذلك فإن فعلت أسأت إلى فؤاد عن غير عمد كما أن هناك جزء صغير بداخلها كان يعلم أن تليد شاب صالح لكن الصدمة التي تعرضت لها شوهت نظرتها للكثير من الأشياء كالحب والإخلاص بالعلاقات بشكلٍ عام لا الرومانسية فقط.

لو دي حاجة هتبسطك يا ريتال أكيد مفيش مانع بس محتاجين تليد يجي نتفق معاه ونحط شروط لكل حاجة معاه وسعرف الحدود اللي لازم يلزمها ويتحدد ميعاد نهائي للفرح علشان مش هنكتب الكتاب ونسيب الفرح لأجل غير مسمى ده طبعًا بعد ما نتأكد إنه مبلغ أهله وإن محدش فيهم ممانع إن القصة دي كلها تتم، ده رأيي في الموضوع وده كله طبعًا بعد إذنك يا حمايا. وضح فؤاد وجهة نظره ووضع شروطه بصفته والد ريتال لكنه في ختام حديثه ترك القرار النهائي لجد ريتال كونه كبير العائلة والأكثر حكمة بينهم.

صفقت ريتال بيديها بحماس شديد قبل أن تهرول نحو حجرتها بسعادة لتهاتف تليد وتخبره بآخر المستجدات، لم يمر بضع ثوانٍ قبل أن يُجيب على الهاتف قائلًا بإندفاع:
حصل أيه؟ اتخانقوا معاكي ولا أيه؟

وافقوا يا تليد وافقوا!

أنا هلبس وجايلك حالًا! أردف تليد بسعادة غامرة وهو يغادر فراشه ويصطدم بكل شيء من حوله من فرط الحماس لكن أوقفه عما كان ينوي فعله صوت ريتال مُردفة الآتي من وسط ضحكاتها الحنونة:
تيجي فين بس يا مجنون؟

أيه مش قولنا هنكتب الكتاب؟

مش النهاردة طبعًا! بس مفيش مانع تيجي يعني تتعشى معانا النهاردة وتتفق مع جدو وبابا.

أخبرته ريتال قبل أن تنهي المكالمة وتعانق الهاتف، لقد أصبحت على بعد خطوة واحدة من تحقيق حلمها، أيامًا قليلة وستصبح زوجة تليد بشكل رسمي ولن يُصبح مجرد فتى شقي في نفس صفها الدارسي بل حبيبًا لقلبها وشريكًا لأيامها الباقية...

في ذلك الوقت لم يشغل بال ريتال شيء سوى سعادتها هي وتليد، لم تفكر في كم الإنتقادات التي قد تتعرض لها من باقي أفراد العائلة أو حتى عائلة تليد، لم يمر صالح على بالها قط وكيف لأمر كهذا أن يُدمر ما تبقى منه وبالطبع لم تكن لتكترث بأي مشاعر غيرة قد تصاب بها نانسي ولم يكن ليؤثر فيها أي تعليقات سخيفة غير منطقية كأنها تحاول أن تُطفئ فرحة فريدة وياسين وسرقة زهو فرحتهم.

وزواجهم حديثًا، للمرة الأولى لم يكن هناك شيء يدور في ذهنها غير سعادتها هي؛ فقط هي.

بعد مرور ما يقرب من الأربعة أشهر كان تليد يجلس داخل غرفته يستعد لحفل التخرج خاصته، كان قد أنهى مكالمته هو وريتال للتو وذهب لتبديل ثيابه وفي تلك اللحظات كان كل ما يشغل عقله وقلبه هو مدى وحدته، إنه هنا وحده بلا حبيبته، بلا عائلته وبلا أصدقاءه إنه وحيد تمامًا لا يوجد من يشاركه سعادته وفرحته بوصوله إلى نهاية هذا الطريق الذي لم يكن يسيرًا على الإطلاق فمنذ سفره وهو لم يحظى بالراحة بل كان يدرس ويعمل طيلة الوقت ولم يتردد للحظة في زيادة عدد المواد الدراسية بقدر المستطاع فقط ليُنهي دراسته بأسرع ما يمكن.

أرتدى تليد بذلة رمادية داكنة لتبرز لون عيناه وقميص باللون الأبيض وبالطبع لم ينسى معطف ثقيل لبرودة الطقس في الليل وكذلك روب التخرج والقبعة المميزة خاصته، قام برش الكثير من عطره المُفضل والذي ابتاعته ريتال من أجله في عيدميلاده الماضي قبل أن يتجه نحو الخارج ليتفقد أصدقاؤه.

وقف تليد يتأمل هيئته أمام المرآة قبل أن يلتقط بضع صور ليقوم بإرسالها إلى ريتال وأسرته، حاول أن يهاتفها بالصوت والصورة كي تراه قبل أن ينطلق لكنها لم تُجيب، ألقى بهاتفه على الفراش بإحباط شديد قبل أن يُعدل من هيئته للمرة الأخيرة ويسحب أغراضه متجهًا نحو الخارج وبداخله شعر بالضيق الشديد وبأنه تعرض للخذلان كون ريتال لم تهتم به اليوم كما توقع أن تفعل.

بقولك أيه يا إيميل ممكن تصورني فيديو أبعته لخطيبتي؟ طلب تليد من صديقه المصري الذي رحب بالفكرة على الفور فلا شيء يسعده أكثر من دعم عصفورين من الكناريا.

هالو يا ريتو وحشتيني كالعادة، أنا قولت أصورلك فيديو تقييمي الأوت فيت بتاعي لحفلة التخرج، كان نفسي أوي تكوني معايا بس تتعوض في الماستر وأحنا سوا إن شاء الله، بحبك. كانت هذه الكلمة آخر ما نطق به قبل أن يلوح لها مع ابتسامة واسعة وكأنها تراه قبل أن يطلب من إيميل إنهاء مقطع الفيديو.

شكرًا يا ميلو يلا بينا بقى عالإستديچ علشان هيبدأو ينادوا الأسماء. تمتم تليد بينما يُرسل مقطع الفيديو إلى ريتال على أمل أن تراه لكن مرة ثانية أصابه الإحباط حينما وجد أن هاتفها ليس متصل بالإنترنت.

اتجه تليد للمقاعد الخاصة بالخريجين ليصطف بجانب رفاقه، كان تليد قد جلس بالصف الذي يسبق الأخير نظرًا لأن اسمه في نهاية القائمة بحسب الترتيب الأبجدي للحروف الإنجليزية، مر الوقت ببطء شديد في البداية لكن سرعان ما توالت الأحرف وأقترب خاصته، كان يراقب هاتفه بين الحين والآخر في انتظار أي إشعار من ريتال أو عائلته لكن لا شيء.

استعد تليد حينما كان يسبقه فقط أربعة طلاب من صفه وبينما يستقيم من مقعده ويتجه نحو خشبة المسرح شيء غريزي دفعه للنظر نحو المدخل وفي تلك اللحظة وقعت عيناه عليها، ترتدي ثوب فضفاض كعادتها لونه أرجواني الزاهي نُقشت عليه ورود رقيقة مثلها تمامًا، تهرول نحوه محاولة عدم التعثر بحذائها ذو الكعب العالي الذي كان يؤلم قدميها بلا شك لكنها لم تهتم بأي شيء في تلك اللحظة سواه، كانت تحمل في أحدى يديها باقة من زهوره المُفضلة بينما في اليد الآخر قد ربطت حول معصمها الرباط الخاص ببلونات من الهيليوم التي كُتب عليها عبارات تهنئة من أجل التخرج.

من فرط دهشته وعدم تصديقه لِمَ تراه عيناها كاد أن يفوت دوره لولا أن صدح صوت الأستاذ الجامعي وهو ينطق اسمه ببعض الصعوبة، صعد تليد إلى المسرح ليستلم شهادته وقد لمعت عيناه بدموع سعادة لا يذكر أنها زارت عيناه من قبل، كان يختلس النظرات نحوها في أثناء تحدثه إلى أساتذته ففي تلك اللحظة لم يعد يكترث بالطب ولا بأساتذته ولا بأي درب من العلم لم يشتمل على شرح حُسنها والتغزل في سواد عيناها الكحيلة ولا التأمل في لون بشرتها السمراء، قام المصور بإلتقاط بضع صور لتليد كان شاردًا في أغلبهم حيث كان نظره مُعلقًا بها.

حينما حان دور الطالب الذي يليه ركض تليد مبتعدًا عن الكل وقد ألقي بشهادته إلى أحد رفاقه قبل أن يهرول نحوها بكل طاقته وفي غضون ثوانٍ كان أمامها يضمها بين ذراعيه بقوة لتتشبث هي به وكأنه أكثر الأشياء ثباتًا في هذا الكون، كانت ريتال بخف الريشة حينما حملها تليد بين ذراعيه ليدور لها كالمجذوب من فرط العشق، صدح صوت ضحكاتها في المكان والخجل الذي كامن بداخلها من قبل لم يعد هنا بل نسيت كل شيء بين أحضان زوجها، حبيبها ورفيق دربها منذ أيام الثانوية وحتى الآن.

شكرًا يا ريتال، شكرًا بجد، أنا مش مصدق نفسي، أنا بحبك أوي، شكرًا إنك جيتِ، الحمدلله يارب إن فرحتي مش بس متكسرتش دي اتضاعفت وبقت أحلى من أحلى حاجة ممكن أتوقعها. كان تليد يتحدث دون أن يفصل العناق الذي ظل ينتظره لسنوات، كانت ريتال تضحك من وسط دموعها وهي تُخفي وجهها في كتفه بينما تُتمتم قائلة:
أنا بحبك يا تليد، بحبك أكتر من أي حاجة ومن أي حد في الدنيا دي.

أخيرًا يا ريتال؟ أخيرًا بليتي ريقي وقولتيها بصوت مسموع؟ تمتم تليد محيطًا وجهها الجميل بكلتا يديه بينما يتأمل حُسن عيناها التي كانت تلمع كنجمة وحيدة في ليلة معتمة وهي تنظر إلى داخل عيناه وقد ارتسمت ابتسامة خجولة على وجهها قبل أن تقول الآتي بحب شديد:
وهفضل أقولهالك يا حبيبي من النهاردة لحد آخر يوم في عمري،.

الفصل التالي
لم يكتب بعد...
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة