قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية وصال مقطوع للكاتبة إيمان عادل الفصل التاسع والثلاثون

رواية وصال مقطوع للكاتبة إيمان عادل الفصل التاسع والثلاثون

رواية وصال مقطوع للكاتبة إيمان عادل الفصل التاسع والثلاثون

ذلك لم يكن الجزء السيء في كل ذلك الأمر بل كان الأسوء هو كون صالح واقفًا إلى جانبها، مازن يراسلها في الهاتف وأمامها يقف تليد!

حاولت ريتال أن تفيق من صدمتها وتُدرك أن ما تراه حقيقيًا تليد هنا وانتهى الأمر، أغلقت الهاتف على الفور غير مُبالية بتلك الرسالة التي وصلت وقد أغلقت أذنيها عن نداءات صالح أو كلماته وكل ما كان يدور في بالها هو أنها تخشى ردة فعل تليد، أن يراها وهي تقف بجانب صالح والذي ابتعدت عنه خطوة تلقائيًا حينما وقعت عيناها على تليد ذلك الذي كان يسير بخطوات واثقة، ظنت في البداية أنه متجهًا نحو ياسين لكن في الواقع كان يسير نحوها هي متجاهلًا الجميع وكأنه لا يرى سواها.

يحمل في يده باقة من الزهور متوسطة الحجم، مع كل خطوة يخطوها نحوها تسارعت نبضات قلبها وغمرت أنفها رائحة عطره، لا تكاد تصدق أنه هو، تليد يقف أمامها إنها لا تحلم بل تعيش في واقع أجمل من الحلم، أقترب حتى وقف على بعض خطوة منها قبل أن يقول الآتي بنبرته اللطيفة المراوغة التي اشتاقت إليها كثيرًا:
شكلك مقتنعتيش بوحشتيني اللي في المسدچ فقولت أجي بنفسي أقولهالك في الحقيقة، وحشتيني يا ريتال.
تليد،.

عيون تليد، جبت معايا ورد للورد.
نطق بها وهو يغمز بإحدى عينيه بينما يمنحها باقة الزهور التي إبتاعها من أجلها، تناولته من يده وقربته إلى أنفها بتلقائية شديدة ليغمر عبير الأزهار ممتزجًا برائحة عطر تليد القوية، أغمضت عيناها لبرهة قبل أن تحاول جاهدة إيجاد الكلمات التي غادرت شفتيها.

أنا مش مصدقة، مش مصدقة إنك هنا، كنت مجهزة كلام كتير أوي أقوله يوم ما يجمعنا مكان تاني لكن دلوقتي الكلام مبقاش ليه معنى.
بس أنا عايز أسمعك حتى لو لوم وعتاب المهم متسكتيش أبدًا يا ريتال، محروم من صوتك شهور أنا النهاردة جاي أسكت وأسمعك بس.

هربت دمعة من عيناها أزاحتها على الفور وقبل أن تُجيب عن ما قاله أدركت أن تلك المحادثة قد جرت على مرأى من الجميع وكان أقربهم إلى الثنائي هو صالح الذي وقف يُطالعهم في غيظ شديد وكاد أن يقتحم المحادثة ويبدأ شجار مع تليد لولا أن سبقه صوت جد ريتال وهو يقول بغيرة أمتزجت بإستياء حاول إخفاءه: مش تعرفيني يا حبيبة جدو؟ انتفض كلاهما من موضعهم وقام تليد بضبط معظف بذلته بحركة تلقائية قبل أن يمد يده ليُصافح خاصة جد ريتال، طالع الأخير يد الشاب أمامه قبل أن يُصافحها بينما يضغط عليها قليلًا.

جدو ده تليد اللي حكتلك عنه قبل كده، اللي كان زميلي في المدرسة وصاحب ياسين ويعتبروا يعني متربين مع بعض. في تلك اللحظة أدرك ياسين وجود تليد والذي طالعه بنظرات إستغاثة جعلته يترك مقعده إلى جانب تسنيم ويتجه نحوهم ليرى ما فعله تليد الأحمق في أول عشرة دقائق من وصوله!

تليد حمدلله عالسلامة. رحب به ياسين بصوتٍ عالٍ وهو يقترب منه ليعانقه، بادله تليد العناق وهو يضحك لسبب غير مفهوم بالنسبة إليهم قبل أن يفصل ياسين العناق ويوجه حديثه إلى جد الفتاتين قائلًا بمرح:
مزعلك في حاجة يا جدو ولا أيه؟

لا ده أحنا كنا لسه بنتعرف بس، أصل صاحبك دخل يسلم على ريتال كده من غير ما يقول السلام عليكم ولا يسلم على الكبار اللي قاعدين مش عيب برضوا يا ابني ولا أنا غلطان؟ سأل جد ريتال مستنكرًا فعلة تليد وموبخًا إياه في الوقت ذاته، حمحم تليد بحرج وفرغ فاه ياسين عاجزًا عن إيجاد الرد المناسب للدفاع عن صديقه.

حضرتك عندك حق أنا أسف، هروح أسلم على الناس وبعدين هجيلكوا تاني.
أعتذر تليد بأدب قبل أن يسحب من بينهم ويذهب لتنفيذ ما قاله، ابتسم جد ريتال بإبتسامة لم تفهم هي مغزاها قبل أن يتركهم ويذهب للجلوس ليقوم تليد بمصافحته وإلقاء التحية عليه مرة آخرى وكأن شيئًا لم يحدث، بعد دقائق عاد تليد إلى حيث كانت تقف ريتال وكان إلى جانبها فريدة ونانسي.

ألف مبروك يا فيري، عرفتي تنقي والله ياسين ده زينة الشباب. تحدث تليد بمبالغة شديدة لتقلب فريدة عيناها قبل أن تقول: ما أنا عارفة طبعًا هو يقطع علاقته بيك بس وهتبقى كل حاجة فيه زي الفل.

بقى كده؟ ما تشوف مراتك ولا خطيبتك دي يا عم ياسين والله حرام.
معلش معلش. قال ياسين وهو يُربت على كتفه بطريقة درامية، ضيقت ريتال عيناها وهي تُراقب تلك المحادثة الهزلية قبل أن تسألهم بشك:
هو أنتوا مالكوا بتسلموا على بعض عادي كده؟ وبتهزروا ومفيش كده اشتياق ولا حضن صداقة أخوي من اللي هو ده ولا كأنكوا بايتين في حضن بعض يعني؟

علشان أحنا كنا بايتين في حضن بعض فعلًا. أجاب ياسين بتلقائية شديدة لتتسع أعين تليد بينما يقوم بتصحيح الجملة السابقة قائلًا:
أيه يا عم الجملة المُريبة المُقرفة دي؟ في كلام أحسن من كده وهيوصل المعنى برضوا.
ما أحنا نايمين في نفس الأوضة في الأوتيل فعلًا يا تليد مالك؟

يعني أنتَ هنا من بدري ومجيتش كل ده؟ سألته ريتال وهي تضربه بباقة الزهور بخفة - خشية على الأزهار لا تليد -
هفهمك هفهمك كنت عايز أعملها مفاجأة!

مفاجأة؟ ما أنتَ لو تعرف اللي فيها، يلا مش مهم المهم إنك جيت.
قالت ريتال وكادت أن تذكر أشياء لا يتوجب عليها ذكرها وفي الحقيقة كانت تعني أن في غيابه حاول صالح إستغلال الفرصة للتقرب إليها أما عن مازن فلقد كانت علاقتهم سطحية ولم يعرفها على أي حال لكن مؤكد أنه قد خمن أنه لا يوجد من يشغل قلبها.

أيه اللي فيها لا قوليلي؟ سألها تليد ولقد كانت ريتال تنوي أن تخبره كل شيء بشأن مازن وكذلك عن محاولات صالح ليس لجعله يشعر بالغيرة لكن لكونها لا تُفضل إخفاء الأشياء عنه.

كادت ريتال أن تُجيب عن سؤاله لكن سبقها صوت والدتها وهي تقترب منهم تُطالع تليد بطرف عيناها قبل أن توجه حديثها لإبنتها قائلة:
يلا علشان ياسين هيلبس فريدة الشبكة. أومئت ريتال وهي تتبع والدتها ومن خلفها تليد والذي لم يكن من الصعب عليه تخمين سبب ضيق زينة منه ففي نهاية الأمر هي تراه شاب طائش عبث بمشاعر ابنتها وقام بإعطاء الوعود التي خلف جميعها حينما حَمل حقيبة سفره مغادرًا البلاد.

أطلقت زينة زغرودة عالية حينما وضع ياسين الخاتم الذهبي في بنصر يدها اليمين، طلب فؤاد منها توخي الحذر وألا تُزيد من إنفعالاتها حتى وإن كانت سعيدة من أجلها هي وطفلها.

بمجرد أن وضعت فريدة الخاتم في إصبع ياسين قام برفع يده دلالة على الإنتصار وهو يبتسم ابتسامة واسعة، قامت ريتال بإلتقاط عدة صور لهما قبل أن يطلب تليد من نانسي أن تلتقط صورة لأربعتهم سويًا بينما وقف صالح في أحد الأركان وقد عقد ذراعيه بإعتراض واضح.

أنا مش فاهم بصراحة تليد ده واخد علينا بزيادة أوي، واقف وبيتصور محدش يعني قال لريتال لا عيب ولا ميصحش هو في أيه؟

روح أتخانق مع جدها وجوز مامتها يلا. حرضته نانسي لكن ليس كونها سيئة بل لأنها تعرف أشياء لا يعرفها صالح وكانت على يقين أنه لن يفعل شيء سوى إحراج نفسه.

عايز حضرتك في كلمة. طلب صالح من جد ريتال والذي لم يُمانع فبعدما رأى صالح عدة مرات قام بإعتبراه حفيدًا من أحفاده والمثل ينطبق على نانسي.

أكيد يا حبيبي قولي في حاجة ولا أيه؟

هو تليد ده، أنا عارف يعني إنه صاحب ياسين بس هو واخد راحته أوي في المكان وواقف يهزر مع ريتال ونانسي ميصحش يعني الكلام ده، قال صالح بغيظ واضح ولقد أشرك نانسي في حديثه محاولًا إخفاء غيرته لكن رضوان لم يكن مغفلًا وكان من اليسير عليه فهم الغرض من وراء حديثه.

بص يا صالح يا حبيبي أنا هعتبر نفسي فاهم كلامك غلط لأن أكيد أحنا عارفين اللي يصح واللي ميصحش ده رقم واحد، رقم اتنين تليد لما وصل اسكندرية كلمني من عند ياسين واستأذن مني أنا وزينة إنه هيحضر الخطوبة وهيكلم ريتال، وضح الجد الأمر وكاد صالح أن يُقاطع حديثه لكن رضوان لم يمنحه الفرصة حيث رفع أصبحه السبابة وكأنه يحذره من مقاطعته قبل أن يقول:.

استنى أكمل، مش كده وبس تليد كمان صرح ليا بمشاعره ناحية ريتال وإنه مش بيلعب وإن هو اه سافر وحاول يبعد لكن مقدرش وبمجرد ما تُتاح ليه الفرصة هيجي يطلب إيدها مننا لكن ده طبعًا مش هيبقى دلوقتي.

وطنط زينة موافقة على الكلام ده؟

سأل صالح بإمتعاض حينما لم يستشعر الرفض من جدها ولقد كان أمله الوحيد هو رفض زينة لتليد وإن كان في الحقيقة لا يعلم أن زينة لن توافق على حدوث شيء بينه هو وريتال فلقد أخبرتها زينة مرارًا أنها غير موافقة بتاتًا على أن تكون هناك علاقة بينها وبين صالح لأنها لن تسمع لإبنتها بتكرار الخطأ ذاته والزواج من تلك العائلة.

هي أم وطبيعي تزعل على زعل بنتها وتاخد موقف لكن وقت الجد لو ريتال قالت موافقة عليه زينة مش هتمنعها.

أنا مش قادر أفهم بصراحة،.

أنا أفهمك يا صالح يا حبيبي، أنتَ عارف أنتَ زيك زي أحفادي، الحب يا صالح عايز شخص شجاع، شخص قادر يتكلم بصوت مسموع، يقدر يعبر عن مشاعره وياخد خطوة بجد ناحية اللي بيحبه لكن الجبان اللي بيحب من بعيد عمره؛ عمره في حياته ما ينول مراده ويوصل لحبيبه أبدًا.

كان حديث جدها واضح وصريح وكأنه قام بصفع الحقائق في وجه صالح، لقد أخبره بطريقة مباشرة أنه يتسم بالجبن لذلك ريتال لم ولن تكون له فلقد سبقه تليد مُعبرًا عن حبه ومُعلنًا لكل من يهمه الأمر ولقد فعل دون أن يُخبر ريتال بل أراد أن يتم كل شيء بطريقة صحيحة وتقليدية.

عاد صالح ليقف وسط الجمع، في تلك اللحظة كانت فريدة تقوم بتقطيع قالب الكعك وإلى جانبها ياسين إلتقطت ريتال بضع صور لهم حينما وقف تليد إلى جانبها قائلًا:.

الفستان اللي أنتِ لابساه حلو أوي على فكرة أول مرة أعرف إن اللون البني حلو أوي عليكي كده أنا طبعًا عارف إن كل حاجة حلوة عليكِ ومختلفة بس بصراحة الفستان ناقصة حاجة، غازلها تليد لتبتسم وقد صُبغ وجهها بالحمرة، لم تبادله الغزل ولم تستطع حتى التفوه بكلمات شكر لكنها سألته متعجبة عن ما ينقص ثوبها.

حاجة؟ حاجة أيه؟

دي. قال وهو يخرج من أحدى جيوبه سلسال من الفضة، السلسال خاصته الذي حاوط عنق ريتال من قبل والذي ألقت به في وجهه حينما علمت بأمر سفره لكن السلسال لم يكن بمفرده بل كان معه سلسال آخر من الفضة في وسطه حرف الراء.

عارفة بقى لو لبستي السلسلتين دول مع بعض هياخدوا الفستان في حتة تانية.

أنتَ بقيت فود بلوجر ولا أيه؟ تحفة بجد تسلم إيدك يا تليد تعبت وكلفت نفسك.

علقت ريتال ساخرة في بداية حديثها لكن سرعان ما أصبحت نبرتها أكثر نعومة وهدوء، ابتسم ابتسامة صغيرة وهو يراقب ردة فعلها بينما تحاول إرتداء السلسال الذي شُكل على الحرف الأول من اسمها لكنها لم تفلح في ذلك فما نطق به تليد جعلها تفقد قدرتها على التركيز.

لو كل التعب علشانك يا ريتال فأنا مستعد أفضل تعبان لآخر يوم في حياتي.

نطق بنبرة حنونة لا تخلو من الصدق والجدية بينما يبتسم ابتسامة جعلت قلبها يذوب، فرغ ثغرها حتى كاد يلامس الأرض وفي البداية لم تجد الكلمات المناسبة للرد على غزله لكنها في النهاية استطاعت إيجاد رد مراوغ لا يخلو من المشاعر لكن في الوقت ذاته يجعله يتوقف عند هذا الحد.

خليك مؤدب زي صاحبك ووفر الكلام الحلو ده لبعد كتب الكتاب ولا مش ناوي تكتب الكتاب؟ صدرت ضحكة رنانة منه وهو يحك أسفل ذقنه بيده قبل أن يقول بأعين لامعة بنيران العشق:
هكتب الكتاب وهبصم بصوابعي العشرة وبوشي كله لو حابة، المهم أنتِ ترضي بس يا ريتال.

شهادة تخرج ووراها على طول عقد جواز، موافق ولا أيه؟ سألته وهي تغمز بإحدى عينيها ليقهقه قبل أن يقول رافعًا يديه بإستسلام:
مقدرش أقولك لا على حاجة.

في تلك اللحظة صدر رنين من هاتف نانسي ولقد انتبهت له بصعوبة نظرًا لكون المكان صاخبًا، اتجهت نانسي نحو الشرفة ومن ثم أغلقتها بعد دخولها حتى تستطيع سماع صوت المُتصل والذي أظهره تطبيق معرف المتصل بإسم د. أدهم، لقد كان المتصل طبيبها صاحب الإبتسامة اللطيفة ورسالة الغزل المُريبة التي لا تليق به، بمجرد أن جاءها صوته كادت أن تسبه على ما أرسله قبل قليل لكنه سبقها سائلًا عن أحوالها قائلًا:.

ألو، نانسي ازيك؟ أتمنى تكوني بخير.

بقى بتسألني أيه الأخبار بعد المسدچ العرة اللي أنتَ بعتها دي؟ أيه يا ابني طريقة المعاكسة دي؟ وبخته نانسي غير مبالية بأي شيء، قبل أن تنهي فقرة التهزيق خاصتها قام أدهم بقطعها وهو يعتذر منها بحرج شديد مُردفًا:
أنا أسف والله العظيم مش عارف أقول أيه، أنا مكلمك علشان كده أصلًا، خديجة هي اللي بعتت الريبلاي ده.

طب وهي ليه تعمل حاجة زي كده؟

بتقولي محتاج تتلحلح شوية، و، أنا مش عارف بقول أيه أنا أسف على إزعاجك مع السلامة.

ثواني بس استنى، حصل خير مفيش حاجة و، حاول تاخد بنصيحتها بس بإسلوبك بقى ها؟ يلا مع السلامة. قالت نانسي مراوغة قبل أن تُنهي المكالمة دون سماع رده، تركت هاتفها أعلى الطاولة وعاودت الإحتفال معهم وقد تضاعفت سعادتها وحماسها بعد تلك المكالمة.

في الوقت ذاته بالقاهرة وتحديدًا أمام ذلك المنزل المملوك للعائلة اختلطت أصوات عربة الشرطة مع خاصة الإسعاف، الجميع يصرخون من حوله وهو يجلس على الأرضية الباردة واضعًا يده فوق رأسه في صدمة، عقله لا يكاد يستوعب ما حدث قبل قليل هو بالكاد أقدم على قتل زوجته في لحظة غضب، لقد كان الأمر سريعًا للدرجة للتي تجعل عقله عاجزًا عن الفهم والإدراك.

في تلك اللحظة لم يشغل باله أي شيء، لا سالي، لا نفسه ولا المال ولا إحتمالية موتها وقضاء ما تبقى من حياته في السجن بل كل ما كان يشغله هو طفله الذي رأى تلك الكارثة بأم عينه، لقد رأى أمه تُقتل على يد أبيه بعد محادثة دنيئة قذرة تراشق فيها الطرفين ما هو أشد قسوة من الحجارة.

كان جسد يوسف الصغير يرتجف داخل أحضان جدته التي ضمته بين ذراعيها وتُربت عليه بيدها التي قد برزت عروقها وتجعد جِلدها، تنهمر الدموع من عيناها تُسابق خاصة يوسف فلقد خسر أبويه وقد خسرت هي ابنها المُدلل، صغيرها أصبح قاتل أو مشروع قاتل في غضون دقائق معدودة، تُلقي بالنوم على نفسها لو كانت قد تمالكت نفسها ولم تدع النعاس يتمكن منها لسمعت صوت الشجار وقامت بحل النزاع قبل أن يحدث ما يحدث؛ هكذا كانت تفكر لكنه لم يكن سوى قدر وما كان بإمكانها إيقافه أو تبديله.

ماما أنتِ مش هتروحي معانا عالقسم؟ سألت غادة من وسط دموعها لتُشير لها أمها ب لا.

هنسيبه لوحده يا أمي؟ ده مهما كان،.

كان ولا مكنش ده لا ابني ولا أعرفه ولا عايزة اسمع حاجة عنه، أخوكي راح معاه شوفي أنتِ لو عايزة تروحي وراه روحي أنا قاعدة هنا مع يوسف.

طب دلوقتي أحنا محتاجين محامي معرفش أنا محاميين أتصرف ازاي؟ كان سؤال غادة موجهًا لنفسها أكثر من كونه موجه للمرأة أمامها فلقد كان عقل غادة مشتت تحاول البحث عن شخص يساعدها ولم يكن أمامها سوى شخص تكره هي سماع صوته أو التحدث بشأنه، زوجها السابق!

لم تجد غادة حلًا سوى أن تهاتف أشرف، والذي لم يستطع إخفاء إندهاشه الكبير من تلك المكالمة وأول ما خطر على باله هو أن مكروهًا قد أصاب نانسي حيث جرت المكالمة بينهم كالآتي:.

أشرف أنا غادة، أم نانسي، ممكن تيجي عالبيت القديم بسرعة محتاجالك ضروري. ذكرته بنفسها ظنًا منها أنه قد نسي من تكون لكنه بالطبع لم يفعل، لم يستمع إلى كلمة آخرى بل أخبرها أنه مسافة السكة وسيكون أمامها وبالفعل في غضون ثلاثون دقيقة كان أمام المنزل دون أن يستفسر عن سبب طلبها له.

خير يا غادة، خير يا ماما حصل أيه؟ سأل حينما فتحت غادة باب المنزل والتي كانت تقف من خلفها والدتها، لم تستطع غادة من كبح تعبيرات وجهها حينما لقب والدتها ب ماما لكن الشجار معه وقول تعليقات سخيفة لن يُفيد في هذا الوضع.

رحبت به والدتها ودعته إلى الجلوس في الحديقة خاصة المنزل ثم طلبت من غادة أن تعد فنجاني قهوة حالما تخبره بما حدث، أومئت غادة بإمتعاض وهي تتجه نحو الداخل، تراقبه وهو يتحدث إلى والدتها ويبتسم مجاملًا إياها في كل كلمة تنطق بها، تأملت ملامحه التي لم تتغير كثيرًا وإن كانت السنين قد فعلت به ما فعلت، خصلات شعره التي كانت سوداء بدأ شبح اللون الأبيض يزحف إليها، حتى أن خصلاته الكثيفة لم تعد كذلك.

أفاقت من شرودها حينما كادت القهوة أن تفور لتلعن نفسها وتلعنه لهجره إياها طيلة تلك السنوات، شجارات سخيفة جعلته ينفصل عنها ويترك ابنته ولكي تنتقم منه منعته من رؤيتها حتى نسيت نانسي أن كان لها أب في يوم من الأيام.

متقلقيش يا أمي أنا ليا صاحبي محامي شاطر إن شاء الله بسيطة وأكيد هنلاقي حل، لو عرفنا نقنع أهلها بقى يتنازلوا عن المحضر والموضوع يتحل ودي ولما تفوق ينفصلوا كل حاجة هتبقى كويسة. وضعت غادة القهوة أمامهم على الطاولة قبل أن تقاطع حديثهم قائلة:
هو اللي مبلغ عن نفسه، مش أهلها اللي عاملين المحضر أساسًا.

كده كده حتى لو مبلغش كانوا هيعملوا محضر ضده الحل إنها تفوق وتقول إنه معملهاش حاجة وإنه سوء تفاهم، عالعموم إن شاء الله خير، أنا هتحرك دلوقتي هكلمه في التليفون وهخليه يقابلني هناك. قال قبل أن يتناول قهوته سريعًا ثم يرحل، سبته غادة بالرغم من مساعدته إياهم ولقد أعترضت قائلة أنها ناكرة للجميع لكن غادة لم تهتم.

أنا هكلم لنانسي أقولها اللي حصل.

متنكديش على العيال دلوقتي لما الخطوبة تبقى تخلص الدنيا مطارتش.

أنا مش فاهمة يا أمي هدوء الأعصاب ده؟ ده ابنك على فكرة.

أكتبيلها رسالة تشوفها لما تخلص متتصليش عليها. طلبت والدتها متجاهلة تمامًا سؤال غادة فهي قد تبرأت من ابنها الذي سامحته عدة مرات لكنه كان مصرًا على أن يحني رقبتها ويجعلها تخجل أن حملت شيطان لعين مثله في أحشائها.

في تمام العاشرة أي بعد إنتهاء حفل الخطبة مباشرة رحل الكل ومن ضمنهم عائلة ياسين ولقد أخبرهم أنه سيلحق بهم بسيارة تليد قرب الفجر، جلس من تبقى من أفراد العائلة يتابعون إحتفالاتهم كأن شيء لم يكن وإن كان صوت الموسيقى قد أصبح أكثر هدوءًا، كانت نانسي تعبث في هاتفها وكأنها تجلس في عالم منفصل كعادتها حتى وصلتها رسالة من والدتها...

يا نهار أسود! صرخت نانسي وهي تُطالع هاتفها بأعين متسعة رعبًا، لفتت انتباه الكل وأفزعتهم وسُلطت كل الأنظار عليها ولقد كان أقربهم هو صالح الذي أقترب منها محاولًا معرفة ما حدث.

قولتلك مية مرة الجملة دي حرام، في أيه حصل أيه؟ مالك يا بنتي؟ سأل صالح بهلع حينما رأى الدموع التي تكونت في عين نانسي بينما تقرأ شيء داخل شاشة هاتفها، سحب صالح الهاتف من يدها بقليل من العنف وهو يبحث عن سبب صدمتها لهذه الدرجة ذلك حينما رأى رسالة والدتها.

خالك قتل مراته والإسعاف جت شالتها وهو راح القسم ولسه مش عارفين أي حاجة! هاتي صالح وتعالوا بسرعة. قرأ صالح الرسالة وقد غلفت وجهه تعبيرات الهلع مثل نانسي مما زاد من اضطراب الجميع وكان أكثرهم قلقًا ريتال التي سألتهم بتوتر:
تيته؟ تيته حصلها حاجة ولا في أيه؟ لم يستطع أيًا منهم الإجابة عن سؤالها وحينما أقتربت من صالح لتحاول جذب الهاتف من يده أبعده على الفور مانعًا إياها من أخذه.

طب حد يفهمني في أيه؟ ردوا عليا! يوسف؟ ولا عمتو ولا في أيه؟

عمي ضرب مراته وهي بين الحياة والموت وهو دلوقتي محبوس في القسم. نطق بها صالح بجمود شديد وبأعين شاردة، لم يكن أمامه أي خيار سوى إخبارهم بالحقيقة.

أتسعت أعين ريتال في صدمة ولا تعلم متى غلفت الدموع وجنتيها، يديها ترتجف في صدمة وجسدها بأكمله قد تعرق على الرغم من وجود مُكيف هواء، الأصوات من حولها اندثرت ورؤيتها أصبحت مشوشة لا شيء من حولها فقط الفراغ، الفراغ الذي أخذت تكرر فيه عبارة محبوس في القسم ما كانت تخشاه قد حدث، ما سمحت في حقها من قبل كي لا يحدث قد حدث رغمًا عن أنفها، والدها أصبح قاتلًا ولمن؟ زوجته الثانية، والدة شقيقها...

هرول تليد نحو ريتال وبحركة خاطفة تلقائية أمسك بكلتا يديها، كانت يدها باردة ترتعش وقد بدأ صدرها يعلو ويهبط بقوة وعلى الفور أدرك أنها بداية نوبة هلع وهي على بعد دقيقة من السقوط أرضًا.

ريتال، ريتال أتنفسي، ريتال أتنفسي براحة، أنتِ سمعاني أهدي مفيش حاجة.

حاول فعل كل شيء ليمنعها من فقدان الوعي وفي البداية لم تستجيب لأيًا من محاولاته حتى أقتربت منها فريدة وهي تصفع وجهها بمياه باردة جعلت ريتال تشهق شهقة عالية قبل أن تنهار في البكاء، أجلسها تليد على أقرب مقعد وأنحنى على قدميه ناظرًا إلى عيناها بينما يحاول طمأنتها قائلًا:
كله هيبقى كويس، كله هيبقى كويس أنا معاكي، كلنا هنا ومفيش حاجة، عيطي براحتك بس خليكِ معايا يا ريتال.

كان حديثه دافئًا وإن كانت عاصفة القلق تدور من حوله، أومئت ريتال من وسط بكائها، أحضر جدها كوب مياه لكنها رفضت أن ترتشف ولو قليلًا منها، نظرت إلى أعين تليد الشفافة التي تراقبها وهي تحاول جاهدة إستيعاب ما يحدث وإيجاد كلمات مناسبة لكن الأمر كان غاية في الصعوبة...

بابا، بابا بقى رد سجون يا تليد، اللي كنت خايفة منه حصل، الكابوس اللي قعدت ليالي بحلم بيه اتحقق خلاص.

تحدثت ريتال من وسط دموعها ولقد كانت تتوقع سماع كلمات دعم من تليد بصورة معينة قد رسمتها في ذهنها لكن ذلك لم يحدث حيث لم يكن رد تليد متوقعًا أو حنونًا بالنسبة إليه حيث قام بصفع الحقائق في وجهها قائلًا:
بس هو يستاهل يا ريتال!

أنتَ شايف كده يعني؟ هو ده الرد المناسب من وجهة نظرك؟ بدل ما تحاول تصبرني؟

صرخت ريتال في وجهه غير مُدركة للكلمات التي تغادر فمها من هول الصدمة، أتسعت أعين تليد قبل أن يستقيم من مقعده محاولًا إيجاد كلمات تعبر عن ما يدور في ذهنه.

أنتِ مجنونة يا بنتي ولا أيه؟ ده كان هيموتك يا ريتال قبل كده، دمك لسه في كف إيدي من يومها! معقولة لحقتي تنسي اللي حصل بالسرعة دي؟ لو نسيتي بصي عالجرح اللي في كتفك في المراية أو أقولك خلي مريم تفكرك!

صاح تليد متفوهًا بكلمات قاسية كان يتوجب عليها سماعها حتى تفيق، والدها جاني وليس مجني عليه ولقد طالتها أذيته عدة مرات من قبل سواء بطرق مباشرة أو غير مباشرة، في تلك اللحظة لم يُبالي تليد كثيرًا بمن حولهم بل لم يُدرك وجود أي شخص غيرها هي ذلك حينما صدرت صيحة من والدتها التي لم تكن تعرف أي شيء بشأن ذلك الجرح وتلك الحادثة بأكملها والتي على ما يبدو أن مريم على دراية بكل شيء يخص ذلك الأمر.

جرح أيه ودم أيه؟ عبدالرحمن عمل فيكي أيه يا ريتال؟ عمل أيه ردي عليا؟ وأنتِ يا مريم، مريم أيه اللي حصل لبنتي وخبيتيه عليا؟ حد يفهمني حاجة أنا هتجنن!

صرخت والدتها ليشتد بكاء ريتال التي لسبب ما شعرت بأنها من تسبب في كل هذه الجلبة، لقد أفسدت سعادة فريدة وخربت كل شيء فقط لأن ذلك الرجل والدها، لأن اسمها متبوعًا بخاصته وتحمل كنيته في بطاقتها الشخصية!

أقتربت زينة من ريتال وكادت أن تسحبها نحو أقرب حجرة لترى تلك الندبة التي تحدث عنها تليد لكنها سرعان ما شعرت بآلم قوي بالقرب من منطقة الحوض، تأوهت بآلم ليركض نحوها فؤاد ويُمسك بيدها بينما يقول:
زينة، زينة أهدي من فضلك، أنتِ كده بتتعبي نفسك والبيبي وريتال الموقف مش ناقص ضغط ولا إنفعال.

أنقذ فؤاد ريتال من نوبة هلع وعصبية كادت أن تُصيب والدتها من هول صدمة الأحداث المتتالية، رافق زينة نحو الشرفة وأجلسها وأحضر لها المياه بعد أن تأكد من سلامة ريتال على الأقل ظاهريًا.

غاب صالح عن أعين الجميع لدقائق حيث كان يهاتف والده محاولًا الوصول إلى أية معلومات قيمة بشأن ما حدث وبالفعل سرد له والده ما حدث بإختصار وقد أخبره أنه في القسم برفقة والد نانسي ومعهم أحدى المحامين.

ها يا صالح طمنا يا ابني، عرفت حاجة؟ سأل جد ريتال ليومئ صالح بنعم ومن ثم سرد ما حدث على حسب رواية والده وكذلك أخبرهم بالمستجدات والتي كان أهمها أن وضع سالي ما يزال غير معروف حتى الآن لكن ما قاله والده لا يُبشر بالخير بتاتًا.

أنا، أنا مش فاهمة حاجة لو هي في غيبوبة وتيته مكنتش سامعة اللي حصل مين اللي، مين اللي بلغ البوليس؟

سألت ريتال بتلعثم وهي تكفكف دموعها بينما تُطالع تليد لكنه لم يكن يملك الإجابة عن سؤالها ليسود الصمت لبرهة قبل أن يحمحم صالح ويجيب عن سؤالها قائلًا:
عمو عبدالرحمن نفسه، بعد ما أدرك اللي حصل طلب الإسعاف وأتصل بالنجدة وحكى اللي عمله بمعنى أصح إعترف بجريمته وسلم نفسه.

أنا مش فاهمة هو بيعمل كده ليه؟ مش فاهمة؟ مش كفاية كل حاجة عملها فيا وفي ماما؟ مش مكتفي بكل ده ولسه عايز يدمرها زيادة؟

أهدي يا ريتال اللي أعرفه إن الإعتراف بالجريمة ممكن يخلي موقفه أحسن شوية، حاول تليد قول أي شيء ليُخفف من صدمتها لكن مصابها كان جلل لا توجد كلماتها تستطيع أن تهون عليها.

مش فارق معايا مش فارق معايا! ياريته كان مات ومحصلش كل ده!

صرخت بها ريتال بقسوة لم تعلم من أين جاءت بها حتى أن وقع الكلمات على أذنها كان صادمًا وكأن عقلها لا يستطيع ترجمة ما تفوهت به لكنها كانت تملك كامل الحق، لقد قام ذلك الرجل بتدمير حياتها بالكامل وحتى حينما رحلت عنه برفقة أمها لبدء حياة جديدة خطط لإنهاء حياة والدتها وكادت أن تفقد هي خاصتها عن طريق الخطأ، قاومت رغبتها في الإنتحار وحاولت تجاوز كل ما رأته من آلم وعنف وصب تركيزها على دراستها قرر هو تحطيم كل شيء مرة آخرى بجعلها ابنة رجل سوابق كما يقولون.

أنا لازم أسافر القاهرة.

تسافري القاهرة تعملي أيه إن شاء الله؟ هتروحي تزوريها ولا تزوريه في القسم؟

زينة! أنتِ سامعة أنتِ بتقولي أيه؟ صاح والدها موبخًا إياها ليُجبرها عن متابعة حديثها الذي كان أشبه بخناجر مسمومة لم تتعمد طعن ابنتها بها لكن الأجواء كانت متوترة لدرجة أن كل الحضور لم يعد أيًا منهم يعي ما ينطق به.

لا يا ماما هروح علشان تيته، جدتي اللي ليها حق عليا، وعلشان يوسف أخويا اللي ملهوش أي ذنب غير إنه ابن الراجل ده زي بالضبط!

طيب ممكن تهدوا كلكوا؟ ريتال أحنا هنحتاج نستنى للصبح علشان نتحرك السفر متأخر كده مش أحسن حاجة. حاول تليد تلطيف الأجواء وإقناع ريتال بوجهة نظره بهدوء فهو يعرف الطريقة الصحيحة للتحدث إليها وإقناعها وعلى غير المتوقع لقد وافقه صالح رأي مُردفًا:
للأسف هو عنده حق أحسن حاجة نبات للصبح ونتحرك كلنا مع بعض.

أنا هاجي معاكوا. قالت فريدة لتعترض ريتال على الفور قائلة:
لا طبعًا تيجي فين يا فريدة؟ مش كفاية بوظت عليكي فرحتك هتيجي تعملي أيه؟

بطلي هبل يا ريتال! أنتِ فاكرة إننا مع بعض في الحلو بس ولا أيه؟ أنا رجلي على رجلك.

حاولت زينة منع ريتال من السفر لكنها لم تستطع ولقد كان يرى فؤاد ووالدها أن لريتال كامل الحق في الذهاب لرؤية عائلتها وحتى لرؤية والدها إن أرادت، قضى تليد وياسين وصالح ليلتهم في منزل الجد الذي كان مصرًا على إستضافتهم في حين أن ريتال قضت ليلتها إلى جوار فريدة في منزلها ومعهن نانسي، لم يستطع أحد النوم لكن في النهاية أجبر تليد نفسه على أن يغفو لساعتين حتى يستطيع قيادة السيارة أثناء رحلتهم إلى القاهرة.

ريتال أصحى ماما حضرت الفطار.

صاحية، تمتمت ريتال وهي تعتدل في جلستها، عيناها قد ذبلت من فرط البكاء ورأسها كاد يُشق إلى نصفين من فرط الآلم الذي سببه الصداع النصفي.

طب قومي يلا ياسين كلمني قالي نفطر ونجهز وهما هيعدوا على هنا ياخدونا بالعربيات.

عربيات؟ هو مين معاه عربية تاني؟

ياسين أهله رجعوا بعربيتهم إمبارح بعد الخطوبة بس تليد وصالح معاهم عربيات هنتقسم فيها.

أومئت ريتال وهي تغادر الفراش قبل أن تبحث عن شيء لترتديه من ثياب فريدة، تحممت بماء بارد لم تكفي برودته لإطفاء النيران التي أشعلت قلبها وعقلها، حالما انتهت كانت خالتها قد أعدت الفطور لكن ريتال رفضت تناول الطعام متحججة بأن معدتها سوف تسوء على الطريق.

كانت ريتال في سيارة صالح هي ونانسي وكان الجد في سيارة تليد برفقة ياسين، تحركت سيارة صالح أولًا وتبعه تليد الذي كان يهاتف ريتال كل نصف ساعة ليتأكد من أنها بخير في حين كان صالح يراقبها من خلال المرآة دون أن يتحدث.

حينما توقفت السيارة أمام المنزل هرولت ريتال متجهة نحو الباب، ذلك الباب الذي طُردت منه من قبل، ذلك المنزل حيث تعرضت للضرب والشتم، ذلك المنزل الذي وقفت على سطحه محاولة إنهاء حياتها، تتذكر حينما قام بطرد والدتها خارج تلك البوابة وكيف كانت تصرخ بإسم ابنتها تترجاه أن يسمح لها بإصطحابها معها.

هرول تليد نحوها وهو يتسابق مع صالح ليصل إليها أولًا ولقد نجح في ذلك، أقترب منها وهو يسألها بحنان ممتزج بالقلق:
أنتِ كويسة؟

مش عارفة، مدخلتش المكان ده من كتير، البيت ده بنيت فيه ذكريات كتير وفي نفس الوقت البيت اللي كل حاجة إتهدت فيه.

كل حاجة هتتصلح متقلقيش، أنا معاكي وجنبك. طمأنها تليد لتومئ مع ابتسامة صغيرة قبل أن تدلف نحو الداخل ويتبعها هو بقليل من الخجل، تبعهم صالح بغيظ شديد ومن خلفه البقية فيما عدا والد زينة الذي قرر البقاء داخل السيارة كي لا يسبب لنساء البيت الحرج.

حينما خطت ريتال خطوتها الأولى نحو الداخل داعبت أنفها رائحة البخور الذي دائمًا ما كانت تشعله جدتها حينما كانت طفلة، أول ما لمحته في الداخل هو جدتها التي تحضتن يوسف الصغير بين ذراعيها، أصبح جسده هزيلًا عن آخر مرة رأته فيها كما أن عيناه قد صُبغت بالحمرة من فرط البكاء وقد كانت نظرته خاوية لا حياة فيها.

يوسف. نطقت بها ريتال لينتبه لها الصغير ينتفض من بين ذراعي جدته التي غفت أثناء جلوسها ويركض نحوها.

ريتال. كانت هذا الإسم هو أول شيء ينطق به منذ ما حدث، ضمته بين ذراعيها وهي تقبله قبلات عشوائية وتعتذر له من وسط دموعها، لقد كانت تبغضه في السابق لكن بمرور الوقت أدركت أنه ضحية مثلها تمامًا والآن لقد أصبح أكثر شخص تهتم لشأنه بعدما حدث ورأه.

بص أنا جبتلك حاجة حلوة معايا وجبتلك كمان الزبادي اللي بتحبه وعصير.

أنتِ، هت، هتقعد، ي ولا هتم، هتمشي تاني بعيد؟ سألها بتلعثم شديد لم يكن ظاهرًا في حديثه في السابق، انهمرت الدموع من عيناها أكثر وهي تضمه مرة آخرى قبل أن تقول مطمئنة إياه:
مش همشي يا حبيبي ولو مشيت هاخدك معايا متخافش أنا هفضل معاك. في تلك اللحظة فتحت جدتها عيناها لتقترب منها ريتال، تطبع قبلة على يدها قبل أن تجذبها جدتها في عناق دافئ.

وحشتيني يا حبيبتي، وحشتيني يا بنتي ينفع الغيبة الطويلة دي يا ريتال؟ أيه تيته موحشتكيش لازم تحصل حاجة علشان تيجي؟

حقك عليا يا تيته معلش أنا جيت أهو.

شوفتي اللي حصل فينا، وأخوكي، أخوكي شاف كل حاجة ومش عايز ينطق بكلمة من امبارح ولا عايز يدوق الزاد.

متقلقيش يا تيته أنا هخليه ياكل وهقعد أتكلم معاه وهشوفله دكتور. أومئت جدتها ب حسنًا بقلة حيلة موافقة على كل ما تقوله ريتال دون أن تجادلها فلا طاقة لها بذلك ولا تملك من علم ريتال حول الطب النفسي وأطباءه.

مين الشاب الحلو ده يا ريتال؟ سألت جدتها عن تليد الواقف بالقرب من الباب في حرج والذي نسيت ريتال وجوده من الأساس.

ده تليد يا تيته كان زميلي في المدرسة و، لم تجد ريتال تكملة لجملتها لكن من لون وجنتيها كان من اليسير على جدتها تخمين باقي الجملة.

أهلًا وسهلًا يا حبيبي إتفضل، كان نفسي نستقبلك في ظروف أحسن من كده.

قريب إن شاء الله، الجايات أكتر من الرايحات. علق تليد على جملتها بتلقائية شديدة لكن سرعان ما أدرك ما قاله ليضحك ضحكة تنم عن خجل وتوتر.

أحنا جينا يا تيته.

قال صالح مقاطعًا حديثهم وهو ينحني ليقبل يد جدته ومن بعده نانسي في حين وقف كلًا من فريدة وياسين بحرج قرب الباب حتى قامت ريتال بتعريفهم إلى جدتها، رحبت بهم الجدة وذهبت لإعداد فطور للكل على رغم من رفض جميعهم إلا أنها أصرت معادة الجدات، ذهبت ريتال لمساعدتها في حين أن تليد جلس مع ياسين والشباب في حجرة المعيشة.

حمدلله عالسلامة يا ريتال، عاش من شافك.

أهلًا يا عمتو ازيك.

الحمدلله، مش كان الواجب تروحي تزوري أبوكي الأول قبل ما تيجي.

ملوش لازمة الكلام ده يا غادة.

لا ليه لازمة يا ماما، أنتِ تتبري من ابنك وهي تستعر من أبوها وميفرقش معاها حتى تسأل عليه ولو بكلمة.

أنا جاية هنا علشان تيته ويوسف وبس وكل اللي برا دول جايين علشاني أنا يا عمتو، محدش جاي علشانه، هو عمره في حياته ما عمل حاجة كويسة علشان حد يقف جنبه ده حتى أمه غضبانة عليه منتظرة مني أنا أعمل أيه؟ صرخت ريتال في وجه عمتها ليهرول الكل نحو المطبخ ليعرفوا سبب الصراخ فلم يكن حديث ريتال واضحًا من المسافة حيث كانوا يجلسون.

في أيه؟ أيه اللي حصل يا عمتو؟ سأل صالح بقلق وهو يُطالع عمته بحدة وقد توقع أنها أساءت إلى ريتال كما تفعل في العادة.

محصلش حاجة ما هو كلمتي أنا اللي بقت بتوقف في الزور دلوقتي.

هو حضرتك بجد شايفة إن ده وقت تقولي فيه الكلام ده؟ أنا فعلًا غلطانة إني جيت البيت ده تاني أنا هاخد أخويا معايا وأمشي. صاحت ريتال في وجه عمتها بآلم غير مبالية بمن حولها.

وأهون عليكي يا حبيبتي؟

ما أنتِ شايفة يا تيته اللي بتقوله!

غادة يا تلمي لسانك وتسكتي يا تطلعي على فوق ومشوفش وشك لحد ما الضيوف يمشوا. وبخت ابنتها أمام الكل لتغضب غادة وتغادر المكان وتتبعها نانسي التي لم تقبل أن يتم توجيه الحديث إلى والدتها بهذه الطريقة أمام الكل.

تناول الجميع الفطور وحضر الجد لإلقاء التحية على جدة ريتال داعيًا لها الله بزوال هذه الأزمة، بعد مرور ما يقرب من الثلاث ساعات عاد ياسين إلى بيته ومعه تليد لكي يحصلوا على قسط من الراحة في حين أصرت الجدة على بقاء ريتال وفريدة في الطابق خاصتها أما عن جدها فلقد بقي في منزل أحد أصدقائه القدامى من القاهرة.

مش عارفة أفكر ازاي يا فريدة دماغي هتنفجر.

إن شاء الله كل حاجة هنلاقيلها حل.

المرة دي ملهاش حل، دمر نفسه ودمرني معاه، ويوسف هسيبه ازاي وأرجع إسكندرية.

هو مينفعش تاخديه معاكي؟

حتى لو أهلها مش عايزينه وحتى لو هي ماتت تفتكري ماما هتوافق إنه يعيش معايا وتتحمل مسؤولية ابن جوزها القديم؟

خالتو زينة مش قاسية يا ريتال وحتى لو ممكن تخليه يعيش معاكي في بيت جدو بس المشكلة إن أنتِ نفسك مش حِمل مسؤولية كبيرة زي دي. لفتت فريدة انتباهها إلى مشكلة أكبر، قررت ريتال أن تُلقي بتلك الأشياء إلى مؤخرة رأسها لبعض الوقت، غالبها النعاس وهي تجلس على فراش جدتها لتغوص سريعًا في نوم عميق.

بقيت ريتال ليلتين في منزل جدتها ولقد بقيت على تواصل مع زينة وفؤاد في حين أن جدها رفض العودة إلى الإسكندرية من دونها، لم تعلم ريتال بأمر سفر والدتها ولم يعلم أحد غير فؤاد الذي أراد منعها من ذلك لكن بعد العديد من النقاشات الحادة وافق على سفر زينة القاهرة، لم يكن من الصعب عليه تخمين رغبتها في زيارة زوجها السابق في السجن، لم يكن من اليسير إقناع الضباط بالموافقة على تلك الزيارة لكنها في النهاية استطاعت فعل ذلك.

حينما دلفت زينة إلى أن الحجرة غادر الضابط مانحًا إياهم بعد الخصوصية، هربت ضحكة منها رغمًا عنها حينما رأت الأصفاد في يده وثيابه الرثة.

جاية علشان تشمتي فيا يا زينة؟ سأل بنبرة لا تخلو من الإنكسار وهو يُطالع الأرضية الخشبية غير قادرًا على رفع عيناه لتُقابل خاصتها، صدرت منها ضحكة ساخرة تفوح منها المرارة قبل أن تقول:
الشماتة دي أنتَ اللي تعرفها يا عبدالرحمن لكن أنا؟ أنا معرفهاش.

أومال جاية ليه؟ نظرة الوداع قبل ما أتعدم ولا أخد مؤبد؟ ولا اللي في حالتي بيحصل معاه أيه؟ ما تسأليلي صاحبتك المحامية اللي خدت حضانة بنتي مني وضمتها ليكي. علق بسخرية وإن كان الآلم جليًا في نبرته، ابتسمت زينة ابتسامة لا تخلو من الشماتة فلم يكن بإرادتها كبح نفسها من الشعور بالنصر والرضا لمَ أصاب زوجها السابق والذي أذاقها من القسوة والآلم والعنف كؤوسًا.

برضوا لا، أنا جيت بس علشان أقولك إن ربنا مش بيضيع حق حد يا عبدالرحمن ولا بيرضى بالظلم وأنتَ ظلمتني، ظلمتني أنا وبنتي ظلم كبير أوي وجيت علينا جامد وقول الحمدلله إن السور ده مانعني عنك علشان لو كنت قدامي كنت هاكلك بسناني عالي عملته في بنتي!

أنا عمري ما كنت، كالعادة كان ينوي إعطاء أي مبررات واهية كي لا يعترف أنه لا توجد أسباب وراء كل ما فعله غير أنه شخص غير سوي، شخص طماع لا يعشق سوى ذاته ولا يهتم بأي شخص من حوله حتى وإن كانوا أقرب الناس إليه.

أوعى! أوعى تنطق بالكلام ده يا عبدالرحمن، أنتَ ظلمتنا وربنا والناس شاهدين كلها عليك والحمدلله ربنا جابلنا حقنا من غير ما نتدخل، وقفنا نتفرج من بعيد لبعيد.

عندك حق يا زينة، أنا أسف، أنا بس كان نفسي أشوف ريتال لو ممكن تقبلي طلبي ده ويبقى أول وآخر حاجة أطلبها منك.

عايزها تيجي تتفرج عليك والكلابشات في إيدك؟ تيجي تبص على أبوها اللي بقى رد سجون؟ عارف لو كنت هنا ظُلم كانت جت وبقت تحت رجلك لكن لا يا عبدالرحمن أنتَ ظالم، عايز تشوفها بعد ما كنت هتموتها بالغلط بدالي؟ صُعق عبدالرحمن من قسوة حديثها، لقد ظن أنها لا تعرف ما فعله بريتال عن طريق الخطأ يوم حفل زفاف لكن الآن أصبح كل شيء معروفًا وقد كُشفت كل الحقائق.

ريتال من يومها معتبرة أبوها مات يا عبدالرحمن أنا بنتي من غير أب أو بمعنى أصح بقى ليها أب تاني، أب حنين ويعرف ربنا، أب بمعنى الكلمة مش بس بيصرف لا بيصرف وبيراعي، بيسمعها، بيتكلم معاها ولو حد داسلها على طرف بيدسوه خالص ياريت يا عبدالرحمن تنسى إن كان ليك بنت في يوم من الأيام.

كان حديث زينة أشبه بخنجر مسموم يطعن كل شبرٍ في جسده، لم تُبالي بالدموع في عيناه ولم تُثير شفقتها حالته فالآن وقت الحساب، لا مجال للرفق والإشفاق هنا، أستقامت زينة من مقعدها بقليل من الصعوبة ومع تحركاتها لاحظ عبدالرحمن الإنتفاخ الذي يحوي طفلها ليتحطم آخر جزء متبقي من قلبه.

لقد خسر كل شيء وقد دُعست كرامته وفقد رجولته لكن لم يكن بيده حيلة، راقبها وهي ترحل متجهة نحو الباب قبل أن تقف وتنظر إليه النظرة الأخيرة، بصقت على الأرضية وعلى رجولته قبل أن تُغادر المكان وتسحب روحه معاها.

بعد مرور نصف ساعة جاءت زيارة آخرى إليه ولكنه كان محامي طلب رؤيته هذه المرة أو بمعنى أدق محامية حينما سمع عبدالرحمن الإسم وافق على رؤيتها فقط ليعرف ما تريده.

مش قولتلك يا عُوبد هنتقابل قريب؟ أهو ده بقى مكانك من زمان والحمدلله أنتَ اللي جيته بنفسك يعني وفرت على البوليس مطاردات وتهرب بقى وتستخبى والشغل ده. علقت مريم ساخرة وهي تجلس أمامه بعد أن تركهم الضابط وحدهم داخل المكتب خاصته.

جاية تكملي وصلة الشماتة بعد صاحبتك؟ مع إنك عارفة إن هي السبب في كل حاجة حصلتلي. أخفت مريم دهشتها من قدوم زينة ولقد تحدثت وكأنها كانت على علم بتلك الزيارة وفي الواقع لقد توقعت أن تفعل.

يا راجل خِف بجاحة ونطاعة! ضربت مراتك كنت هتخلص عليها وبقت مرمية في مستشفى على الأجهزة وكنت هتقتل بنتك قبل كده بالغلط وليك عين تلبس قرفك ده في حد تاني!

ما كل ده بسبب زينة! لو كانت ست عاقلة وقبلت بإني اتجوزت التانية مكنش حصل كل ده، هي عارفة إن أنا شوية وكنت هزهق من سالي وأطلقها وكانت هي اللي هتفضل على ذمتي. كانت تتمنى مريم لو أنهم خارج قسم الشرطة كي تفعل به ما يحلو بها لكن لسوء الحظ لن تستطع فعل شيء أكثر من توبيخه بكلمات قاسية.

بس عك وقرف بقى بس! يعني دمرت حياة زينة وريتال بنتك ورميتهم في الشارع ومش بس كده أذيت بنتك نفسيًا وجسديًا وبعدها سودت عيشة مراتك اللي اختارتها بنفسك، سيبك من كل دول طب وابنك يا عبدالرحمن؟ ابنك العيل اللي مكملش السبع سنين وشافك وأنتَ هتموت أمه قدامه أيه مصعبش عليك خالص؟

صفعت مريم الحقائق في وجهه، كان الأمر أشبه بسكب الكحول على جروح عميقة ذلك الشعور من الآلم والحُرقة سحق قلب السجين.

عارف أنا طول عمري بدعي وأقول «اللهم أضرب الظالمين بالظالمين» النهاردة بس ربنا كرمني وشوفت تحقيق الدعوة دي بعيني، أنتَ ظالم يا عبدالرحمن وزيك زيها متختلفوش عن بعض كتير.

قالت مريم وهي تبتسم ابتسامة جانبية لا تخلو من الإستهزاء، أستقامت من مقعدها وكادت أن تغادر المكان لكنها توقفت في اللحظة الأخيرة وأستدارت لتواجهه موجهه له كلماتها الأخيرة التي تفوق سابقتها قسوة مُردفة:
عارف يا عبدالرحمن بيقولوا إن الضباع لما بتجوع بتاكل بعضها وأنتَ وسالي عملتوا كده، الحمدلله زينة وريتال خلصوا من حدايتين بطلقة واحدة.

أطلقت كلماتها التي أخترقت قلبه وعقله أسرع من الرصاص وهي تغمز بإحدي عينيها متعمدة إثارة غيظه وتحطيم ما تبقى من كبريائه - هذا إن كان لديه كبرياء من الأساس- قابلها الضابط بالخارج وبمجرد أن رأته بدلت تعبيرات وجهها إلى الحزن وهي تقول:
أيه الأخبار يا أستاذة مريم؟

للأسف الأستاذ عبدالرحمن رفض إن يكون ليه محامي مش أنا بس بالتحديد أنا مش عارفة بصراحة هو بيفكر ازاي. قالت مريم بآسى كاذب استطاع الضابط كشفه ليسألها بمراوغة:
بس مش غريبة حضرتك يعني كنتِ المحامية بتاعت طليقته والنهاردة جاية عايزة تدافعي عنه؟ مش داخلة دماغي دي.

كله علشان بنته يا فندم اللي بقت فرد من عائلتي وقولت نعمل فيه جميلة ما هو برضوا أبو بنت مرات أخويا لكن هو رفض حتى المساعدة. أجابته بإجابة لم تقنعه كثيرًا لكنه لم يشغل باله، استأذنته في الرحيل لتغادر المكان وقد نمت على ثغرها ابتسامة واسعة تنم عن نصر كانت تنتظر منذ أن عرفت زينة وابنتها.

كان الكل تقريبًا قد زار والدها في السجن لكنها لم تقوى على ذلك فهي أصبحت تتقزز من سيرته، لا تريد النظر إلى وجهه ولن تحتمل مثل هذه المواجهة، لقد علمت أن والدتها ذهبت إلى هناك وغضبت كثيرًا لكنها كبحت نفسها من أن تبدأ شجار لا داعي له يكفي ما يمر الكل به، كل ما كان يشغل بالها الآن هو يوسف شقيقها المسكين وجدتها التي بهتت ملامحها أكثر في يومين وبدت وكأنها أزدادت عشرون عامًا على عمرها.

مرت ثلاثة أيام أي ما يقرب من الإسبوع منذ عودتهم إلى القاهرة ولقد توجب على ريتال العودة إلى الإسكندرية مرة آخرى ولقد كان عليها ترك يوسف هذه المرة لحين التوصل إلى حل لإبقاءه معها وأيضًا لحين حدوث أي تغيير بشأن والدته أو والدها.

رافقها تليد وياسين في رحلتها إلى الإسكندرية ولقد كانت إجازته على وشك الإنتهاء ولقد توجب عليه الرحيل مرة آخرى تاركًا ريتال من خلفه في حالة أسوؤ بكثير عن المرة السابقة لكن على الأقل هي الآن واثقة من حبه لها ومن أنه لن يتخلى عنها أو لنقول أنه حرص على أن تصدق هي ذلك.

كانوا يجلسون سويًا في مقهى يطل على بحر الإسكندرية اللامع، تُطالع هي الأمواج العالية وهي تصفع الشاطئ بينما تسللت إلى أذنيها أنغام أغنية حزينة للست أم كلثوم، كان عقل ريتال مزدحمًا بالكثير من الأفكار السلبية وأهمها أن تليد سيهجرها ليس بمعنى أنه سيسافر بل أنه سيتخلى عنها فمن المستحيل أن يتزوج بها بعدما حدث حتى ولو بعد سنين من الآن، كان يتأمل حسن وجهها بالرغم من الإرهاق الذي خيم عليه.

ريتو أنتِ سمعاني؟

بتقول حاجة يا تليد؟

لا ده أنتِ مش سمعاني خالص. تنهدت ريتال تنهيدة طويلة قبل أن ترتشف من كوب المياه الذي أمامها، نظر تليد إلى عينيها طويلًا وكأنه يقرأ ما يدور داخل ذهنها قبل أن يقول بلا أي مقدمات:.

أنا مش هتخلى عنك يا ريتال ومش معنى إن أنا مسافر تاني إن ده هيلغي أي حاجة أتكلمنا عليها، أنا هسافر وهرجعلك في أقرب اجازة إن شاء الله وأول لما أخلص سنة تانية هنزل مصر في الأجازة وهاجي علشان أخطبك. أتسعت عيناها من حديثه، حاولت أن تشعر ولو بقليل من السعادة والأمل لكنها لم تستطيع بل طالعته بإحباط شديد وهي تُردف بنبرة لا تخلو من الإنكسار والخجل:
هتخطبني يا تليد بعد ما،.

هتبقى مراتي بعد ما، وقبل ما، أنا مش فارق معايا أي حاجة، أنا بحبك يا ريتال ومش مهتم بأي حاجة حصلت لأن مكنش ليكي ذنب فيها.

بس أهلك عمرهم ما هيوافقوا،.

الكلام ده معناه إنك متعرفنيش كويس! ريتال أنا لو حطيت حاجة في دماغي هعملها وأنا بقى حطيتك في دماغي والأهم من دماغي، قلبي أنا حطيتك في قلبي.

أنا بحبك يا تليد. نطقت بها والدموع تُفيض من عينيها، لقد انتظر كلاهما طويلًا أنا تغادر تلك الكلمة شفتيها وكم تمنت هي أن تقولها في موضع أفضل بكثير من هذا لكنه القدر، لم يهتم تليد كثيرًا بالمكان من حولهم والظروف التي خربت كل شيء يكفي أنها نطقت بها ويكفي أنه سمعها.

أنا كمان بحبك، بحبك أكتر من أي حاجة ومن أي حد في الدنيا دي. صدر منها ضحكة رنانة وهي تُخفي وجهها بيدها خجلًا من حديثه قبل أن يقول بمراوغة تليق به:
كل حاجة في الدنيا فدى ضحكة منك.

عادت ريتال إلى منزل جدها مبتسمة غير العادة، لم تسير مشيًا على الأقدام بل حلقت بأجنحتها على الرغم من المشاكل والهموم التي أثقلت كاهليها لكن كلمة ونظرة حب من تليد كانت كفيلة بجعلها تشعر ببعض التحسن وإن لم ينجلي حزنها تمامًا...

جدو أنا جيت. صاحت بعد أن قامت بفتح الباب بواسطة المِفتاح خاصتها، لم يستقبلها جدها كالمعتاد حيث كان يقف في الشرفة متحدثًا في الهاتف ولقد خمنت أن المكالمة هامة أو لا تحمل أخبارًا سعيدة فليس بعادته عدم الإنتباه إلى صوت الباب.

لا حول ولا قوة إلا بالله، حوقل جدها بنبرة لا تخلو من الحزن وعلى الفور فهمت ريتال أن هناك خطب ما، أحدهم أخبر جدها بخبر سيء عبر الهاتف أقتربت نحو جدها بخطوات بطيئة قبل أن تسأله بنبرة لا تخلو من القلق والضعف:
في أيه يا جدو؟ حد، حد حصله حاجة؟

عبدالرحمن جاتله جلطة في السجن ودخل العناية المشددة وبيقولوا حالته خطر، ربنا عنده العفو يا بنتي ربنا يستر،.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة