قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية وبقي منها حطام أنثى للكاتبة منال سالم و ياسمين عادل الفصل العشرون

رواية وبقي منها حطام أنثى للكاتبة منال سالم و ياسمين عادل الفصل العشرون

رواية وبقي منها حطام أنثى للكاتبة منال سالم و ياسمين عادل الفصل العشرون

( يبقى على بركة الله نقرا الفاتحة)
هذه العبارة التي نطق بها مدحت والد سارة لذلك الثري الذي أراد الزواج من ابنته رائعة الجمال، فمنذ أن رأها بحفل زفاف إيثار وقد استحوذت على تفكيره وسيطرت عليه كلياً..
ولم يهنأ له بال قبل أن يحصل عليها..

مر على زواج إيثار شهر تقريباً وهو يسعى للوصول إليها ومن ثم عرض على والدها رغبته في الزواج من ابنته وما كان منه مدحت إلا الموافقة في ظل الظروف التي ينعم بها ذلك الشاب، فقد رسم أمامهم خطوط حياته كاملة...
فرامز شاب مصري في منتصف العقد الثالت من العمر، عاش سنوات طفولته مع والديه خارج مصر ومن ثم عاد لأرض الوطن مرة أخرى للبحث عن العروس الملائمة لكي يتزوج ويعاود السفر للخارج مجدداً...

رأت به سارة فتى الأحلام الذي سيحقق لها ما تتمناه ويجعلها تتعايش في ظل الثراء الفاحش بكنفه، ولذلك وافقت على الخطبة منه دون تريث وألحت على والدتها لكي توافق هي الأخرى، فهو فرصة لا تعوض، وهي لا تستحق أقل منه..
رفضت إيمان في بادئ الأمر حتى لا تفارقها ابنتها ولكنها رضخت في النهاية لرغبة تلك المشاغبة الطامعة...
وعقب أن انتهى الجميع من قراءة الفاتحة، ابتسم مدحت بوجهه البشوش ثم نطق مباركاً:.

الف الف مبروك يابني!
صافحه رامز بحرارة وهو يردد بنبرة عذبة:
الله يبارك فيك
رقعت إيمان الزغاريد المتتالية بينما كانت سارة تختلس النظر لذلك الوسيم الذي حظيت به، كانت ملامحة شرقية جذابة، ذي بشرة برونزية وعينين سوداوتين يظهر بهما العمق والغموض، أنفه ينحدر بإستقامة نحو فمه، بينما كانت شفاهه غليظتين بلون فاتح، يتميز بالطول الفاره بجانب نحافته المتزنة..

كان حقاً فتى الأحلام لأي فتاة حالمة، وها هو إصبعها يتزين بخاتمه الثمين...
وبينما هي متمعنة النظر به تتفحص ملامحه بدقة وكأنها تدرسها، رفع رامز بصره فجأة عليها ليصطدم بالنظر لبؤبؤي عينيها فأسبلت بصرها للأسفل باستحياء وكأنها ضبطت بالجرم المنشود وتوردت وجنتيها سريعاً، فابتسم بثقة عقب أن شعر بتأثيره الإيجابي عليها، وبرزت أسنانه قليلاً وقد تيقن من إعجابها به وبمظهره الحسن.

كانت تبكي وتنتحب بصورة مفرطة، حتى أانفطر قلب ولدها على حالها فمسح على ظهرها وهو يواسيها ولكنها دفعت ذراعه بعيداً عنها ورمقته بنظرات معاتبة لتضع حمل الأمر وثقله على أكتافه هو، فتنهد مطولاً..
هنا في منزل عائلة إيثار..
المنزل الذي أصبح وكأنه مأتماً منذ أكثر من شهر عقب أن إنقطعت أخبار ابنتهم الوحيدة..

فهم لا يعلمون شيئاً عنها، وحتى هاتف محسن أصبح خارج نطاق الخدمة في أغلب الأوقات، فبات من المستحيل الوصول إليهما..
أخرجت تحية صرخة يائسة من صدرها وهي تنطق بحرقة:
بنتي جرالها حاجة، أنا متأكدة ان فيها حاجة!
ها هو قلب الأم، يستشعر أقل تغيرات تطرأ على فلذات أكبادها..
حدسها ينبئها بأن صغيرتها تعاني..
لم يختلف حال رحيم عنها كثيراً، إلا انه كان بارعاً في إخفاء مشاعره القلقة..

فالخوف الممزوج بالاضطراب مسيطراً عليه منذ فترة..
جاهد قائلاً لكي يضع الصبر الزائف بداخلها:
أهدي ياتحية شوية، أكيد الغيبة دي وراها سبب منعرفهوش
ضربت هي كفاً على الأخر، وصاحت معترضة والمرارة تصدح في نبرتها فقد سئمت من أسالبيهم الباردة:
سبب اي! ابنك بيقول معادش بيروح الشغل وواخد أجازة مفتوحة أديله زمن، وتقولي أهدى، انت مش حاسس بالنار اللي فيا..

كور عمرو قبضة يده، فإختفاء أخته ومحسن أثارا ريبته بشدة، خاصة أن وسائل الإتصال به باتت منقطعة إن لم تكن معدومة..
خالج شعور الذنب فؤاده، وكافح ليقول بتوسل: أهدي ياماما، انا غلطان اني قولتلك يعني!
التفتت تحية برأسها لتحدجه بنظرات قاتلة ثم أشارت له بسبابتها ونطقت بلهجة محذرة:
متكلمش معايا خالص انت بالذات، كانت مجايبك سودا ومهببة!
صاح رحيم بنفاذ صبر وقد ضاقت عينيه بشدة:.

ما قولتلك أهدي ياتحية وهنحاول نلاقي طريقة نوصلهم بيها!
عضت تحية على شفتيها بتألم وهي تضيف بمرارة:
طول عمرك قاسي عليها يارحيم وبتشد في تربيتها!
وكأنها تحمله اللوم، فرمقها بنظرات غاضبة، وتابع بصياح يحمل الغيظ من هرائها بوجهة نظره:.

اي الكلام الفارغ ده ياولية!؟ طول عمرنا عارفين المثل اللي بيقول أكسر للبت ضلع يطلعلها أربعة وعشرين، لولا شدتي عليها كانت طلعت سايبة وماشية على كيفها ولا مبتشوفيش البنات عاملين أزاي اليومين دول؟!
ابتسمت تحية بسخرية من زاوية فمها ثم هزت رأسها بتحسر وهي تهتف:
أيد تحن وأيد تشد يارحيم، إنما البت مشافتش منك حنية أبداً، ياشيخ ده النبي كان بيلعب مع عياله ويحن عليهم وكلهم بنات، مش بنت واحدة.

ابتلع رحيم غصة مريرة وقفت بحلقه فعبارتها المحملة بالإتهامات المتوارية لمست صميمه الذي غطى عليه..
شعر بالحرج من نفسه، فهو بالكاد لم يعامل ابنته يوماً بشئ من الحنان واللين، فقط أفكاره العقيمة سيطرت عليه وخشي من انفلات الزمام من يده، فردع صغيرته منذ نعومة أظافره معتقداً أنه يحميها...
أكملت تحية حديثها وهي تنهض عن مكانها قائلة بعتاب قاسي:.

حتى ياحبيبتي لما قلبها دق حرمتوا عليها الحب، ربنا يسامحكوا، بنتي ذنبها في رقبتكوا!
عرجت لداخل حجرتها في حين مسح عمرو على نحره وقد شعر بالإختناق والضيق، والدته محقة، الكل جنى عليها، الكل تسابق في إرسالها إلى مصير مجهول دون التأكد من عواقبه..
بادر رحيم قائلا بلهجة آمرة قطعت تفكيره المشحون:.

بكرة تتصرف وتعرفلنا الراجل ده بلده إي، متجيش ولا تخطي عتبة الباب غير لما تجيبلي خبر عن أختك وجوزها وكفاية أوي المناحة اللي عملاها أمك بقالها أسبوعين!
تنهد عمرو وهو يهز رأسه إيجاباً:
حاضر يابابا، هتصرف بكرة إن شاء الله...

كانت في حجرتها تجوبها ذهاباً وإياباً وهي ممسكة بأحدى المذكرات الدراسية وتجاهد لحفظها عن طريق أستخدام أسلوب ( التسميع )..
كانت تعقص شعرها على شكل ( كعكة) بشكل غير مهندم، فتركت بعد الخصلات تنسدل بصورة متمردة لتزيد من مظهرها العبثي..
وأثناء حفظها شعرت بنفاذ طاقتها وإنحدار مستوى حماستها فألقت المذكرة أرضاً بصورة عنيفة ثم صرخت وهي تمسك برأسها:.

اااااه، دماغي هتنفجر ومش عارفة أحفظ، دي مش ثانوية عامة دي زفت وقرف، مش ممكن كل ده في صفحتين ومش عارفة أحفظهم!
زمت شفتيها لتضيف بإستهزاء:
اللعنة على الثانوية واللي عملوها
ألقت بجسدها على الفراش ثم حركت ذراعيها في الهواء، ومطت جسدها وهي تتأوه بخفوت، وفجأة توقفت عن الحركة وحدقت أمامها بنقطة ما في الفراغ..
استقامت في جلستها سريعاً ثم خرجت من حجرتها راكضة وهي تبحث عن شئ ما..

انطلقت لحجرة أخيها وضغطت على زر الإنارة ولكن خابت ظنونها ووجدت الحجرة خاوية..
تملكها الحزن، وأصيبت بالإحباط..
كان مجرد وهم، ليس هنا، فقد تردد في أذنيها صوتاً ألفته منه، وكأن عقلها توهم سماعه لصوت دندنات خافتة وألحان تشبه ألحان أخيها...
تنهدت بإستياء، وبدت أكثر عبوساً وهي تتأمل غرفته الخاوية..
كل شيء مرتب في مكانه، لكنها تخلو منه..
بدت باردة قاسية، تحمل الجفاء والغربة..

أطرقت رأسها بضيق ثم ولجت للداخل وجلست فوق مقعده الخشبي، تأملت حوائجه ومراجعه الدراسية التي تركها خلفه ثم أمسكت بإحداهم وأخذت تفر في أوراقه بلا إهتمام..
هي تبحث عنه بين طيات الأوراق..
أرادت أن تستشعر بقوة وجوده إلى جوارها..
هي تفتقده بشدة، تشتاق إليه، ترغب في إحتضانه واللهو معه كما اعتادت..
التوى ثغرها بإبتسامة باهتة وهي تتذكر استفزازها له..
تنهدت بعمق، ولمعت عينيها قليلاً..
همست بآسى:
وحشتني!

وفجأة لمحت ورقة مدون عليها أسم إيثار بالإنجليزية وزهرة حمراء جافة الأوراق وهي تقلب بين الصفحات..
انعقد ما بين حاجبيه بإستغراب، ثم سريعاً تبدد هذا التعجب، و ابتسمت ساخرة..
كان أخاها عاشقاً متيماً، قبل أن يتحول إلى ناقم لكل شيء له صلة بالحب..
أغلقت الكتاب بعنف ووضعته بمحله وهي تزفر بغضب واضح..
نهضت عن مكانها ثم طالعت الحجرة بأعين مشتاقة يحتلها الحنين، تشعر بمرارة الإفتقاد..

ولكن ما يهون عليها ذلك هو اتصالاته المنتظمة بها وتواصله الدائم معها..
وأثناء شرودها، ولجت عمتها ميسرة إلى داخل الغرفة وهي تمرقها بنظرات اشفاق..
بحثت عنها بحجرتها ولم تجدها فاستنبطت متيقنة بوجودها بغرفة الغائب وصدق حدسها...
اقتربت منها، ووضعت يدها على كتفها، فإستدارت روان ناحيتها، وهمست متساءلة بعذوبة:
انتي بتعملي إي هنا ياروني؟ بدور عليكي من بدري.

أطلقت روان تنهيدة مطولة تحمل الكثير من المشاعر، وأجابتها بمرح زائف وهي تكافح لمنع عبراتها من السقوط:
جيت أدور على مالك اللئيم اللي كان بييجي بالليل ويدخل يخبي الشيكولاته مني قبل ما أخدها منه!
ضمتها ميسرة إلى صدرها، وأبعدتها عنها قليلاً لترفع كفيها إلى وجهها، ثم مسحت على وجنتيها بعاطفة أمومية وهي تردد
ربنا يرجعه بالسلامة ياحبيبتي، يلا تعالي أحكيلك اللي حصل.

خرجت الاثنتين من الغرفة، وبطبيعة الحال الفضول دائماً ما يسيطر على روان حينما تتعلق المسألة بأمر جديد..
لذا تساءلت بإهتمام گعادتها عن ماهية الحوار الذي تريد عمتها إخبارها به..
جلستا بجوار بعضهما على الأريكة العريضة ثم بدأت ميسرة في سرد ما حدث معها في صباح هذا اليوم فأنصتت لها روان بتركيز، ثم أضافت بجمود قليل:
ام سارة قابلتني الصبح على السلم!

ضاقت نظرات روان حنقاً، فهي مؤخراً باتت تبغض كل من له صلة بإيثار وعائلتها..
استشعرت ميسرة ضيقها، ولكنها أكملت بتهكم:
وقال إي بتعزمني على فرح بنتها أول الشهر الجاي
تجهم وجه روان، وصاحت بحنق بادي في نبرتها وهي تشيح ببصرها للجهة الأخرى:
ان شالله يولعوا ملناش دعوة بيهم
أرجعت ميسرة ظهرها للخلف لتسترخي قليلاً، وتابعت بإمتعاض:
انا باركتلها وخلصنا
روان وهي تطرق رأسها أثناء تذكرها لما حدث لأخيها:.

سارة دي هي السبب في كل حاجة حصلت من الأول وأكيد ربنا هيخلص منها!
أغمضت ميسرة عينيها، وهزت رأسها بحركة ثابتة وهي تقول بهدوء:
ربنا يسهلهم كلهم بعيد عننا وكل واحد راح لحاله!
شردت روان لوهلة في أمر ما..
بدى غريباً في البداية أن تفكر فيه، ولكنه رغم ما حدث غامضاً ويثير الريبة..
ضاقت نظراتها، واعتدلت في جلستها، ثم حدقت في اتجاه عمتها، وأردفت قائلة بإهتمام مفاجيء:
عمتو مش واخدة بالك من حاجة؟

انتبهت لها ميسرة، ورمشت بعينيها وهي تتابع متساءلة بجدية:
حاجة إي؟
زادت حدة نظراتها، وأكملت بتفكير متعمق:
احنا مشوفناش إيثار ولا جوزها المخفي ده من ساعة ما أتجوزو، تفتكري مش بتيجي ليه؟!
حكت ميسرة مقدمة رأسها، فهي لم تنتبه لتلك النقرة من قبل، فقد مرت مدة منذ أن رأت فيها إيثار، وهذا الأمر يعد غريباً، خاصة وأنها عروس جديد تشتاق لعائلتها، ومن المتوقع أن تزور عائلتها بإستمرار..
أخفضت نبرتها لتجيبها بإهتمام:.

تصدقي عندك حق!
أضافت روان متساءلة بجدية وفضول وهي تقطب جبينها:
تفتكري ليه؟! يعني إيثار عارفة ان مالك مسافر أكيد مش خايفة تقابله، يبقى ليه بقى؟!
زفرت ميسرة بضيق، فحال مالك تبدل بسبب فعلتها معه، وتغير مسار حياته نتيجة ما حدث، هي لا تريد نبش جراح الماضي حتى لا يتوغر صدرها أكثر، فنفضت عن عقلها تلك الأفكار، وهتفت بصلابة وهي تشير بإصبعها:.

متفكريش فيها ولا في أهلها يابنتي، ويلا قومي كملي مذاكرتك عشان متتعطليش!
أومأت رأسها إيجاباً ثم نهضت بتثاقل عن الأريكة واتجهت إلى حجرتها، بينما ظلت ميسرة في حالة من الوجوم قليلاً ثم نهضت لكي تستكمل ما تركته خلفها بالمطبخ...

مر ما يقرب من ثلاثة أسابيع على ذلك اليوم المؤلم، لم يختلف الأمر كثيراً عنه، ولكنها باتت مجبرة أن تحيا كل يوم في ذلك العذاب اللا محدود حتى باتت تتعايش معه مكرهة، وكيف ستتصرف وهي بمفردها، وحيدة، عاجزة، في منفى لا تعرفه...
استسلمت بالكامل لهذا الواقع المؤلم الذي تعايشه، وتقبلت نوعاً ما وجود ذلك الشيء الحيواني بحياتها..
كم بغضت وجودها معه، وكرهت نفسها من مجرد اقترابه منها..

تمسكت بأمل أن حالها سيتبدل، فهي ميقنة بأن الله نصير المظلمين..
كذلك خفف عنها معاناتها المستمرة هذه السيدة الودودة التي حظيت بمعرفتها بهذه البلد الغريب، كانتا دائما ما تجلسان سوياً ولتتسامر كلتاهما كثيراً...
لمحات من الحزن كانت طافية في عيني إيثار رغم عدم بوحها بشيء..
لكن مجرد أن تنظر فيهما تجد آلاماً تحتاج للتطيب، وجراحاً تحتاج للشفاء..
وفي يوما ما..

جلست الاثنتين سوياً على طاولة المطبخ الدائرية الصغيرة تقطعان الخضراوات الطازجة تجهيزاً لوجبة الغداء، فلاحظت أمل عليها الحزن والكآبة بصورة أكثر عما مضى..
تركت السكين من يدها ثم نطقت بنبرة عذبة وهي تتساءل بحنو:
مالك ياإيثار؟! في حاجة شغلاكي
علقت إيثار أنظارها على قطع الخضروات وبلهجة خالية من الحياة أجابتها:
أهلي وحشوني، نفسي أشوفهم وأسمع صوتهم..!
ثم رفعت عيناها بحذر نحوها، وتوسلتها بخوف قليل:.

هو، هو مينفعش تكلميه وتخليه يوديني أسكندرية ان شالله يوم واحد!
قبضت أمل على شفتيها بحنق ثم هزت رأسها نافية وهي تردد بإستياء:
مش هيوافق انا عارفاه
زفرت إيثار أنفاسها المحتقنة بغيظ جلي ثم عاودت إستكمال ما تفعله حتى قطعت عليها امل تفكيرها وهي تردد بنبرة حماسية:
بس انا ممكن أخليكي تكلميهم تطمني عليهم
عاد الأمل من جديد ليتراقص أمام عينيها الحزينتين، فهتفت.

بتلهف شديد وقد أنفرج ثغرها ببسمة واسعة لم ترها أمل عليها من قبل:
بتكلمي جد؟!
أمل وهي تهز رأسها مؤكدة:
طبعاً ياحبيبتي، انا هحاول اتصرف وأجيب تليفون محسن وانتي اسبقيني على فوق!
نهضت إيثار عن مكانها بعجالة ثم مسحت كفيها بالمنشفة وأنطلقت للأعلى بصورة سريعة تكاد تشبه الركض، ها هي ستحظى بفرصة للتواصل مع من تشتاقهم..
كانوا بالأمس القريب أقرب إليها من روحها، واليوم باتوا أبعد من خيالها..

كم تشتاق لصوت أمها، وخشونة نبرة ابيها وهو يوجهها، وجدية اخيها عمرو وهو يعاتبها لخطأ صغير..
أشياء صغيرة اعتادت فعلها، لكنها كانت بأمن من هذا الجحيم المرير...
خفق قلبها بقوة، وتسارعت أنفاسها متحمسة..
وظلت تردد بين نفسها:
يا رب، يا رب، يا رب
صعدت أمل بتوجس وخطوات حذرة لتدخل حجرتها، فهو اليوم نائم فيها..

طالعته بنظرت مطولة لتتأكد من انتظام انفاسه، ثم حبست أنفاسها، وتسللت على أطراف أصابع قدميها حتى لا تحدث صوتاً..
اقتربت بحرص من خزانة الملابس، وبترقب شديد فتحت الضلفة، وأخذت تعبث في محتوياتها وأشيائه التي بها حتى وجدت هاتفه أسفل الثياب..
فالتفتت برأسها لتتأكد من أنه مستغرق في سباته العميق...
سحبت الهاتف المحمول بهدوء، ودسته في جيبها النسائي، ثم ولجت للخارج وهي تلتقط أنفاسها بإرتياح..

لاح على ثغرها ابتسامة خفيفة، فاليوم ستساعد تلك التعيسة لتحظى ببعض الراحة والسكينة..
، وبخفة شديدة ذهبت لحجرة إيثار لتجدها تنتظر على أحر من الجمر وما أن وقعت عيني الأخيرة عليها حتى ركضت إليها، ونظرت له دون أن تنطق..
أخرجت أمل الهاتف من فتحة صدر فستانها، ومدت به يدها نحوها، فسحبته هي منها، وهتفت ممتنة وقد برقت عينيها:
مش عارفة أشكرك ازاي بجد!
على ايه بس، هستناكي برا أما تخلصي.

قالتها أمل وهي تتجه صوب باب الغرفة...
شرعت إيثار بتشغيل الهاتف ومن ثم بدأت بالضغط على أزراره لإجراء مكالمة هاتفية، إن لم تكن الأهم على الإطلاق..

في هذه الأثناء كانت تحية تتابع أحد البرامج التليفزيونية الإخبارية فتفاجئت برنين هاتف رحيم، فأمسكت به بعدم اهتمام، ولكن سريعاً ما تحولت نظراتها للصدمة حينما دققت النظر في شاشته، وقرأت اسم محسن على المكالمة فانتفضت في مكانها، وبشكل لاإرادي قامت بالرد بتلهف:
آآ، الو
تنهدت إيثار بحرارة موجعة، وهمست بمرارة رغم اجتهادها في اظهار فرحتها بسماعها لصوت أمها أخيراً:
ماما حبيبتي وحشاني اوي!

قفز قلب تحية في صدرها وزقزق گعصفور وليد، وهتفت بتلهف: بنتي، ضنايا وحشتيني اوي اوي ياحبيبتي، طمنيني عاملة اي وكنتي فين كل ده؟!
صمتت إيثار لوهلة، فقد وقعت عينيها على أمل المرابطة أمام عتبة الباب، وعيناها معلقتان بها..
توجست خيفة منها، وترددت أتحكي أمامها أم ماذا؟!
ولكنها في النهاية حسمت أمرها، لا وقت لإضاعته، هي حظيت بفرصة ربما لن تتكرر..

لا مجال للتراجع، على أهلها أن يعرفوا ما ألم بها، وما تعانيه من تلك الزيجة البشعة..
لذا قررت سرد ملخص وافي عما مرت به الأيام والليالي وما قاسته بسبب عائلتها فلن تتواجد فرصة آخرى گهذه، أبتلعت ريقها بمرارة وهي تهتف بصعوبة:
اسمعيني كويس ياماما عشان معرفش هقدر اكلمك تاني ولا لأ!
اختنق صوتها وهي تكمل بأسف:
انا اتبهدلت وطلع عيني بسبب بابا وعمرو واللي عملوه فيا، محسن طلع ا ا...

كانت الكلمات تقف على حافة لسانها وتأبى الخروج من شفتيها، جاهدت للحديث وقد بدأت الدموع الحارة تنسال من عينيها بغزارة وهي تتابع:
متجوز ياماما، عارفة يعني ايه متجوز، وأنا مش الأولى في حياته..!
شهقت والدتها بصوت مسموع، تكاد تجزم أنها شعرت بها تلطم بقوة على صدرها..
نشج صوت إيثار وهي تكمل بصعوبة:
و، وانا اتجوزني عشان يخلف مني وبس، بهدلني وضربني وو و، و، آآ، و...!

علت صوت شهقاتها المريرة وهي تسرد على والدتها مرارة ما جابهته بكنف زوجها..
بكت تحية بصمت وقد عجز لسانها عن الرد.
. شعرت بآثامها هي الآخرى، هي ملامة فيما فعلته بإبنتها..
هي مشاركة في تلك الجريمة، فصمتها الذي أمتهنته جعلها مذنبة بشدة، فنطقت بصوت متحشرج:
كل ده يابنتي! انا كنت حاسة ان فيكي حاجة وقلبي مكدبش، آآآه يا بنتي، آآآآآه!

ولج رحيم خارج المرحاض فتفاجئ بزوجته تتحدث بنبرة باكية بهاتفه فاقترب منها وعلى وجهه علامات الاستفهام، ولكن ما لبثت أن زالت حينما سمع اسم إبنته خلال حديثها المتشنج...
فتحرك سريعاً نحوها، واختطف الهاتف من يدها ليردد بعجالة:
إيثار، انتي فين يابنتي، وكل ده كنتوا مختفيين ليه؟
أغمضت إيثار عينيها حسرة، فقد استصعبت الحديث معه عقب ما فعله بحقها..

ظنت أنها ستتمالك حينما تسمع صوته، لكن نبرته ذكرتها بقراره المجحف في حقها..
وبصعوبة واضحة أجابته: معرفش
لهثت وهي تكمل بنشيج:
كل اللي اعرفه اني محبوسة هنا في بلد ريفية حتى أسمها معرفهوش!
لم تستطع التحمل أكثر من ذلك..
أوشكت على الإنهيار..
فصرخت بنبرة متشنجة:
وانتوا السبب في اللي انا فيه، انتو السبب، رمتوني ليه!

تجهم وجه رحيم، وبدى متخبطاً، هل أخطأ في حق ابنته؟ هل دفعها للجحيم بيده، هو كأي أبى كان يسعى لتزويجها ممن يؤتمن عليها..
كان يخشى عليها من القيل والقال، من الأقاويل التي تمس عرضها..
هو لم يخطيء، هو كان يحميها، هكذا برر لنفسه..
لكنه لم يعلم بعد تبعات قراره الظالم..
يا الله كم بدى كالجلاد القاسي الذي لا يرحم حينما ينفذ حكم الإعدام على محكوميه..
ضغط على شفتيه ليقول بحزم زائف:.

فين جوزك خليني اسأله ولا أتكلم معاه؟
أجابته إيثار بضيق وهي تنظر لأمل مرة آخرى:
انا بكلمكوا من وراه!
اييييه!
قالها رحيم بصدمة واضحة...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة