قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية وبقي منها حطام أنثى للكاتبة منال سالم و ياسمين عادل الفصل السادس عشر

رواية وبقي منها حطام أنثى للكاتبة منال سالم و ياسمين عادل الفصل السادس عشر

رواية وبقي منها حطام أنثى للكاتبة منال سالم و ياسمين عادل الفصل السادس عشر

ذاب الحنين وتركني إليها مسافراً..
ويعلم إنها بعهد هذا الحب، هي هاجرة
تابعت إيثار خطواته المبتعدة عنها وسيل الدموع ينهمر من عينيها..
هي تُكذب أذنيها التي سمعت توبيخه اللاذع لها وكلماته القاتلة التي ضغطت على وترها الحساس..
طالعت ذلك المكان الذي طالما جمعهما معاً وكأنها تطالعه للمرة الأخيرة..
زادت عبراتها المنمهرة، وزاد الآلم بداخلها...

اقتربت من مياه البحر وانحنت لتلمس أمواجه بأناملها، فتخللت رائحة البحر أنفها واعتلى منسوب الدموع حينما تذكرت لحظات أخرى مميزة، فأغمضت عينيها قهراً لتسترجع ما مضى...

((( أغمضت عينيها لتسمح لصوت تلاطم الأمواج بإختراق مسامعها، واستنشقت عبير البحر وكأنه عبير زهور برية ينشر صوت حركة أغصانها بالمكان
مال مالك برأسه للأمام ليتأمل هيئتها وعلى ثغره بسمة واسعة ثم هتف بصوت خافت لمس صميمها:
بتعملي إي؟
فتحت إيثار عينيها لتنظر له بحب، وأجابته بنعومة تتماشى مع الأجواء:
بشم ريحة البحر، بحبها أوي.

زادت إنفراجة فمه وهو يضيف ببسمة واسعة ضاقت لأجلها حدقتيه: ده بجد! انا كمان بحب ريحة البحر جداً، تحسي إنها بتفصلك عن اللي حواليكي!
أجابته نظراتها بدلاً من شفتيها المنمقتين، وأسبلت عينيها لتنظر إلى صفحة مياه البحر الزرقاء، ))).

أفاقت إيثار من ذكراها التي باتت أكثر إيلاماً، ثم حاولت الإنتصاب في وقفتها ولكنها عجزت عن ذلك
لقد انحنى ظهرها وشعرت بإنكساره وكأن الهموم تثاقلت على كتفيها..
سارت مبتعدة عن المكان ونسمات الهواء تجفف من عبراتها المتعلقة بأهدابها والملتصقة بوجنتيها حتى قادتها ساقيها لمنزلها...
( قسا القلب بداخله والعين أظلمت
تقطعت أوتار عشقه والمودة قد محت
صرخ قلبها بعشقه وبالرجاء توسلت
أيا قلبا عشقت لا تقسو فقد أمت.

أهان عليك قلبي؟ وبالافتراء ترميني؟
كفاك بالجراح عمقا، فلا يوجد مايداويني
فوالله يا حبيبي إن جفاءك يقتلني وبعدك لن يحييني ).

في منزل إيثار، كان أخاها قد حضر قبلها بلحظات، و دون النظر حيالها هتف مبتسماً:
تعالي يا إيثار اتفرجي جيبتلك إيه؟
لم تنظر نحوه إيثار، بل ظلت واجمة في مكانها، وكأنها تتلقى العزاء في أغلى ما عندها..
حضرت تحية من المطبخ وهي تجفف كفيها بالمنشفة القطنية ثم دققت النظر في الأكياس البلاستيكية الموضوعة على الطاولة..
زادت إختناقة إيثار، و همت بالتحرك لحبس نفسها في حجرتها ولكن إستوقفها أخيها قائلاً بإندهاش:.

دي حاجات جيبتهالك على زؤي عشان جوازك
وكأن كلماته كانت كالملح الذي وضع على جرحها المفتوح فزاد من حدته..
استدارت نحوه، وعقدت ساعديها أمام صدرها وهي تنطق مستنكرة وقد تحولت نظراتها للإظلام:
مين قالك محتاجة حاجة منك!
إرتفع حاجبي عمرو لاإرادياً بإستغراب: مش لازم تقولي، اعتبريها هدية!
إيثار وقد تلوت بشفتيها بإمتعاض: مش عايزة.

ثم تركت المكان وولجت إلى داخل حجرتها في حين تحركت والدتها نحوه وتفحصت محتوى الأكياس لتجد العديد من ثياب العروس المنزلية، فجلست على الأريكة وهزت رأسها بتحسر وهي تنطق
: ادخل طيب خاطرها بكلمتين، ولا خلاص متعرفش يعني إيه حنية!
عمرو وهو يطأطئ رأسه للأسفل: حاضر ياماما
التقط الأكياس ثم ولج لحجرتها بعد أن طرق الباب، ووضعهم أعلى المنضدة وجلس على حافة الفراش بينما لم توليه هي أدنى إهتمام..

انكمشت على نفسها وأسندت رأسها على حافة السرير وكأنه نكرة، مد هو كفه ليطبق على كفها برفق، ولكنها سحبت يدها بعنف من بين أصابعه، فشعر عمرو بحجم الفجوة التي أصبحت بينه وبين شقيقته عقب قسوته المفرطة وخشونته في التعامل معها گأنثى على الأقل، وغزة آلمته بصدره وهو يجاهد للحديث معها قائلاً بصعوبة:
مكنتش أتخيل أبداً إن هييجي يوم وتبقي مش طيقاني فيه ياإيثار.

أطبقت إيثار على جفنيها لتزيد من شعوره بعدم إكتراثها، ولم تجبه..
عمرو مستكملاً بنبرة حانية: يا بت انتي أختي، يعني محدش هيخاف عليكي أدي ولا حد يحبلك المصلحة غيري!
لحظات صمتها كانت العقاب الأمثل له، ونظرات العتاب واللوم التي حدجته بها أطبقت على أنفاسه، فأطلق تنهيدة تابع بعدها حديثه:
بكرة لما تبقي في بيتك مع جوزك وعيالك حواليكي هتفتكري كلامي وتشكريني في سرك!
نظرت له بسخط، وتمتمت مع نفسها بإستنكار:.

مش هسامحك عمري كله، كله ياعمرو!
طال حديثه معها وهو يرسم أمامها خطوط المستقبل المبشر الذي ستحظى به بكنف زوجها، كما تعمد التأكيد بعباراته بالإشارة عن نيته الطيبة ورغبته في أن تتنعم بحياة آمنة معه..
لم تصغ إلى كلمة واحدة مما قالها، بل غرقت في بحور أفكارها وذكرياتها التي أصبحت گسراب الضوء في حياة مظلمة..
قطع شرودها صوت هاتفه الذي صدح عالياً فاضطر للنهوض والخروج من الحجرة..

اعتدلت هي في جلستها لتنهض فما زالت تاركة خلفها المزيد لتجهزه من أجل هذه الزيجة المشؤومة، ولكنها لم تستطع، فقد شعرت بثبوط عزيمتها وقواها الخائرة، فعادت تستند على فراشها ولم تهتم بالبقية.

مرت عدة أيام، كان مالك قد عزم افيها بأن يغادر أراضِ مصر كاملة..
نعم، فقد إعتقد أنها لن تسعه بعد الآن بعد شعور الغدر والخيانة، ولكنه أخفى ما انتوى فعله حتى يتأكد من إنتهاء كل شيء بدون ضغوط من عمته وزوجها وحتى شقيقته الصغيرة، خاصة وأن الفرصة التي جاءته لا تعوض...

كذلك كانت الاستعدادات والتجهيزات لزفاف إيثار في أوج مراحلها، فقد أصر والدها ( رحيم) على إصطحابها لإختيار الأثاث المتبقي لبناء منزل الزوجية، كما ذهب الجميع لرؤية محل الشُقة التي ستقطن بها إيثار..
وما أن عبرت إيثار عتبات المنزل الذي سيكون منزلها شعرت وكأن الدنيا تطبق عليها وتحبس أنفاسها بداخلها..
شعور بالإنقباض سيطر عليها لم تعرف مصدره، ولكنها لم تكن مرتاحة على الإطلاق...

حدقت في الفراش الذي ستشارك زوجها بنظرات مصدومة حتى شعرت بالإشمئزاز من حالها فغضت بصرها عنه، و قررت مجبرة إنجاز هذه المهمة المرغمة عليها لتترك سجنها المستقبلي سريعاً...

كان المساء قد حل، صعد مالك درجات السلالم فوجد رجلاً غريباً لا يعلم هويته، حاملاً بيده العديد من الصناديق والحقائب الممتلئة بالحوائج المختلفة وكاد يقرع على باب منزله فإستوقفه بعبارته الجادة قائلاً:
حضرتك عايز مين!؟
نظر له ذلك الغريب بنظرات حائرة، ثم دقق النظر بالورقة المدون بها الاسم والعنوان، و عاود النظر إليه محدثاً إياه بشكل رسمي:.

أنا حسن من سنتر عروستي يافندم، مش دي شقة الأستاذ رحيم عبد التواب، أنا جاي أسلمه آآ...
قاطعه مالك وهو يبتسم من زاوية فمه بتهكم: قصدك أبو العروسة؟
رد عليه المندوب حسن وقد انعقد ما ببن حاجبيه بعدم فهم: أفندم!
هز مالك رأسه بعدم مبالاة، واجابه بفتور:
ولا حاجة
مرت لحظات معدودة من الصمت ثم تابع مالك بنبرة محتقنة
وهو يشير بأصبعه للأعلى وقد تغيرت معالم وجهه للعبوس: الأستاذ رحيم في الشقة اللي فوقينا.

ابتسم له حسن، وهتف بنبرة ممتنة: شكرا يافندم
لملم المندوب الصناديق والحقائب القماشية ثم صعد للأعلى، استطاع مالك أن يستنبط لماذا حضر هذا الرجل، فهو مندوب من أحد المراكز الخاصة بتجهيز العرائس، تلوت شفتيه بسخرية مريرة، ثم هتف من بين أسنانه حانقاً:
اشبعي بيهم وبيه!
عقب أن عبر عتبة منزله صفق الباب بعنف بيّن، ولم ينتبه لوجود زوج عمته في الصالة الخارجية، ولكن عندما وقعت عينيه عليه طأطأ رأسه ثم هتف معتذراً:.

أسف ياعمي
ضغط ابراهيم على شفتيه ليقول وهو يهز رأسه متفهماً:
ولا يهمك يابني، تعالى طمني عليك
اقترب منه مالك ثم جلس على مقربة منه ونطق بلهجة جافة
بعد تنهيدة مطولة:
الحمد لله، عايز أبلغكوا بحاجة، بس لما تيجي عمتي!
حضرت روان من الخارج والأرق بادي عليها بشدة، نزعت الحقيبة عن كتفيها وهي تغلق باب الشُقة ثم هتفت بضجر:
مساء الخير
أجابها إبراهيم بهدوء: مساء النور، حمدالله على السلامة ياروان.

ردت روان وهي تحاول رسم البسمة على ثغرها:
الله يسلمك ياعمو!
نظرت هي لأخيها بنظرات معاتبة، وهتف بصوت شبه متذمر:
أخيراً الواحد شافك يامالك، انا فقدت الأمل ياراجل!
نهض مالك عن مكانه ثم اقترب منها ليحتضنها بقوة، فقد مرت بالفعل أيام عديدة لم يستطع أحدهما رؤية الأخر..
ربت على كتفها برقة وهو يبتعد، ثم تأملها لوهلة قبل أن ينطق بنبرة مازحة:
واضح أن الدروس خدت بطاري منك!
أراحت روان رأسها على صدره ثم نطقت بإنهاك:.

أتبهدلت خالص يامالك، الثانوية العامة هتجيب أجلي
مالك محاولاً الشد من آزرها: انتي أدها ياروني
حضرت ميسرة من المطبخ وهي تحمل بيدها حامل بلاستيكي ( صينية ) عليه صحون صغيرة زجاجية، وما أن رأت الوّد بين ولدي أخيها الراحل حتى دار بمخيلتها أن تضاهي بين نموذجين للأخوين، مالك وروان، عمرو وإيثار...

والحق يقال لا يجوز المقارنة ولا وجوه لها بهذه المضاهاه، فاحتلت الفرحة بؤبؤي عينيها ثم تقدمت صوبهم وهتفت بحماس أثناء إشارتها للصحون الصغيرة بعينيها:
عملالك الرز بلبن اللي بتحبه يامالك، يلا غير هدومك وتعالى!
ابتلع مالك غصة مريرة عالقة في حلقه، فقد بدى الأمر عسيراً عليه..
وأردف قائلاً بصعوبة:
عايزكوا في حاجة الأول
ميسرة وهي تسند الحامل على الطاولة: قول ياحبيبي
مالك هاتفاً بمرارة: أنا مسافر كمان أسبوعين.

انفرج فم روان بذهول گالبلهاء: هه، بتقول ايه!
ميسرة وقد انقبضت عضلات قلبها بقوة: م، مسافر؟ إنت مسافر فين وليه؟!
تحاشى النظر إليها، وهمس من بين شفتيه بحذر: تركيا!
ثم صمت لوهلة قبل أن يضيف موضحاً:
صاحبي هناك وجاتلي فرصة شغل كويسة ومينفعش أضيعها
احتج إبراهيم قائلاً:
بس انت متعرفش لغة، ولا هتعرف تتأقلم وسط ناس متعرفهمش!
مالك مبتسماً من زاوية فمه:.

متقلقش عليا ياعمي، هعرف أتصرف وبعدين صاحبي هناك وعارف كل حاجة، وهيساعدني!
أحست ميسرة وكأنها على وشك خسارة ولدها البكري الذي لم تنجبه وإنما إبن قلبها الذي صنعته لها الأيام
جلست بتروي على مقعد المائدة بعد أن شعرت بإنهيار ساقيها، وجاهدت لتخرج صوتها المتحشرج من بين شفتيها ولكنها شعرت بجفاف حلقها، فخرج الكلام منها متقطعاً غير متناسق:.

ميسرة: ب، بس انت مبسوط هنا وشغلك موجود، يعني ليه، قصدي ملهاش لزمة البهدلة يابني، ليه عايز تبعد عننا؟
تنهد مالك بعمق، وخرج صوته صعباً:
مش هقدر أقعد هنا ياعمتي، صدقيني
تجمعت الدموع في عيني روان، واختنق صوتها وهي تعاتبه: وتسيبني لمين يامالك، أنا ماليش غيرك يعني يرضيك تسيبني في نص الطريق؟!

أطبق مالك جفنيه ليكبح رغبته المميتة في البكاء، وهمس بمرارة: هابقى معاكي دايماً ياروان، وبعدين سنة، ولا اتنين وهتلاقيني نطيت هنا من تاني وهقرفك!
صرخت روان بصوت مرتفع أذهل الجميع:
: كله بسبب إيثار، هي اللي بوظت حياتك وحياتنا معاك، أنا بدأت أكرهها عشان اللي بيحصل!

لم تكن حالتها المنفعلة أقل من تلك الثورة الهائجة في صدر أخيها، ولكنه عقد العزم على ألا يذكرها بأي حال، فانفلت رغماً عنه زمام الهدوء، وصدر صوته مخيفاً وهو ينفعل عليها: روان
ألقت روان حقيبتها على الأرضية ثم تحركت نحو حجرتها وقد على صوتها بالنحيب، في حين نكست ميسرة رأسها للأسفل وهي في حيرة من أمرها، بينما خرج إبراهيم من حلقة الصمت وأردف بلهجة رذينة:.

مالك، اللي بيسافر يابني مبيرجعش وبتحلاله العيشة بره، لو عايز تسيب أسكندرية وترجع بعدين ماشي، إنما بلاش يامالك تركيا دي
تابع مالك قائلاً بهدوء حذر:
هرجع ياعمي، أنا سايب روحي هنا، روان هنا ومستحيل أديلها ضهري ومرجعش تاني وأنتوا أهلي!
بكت ميسرة بصمتٍ فأنتبه لها مالك مما أجج من النيران المشتعلة بداخله فجلس نصف جلسة ليكون موازياً لها ثم مسح على وجهها ونطق بحنو:.

أرجوكي ياعمتي متصعبيهاش عليا، أنا ربنا وحده اللي يعلم إي جوايا!
أحس إبراهيم بأن وجوده بهذه اللحظة الخاصة بين الأم الروحية وإبنها لا يجوز، فإنسحب في صمت ليترك لهما المساحة المتسعة للحديث والعتاب...
نطقت ميسرة بنبرة باكية:
روح القاهرة وأقعد هناك، لكن متسيبش أمك هنا يامالك، أنت أبني ياحبيبي!
تعمق النظر بعينيها ليرى شبح والدته المتوفاة فأندلع اللهيب بصدره..

غمامة سوداء غطت ناظريه فلم يعد يقوى على الرؤية، أطلق تنهيدة مريرة وهو يتابع بصعوبة:
ربنا يخليكي ليا، أنا لو لفيت الأرض مش هلاقي زيك، بس مش هاقدر، سامحيني!
نهض ليتركها وحيدة تفكيرها، بينما شعرت الأخيرة بحجم البغض الذي حملته داخلها من إيثار وأسرتها أكمل دون تمييز، حيث لعنت اليوم الذي حضرت فيه تلك الأسرة لتهدم حياته.

كان الأسبوعين اللذين توالا بعد هذا اليوم، من أعسر الأيام التي مرت بها إيثار وعاشها مالك..
فانقطع الأمل عنهما وأختفى بريقه عن حياتهما
ورغم تعذر اللقاء، إلا أن إيثار لم تترك وثاق الأمر بل جاهدت للتمسك به ليكون هو عضدها..
حاولت مراراً الوصول إليه ولكنها عجزت عن ذلك وسط الحصار الفولاذي الذي أُقيم حولها.

وعندما سنحت لها فرصة ملاقاة روان ما كان من الأخيرة إلا الإجابة عليها بفظاظة وعنف وهي تحملها في نظراتها المسئولية:
مالك مسافر خلاص، سيبيه في حاله وكفاية الكسرة اللي عملتيها جواه!
لقد قضت بكلماتها على أخر أمل متبقٍ لرؤيته..
انتهى الحلم، وتلاشت الأمال، وظلت المرارة وألم الفقدان..
علمت لاحقاً بأمر سفره القريب والذي تصادف مع موعد الزفاف الذي حدده والدها مع محسن..

كان هذا الخبر هو القشة الذي قصمت ظهر البعير..
فقررت بيأس الاستسلام لمصيرها المحتوم...

جاء يوم زفافها
وأصرت هي عدم الذهاب لمركز التجميل، واكتفت بوجودها في المنزل لتزين نفسها بنفسها، اعترضت والدتها كثيراً ولكنها لم تجد من إبنتها الأذن الصاغية لها، فتركت لها حرية التصرف بعد فشل محاولاتها في إقناعها..
ولكن لم يترك عمرو هذا الأمر لها، حيث أحضر لها فتاة متخصصة في إعداد العرائس وتجهيزهن لتتولى مهمة تجميلها...
على الجانب الأخر، كان مالك يحزم أخر حقائبه لمغادرة مصر الليلة..

احتفظ بصور والدته ووالده وبعض من ذكريات عائلته القديمة التي احتقظ بها منذ صغره، ووضعها بعناية داخل حقيبته لتكون سلواه في تلك الغربة القاسية..
، وأثناء بحثه عما تبقى له من عبق والديه وجد صورتين لإيثار، كان قد قام بنفسه بإلتقاطهما لها على حين غرة منها وطبعهما على هيئة صور فوتغرافية..

احتقن وجهه بالدماء وبرز عرق عنقه الغاضب وأطبق كفه عليهما فأصبحتا كرتين صغيرتين، وبشكل لاإرادي ألقاهما بحقيبة سفره بدلاً عن إلقائهما بسلة المهملات، ثم أغلق الحقيبة والضيق يعتريه، واعتدل في وقفته ليكمل إرتداء ملابسه...

كانت خبيرة التجميل قد انتهت من ضبط وضعية الحجاب الأبيض والطرحة الطويلة التي انسدلت على ظهر إيثار التي كانت متبلدة المشاعر، ومتجمدة بمحلها، فتابعت هيئة العروس على المرآة العاكسة وابتسمت وهي تردف لها بإعجاب:
ماشاء الله بدر في ليلة تمامه!
أدمعت عيني تحية وهي تنظر لإبنتها العروس: ربنا يحفظك ياحبيبتي ويسعدك يارب
أمسكت الخبيرة بذقن إيثار لتوجه رأسها نحو والدتها: إيه رأيك؟ قمر مش كده!؟
تحية بنبرة فرحة:.

قمر طبعاً
ثم صد حت أصوات أبواق السيارة من الأسفل فأستشفت والدتها حضور محسن، وأسرعت تنظر من الشرفة لتجده متواجداً بالأسفل فعادت لإبنتها مرة أخرى واقتربت منها لتهمس لها:
متنسيش إي حاجة من اللي قولتهالك ياإيثار، وأوعي متنفذيش الوصايا اللي قولتلك عليها، سمعاني يا حبيبتي
لم تعلق إيثار بل شردت في صورتها الباهتة المنعكسة على المرآة..
هي شبح عروس، بقايا أنثى...

بنفس التوقيت الذي تأهبت به إيثار لصعود زوجها المرتقب، كان محسن ينهي مكالمته التليفونية مع تلك المرأة التي تحدثه بصوت متذمر:
لأ طبعاً متجيش النهاردة، أنا برضوه عريس، ومن حقي أعيش يومين..
لوى ثغره بتأفف وهو يضيف:
خلاص متزعليش ياستي بس مينفعش برضو،!
أبعد الهاتف عن أذنه، وأطلق سبة خافتة، ثم وضع الهاتف على أذنه وتابع بإمتعاض:
حقك عليا ياست الكل، طيب هقفل معاكي وأكلمك بعدين، يلا سلام!

ثم أنهى مكالمته معها وهو يتمتم بكلمات مبهمة، وقام بفصل الطاقة عن هاتفه المحمول، ومن ثم وضعه بجيب سترته وبدأ يحرك رابطة العنق حتى تنفلت بعض الشئ عنه ثم هتف بإنفعال طفيف:
يعني كان لازم جرافته وبدل وشغل مراهقين، ده أنا أتخنقت!

صعد الدرج لإصطحاب عروسه التي أمنى نفسه بها، وعندما وقعت أنظاره عليها ظهر شغفه الحيواني عليها وكأنه الجوع الذي يريد إشباعه، انقلاب سرى بكيانه وهزه رجولته بعنف لمجرد رؤية هذا الجمال الكائن باللون الأبيض
اقترب محسن منها ليمسك بكفها ثم قبله بعمق وكأنه يغرز أنيابه بها، فدبت القشعريرة داخلها خوفاً مما هو أتٍ ومما هي مقبلة عليه..

دعاها للهبوط بصحبته فإنصاعت له دون ردود انفعالية واضحة، هي فقط مجرد دمية يحركها الأخرون كما يريدون، هي مساقة ليس لها الحرية..
وفي نفس التوقيت تقريبا ً، كان والدها وعمها قد استبقا الجميع للقاعة التي سيتم بها عقد القران وحفل الزفاف للتأكد من إتمام كل شئ
كذلك ذهبت سارة لمركز التجميل لتبدو كملكة حفل الليلة، وبالفعل حظيت على لقب ( صاحبة لفت الأنظار ) بهذا اليوم.
أنهى المأذون عقد القران بعبارته الشهيرة.

بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير
فإنتشرت البهجة وعلت أصوات الزغاريد وبدأ الجميع يتسابق في تقديم التبريكات والتهنئات للعروسين السعيدين...
كانت أول بادرة قام بها محسن هي طبع قبلة صغيرة على شفتيها بصورة مباغتة مما وضعها أمام الجميع في موضع حرج، فحدجته بنظرات حانقة مشتعلة ثم نطقت متذمرة من فعلته الجريئة أمام الجميع: إزاي تعمل كده قدام الناس!

لف محسن ذراعه حول خصرها، وشد من قبضته عليها، وهمس لها من بين أسنانه بلؤم مخيف:
مراتي، واللي عنده كلمة يلمها ياحبيبتي!
جاهدت إيثار للإبتعاد عن صدره الذي أصبح ملاصقاً لها بإختلاق عذر أنها تبادل التهنئة مع المدعوين ثم جلسا سويا على الأريكة الذهبية المغطاة بقماش الستان الذهبي اللامع و المخصصة للعروسين.

كانت الفتيات تتسابقن في الرقص بوسط القاعة وبينهن سارة، لاحظت تحية إمتعاض وجه ابنتها والتي بدت وكأنها مرغمة على الزواج فتوجهت نحوها وانحنت بجسدها لتوازيها وهتفت بأذنيها لتحثها على رسم البسمة أعلى ثغرها، فرضخت لها إيثار وجاهدت لفعل ذلك لتقع عينا مالك عليها بهذه اللحظة..
كانت إبتسامتها گالسرطان الذي يسير في جسده ملاحقاً الألم لصاحبه..

بغضاً وكرهاً حمله بداخله لها، نعتها بخائنة العهود، محطمة القلوب، هادمة الأحلام..
جاهد مسبقاً للحصول على عنوان القاعة التي سيقام بها العرس، واستطاع بكل سهولة الحصول عليه من سارة عن طريق الإيقاع بها في الحديث وكأن الأمر كان أتفه مما كان يظن...
رغب في قتل حبها داخله..
تعمد رؤيتها بهذه الليلة دوناً عن غيرها حتى يقضي على بقاياها العالقة بداخله..

ولكن ما كان من محاولته البائسة إلا أن أقحمت فؤاده في مصيبة الحنين لها من جديد..
وبخ نفسه كثيراً وعاتب حاله على اشتياقه لرؤية بسمتها ولكن ليس بيده حيلة، هو أضعف مما كان يظن، أسير ذكرياتها وضحكتها ونظرتها، هو أسير حبها...
ياليت الموت من روحي يسرقني..
فقد نقضت عهدها وعهدي..
وأرتدت الأبيض لأجل غيري.

ترقرقت عبرة خائنة في عينيه فنزحها سريعا بطرف أنامله ثم أطرق رأسه واستدار ليترك هذا المكان الذي أفضى عليه بالكثير من الحزن والضيق وجعله يشعر بأن الكوكب لا يتحمل وجوده ولا يسعه..
لم يكذب الذين قالوا بأن شعورك يقودك نحو من يدق له قلبك، فقد زادت نبضاتها واستنشقت عبقه الذي تستطيع تمييزه عن بعد..
ارتجفت أوصالها، وسيطر الحنين لرؤيته على كيانها
بحثت عنه بأعين مشتاقة وسط الحاضرين.

وحدقت في الماريين أمامها عسى أن تلمحه ولكن دون جدوى، تسائلت في نفسها هل حقاً كذب حدسها؟ أم أنها فوتت فرصة رؤيته دون وعي...
أفاقت من شرودها على قبضة محسن لكفها ليقودها نحو ساحة الرقص..

كانت تتمايل بجسدها بين يديه دون إدراك منها لما يحدث، جسد بالي لا حياة فيه، تنهدت بعمق ثم انتبهت للمحيطين بها وهم يصفقون لإنتهاء رقصتهم الأولى، فبادلتهم البسمة الودودة وأصرت على الجلوس مرة أخرى مخترعة حجة ضيق نعل الحذاء على قدميها مما يفقدها قدرتها على الرقص...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة