قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية همس السكون للكاتبة فاطمة علي محمد الفصل السادس

رواية همس السكون للكاتبة فاطمة علي محمد

رواية همس السكون للكاتبة فاطمة علي محمد الفصل السادس

إصطفت إحدى سيارات الأجرة أمام مسكن "عبد العزيز" بهدوء، وترجلت عنها "همس" مسرعة لتركض مستديرة إلى الجانب الآخر منها، فتفتح بابها بهدوء وتساعد شقيقها على مغادرتها بحرص، حتى غادرها بأمان،
فأنطلق السائق إلى طريقه مغادرًا.

إتكأ "عمر" بذراعه على كتف شقيقته، رافعًا قدمه المكسورة للخلف، ليخطو خطواته بألم ينخر عظام ساقه، وتلك الإبتسامة الراضية لم تغادر شفتاه قط.
ليصعدا سويا بعض الدرجات الرخامية ويصلا إلى ذلك المصعد، يستقلاه قاصدين الطابق الخاص بهم.

جالت "حنان" بالردهة ذهابا وإيابا بتوتر، والقلق ينهش ثنايا قلبها، تضغط زر الإتصال بهاتفها لمرات عجزنا عن متابعة عدها، لكن دائما يا يكون الجواب:
هذا الهاتف ربما يكون مغلقًا.

تسارعت دقات قلبها بخوف وتوتر، رمقت الساعة المستديرة التي تتوسط الحائط بدموع ٍ أوشكت عل الهطول، لتردف بقلق:
ياترى إنت فين يا"عمر"؟!
وقافل تليفونك ليه؟!، المفروض الدرس خلص من ساعتين وأكتر، ياترى روحت فين ياإبني؟! .

لتضع قبضتها أعلى موضع ذلك الفؤاد المتمرد هامسة:
قلبي بيقول إن فيه حاجة، أكيد فيه حاجة، أنا مش مرتاحة.
وترفع عيناها نحو خالقها بتوسل متضرع بخشوع:
إسترها يارب، إحميهم يارب وإحفظهم من كل سوء، يارب حافظ عليهم في مكان يكونوا فيه، ياااارب.

تسلل إلى مسامعها حركة مفتاح بباب الشقة، فركضت مهرولة نحوه بقلق كاد أن يُفتك بروحها، لينفتح الباب دالفًا من خلاله "عمر"
الذي مازال متكأً على كتف شقيقته.
صرخت "حنان" بصدمة، ضاربةً صدرها بكفيها:
"عمر"! ياحبيبي يا إبني...

لتنهمر دمعاتها شلالات، وتتعالي شهقاتها بأنين، صائحة بأسى:
والله كان قلبي حاسس إن في حاجة حصلتلك... إزاي حصل كده؟!
لترفع عيناها نحو ذلك السند، فترمقها بنظراتها الغامضة:
وإنتي قابلتيه فين يا"همس"؟!
في المدخل تحت؟ ! صح.

هتف "عمر" بألم:
طب ساعديني أدخل الأول، وبعدين إسألي كل الأسئلة دي.
إلتقطت ذراعه بحرص لتضعه أعلى كتفها، محتضنة خصره بذراعيها، كى تساعده في الوصول إلى غرفته، والإسترخاء بفراشه.

إستلقى "عمر" بالفراش بألم قوي، فقد بدأ مفعول المسكن في الإنتهاء، لتلتقط "حنان" تلك الوسادة و تضعها أسفل ساقه بحرص شديد، ودمعاتها تتساقط لتترك أثرها بتلك الجبيرة التي تلتف حول ساق ولدها. فتتنهد بقوة لتوقف تلك الشلالات.

إستدارت بكامل جسدها نحو "همس "، لتضيق عيناها بإستنكار، وغموض، مردفةً:
قوليلي بقا قابلتيه فين ؟!
إبتلعت "همس" ريقها بتوتر متقهقرة إلى الخلف بإرتباك، ليتعالي صدرها ويهبط بتوتر، فهي تعلم مدى خوف والدتها عليهم، وحرصها الدائم على سلامتهم جميعًا، لتهمس بتلعثم:
أص... أصل... ياماما... ماهو... هو... يعني...

هتفت والدتها بضيق:
ماهو إيه؟!... إتكلمي يا بنت "عبد العزيز" .
رددت مسرعة بلا وعي، فتشدقت بكلماتها دفعة واحدة:
واحد إتصل بيا قاللي أخوكي عامل حادثة وفي المستشفى وتعالي خوديه.

لتجد هذا النعل الطائر بيد والدتها، تنهال عليها بضرابته المفرقعة، مع صرخاتها المدوية:
يعني كنتي عارفة، وجاية تمثلي عليّا وتقوللي كتاب، وبحث، ومش عارف إيه.
وحياة أبوكي "عبد العزيز" لوريكي.

ركضت "همس" مغادرة غرفة "عمر" بصراخات متعالية، لتصطدم بجسد والدها، فترمقه بنظراتها المتوسلة، لتستدير مختفية خلف ظهره برجاء، هاتفةً:
بالله عليك تلحقني يابابا... ماما بتضربني.

إبتسم "عبد العزيز " مستنكرًا مما تفعله زوجته "فهمس" لم تعد صغيرة لتلاحقها بسلاحها الفتاك هذا الذي لم يخطئ هدفه يوما ما، ليحمحم بصرامة، وقد أصبحت ملامحة أكثر جدية:
فيه إية يا "أم همس" لكل ده؟!، البنت كبرت على الضرب بالشبشب، خلاص بقا.

ألقت ما بيدها أرضًا بعصبية لتنتعله بقدمها، مزمجرةً بغضب:
خليك دافع عنها كده على طول، كأني مرات أبوها مش أمها، لما أروح أشوف إبني.
لتستدير مغادرة، وتتوجه نحو غرفة "عمر".

إستدار "عبد العزيز "كليّا نحو إبنته بنظرات عاتبة مُغلفة بحنان يشمل عالم بأكمله، لتدنو" همس" بنظراتها أرضًا،و تفرك أناملها معًا بإرتباك، وإحترام، هامسةً:
أنا أسفة يابابا، والله ماحبيت أخض ماما على "عمر" إنت عارفها بتخاف علينا قد إيه!... وبعدين "عمر" كلمني وطمنني عليه وطلب مني ماقولش لحد.

أردف "عبد العزيز " بإستنكار:
عمر؟! ماله عمر.
ليركض نحو غرفة صغيره بقلق تسلل إلى خلجات قلبه دون الإنتظار لتلقي إجابة من إبنته، فقرر إستكشاف الأمر بنفسه.

المشفي - غرفة العناية المركزة
راقد بإستسلام بين كل تلك الأسلاك، صافرات تدل على إنتظام دقات قلبه، من كان يتخيل أن ذلك المفعم بالحياة، تتهادي حياته بهذا الشكل؟!

دلفت إلى الغرفة بإرتجافة خفيفة تسري بشريانها، لتقترب منه بقلبٍ يئن بلوعةٍ تسحق خلاياها، فتحتل طرف المقعد المجاور لفراشه، وترفع يدها المرتعشة لتتلمس جروح وجهه المتألم، وتقترب من ذراعه المحتضن لخصره دامغةً قبله منبعثه من ثنايا روحها لتبث إشتياقها لشقيقها، فتهوي دمعة حارقة لتشق طريقها نحو أنامله، فيحركها حركات تكاد تستشعرها "هيا" بصعوبة، لترفع عيناها نحوه بفرحة ممزوجة ببكاء:
"خالد"... إنت سامعني؟!، طب حاسس بيا؟

ط... طب لوحاسس بيا حرك إيدك تاني.
ترمق أنامله بترقب وتركيز، لتجده يرسل إليها إشارات الحياة لها، والسكينة لقلبها بحركة أنامله الضعيفة هذه.

هتفت بسعادة:
حمدالله على سلامتك ياحبيبي، يلا بسرعة كلنا مستنينك، كلهم بره،" ثائر" و "حمزة" و "نوجا" حتى "فريدة" هانم بره.
عارف دي أول مرة أشوف دموعها... دى قلقانة عليك جداااااا، كانت بتدعيلك طول الوقت، و"نوجا" مابطلتش صلاة وقراءة قرآن عشانك.

لتتسع إبتسامتها متنهدة بسعادة:
عارف مين كمان بره، مش هتصدق...
أبيه "حاتم " كان هيتجنن عشانك، وأبيه" ثائر" كمان، أول مرة أشوفه بالإنكسار ده،
بس بطمنك أخدوا حقك من المجرمين اللي عملوا فيك كده.

لتحتد نبرتها قليلًا:
المجرمة "سوزي" هي اللي عملت فيك كل ده، بس مش عارفة إيه السبب اللي يخلي بني أدم يحاول يقتل؟!
دي دي كانت بتحبك!

وتبكي بمرارة وأسي:
عارف... بعد اللي حصل ده أمنت فعلًا إن مفيش حاجة إسمها حب.
يعني محدش يستاهل أديله قلبي عشان... .

ليزداد أنينها وشهقاتها:
عشان.. أكيد هيجي يوم ويكسره، ويوجعني، وأنا مش عايزة كده، أنا مش هحب حد، هركز في دراستي ومذاكرتي وبس... مش هحب حد.

لتهمس لذاتها بأنين:
لازم أشيله من قلبي، عمره ماحبني ولاحس بيا، ولا عمره هيحبني، هدوس على قلبي وأنساه.

لتردد بتحدٍ وكبرياء أنثى:
هدوس على قلبي وأنساك.

مكتب مدير المستشفى
إحتلا المقعدان الأماميان لمكتب مدير المشفي بكبرياء وشموخ خافيًا لقلقهما الذي كاد أن يفتت قلوبهما وينثرها شظايا محترقة تشعل العالم جحيمًا من حولهما، لينصتا إلى حديث ذلك الطبيب الذي يلعب على أوتار أعصابهما بهدوئه القاتل، ليهتف "ثائر" بحدة:
حضرتك بتلف وتدور ليه؟!
سؤالنا واضح؛ الحادثة دي هتسيب آثر عليه، سواء كان أثر مادى أو معنوي حتي؟

أردف الطبيب بإسترسال:
إن شاء الله عضويًا هيكون كويس، الإصابة كانت بعيدة عن مراكز الحركة، والكلام حتى الذاكرة مفيش حاجة إتأثرت، ب... بس...

صرخ "حاتم" بغضب ينهش ملامح وجهه بإحترافية، بعروقه البارزة، ونظراته المشتعلة:
إنت هتفضل تبسبس كده كتير؟!
ماتنطق هيأثر على إيه؟

إبتلع الطبيب لعابه بتوتر، فالأثر قوي للغاية، أثرًا يطعن الرجل في رجولته وكبريائيه، ليهتف بتلعثم:
حضرتك في قدرته. ...

إتسعت مقلتي "ثائر" بصدمة، ليهب واقفًا، ويجذب الطبيب من ياقة معطفه الطبي، وشرارات الغضب كادت أن تحرقه بكامل مكتبه:
إيه التخاريف دي؟!
إنت إتجننت أكيد، إستحاله حاجة زي كده تحصل، أنا هعرضه على أكبر دكاتره في العالم.

هتف الطبيب بذعر:
حضرتك ده بنسبة ٦٠٪، ممكن يكون التشخيص غلط، لو متجوز هنعرف بسهولة، لكن لو مش متجوز يبقى لازم يتجوز.
ألقاه "ثائر" بقوة، ليختل توازنه على المقعد فيهوي أرضا جاذبًا المقعد فوقه.
غادر "ثائر" و"حاتم" مكتب المدير بإرتباك وقلق من مواجهة "خالد" بهذا الأمر الذي يضرب رجولته في مقتل، حتى وإن كانت بنسبة ضئيلة.

ليردف "حاتم" بعد تفكير عميق، فقد إتخذ قرارًا لابد أن يؤيده به"ثائر":
مش لازم "خالد" يعرف بالكلام ده، ولا أي مخلوق في العالم يعرف بالهبل اللي الدكتور قاله جوه، كل حاجة تمام التمام، وياخد فترة نقاهته بهدوء، لحد مايكمل شفائه على خير.
ليشرد بإصرار وتحدي: بس لازم يتجوز في أسرع وقت.

مازالت "فريدة" تحتل مقعدها بأسي، وعلامات التعب والإرهاق الذي يغلبه الحزن والندم تكسو ملامحها ببذخ، تقترب منها "نجلاء " بعطف لتجلس على المقعد المجاور لها، لترفع يدها مربتةً على كتفها بحنان:
"فريدة" هانم... إتفضلي إنتي روحي على القصر عشان ترتاحي شوية، إنتي من الصبح قاعدة القاعدة دي، وخلاص الفجر قريب يأذن.

رفعت "فريدة" يدها بحنان أموي، ونظرات ندم يغلفه توسل بالعفو والمسامحة، لتربت على يدها:
أنا كويسة يابنتي، هستني أطمن على "خالد".

تسللت دمعات السعادة من عيناها بلاتصديق لما إخترق مسامعها،
أهي تتخيل تلك الكلمة التي لطالما إنتظرتها منها طويلًا؟!
أحقًا لقبتها بإبنتي؟!، كلمة أفقدتها القدرة على البوح بما يسكن فؤادها من سعادة، وإشتياق لحضن أم لطالما أفتقدته.

لتحتضنها بسعادة مغلفة بترجي من الله، باكية:
إن شاء الله هيبقى كويس ياماما.

شددت "فريدة" من إحتضانها، بندم مضاعف، فكم كانت حمقاء حتى تحرم نفسها من تلك الكلمة المقدسة!
فمنذ وفاة ولداها لم تستعذب مسامعها تلك الكلمة المُحملة بمشاعر حب حقيقة و صادقة.

إبتعدت عنها قليلًا لتحتضن وجنتاها بيداها الحانية، ودمعات راجية للغفران، لتهمس بحشرجة:
سامحيني يابنتي... أنا عارفة إني طول عمري قاسية عليكي وعلى كل اللي في القصر، كنت بعاملك بغرور وتعالي، بس إنتي إتحملتي كل ده وإنتي ساكتة، وكنتي ونعم الأم لأحفادي كلهم، عمرك مافرقتي بين حد فيهم... بالعكس.

إستمعت إلى كلماتها الصادقة، النابعة من قلبٍ يطلب الغفران، قلبٍ أرهقته قسوة الأعوام السابقة، قلب يتحدى ويصارع ليتمسك بأمله الأخير في العبور والولوج لقلب أحبائه، لتنهمر دمعاتها شلالات تطهر روحها المُذنبة.

قصر السيوفي
دلف "حمزة" إلى القصر بتعب مُضنٍ، فجميع خلايا جسده تستغيث طالبة قسط قليل من الراحة النفسية قبل الجسدية،ليستلقي على أقرب أريكة وصل إليها في بهو القصر، طارحًا رأسه للخلف شاردًا بالفضاء أمامه، لتباغته إبتسامة خفيفة، يتبعها خفقان قوي بقلبه، فيستعيد لحظات إحتلالها لأحضانه ولذه شعوره المغلف بغموض مُبهم، ليهمس بعشق:

بحبها!
طب إزاي وإمتي؟!
وأنا طول الوقت شايفها أختي،... بحاول ديما أخليها سعيدة ومبسوطة، دايما في ضهرها وسند ليها... بس كلنا فعلا بنعاملها كده، ماهي الأميرة المدللة لعيلة "السيوفي".
ليتنهد بقوة مُغمضًا عيناه بتذكر عميق.

فلاش باك
قاد "حمزة" سيارته بصرامته وجديته المعهودة، ملامحه الجامدة، نادرًا ما تتطفل عليها إبتسامة خفيفة، لكن سرعان ما يوئدها في مهدها، يتعالي رنين هاتفه بنغمة موسيقيه فقط، معزوفة رائعة "لعمر خيرت"، يلتقط هاتفه بتلك الجدية، ليجاوب دون النظر لهوية المتصل، فهذا الهاتف الخاص لأفراد عائلة "السيوفي".

حمزة بصرامة: ألو...
المتصل بمشاكسة مُقلدًا نبرة صوته الجافة: ألو... إيه ياعم بتتخانق في التليفون... إفرض صوت أنثوي رقيق كده هو اللي بيتصل بيك هيكون موقفك إيه؟!
"حمزة" بسخرية صارمة:
صوت أنثوي رقيق... ده التليفون الخاص بالعيلة يا متخلف، يعني أصغر أنثى تكلمني عليه "هيا".. ده غير ماما و"فريدة" هانم طبعا.

المتصل:
بمناسبة "هيا" ممكن تعدي عليها في النادي وترجعوا سوا على القصر.
أردف "حمزة" بإستنكار:
والسواق فين؟!
المتصل بترجي:
عشان خاطري يا"حمزة" أنا كنت واعدها إني هعدي عليها ونتغدي سوا في النادي، وبعد كده نرجع القصر، عشان كده مشيت السواق.

" حمزة" بحنق:
وإيه اللي حصل وخلاك غيرت مل مخططاتك يا "خالد" بيه؟!
"خالد" بنبرة يكسوها بعض الغرور:
عندي ميعاد مع البت "سوزي" بتزن عليا بقالها شهر، قولت أحن عليها وأوافق بقا، بس إفتكرت تدريب "هيا" والميعاد اللي بينا، بس للأسف كنت وافقت على الميعاد .

نفرت عروق وجهه ورقبته بغضب، لطالما حذره من علاقته بتلك الفتاة المتسلقة، الوصولية، ليهتف:
لسه بتقابل الحيوانة دي؟!، وبتلغي ميعاد أختك عشان خاطرها... ماشي يا" خالد" بس إفتكر إني حذرتك منها وقولتلك كلهم صنف واحد إنتهازي ووصولي وخاين.
لينهي الإتصال بغضب جامح، وينطلق بأقصى سرعة متاحة بسيارته الجيب.

أحد النوادي الشهيرة - ملعب الإسكواش
مباراة قوية بين "هيا السيوفي" والمدرب الخاص بها، من يشاهد جديتها يقسم أنها مباراة نهائية في بطولة العالم المفتوحة للإسكوش، وليس تمرين عادي دائما مايكون.
إحتل مقعده بين الجمهور المتابع للتدريب بسعادة، فمنهم الفتيات اللاتي يهيمون شوقًا بالمدرب، ومنهم الشباب الذي يطاردون "هيا" أينما حلت أو ذهبت.

تابع التدريب بحنق ينهش ملامحه الجامدة، يسب ويلعن "خالد" مئات المرات في سره، و يرمق الفتيات المحيطة به ببعض الإمتعاض، ليقسم أنهم دائما مايطاردون الفريسة حتى يوقعون بها، ومن ثم يتفننون في تعذيبها وقتلها بكل دمٍ بارد.

وما إن إنتهي التدريب، حتى إلتفت بنظراته نحو تلك الغرفة الزجاجية، ليجد هذا المدرب يصافح "هيا" وتلك الإبتسامة اللزجة تزين ملامحه، أتبادله تلك الحمقاء الإبتسامات والحديث الهامس؟!
مازال يشد على يدها؟!
من أَذِنَ لك أيها الأَبله بهذا، فصوّانها كاد أن يحطمك أشلاءًا؟!

غلت الدماء بشراينه، تطايرت نيران الغيرة من حدقتاه، لو تمكن منه لهشم عظامه، وجعل شظاياها تتطاير بتلك الغرفة، كيف تجرأ على لمس يد إبنة عمه وأخته؟! كما يدّعي هو...، لكن ذلك الفؤاد يعشقها بطلاسمه الخاصة، الذي فشل "حمزة" في حل
ألغازها حتى الآن.

هب من مقعده والشياطين تتراقص بعيناه، ليدفع باب تلك الغرفة ويقتحمها بغضبٍ فشلت تلك الإبتسامة في إخفائه، ليردد:
مش خلصنا التمرين!، ممكن نروح بقا؟!

إتسعت مقلتاها بذهول، تسارعت دقات ذلك الأهوج الذي كاد أن يقفز من موضعه ليرتمي بين ذراعيه القوية، جف حلقها تمامًا حتى إلتصق لسانها بموضعه فعجزت عن النطق، والكلام.
لتجد يد قويه تجذب يدها بصرامة، فما كان منها إلا أن تتبع خطواته ببلاهة، حتى لمسته أفقدتها القليل المتبقي من وعيها، فقد سري تخدير لمسته بكامل أوصالها، فأصبح هو المتحكم والمسيطر على خلاياها.

وصلا إلى مطعم النادي، ليجذب مقعدًا ويُلقيها أعلاه بغضب، لتعود إلى واقعها المرير، ومعشوقها صوان القلب والمشاعر، لتهتف بألم:
فيه إيه يا"حمزة"؟! ... وجعتني.
ليهتف ببرود مغلف لتلك الغيرة:
فيه إيه يا"هيا"؟!
يعني مش واقعة جامدة عشان توجعك للدرجة دي يعني.

تمردت دمعاتها بأنين على ذلك الصوان الذي لم يلين قط لأجلها، لتهب واقفة، وتغادر المطعم بل النادي بأكمله.

ليطاردها وقد تملك الغضب من خلايا روحه، وإزدادت عروق وجهه بروزًا من تدفق الدماء الحارقة بها، يجدها أمام النادي تحاول إستقلال سيارة أجرة، ليجذبها من ذراعها بقوته الغاشمة، ويُلقيها بسيارته صارخًا بحدة:
لما أخوكي الكبير يكلمك ماتسبهوش وتمشي... فاهمة يا "هيا" هانم.
يستقل هو الآخر السيارة وينطلق بسرعة جنونية.

لتنزف روحها بأنين من قسوة معشوقها الذي دائما مايتفنن في إحراقها وتدميرها بأخوته المزيفة.

نهار يوم جديد - شقة "عبد العزيز" - تحديداً المطبخ
قامت "حنان" بإعداد الفطور اليومي كما إعتادت صباح كل يوم، لكن تلك المرة فالإبتسامة تجافي ملامحها ويزداد عبوسها وضيقها، فلم تفلح محاولات "عبد العزيز " المستميتة في إرضائها.

إستند على الحائط عاقدًا ذراعاه أعلى صدره، ليتأمل رفيقة رحلته وذلك الحزن الذي تملك من قلبها للمرة الأولى بحياتهما معًا، قبضة قوية تعتصر قلبه، فكل ركن بمسكنهما يشع بالحزن والكآبة، فلطالما كانت منبع بهجتهم وسعادتهم.

لتنضم إليه" همس" بحزن يكسوه الندم والأسف، لترمق والدها بنظرات أسفة، لكن سرعان ما تتحول لإبتسامة ماكرة، فتركض نحو والدتها بندم مبطن ببعض الخبث. تتركها والدتها وتغادر، لتقف أمامها فتمنعها من التقدم خطوة واحدة. تدفعها "حنان" جانبًا، لتهوي أرضًا فيصطدم ذراعها بالطاولة، فتصرخ ألمًا، وتنهمر دمعاتها شلالات.

ركضت نحوها "حنان" بصدمة، وقلق على إبنتها هي الآخري، لتدنو منها فتصل إلى مستواها، تتفحصها بذعر، لتزداد صرخات "همس" المتألمة.
أردفت "حنان" ببكاء:
وريني كده يابنتي، معلش والله ماكنتش أقصد.
تزداد صرخات "همس" وتألمها:
آه... إيدي ياماما بتوجعني قوي... شكلها إنكسرت!

إحتضنها" حنان" بدموع نادمة، وهي تهتف:
متقوليش كده، سلامتك ياحبيبتي، حقك عليا والله... أنا غلطانة، أنا اللي سوقت فيها، إنتي وأبوكي من إمبارح بتصالحوا فيا وأنا اللي زودتها، معلش.
صرخت "همس" بألم:
إيدي بتوجعني قوي ياماما، ساعديني أروح أوضتي.

رفعت "حنان" عيناها نحو زوجها المترقب للمشهد، ولم يهتم بصراخ وألم إبنته لتصرخ بغضب:
إنت هتفضل تتفرج علينا كده كتير يا "زيزو"؟!
تعالي ساعدني ندخل البنت أوضتها، البنت بتتألم ومش قادرة تستحمل الوجع.

حمحم "زيزو" بهدوء ليخفي ضحكاته، ويغلفها بغلاف الجدية:
يلا يا "نونا" أنا جاي أهو، سلامتك يا "همس" يا بنتي.

عاونها على النهوض، والدلوف إلى غرفتها، والإسترخاء بفراشها، لتسحب "حنان" الغطاء فترفعه نحو إبنتها، وتقبل جبينها بحنان، مردفةً:
معلش ياحبيبتي... هروح أجيبلك تلج تحطيه على إيدك، وهاجي على طول.

غادرت "حنان" متوجهة نحو المطبخ لجلب بعض مكعبات الثلج.
إطمئن "عبد العزيز" على مغادرة زوجته، ليلتفت نحو "همس" هامسًا:
برافو عليكي... مثلتي الدور حلو قوي.. شوية وكنت هصدقك.

نظرت "همس" إلى عيناه بألم، مردفةً:
بس فعلا أنا إتخبطت بجد وإيدي بتوجعني بجد... مش بمثل يابابا.
إتسعت مُقلتاه بصدمة ليحتضن إبنته بأسف، فصموده كان ظنًا منه بأنها تحاول إرضاء والدتها بإدعاء الألم، فأردف بندم:
معلش يابنتي حقك عليا، كنت مفكره كده وكده.

إبتعد عنها قليلًا، ليردف:
طب تعالي نروح للدكتور عشان أطمن عليكي.
حركت "همس" رأسها برفض، هامسةً:
متقلقش يابابا.. كدمة بسيطة، هتخف بالتلج بإذن الله، وبعدين أنا عندي جامعة النهاردة، ساعة وهنزل.

لتقتحم "حنان" الغرفة بقلق وتوتر، تحمل كيس الثلج بأيدٍ مرتعشة، لتهتف بحزم:
مفيش جامعة النهاردة... هتروحي إزاي بإيدك دي؟!

المشفى - غرفة "خالد"
بدأت حالته في الإستقرار الملحوظ، إستعاد كامل وعيه، ليفتح عيناه بألم، فيجوب وجوه كل من حوله بنظرات مستنكرة، ليهمس بإستغراب:
حضرتكم مين؟!
وإيه جابكم أوضتي.؟!

إلتفت كل منهم للآخر بتساؤلات مصدومة، فإقتربت منه "نجلاء" بصدمة،
أيعقل أن يكون فقد ذاكرته؟!
هل يأتي يومًا و ينكرها إبنها وينكر صلته بها؟!

رفعت يدها المرتعشة تتلمس وجنتاه بحنو، لينتفض جسده، ويتراجع بجذعه الأعلي للخلف، هامسًا:
فيه إيه حضرتك؟! إنتي تعرفيني؟!
سالت دمعاتها أنهارًا، وتحطم قلبها أشلاءًا، لترمقه بأسي.
لكن هناك من يحتل مقعده بشموخ، واضعًا ساق فوق الأخرى، يراقب الأجواء بغموض عجيب، فلم يرف له جفن، أو يتألم لفقدان أخيه لذاكرته، ونكرانه لمعرفتهم جميعاً

بينما إقتربت "هيا" منه ببكاء، هاتفةً:
"خالد"... أنا "هيا" أختك.. مش فاكرني.
زاغت نظرات "خالد" بين الوجوه بتوتر، لتستقر على نظرات شقيقته المذعورة، ودمعاتها المدمية لقلبه، ليردف بإرتباك:
بس.. أنا معنديش أخوات حضرتك، وبعدين أنا إسمي "حسام" مش "خالد".

تعالت شهقاتها، لتركض إلى أحضان شقيقها "حاتم" راجية:
فكره يا أبيه... أرجوك خليه يفتكرني، شوف دكتور... أرجوك، أنا عايزة أخويا.
ربت "حاتم "على كتفها بحنان، وعلامات الحزن تحتل ملامحه، ليردف:
"هيا" حبيبتي... ممكن الحادثة أثرت على مركز الذاكرة عنده، فترة وتعدي إن شاء الله.

حركت "هيا" رأسها رافضة كل هذا الهراء:
لأ لأ... أنا عايزة أخويا... عايزاه يفكرني، ماليش دعوة، أنا عايزة أخويا.

بكائها يمزق قلبه بلا رحمة، يتمنى أن يجذبها من أحضان شقيقها، ليُسكنها أحضانه للأبد فقد وهبها قلبه لتتخذه وطنًا تثور لأجله، فلا يتحمل أن يراها بأحضان آخر وإن كان شقيقها، لينفث نيرانا كتنين ثائر، صائحًا:
ما خلاص بقا... قولنا هيفتكر وقت مايفتكر بقا.

إنتفض جسد "خالد" بذعر صارخًا:
مين ده؟!
خرجوه بره، أنا خايف منه.
إتجهت "نجلاء" نحو إبنها بغضب جامح، لتدفعه خارج الغرفة بقوة:
إخرج بره يا"حمزة"، ووطي صوتك لو سمحت.

زفر زفرة قوية، ليهب من مقعده بطالته الخاطفة للأنفاس، فيعدل من ثيابه بغموض، و يخطو بخطواتٍ رزينة، ليقترب منها بحنو ضامًا إياها نحو صدره، ليقبل رأسها متنهدًا، وهاتفًا بغموض:
خلاص يا حيوان.

لتتعالي ضحكات "خالد" المتألمة، فيهتف:
سيبهم يا" ثائر" خليني أتفرج عليهم وهما قالبينها دراما كده.
إرفعت عيناها نحو ولدها المحتضن لها بنظرات عاتبة، لائمة، فيشدد من قبلته أعلى جبينها:
معلش ياست الكل، الحيوان ده حلفني، وخلاني وعدته إني ماتكلمش، وإنتي عارفة وعدي سيف علي رقبتي.

أغمضت عيناها بحنان، محتضنة نظراته الطالبة للغفران، لتربت بيدها موضع قلبه.
و إلتفت نحو "خالد" بعتاب أم، مردفةً:
كده يا"خالد" هونت عليك تشوفني كده وتكمل تمثيل عليّا.

سعل "خالد" بقوة متألمًا، ليجمع أنفاسه المتقطعة، مردفةً:
حقك عليا يا "نوجا"، كنت عايز أشوف حبك ليا قد إيه.
إقتربت منه لتقبل جبينه بود، هامسةً:
إنت إبني يا"خالد"،
لتجوب بنظراتها وجوه أبنائها الخمس، لتحمد ربها على تلك النعمة، مكملة:
كلكم عندي زي بعض، بس "هيا" أكتر شوية صغننين، هي دلوعتنا بقا.

لتقفز إلي أحضانها بسعادة، فترتوي من نبع الحنان هذا الذي لاينضب أبدًا، فدائمًا مايجود على الجميع بالحب الصادق.
لكن هناك من تقف خلف باب الغرفة، ودمعات الندم تحرق روحها الجريحة.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة