قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية همس السكون للكاتبة فاطمة علي محمد الفصل السابع عشر

رواية همس السكون للكاتبة فاطمة علي محمد

رواية همس السكون للكاتبة فاطمة علي محمد الفصل السابع عشر

ألقي "ثائر" هاتفه بالمقعد المجاور له وقد تأجج جيحم غضبه وتعالي لعنان السماء، أقسم لو كان ذلك الوغد أمامه لمزقه إربًا دون أدني شفقة أو رحمة.
ليغير خط سيره عائدًا إلى مسكن معشوقته بغضب جامج. ضعط بنزين سيارته بقوته الغاشمة، فسرعتها وصلت إلى أقصاها.
مئات الأحداث، التوقعات، و الإحتمالات دارت برأسه، لكنه كلما إقترب من إحتمال أذى معشوقته أو فقدانها، تضاعفت ثورته وتأججت.

دقائق وكان يصف سيارته بعشوائية أمام البناية، ليترجل عنها مسرعًا. ويركض مهرولًا إلى الداخل، ليتخطي ذلك الدرج بخطوات واسعة.
حتى توقف أمام المصعد ليضغط أزراره بتوتر، لكنها أبت أن تستجيب لأوامره. ويكمل ذلك المصعد رحلة صعوده للطابق المنشود. نهشت نيران القلق والغضب قلبه، ليلتفت نحو ذلك الدرج، فيتخطاه بقفزات سريعة سابقته بها صرخات قلبه الملتاع رُعبًا وقلقًا.

صعد طابق يليه الآخر، ودقاته إزدادت تلاطمًا، لُهاثه إزداد قوة، وغضبه إزداد إشتعالًا. ليلمحها تتوسط تلك الردهة الفاصلة بين الشقتين وبيدها صندوق متوسط الحجم تقوم بفك وثاقه بإبتسامة عاشقة بعدما أخبرها فتى التوصيل بأنها هدية من معشوقها "ثائر السيوفي".
إزدادت دقاته ثورة، حبيبات العرق تلتهم جبينه بشراهة، نظراته الزائغة مابين ملامحها المبتسمة، وذلك الصندوق الذي أوشكت على الإنتهاء من فك وثاقه.

ليتخطي كل تلك الدرجات الفاصلة بينهما كأسدٍ إنقض على فريسته، لحظات وكان أمامها كالوحش الثائر يلهث بقوة، يعلو صدره ويهبط بإندفاع، ليطوف ملامحها بعشقٍ مرتبك. إلتقط منها ذلك الصندوق بهدوء، لترفع عيناها نحوه بدهشة.
ماتت الأحرف والكلمات، لتدون أعينهما قصيدة عشق سرمدي، خُطت بأحرفٍ من لؤلؤٍ نُثر بأرواحٍ أحياها الهوي .

ترنمت بأحرف إسمه وزادتها إبداعًا أطرب روحه الثائرة، لتسكن بين عيناها بإستسلام وخضوع لسلطان عشق تكبر وتجبر فتملك ثنايا القلب والروح.
فهمست بعشق :
-"ثائر"!!!... فيه حاجة؟!!
إصمتي يا من رميتي سهمك بأضلعي فمزق فؤادي بلا رحمة!!!
أمازلتي تُصرين على إحراق ما تبقى من أنفاسي المشتعلة؟!!
من أذن لكِ بأن تتفننين بنطقك لأحرفي بهذا الشكل المهلك؟!!
أم أنكِ أقسمتي أن تُذهبي ما تبقى من عقلي؟!!
تُري هل تنتوين على دفعي لإرتكاب إثمٍ عظيم؟!!!
فكل ما أود فعله الأن هو دلوفك لعالمي الخاص الذي وإن وطأت قدمك به لتمنيتِ أنك كنتِ أُسرتِ به من قديم الأزل.

ليحمحم بشرود إمتزج ببعض التوسل الشامخ:
-ها... أبدًا مفيش حاجة، بس الهدية دي جاتلك بالغلط، معلش ممكن أخدها؟ ... وعشاني ماتزعليش أكيد هديتك هتوصلك الصبح.
إبتسمت برقة وعذوبة زادت هلاكه، لتردف:
-أكيد مش زعلانة، طالما دي حاجة ما تخصنيش مش هزعل عشانها طبعًا.... وبعدين أنا مش محتاجة حاجة أبدًا، كفاية اللي العيلة عملته النهارده.

تنهد "ثائر" براحه بعض الشئ، ليهمس بتأكيد :
- على فكرة أنا ماكنتش أعرف حاجة عن الهدايا دي... أكيد عملوا كده عشان حبوكي.
أطرقت "همس" رأسها خجلًا، وإزدادت وجنتاها إشتعالًا، لتتضاغف حُسنًا، فتقضي علي ما تبقى منه.
ليشدد على خصلات شعره بقوة، متنهدًا بيأس، وأردف :
-بعدين إنتي واقفة كده ليه؟!!!
الوقت إتأخر جدًا، ماتنفعش وقفتك دي.

رمقه بإقتضاب، مردفةً :
-أنا كنت رايحة أطمن على "ضحي"، لقيت مندوب جايب الطرد ده بإسمي، فإستلمته ويدوب هفتحه لقيتك قدامي.
بينما إبتسم "ثائر" على ملامحها الطفولية، ليردف بصرامة :
-تمام إدخلي يلا لو رايحة لـ "ضحي"، وماتقفيش كده تاني... مفهوم.

إزداد حنقها قليلًا، لتردف بجدية :
-طيب... هدخل أشوف "ضحي".
حينها إقترب منها بهدوء، ليهمس إلى جوارها بعشق :
-تصبحي جنتي "همسي".

مهلًا سيدي... أتأثر مني بتلك الطريقة المُهلكة؟!!
فأنا ضعيفة حد الإنصهار، همسك المدمر هذا أذهب ما تبقى بي من عقل!!
فثنايا روحي تستحلفك أن تمتنع عن إهلاكي وتدميري.
فأنا مخلوق ضعيف أمام سطوة عشقك وكلماتك المفعمة بالهلاك.

لتتنهد بهيام وعشق، ونظرات إشتعلت شوقًا لتسكن أحضان فارسها.
إستدارت بلاوعي نحو باب شقتها، لتخطو خطواتها المترنحة، وتفتح الباب بأيدي مرتجفة، دالفةً بهدوء.
أوصدت الباب جيدًا، وإستندت عليه بكامل جسدها، صدرها يعلو ويهبط عازفًا سيمفونية عشق تخطي حدود العقل والقلب.

لتدوي كلماته الآسرة بذهنها، فتتسع إبتسامتها العاشقة أضعافًا، لتجد من يهتف بسخرية :
-إنتي إتهبلتي يا "همس"، واقفة تضحكي لوحدك.
إنتفض جسدها بقوة، لتردف بتوتر :
- خضتني.... حرام عليك يا "عمر"، فيه حد يظهر فجأة كده؟!

إقترب منها "عمر" بهدوء، مضيقًا عيناه بخبث :
-مالك؟!!!، وبعدين مش كنتي رايحة عند "ضحي"؟!!
لتضرب جبينها بتذكر، فقد أفقدها ذلك المُهلك عقلها، لتردف :
-" ضحي" ... يا نهار أبيض دا أنا نسيتها خالص!!!.... أنا رايحالها.
وإستدارت قاصدةً شقة" ضحي".

نهار يوم جديد - الفندق
تململت في نومها لتجد نفسها تتوسط صدره العاري. فتحت عيناها بتكاسل لتجوب تلك الغرفة الفندقية الفاخرة بنظراتها. لتتسع إبتسامها بخجل، لتذكرها ليلتهما السابقة، جذبت الغطاء حتى رأسها لتجد من يشدد من إحتضانها بعشق مقبلًا جبينها، ومردفًا بمكر :
-صباحية مباركة يا عروسة.

لكمته في صدره بيدها الرقيقة، مردفةً بخجل :
-بس بقا.... بطل قلة أدب.
دفعها عنه ليطرحها بالفراش مُقيدًا يديها بقبضته القوية. ليدنو منها بجذعه فيذوب ببحور عينيها التي ألقته صريعًا في محراب هواها، ليردف بمشاكسة :
-قلة أدب!!!... ماشي نشوف الموضوع ده.

لتتعالي دقات هادئة بباب الغرفة، فيستشيط غضبًا ويلتفت نحو الباب صارخًا :
-مين قليل الذوق اللي جاي دلوقتي، ده إسمه تهريج.
تعالت ضحكاتها المرحة، الصاخبة، الساخرة، لتردف بمشاكسة :
-شوف مين بيخبط يا بيبي...

ليستقيم بوقفته، زافرًا بقوة كتنين قرر إحراق العالم غضبًا، فتعالت ضحكتها المرحة ، وغاصت بفراشها بسعادة، لتجذب الغطاء وتغطي كامل جسدها.
توجه "حاتم" نحو باب الغرفة ليستكشف هوية الطارق، فيجده مُقدم الطعام بالفندق، وأمامه عربة طعام متوسطة الحجم، تحمل كل ماتشتهي النفس من فطورٍ فاخر، ليردف النادل بإبتسامة :
-الفطار في الميعاد اللي حضرتك طلبته بالظبط يا فندم.

بادله "حاتم" إبتسامة متصنعة، ليجذب منه العربة، مردفًا بتهكم :
-والصراحة مواعيدكم مظبوطة... دايما بتيجوا في الوقت المناسب.
ليبتسم النادل مطرقًا رأسه بالأرض، وأردف بود:
-تحت أمر حضرتك يا فندم.... بعد إذنك.

دلف "حاتم" إلى الغرفة، صافعًا الباب بقوة. وهو يدفع العربة أمامه بضيق، ليردف متهكمًا :
-يالا يا ست هانم الفطار جاهز.
أردفت "منة" بجدية، ساخرة :
-سيبه عندك يا إبني، وأنا هشوفك بعدين، أصل ما عنديش فكة دلوقتي.

لتجد من يجذب الغطاء عنها مُنهالًا عليها بوابل من الضربات الخفيفة، هاتفًا بحنق :
-هتشوفيني!!!.... معندكيش فكة!!
وسط صرخات "منة" المتوسلة، وإصرار "حاتم" على الثأر منها.
إستمر مزاحهما طويلًا، ليبدلا معالم الغرفة بأكملها، فلم يتبق شئ ما بمحله، حتى حلّ التعب والإرهاق عليهما، فإستكانا بفراشهما منهكي القوي، بضحكات متقطعة.

قصر السيوفي - تحديدًا غرفة "ثائر"
إستقام بطالته المهلكة للجميع بعد أن تأنق بحلته الزرقاء، وصفف شعره بمهارة أطربت خصلاته عشقًا، ونثر ذرات عطره المُسكر لجميع من إقترب من محيط عالمه.
صدح هاتفه بنغمة أشعلت نشوة الإنتصار بعيناه. ليلتقطه بكبرياء وثبات، وإبتسامته الساخرة تعتلي ملامحه الرجولية بسخاء.

ضغط زر الإجابة ليقربه من أذنه مردفًا بتهكم : (الحوار مترجم من الألمانية)
-صباح الخير سيد "أرثر"، أتمنى أن تكون هديتي نالت إعجابك.
"آرثر":.....
مط "ثائر" شفتاه بلا مبالاة، مردفًا :
-فكر جيدًا قبل أن تتفوه بتلك الحماقات.
ليشوب نبرته الكثير من الغضب الذي أشعل حدقتاه :
-إحذر من الإقتراب مما يخصني مرة أخرى، فأفراد عائلتي خط أحمر، أُحرق من يفكر في الإقتراب منهم.
منافسة العمل تنتهي بالعمل، لكنك أقحمت العلاقات الشخصية بالأمر، فتوقع مني الكثير، أتمنى أن تكون هديتي لاقت إستحسان صديقتك ... المرة القادمة ستكون الهدية أقيم.

وأنهي الإتصال بإبتسامة جانبية متهكمة، سرعان ما تحولت إلى ملامح قلق بدأ يتسلل إلى قلبه، فكل ما يخشاه هو إستمرار هذا الوغد بتهديد أمن وإستقرار أفراد أسرته.
فمرحبًا بصراعات العمل، فهو أهل لها وغالبًا ما يتفوق عليه وينتصر... أما الصراعات الشخصية فـ"ثائر" سيكون الخاسر الأكبر، فإنسانيته وضميره المحرك الأول والأخير له.... رفع عيناه إلى السماء متنهدًا، ومن ثم إلتقط نظارته الشمسية وغادر الغرفة.

شقة "عبد العزيز"
صدح جرس الباب بالرنين، ليتجه "عمر" نحوه بتذمر، ليفتحه، فتتسع مُقلتاه محدقًا تلك الفتيات الجميلات اللاتي تقفن بزيهم الموحد ( جيب سوداء قصيرة، وقميص أبيض ضيق يبرز مفاتنهن، وحذاء أنيق عالي الكعب) ، لتردف أحدهن بهدوء :
-"همس" هانم موجودة؟

حرك "عمر" رأسه يمينًا ويسارًا وإبتسامته البلهاء تكسو ملامح وجهه ببذخ، ليحمحم مردفًا :
-نقولها القمرات مين؟!
إبتسمت إحدهن مردفةً :
-إحنا جايين من عند الديزاينر عشان ناخد مقاسات الهانم.
لتنضم إليهم فتاتان أخريتان، فتردف إحداهن بإبتسامتها الخفيفة :
-"همس" هانم موجودة؟

إستقر "عمر" بنظراته الذاهلة نحوها، ليردف بسعادة :
-وإنتي مين كمان ياقمر إنتي؟!!، والله هتخلوني أغير رأي في البت "بسنت" دي، ماهو بعد ماشوف القمرات دي هبصلها بأنهي عين يعني؟!!!
بينما خطت "همس" نحو الباب لإستكشاف هوية الزائر، ليُقاطعها رنين هاتفها برقم مجهول، ترددت كثيرًا في الإجابة، لكن سرعان ماحسمت أمرها خشية أن يكون والدها هو المتصل من رقم أحدهما بالعمل.
لتردف برقتها المعتادة:
-ألو...
المتصل بصرامة :
- ده اللي هو إزاي يعني؟!!

أحابته "همس" بإستنكار :
-مين حضرتك؟!، وإزاي تكلمني كده أصلًا؟!!
أردف المتصل بكبرياء أهلكها :
- "ثائر".
رجفة قوية سرت بأوردتها، دقات عنيفة إجتاحت فؤادها، حمرة مُفرطة أشعلت وجنتاها، لتردف بصوت مرتجف :
-"ثائر"!!!، جبت رقمي منين؟!!

أجابها "ثائر" مردفًا بنبرة أشبعها بالكثير من الخبث :
-"ثائر السيوفي " يقدر يجيب أي حاجة في الكون عشان "همسه".
إرتجفت يداها بقوة، حتى هوي منها ذلك الهاتف اللعين الذي تضامن معه لإهلاكها بلا هوادة، ليزداد توترها وإرتباكها، فتنحني بجذعها ملتقطة إياه مرة أخرى، لتردف بإرتباك :
-ألو.... معلش الموبايل وقع مني.

بينما إبتسم "ثائر" بعشق لبرائة وطفولة معشوقته، وأردف بثبات :
-تمام... البنات وصلوا عندك؟
هنا أردفت "همس" بإستنكار إستوطنه الكثير من الغيرة، فمعشوقها غير مصرح له بالتفوه نحو كل من يحمل تاء تأنيث، أو السماح لهن بالتقرب له :
-بنات؟.... بنات إيه؟!!!!

إستشعر "ثائر" في صوتها نبرة الغيرة تلك التي فشلت في إخفائها، ليتراقص قلبه طربًا، وتهفو روحه سعادةً، فيقرر أن ينه هذا الأمر كي لا يلهو بمشاعرها كثيرًا ، فأردف بجدية أكثر :
-دول بنات من عن الديزاينر هتاخد مقاساتك، وتوريكي أحدث صيحات السنة دي في الفساتين وكل حاجة، ولو في حاجة في دماغك أكيد هيساعدوكي فيها.... وبنات من شركة الأثاث عشان تختاري فرش الجناح بتاعتنا... إختاري اللي يعجبك وهيتنفذ من غير تفكير.

تنهدت بخجل مغمضةً عيناها بهدوء وتمنت داخلها أن تفتح عيناها لتجد أميرها أمامها بطالته المهلكة، ليتسلل إلى مسامعها كلماته :
-على فكرة ده رقمي الخاص، لو إحتاجتي أي حاجة ماتتردديش إنك تكلميني.... أسيبك بقا عشان الناس اللي عندك.

إنهت الإتصال، وإحتضنت هاتفها بهيام وعشق. متنهدة بهدوء، لتجد من يقترب منها هامسًا بتهكم :
- ها.... وإيه كمان؟!!!
لتتسع حدقتاها ذعرًا ، وترمق تلك المساكشة بحنق:
-"ضحي"!!... إنتي هنا من إمتى؟!!

أردفت "ضحي" بهيام مصطنع مقلدة طريقة "همس" :
-هنا من ساعة بنات إيه؟!!، بركاتك يا شيخ "ثائر"، "همس" اللي شباب الجامعة كلهم حفيوا عشان كلمة منها، تطب للدرجة دي!!
لتلكمها "همس" بقوة، وتبتسم بتصنع، مردفةً :
-ماشي يا خفة، يلا نشوف الناس دي.
دلفت فتيات شركة الأزياء، وبدأن بعرض آخر الكتالوجات التي تضم أحدث خطوط الموضة والأزياء للمصمم العالمي الشهير.

وبدأت "همس" في إختيار ما يناسبها من أزياء تصلح للمحجبات، أو إضافة بعض التعديلات الخاصة بالتصميمات الأصلية لتُلائم طبيعتها المحتشمة. ساعدها" ضحي" و "حنان" وكذلك "عمر" الذي تخلف عن الذهاب لمدرسته وفضل إنضمامه لتلك الجميلات، لتنتهي الفتيات أخيرًا من عملها بعدما إستكشفن قياسات" همس"، وكذلك فستان خاص بـ "ضحي" بعد إلحاح كبير من "ثائر"
وإقناعه لها أنه هدية منه ومن "همس" لصديقتهما.

وإلتفتت نحو فتيات شركة الأثاث الشهيرة، ليعرضن عليها أحدث تصميمات الأثاث لهذا العام، وتبدأ بإختيار كل مايلزم جناحهما أو جنتها هي وثائرها، فقد فوضها بالإختيار الكامل، وأكد لها عدم تدخله في شئ، لتساعدها والدتها في بعض الإختيارات.
ساعات طويلة حتى أتمت "همس" إختياراتها وإستقرت على ما يتناسب مع طبيعتها الهادئة.

لتنهض "ضحي" من مجلسها مردفةً بإبتسامة :
-هروح أنا أجيب حاجة وآجي.
أومأت لها "همس" برأسها مبتسمة إبتسامة ماكرة :
-تمام يا حبيبتي... هستناكي.
غادرت "ضحي" متجهة نحو شقتها، وفتحها بهدوء، دالفةً بدهشة من ذلك الظلام الحالك، رغم سطوع شمس النهار، فمن أسدل تلك الستائر الداكنة؟!!

لتتلمس موضع زر الإضاءة، وتضغطه بذعر، لكنه رفض الإنصياع لأوامرها وقرر الفشل في المهمة الموكلة إليه.
فتضغطه عدة مرات، ولكن نفس الإختيار، الظلام الحالك.
بينما بدأت تلك الإضاءة الخافتة في السطوع تدريجيًا بألوان هادئة. وكذلك أغلق باب الشقة تلقائيًا، لينتفض جسدها بخفة، فتجد تلك الورود الحمراء تتهاوى معلنة إنضمام عاشق متيم لأساطير العاشقين.

رفعت عيناها لأعلى وإبتسامتها العاشقة بدأت تتسل إلى ملامحها بسعادة، دقات قلبها تتعالي بسمفونية عشقٍ خالد، تلألأت تلك العبرات الغامضة لتُزيد بريقها إثارة، فتفتح يداها بسعادة لتلتقط بعض الورود.

طوفت بعينيها المكان لتستقر على ذلك الظل المجهول، لتضيق عيناها بإستنكار، وتمعن النظر جيدًا، لتترقب هذا الظل الذي بدأ ينقشع عنه الظلام تدريجيًا مع تعالي تلك الموسيقى الهادئة، التي إخترقت جدران قلبها ببراعة فهي عاشقة موسيقى "عمر خيرت"، وتلك نقطة ضعفها وملاذها.

هالة من الضوء أحاطت ملامحه العاشقة لتُزيده وسامة وجاذبية، ليخطو نحوها بخطوات عاشقة تدوي أصدائها بجدران قلبها، فتنهار رافعة رايات الإستسلام لعاشق تربع على عرش الفؤاد منذ اللحظة الأولى.
إقترب منها بهدوء ليصبح في المواجهة معها، فيطوف ملامحها المرتبكة بعشق ويثبت أنظاره نحو حدقتيها الصارخة بعشقه.

ذابت النظرات وإنحنت في محراب العشق المتيم. لحظات توقف العالم حولهما، وأقسم التاريخ أن يشهد توحد قلبان أهلكتهما الأيام. فتمردت تلك الدمعة التي إختصرت كل معاني الإحتياج لأمانه، ودفء قربه المفقود،وأنفاسه المطمئنة.
نظراتها المتوسلة له بالبقاء، وعد بالأمان، وقسم بالعشق.

بينما بثت له هي الأخرى عشقها المتيم، قسمها بأنه عالمها الوحيد، من تمردت العبرات بُعده، من تلاطمت الدقات قربه، من إشتعلت نيران الهوى له.
لتنفرج شفتاه مطلقة سراح أربعة أحرف فقط، لكنها حملت بين طياتها دواوين عشق أسهدت عشاق لقرونٍ سحيقة :
- بحبك.

أغمضت عيناها بقوة رافضة إستسلامها وخنوعها لصرخات قلبها قربه، لتزفر بقوة، وتفتح عيناها، ونظرات الغضب قد وئدت نظرات العشق الصارخة، لتردف بإستنكار:
-إنت إتجننت!!.... إزاي دخلت هنا؟!!
وإيه الهبل اللي إنت عامله ده؟!!

نهشت علامات الصدمة والإستنكار ملامحه بتلذذ، ليهتف بتعجب :
-هبل!!!... عشان بقولك إني بحبك يبقى هبل؟!!
عشان بفكر أثبتلك حبي، يبقى هبل؟!!
لو حبي ليكي جنان ، يبقى أنا فعلًا مجنون، بس مجنون بيكي.

بينما خطت "ضحي" نحو الداخل، هاربةً من نظراته التي أقسمت بكشف أسبارها، لتوليه ظهرها وتلك الرجفة الخفيفة تملكت من أوصالها، لتردف بإستنكار :
-حب إيه ده يا إبني؟!!... هو واحد زيك يعرف الحب؟!!!...، إنت واحد كل يوم مع واحدة، ماشاء الله سمعتك سابقاك.
ليقترب منها بخطي رزينة، ويصرخ بصرامة، وغضب جليّ:
-سُمعتي!!!...
يعني كلام الناس هو الحكم عليّا؟!!!.

فعلًا أنا واحد بيحب السهر والسفر، بيحب الضحك والهزار، ليّا صحاب بنات كتير.
لكن؛ عمري ما دخنت سيجارة، ولا مسكت كاس، عمري ما مشيت مع بنت ولا تخطيت حدودي معاها،عمري ما عملت حاجة تغضب ربنا.
يمكن أبان لناس كتير مستهتر وطايش، شاب تافه مسنود على ثروة أهله، بس عمرهم ما قالوا إني الأول على دفعتي كل سنة، وإني رفضت أشتغل معيد عشان أفكاري مش هتناسب الجامعة مع إنها الجامعة الأمريكية، إني بطل فروسية كام سنة ورا بعض لحد ما إنتي جيتي وأخدتي اللقب مني.

إني يوم ما حبيبت وكنت مفكر إنك راجل، إستغفرت ربنا في اليوم مليون مرة، وكنت بدعي ربنا إنه مايعلقش قلبي بحاجة حرام، لكن قلبي ماكانش بيهدي بالعكس دقاته كانت بتزيد وتزيد، عنيكي كانت محوطاني في كل مكان أروحه.
-كنت بموت نفسي في الشغل عشان أروح تعبان وأنام، برضه ماكنتش بعرف أنام...
أنا شوفت أصعب أيام عدت عليّا في حياتي.

-عارفة لما دخلتي الأوضة إمبارح مع "همس" أنا مارفعتش عيني فيكي ولا فيها، بس قلبي اللي أقسملي إنك موجودة هنا.
-عارفة يعني إيه أفكر أخطف عروسة أخويا وأخسره لآخر يوم في عمري؟
يعني إيه يبقى شكلي زبالة قدام الكل ويتقال عليّا أناني وحقير؟
-عارفة لما قومت وسيبت الأوضة وقابلتك في الصالة، قلبي خلاص كان رافض الحياة ونظراتك هي اللي أحيته تاني.
بتقوليلي مجنون... أيوة أنا مجنون بحبك.

كانت كلماته كسياط تجلدها بلا رحمة أو شفقة، كلماته مزقت قلبها وأدمته.
ثنايا روحها صرخت مصدقةً على جميع أحرفه وكلماته، تمنت لو إستكانت بين ذراعيه بإستسلام.
أقسمت بأنها تبادله تلك المشاعر منذ الوهلة الأولى، لقد إخترقت سهام عشقه قلبها دون سابق إنذار.

أما ذلك العقل فيرفض هذه التفاهات كليّا، ويؤكد لها بأنه يدس لها السم القاتل بالعسل، لتتجرعه بسعادة ومن ثم يقضي على ما تبقى منها.
أقسم لها بأنه يراها صيدًا سائغًا، يروق له بشدة، وإن تمكن منها ونال مراده ألقاها بطول ذراعه دون أن يرف له جفن.

لينتصر ذلك العقل أخيرًا ، لتزفر زفرة قوية، وتستجمع شجاعتها، وتردف بلا مبالاة:
-كل الكلام اللي إنت قولته ده مايهمنيش، ولا يفرق معايا أصلًا.
بتحب مابتحبش، مش مشكلتي، ولا يشغل بالي أصلًا.

هنا جذب "خالد" ذراعيها بقوة نحوه لتتوسط صدره تقريبًا، ويرتكز بنظراته الغاضبة نحو حدقتيها، ليردف بحزم ضاغطًا على كل حرف تفوه به :
-مش فارق معاكي؟! .... مش مشكلتك؟!.... مش هامك؟!!
أومال ليه رعشة جسمك وإنتي بين إيديا؟!!!
ليه دقات قلبك اللي سامعها وأنا مكاني؟!!

ليه بتهربي بعنيكي مني؟!!
عارفة كل ده ليه؟!!
عشان بتحبيني يا "ضحي"، وعشان كل كلامك اللي إتقال قبل كده كدب.... كدب يا "ضحي".
وعارفة إيه الحقيقة؛ إني مش هسيبك، ولا هبعد عنك، وإنك هتكوني مراتي وأم عيالي.

لينفض ذراعيها بقوة، ويرمقها بنظراته الآسفة، ويستدير مغادرًا الشقة، بل البناية بأكملها، بعد أن أوصد الباب عليها جيدًا.
إنهمرت دمعاتها بغزارة، لتتعالي شهقاتها بقوة، وتتحول تدريجيًا إلى ضحكات فرحة، وسعادة، فقد تيقنت من صدق عشقها لهذا الخالد، وأوشكت أن تتأكد من صدق عشقه المتيم.

ليلًا.
إنطلق "حمزة" بسيارته بشرود فيمن إمتلكت الفؤاد وتوجت بتاجه الملكي.
لتدوي أصوات ضحكاتها بمسامعه فتطربه شوقًا وعشقًا، ملامحها الملائكية إحتلت عيناه بتملك، لتحجب عنه رؤية أي أنثى سواها.
كلماتها المفعمة بالعشق والهوى أشتعلت دقاته لهفة وإشتياق، لتنفرج تلك الإبتسامة العاشقة، فيطرح رأسه للخلف متنهدًا بهيام.

بينما دوي ذلك الإصطدام المفاجئ ليُعيده إلى أرض الواقع. سيطر على مكابح السيارة بقوة، وصفها جانبًا، وقد تملك القلق من قلبه. ترجل عنها مسرعًا ليستكشف ماحدث، ليجد من تفترش الأرض كجثة هامدة، وقد سالت دمائها أرضًا، لينتفض جسده بقوة، ويحملها بين ذراعيه القوية، ويضعها بالمقعد الخلفي لسيارته. ويستدير مهرولًا نحو مقعد القيادة، لينطلق بأقصي ما تملك السيارة من سرعة متوجهًا نحو أقرب مشفى له.

صف سيارته أمام المشفى وترجل عنها مهرولًا نحو الباب الخلفي للسيارة، ليفتحه بقلق أرجف أوصاله. حملها بين ذراعيه مرة أخرى، ليدلف إلى المشفى صارخًا بتوسل :
-دكتووووور... حد يساعدني لو سمحتوا.
توجه إليه بعض من فتيات التمريض وبعض الأطباء ومعهم ذلك التخت المتحرك، ليضعها أعلاه بحرص، صارخًا بقوة :
-أرجوكوا ساعدوها بسرعة.

ربتّ الطبيب على كتفه بحنو لبث بعض الإطمئنان والسكينة إليه ، وهو يردف :
-ما تقلقش حضرتك.... إن شاء الله خير.
وتوجه إلى غرفة العمليات لفحص حالة الفتاة وإجراء ما يلزم لإنقاذها.

"حمزة" بالخارج إزداد قلقًا وتوترًا، يدعو الله أن ينقذ تلك الفتاة البائسة، ليستند على الحائط بكامل جسده عاقدًا ذراعيه أعلى صدره بأسي رافعًا عيناه للسماء راجيًا الله عزوجل اللطف والرحمة.
لتركض نحوه إحدى فتيات التمريض مهرولة، وهي تهف بذعر :
-محتاجين فصيلة دم (+O) وللأسف مش موجودة في المستشفى حاليًا.....

قاطعها "حمزة" صارخًا بحدة :
-أنا فصيلة دمى (+O) خدي الدم اللي يلزمك بس أهم حاجة البنت تكون كويسة.
إصطحبته الفتاة إلى غرفة مجاورة لغرفة العمليات وبدأت بسحب كمية الدم المطلوبة وسط حنق "حمزة" وغضبه الجامح، ليهتف بالفتاة بصرامة :
-إخلصي بقا علشان تلحقوا البنت.

أجابته الفتاة متلعثمة قلقًا من غضبه الذي إستوطن ملامحه بمهارة :
-حاضر.... خلاص كده تمام دي الكمية المطلوبة.
لتنتزع عن يده ذلك المحقن برفق، وتضع موضعه تلك اللاصقة الطبية، وتتوجه مهرولةً نحو غرفة العمليات.

بينما دلف إلى الغرفة شاب في مُقتبل العقد الثالث من عمره، ليردف بجدية :
-ممكن حضرتك تيجي معايا الحسابات عشان نراجع شوية إجراءات مع بعض.
زفر "حمزة" بقوة ونهض مستقيمًا من مقعده دون أن ينبس ببنت شفة فهو يعلم إجراءات تلك المستشفيات الكبرى، ويعلم أنهم تركوا له وقت كافي للإطمئنان على الفتاة.

تقدم الشاب نحو مكتبه وتبعه "حمزة" بسكون غالب. ليدلفا سويًا إلى المكتب فيُلقي له "حمزة" بطاقة الإئتمان الخاصة به، ويجذب تلك الورقة التي تُعلن عن مسئوليته عما يتعلق بتلك الفتاة، ويذيلها بتوقعه ، هاتفًا بصرامة وحزم :
-كده إجراءاتك خلصت، الفيزا معاك إسحب المبلغ اللي تحتاجه.

ويجذب من يده تلك الماكينة الصغيرة ليضغط أزرارها بكلمة المرور الخاصة به، ويستدير مغادرًا الغرفة.
وتوجه نحو غرفة العمليات ليجد ذاك الطبيب يغادرها ويتبعه طاقمه الطبي، ليركض نحو مهرولًا، وهو يردد :
-لو سمحت يا دكتور.... البنت عاملة إيه؟

وضع الطبيب يداه بجيبي ذلك المعطف الأزرق الخاص بالعمليات، ليتنهد براحة :
-الحمد لله إصابة الراس خفيفة، شوية كدمات وجروح سطحية بجسمها، بس للأسف كانت فقدت دم كتير... الحمد لله عوضناه بكيس الدم اللي أخدناه منك....
عمومًا نص ساعة وتفوق ونشوف الدنيا فيها إيه.

مرت تلك الدقائق على "حمزة" كدهرٍ من الزمن، يتخبط بين قراراته المذبذبة، أيغادر المشفى بعدما أتم كل شئ وإطمئن عليها من الطبيب؟
أم ينتظر قليلًا ليُكمل ما بدأه ويعتذر منها عما بدر منه وتسببه في ذلك الحادث الأليم؟
ليقطع تفكيره صوت الطبيب الهادئ، مردفًا :
-البنت فاقت.... بس.... للأسف مش فاكرة إسمها ولا أي حاجة عن حياتها، للأسف الخبطة أثرت على ذاكرتها، وعندها فقدان ذاكرة مؤقت.

قطب "حمزة" جبينه مستنكرًا :
-إيه؟!! فقدان ذاكرة!!!
طيب أكيد كان معاها أي إثبات شخصية.

حرك الطبيب رأسه نافيًا قبل أن يردف :
-للأسف مفيش معاها أي ورقة حتى تدل على شخصيتها، للأسف أغلب البنات في مجتمعنا بتمشي من غير أي إثبات شخصية.
ليزفر "حمزة" بقوة مشددًا على خصلات شعره بأسي لحال تلك الفتاة، وغضبه لما سببه لها من ألم ومصاعب.

قصر السيوفي - حديقة القصر
إحتلت "هيا" تلك الأرجوحة بشرود غلبه الكثير من اليأس من تلك العلاقة المتوترة التي تجمعها بمعشوقها، فتارة يتودد لها بعشق واله، وهي ترفضه وتتمرد بكبرياء، وتارة أخرى تتوسل قربه بعشقها الجامح، وهو يرفضه هو بكل قسوة، علاقة معقدة للغاية يشوبها الكثير من الغموض والتخبط.
أتطوي تلك الصفحة من حياتها؟!!
أم تمزقها بكبرياء؟
أينتصر قلبها العاشق، أم عقلها المتمرد؟

رفعت عيناها نحوهما بصدمة ألجمت أوصالها بقسوة ، عيناها الزائغة تطوف من يتجه نحوها بإستنكار، تتمنى أن يكون هذا كابوسًا مرعبًا...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة