قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية همس السكون للكاتبة فاطمة علي محمد الفصل التاسع

رواية همس السكون للكاتبة فاطمة علي محمد

رواية همس السكون للكاتبة فاطمة علي محمد الفصل التاسع

عالم "همس"
زفرت زفرة قوية تطرد بها ثُقل كبير لطالما تحملت مشقة حمله لسنوات عصيبة، فأرهق روحها وأنهك قواها، لتلتفت نحو ذلك الملاك بالنسبة لها، لتلمح علامات الحزن و الأسى تلتهم معالم وجهها، ودمعاتها المنهمرة بلاتوقف، فأخذت توبخ ذاتها على إستطرادها في الحديث والذكريات المؤلمة، فلأجل إزاحة الحِمل عن كاهلها تؤلم تلك البائسة التي كانت تتألم من قبل، فتقرر أن تُخرجها من دوامة حُزنها، فهتفت بمشاكسة:
عارفة!... أكتر حاجة هونت عليّا اليومين اللي فاتوا.

إنتبهت جميع حواس "همس" بإمعان، لترمقها بتعجب، مردفةً:
إيه؟!
طوفت "فريدة" المكان بحدقتيها، ومؤشرات الراحة النفسية والسعادة تنبض بجميع خلاياها، لتشير برأسها مؤكدة:
"عالم همس".
وتستقر بأنظارها نحو "همس" مردفةً:
عارفة.. ..

حركت "همس" رأسها بإهتمام لتشجعها على إستكمال حديثها.
فتسترسل "فريدة" بنبرتها التهكمية المُذابة بكثير من الأسى:
رغم إن حديقة القصر عندنا كبيرة جدًا... إلا عمري ماحسيت فيها برعشة الهوا اللي حستها في المكان ده.

لتتشبع نبرتها بالكتير من الراحة، مكملةً:
عشت هنا يومين ... مش هتصدقي لو قولتلك عمري ماحسيت بالراحة في عمري زي ما حسيت في اليومين دول... إحساس بالهدوء والسكينة صعب تلاقيه في مكان تاني.
أول مرة أنام بعمق كده،و أول مرة أحلم أحلام حلوة كمان.

لتنفرج تلك الإبتسامة المرحة بثغر "فريدة"، فتتجه نحو سور الروف مشيرةً برأسها نحو نافذة زجاجية مقابلة لها، هامسةً:
و كل يوم كنت بشوف فيلم رومانسي كمان .
تعالت ضحكات "همس"، لتقترب منها، مردفةً بإستغراب:
إنتي كمان وصلتي للمسلسل اللي بتابعه على طول.

وتلتقط أنفاسها المتقطعة من إثر ضحكاتها، لتكمل مردفةً:
أنا بقى متابعة جيدة لمسلسل "حاتم" و"منة"... حاجة كده ولا في الروايات، عمري ماشوفت حب ورومانسية كده...
لتسترسل بحديثها الحالم...
أما تلك التي توقف بها العالم عند ذكر إسم حفيدها الذي حُرمت منه لأنانيتها وتعجرفها، لتتذكر يوم توسلها له للصفح
والغفران...

"فلاش باك" - مكتب "حاتم"
إستند على طرف مقعده، منخرطًا برسم بعض الأشكال الهندسية بذلك التصميم المُلصق أعلى طاولته المخصصة للأعمال الهندسية، زاويًا مابين حاجبيه بإستنكار لذلك الخطأ الذي وقع به سهوًا، ليذم شفتاه بإستياء، فهذا الخطأ لا يقع به مهندس حديث التخرج، فيلتقط الممحاة بإقتضاب ويبدأ بإزالة تلك الخطوط الصغيرة التي تبدو للبعض تافهة ولا تأثر بالعمل بشئ، ولكنها قد تقلب الأمور رأسًا على عقب، وتحول مجري التصميم لشئ آخر.

حتى صدحت دقات خفيفة بباب المكتب، فهتف "حاتم" بهدوء دون أن يلتفت:
أدخل.

تسللت إلي مسامعة دقات خطوات خجولة، مرتعشة، ليقطب جبينه بإستنكار، ويستدير كليًا بالمقعد الدائرى، لتعتلي علامات الصدمة وجهه، و يهب متصلبًا كتمثال جامد تتقاذفة دوامات متناقضة، ومتشابكة من المشاعر، ليهتف بدهشة:
حضرتك.

تسمرت مكانها بإرتباك، ترفض عيناها المواجهة فتجوب بالمكان علّها تجد ما ينتشلها من تلك الحالة، لتفرك أنامل يدها ببعضها البعض، متنهدةً بلوعة تحرق قلبها، وهامسةً بتلعثم:
أنا... أنا أسفة... أنا جاية أطلب منك تسامحني... أرجوك...

كثيرًا ماكان يدور برأسه سيناريوهات عدة لهذا اللقاء
فمرة يقسم أن يُذيقها مرارة القسوة والجحود.
وأخري يتوعد بالإنتقام والثأر لكبريائه.
وأخري أن يحرمها من أشقاءه.
وأخري بالتشفي بها وبإنكسارها،
وأخري... وأخري...

أما هذا المشهد وتلك المشاعر التي يعيشها، لو أقسم له الجميع بأنه سيتذوقها، لدق عنقهم بلا رحمة.
فعن أي مشاعر يثرثرون؟!
فتلك السيدة تكبرت، وتجبرت، وتحكمت بقدري، رفضت عشق إستوطن فؤادي، وضعتني بين شقى الرحى، بين إختيارتين أحلاهما مُر، بين من تهفُ روحي للقائه وبين من تجري دمائهم بأوردتي.

رمقتني بتعالٍ وأنا أغادر القصر بثبات وشموخ، وقلبٍ يدمى بصرخات "هيا" وتوسلاتها، تشبثها بيدي وتوسلها لبقائي.
دمعات أمي ورجاؤها لها بموافقتها ومباركة تلك الزيجة.
نظرات "ثائر" القاتلة، المتوعدة بأن يأتي على الأخضر واليابس، أن يرافقه، بل يرافقونه جميعًا ويتركوا لها حيطانًا وشُرفات لتتحكم بها.

نظرة "خالد" وثورته، تحطيم كل ماوصلت له يداه، قارورة البنزين التي أراد أن يحرق بها القصر بمن به.
قرار "حمزة" القاطع بالمغادرة قبل أن تطأ قدماه خارج القصر.
كيف أتناسي كل هذا؟!...
فهي من أرادت أن تحركني بين أصابعها كدمية مشدودة بخيوط من نيران، تستمتع بالسيطرة على أنفاسنا، لكنها غفلت أننا رجال لا نقبل التحكم، ولا نخشى مخلوق.

جمعتنا جميعًا بين أحضانها التي إتسعت، وإحتوتنا بلا تذمر، فطالما كانت لنا المحراب والوطن... إنها "نوجا".
فلما تلك الشفقة نحوها؟!
لما ذلك التعاطف مع دمعاتها التي لطالما تمنيت إنهمارها كي تطهر قلبها من بعض القسوة والأنانية؟!

نهره عقله عن تلك الدقات الشغوفة للقائها، ليتنهد بقوة، هاتفًا بإستنكار:
أسفة؟!... ليه كنتي حرمتيني من المصروف وأنا مش واخد بالي!
لتذوب تلك المسافة الفارقة بينهما بخطوات ثقيلة منه، فيرمقها بغضب، هاتفًا بصرامة:
وأنا مش قابل أسفك... ولا هسامحك...
متخافيش أنا وإخواتي مابعدناش عن بعض ولا حاجة... بالعكس قربنا لبعض أكتر... ماهو مش بُعد المكان اللي هيفرقنا...

إلتقطت يده بين يديها بإنكسار مرتعش، لتسري تلك الرجفة القوية بأوصاله، فتهمس بتوسل:
أنا أسفة يا إبني...

نفض يده بقوة، ليلعن عقله آلاف المرات، و يجذبها نحوه بحنان لتستقر بين ذراعيه، فتنهمر دمعات الندم منها لتبلل قميصه وتخترق قلبه بأسي، فيربت على ظهرها بحنان الإبن هامسًا:
إنتي ماتعتذريش ياتيته... تشاوري بس، وكل اللي تحبي تعمليه.. من غير تفكير إعمليه... والله كلنا بنحبك... وعمرنا ماكرهناكي...

لتشدد هي من إحتضان حفيدها بقوة، مستنشقةً عبقه الآمن، فيسري بأوردتها باثًا إشتياق العمر.
ليخرجها من شرودها إشارة "همس" لها بيدها يمينًا ويسارًا، وصدي كلماتها المُوقظة لجميع حواسها، فإبتسمت إبتسامة خفيفة.

حتى أردفت " همس":
روحتي فين حضرتك؟!، أنا عارفة إنها حكاية ولا في الأفلام، وتشد أي حد ليها، وتخليه يتمنى يعيش ربعها حتى.
أستاذ "حاتم" بيعشقها مش بيحبها بس، و"منة" كمان بتحبه، بس بحس إنه بيحبها أكتر... والله أعلم بالقلوب.

قصر السيوفي
دلف إلى مكتبه بثبات يعاكس نيران غضبه، يسحب مقعده ويحتله طارحًا رأسه إلى الخلف، وعاقدًا ذراعيه أعلى صدره، زافرًا بقوة، فهو يعلم أنه المتسبب الرئيسي في إختفائها، قسوته وتشفيه في إنكسارها دفعها للهروب، لتدور حرب ضارية بين عقله وفؤاده...
فالجميع عفا وصفح، فلكلٍ منا سقطاته، فنحن بالنهاية بشر نخطئ ونُصيب.

نعم... ينتابني حنين وإشتياق إليها!،
أشتاق لجدتي التي لطالما إحتضنتي ودللتني، فهي من زرعت الشموخ والكبرياء بدمائنا، من علمتنا قوة العائلة في ترابطها وأصولها.
إنتقيت من حديثها ما يتناسب مع قناعاتي ومعتقداتي.
لكن عندما أنظر في عيناها، لا أرى سوي جثة أبي وعمي وزوجته.

حتى دلفت "هيا" إلى المكتب وقد خيم الحزن بروحها، لتقترب منه بهدوء، مردفةً:
كنت بشوفك كل ليلة وإنت داخل أوضتها تطمن عليها،... فعلًا إنت كنت بتتطمن علينا كلنا وتتأكد إننا في القصر ونايمين في أوضنا، بس ده عشان بتحبنا وحاسس بمسئوليتك تجاهنا... يعني أكيد كنت بتحبها هي كمان، وإلا ماكانتش فرقت لك ... وأنا متأكدة إن هدوئك ده مش من فراغ... أكيد أنت عارف مكانها، عشان كده مطمن، ونظرة الثقة اللي في عنيك أكدت إحساسي.
ماهو مش "ثائر السيوفي " اللي مايبقاش عارف أهل بيته فين.

رمقها "ثائر" بنظرات غامضة، أكانت تلك الصغيرةتعلم سره طوال تلك السنوات؟!
أنهت "هيا" حديثها، وإستدارت مُغادرة لتخطو خطواتها بثقة، فقد أكدت نظراته توقعها، وأغلقت باب المكتب معها، لتستند بظهرها عليه، متنهدة بسعادة، لتطلق بعض الضحكات المرحة التي قضت على ذلك الحزن.

لكن هناك ثلاثة أزواج من العيون تراقبها بدهشة من تغير حالها بتلك السرعة، ليتبادلوا النظرات المستنكرة فيما بينهم، فيعقد "خالد" جبينه بإندهاش:
إنتي إتجننتي يا "هيا"... ماكنتي داخله بتعيطي وحالتك حالة!...
إيه اللي حصل خلاكي تضحكي كده؟!

إقتربت منه بسعادة، وعيناها لامعتان ببريق غامض، لتقرص وجنته برقة، هامسة بهيام:
إنت عارف تأثير أبيه "ثائر" على أي كائن في العالم!
ليومئ لها "خالد" بعينه مشاكسًا:
ياعم التأثير... إوعدنا يارب بربع تأثيره حتى وأنا موافق والله.

تعالت ضحكاتها المرحة، فلم يبق للحزن والقلق بقلبها سكن، لتهتف بتهكم:
إنت بتحلم يا "لودي"...
لكن هناك من يرمقها بغضب متأجج، وقد برزت جميع عروق وجهه ورقبته من تدفق وغليان الدماء بها، ليحمحم بهدوء ظاهري:
"ثائر" قالك إيه؟!
هيقدر يوصل لتيته!

لكنه طل عليهم بطالته الخاطفة للأنفاس، واضعًا كلتا يداه بجيبي سرواله، ليقترب منهم بثبات، رامقًا والدته بنظرات بث بها كتيرًا من الإطمئنان مغلف بوعد بالأفضل وتلبية ماتتمناه، مغمضًا عيناه بحنان مؤكدًا ذلك الوعد.
وبادلته والدته نظراتها الحانية، الواثقة بإبنها بل بأبنائها جميعًا.

ليلتفت نحو "حمزة" بنظرات جادية فقد حان وقت إستقرار تلك العائلة، حان وقت تجمعها وتماسكها، وقت إلتحامها وتوحدها تحت سقف ذلك القصر، ليردف بصرامة:
القصر يجهز بكرة عندنا حفلة مهمة للعيلة، كل حاجة تبقى مظبوطة وعلى كامل الإستعداد، مش عايز غلطة واحدة.

يضيق "حمزة" عيناه بإستنكار، رافعًا أحد حاجبيه بإندهاش:
حفلة... وجدتك مختفية، مش مرتاحلك يا "ثائر" ناوي على إيه.
إنفرجت إبتسامة غامضة من شفتاه، ليخطو بخطواته الرزينة متجههًا صوب غرفته، ويترك خلفه من يتهامسون بإندهاش لأمر ذلك الحفل المفاجئ.

دلف إلى غرفته، ليوصد بابها بهدوء متجههًا نحو مكتب جانبي بغرفته الواسعة ذات الأثاث الوثير والألوان الغامضة، ليحتل مقعده بشموخ، جاذبًا حاسوبه النقال، فيفتحه ويبدأ بالضغط على أزراره بجدية وصرامة.

حتى تلقى إيميل إلكتروني، فإلتهم أحرفه وكلماته بإنتباه وغموض، لتنفرج تلك الإبتسامة الجانبية الساخرة، التي إسترخي على أثرها بمقعده، غالقًا حاسوبه بإهمال، ليعقد يداه للأعلى طارحًا رأسه فوقهما بتفكير عميق، ويسحب نفسًا عميقًا فيحتبسه بصدره للحظات، ليخرجه زفرة قوية محملة بشعور مبهم.

دقات خفيفة على باب غرفته تبعها صوتها الحنون:
ممكن أدخل يا حبيبي؟
نهض من مقعده مسرعًا، متجههًا نحو الباب ليفتحه بتلك الإبتسامة العذبة، فيلتقط يدها ويجذبها للداخل برفق، مردفًا:
إتفضلي ياحبيبتي... مش محتاجة تستأذني.

ليتجها نحو أحد الأرائك، فيجلسها "ثائر" برفق، ويجلس مُقابلًا لها ليُغدق عليها من نظراته الحانية، مردفًا:
خير يا ست الكل!، لسه صاحية للوقت ده ليه؟!
أمعنت النظر إلى تفاصيل وجهه، لتسحب نفسًا طويلا، قائلة:
مش عارف السبب يعني؟!

إلتقط يدها بين يديه بحنان، ليدمغ قبلة محملة بإطمئنان جاءت تبحث عنه، مستقرًا بنظراته في عيناها، مربتًا على يدها بيده، مردفًا:
عارف ياحبيبي... بس عاوزك تتطمني، كل حاجة هترجع و أحسن من الأول كمان... إطمني.
رفعت يدها الأخرى على يده، لتهتف:
بجد يا "ثائر"؟، يعني إنت عارف جدتك فين؟، وهترجعها القصر تاني؟

ليحتضن رأسها بيداه، ويقترب منها مقبلها بحب:
إطمني ياحبيبتي... إن شاء الله كله هيرجع أحسن من الأول، وماتقلقيش على "فريدة "هانم، أنا عارف هي هتكون فين.
رمقته والدته برجاء:
برضه "فريدة" هانم، سامح ياحبيبي، ده أجلهم وعمرهم، وكل واحد فينا له ميعاد يقابل رب كريم فيه، مهما تعددت الأسباب فالموت واحد.

ليتنهد "ثائر" بأسى:
سيبيها للأيام ياحبيبتي... وإن شاء الله خير.
نهضت واقفة لتردد بيأس:
عارفة إنك ماشي بدماغك، ومش هتسمع لكلام حد، عمومًا تصبح على خير ياحبيبي.
ودعها بإبتسامته الملازمة لحضور والدته:
وإنتي من أهل الخير يا حبيبتي.

غرفة "حمزة"
تعالى صوت لُهاثه، يكاد يصم الأذان، أنفاسه تتقطع تدريجياً، ينحني بجذعه لإلتقاطها بصعوبة.
يركض بطريق طويل مُظلم، تُحيطه أشجار كثيفة، شاهقة الإرتفاع. تزداد سرعته الجنونية، يتعالي نباح كلاب كثيرة، تركض خلفه بإصرار أسد جائع للإنقضاض على فريسته. يتصبب عرقًا باردًا،و تتسارع دقات قلبه، يلتفت للخلف بين آن وآخر، يزداد الظلام حوله، يصرخ عاليًا بلا صوت، فصوته تمرد عليه ورفض الإنصياع لأوامره.

يلتفت حوله كالمجنون، تزداد جاذبية الأرض، فتثقل أقدامه، يحارب بشراسة لنقلها من موضعها. تظهر أمامه تلك الفتاة بردائها الأبيض، وشعرها الفحمي المتطاير حولها، ترفع يدها نحوه لتجذبه نحوها.
تزداد سرعة الكلاب وشراستها، وتقترب تلك الفتاة بإصرارها على جذبه نحوها.

وقف بالمنتصف كالمجنون يدور حول نفسه بهلع، كلتاهما يقتربا بقوة، حتي ظهرت "هيا" من العدم، لتركض نحوه بكامل قوتها، تزداد معدلاته الحيوية؛ من دقاته المتلاطمة، وقلبه الذي كاد يقفز من محله، وحبيبات العرق التي تحولت لأمطار غزيرة

فيرمقها بنظرات محذرة، يحاول أن ينبها كثيرا، لكن ذلك الصوت اللعين لا يطاوعه، إقتربت أكثر، محاولات تحذيرها بائت جميعها بالفشل .
ركض نحوها كلب ضخم يحاول أن ينقض عليها، ليصرخ بقوة:
"هيااااااااااا".

إنتفض جسده بقوة، ودبت رجفة قوية بخلاياه، فيلتفت حوله بفزع، ليجد نفسه على فراشه يلهث بقوة، وحبيبات العرق تحتضنه ببذخ، ليعلم أنه كان بكابوس مخيف.
ليصدح هاتفه بصوت آذان الفجر، فيطمئن قلبه قليلًا، وينهض من فراشه متوجهًا نحو
حمام غرفته ليغتسل ويتوضأ للصلاة.

شقة "عبد العزيز"
نهض من فراشه باحثًا بقدمه عما يرتديه بها، ليغادر غرفته متجههًا نحو الحمام، للوضوء والخروج لصلاة الفجر بالمسجد.
ويدق باب غرفة "عمر" بهدوء لإصطحابه معه للصلاة.

أنهي الإمام الصلاة، ليصافح الجميع بعضهم البعض، فيجد "عبد العزيز" من يشد على
يده بإبتسامة، مردفًا:
حرمًا ياعمي، حرمًا يا"عمر"
أجابه "عمر" بلطف:
جمعًا يا أستاذ "حاتم".

بينما بادله " عبد العزيز "الإبتسامة الودودة:
جمعًا يا"حاتم" يا إبني، ليستند عليه واقفًا، ويتجهها سويًا مغادرين المسجد، ليردد "عبد العزيز":
بقولك يا إبني عمك "عادل" اللي في آخر الشارع البيت بتاعه آيل للسقوط، وده راجل على قد حاله وعايش لوحده، إتفقنا كلنا في الحي إننا نساعده ونبني البيت من الأول، وبما إنك مهندس ممكن تساعدنا في كده وتعلمنا الرسم الهندسي للبيت...

رمقه "حاتم" بنظرة إعجاب لذلك الرجل الخدوم، وفخر بإنتمائه لذلك الحي المتعاون والمحب لبعضه البعض، ليردف بسعادة:
أكيد ياعمي، حضرتك تؤمر، وأنا معاكوا في أي حاجة... وكمان المكتب عندي هياخد مقاولة البيت، وأنا متكفل بكل حاجة خاصة بالبناء.

ربتّ "عبد العزيز " على كتفه بحنان الأب، شاكرًا جهوده، بنبرة حانية:
كتر خيرك يا إبني، بس ماينفعش تقوم بكل حاجة لوحدك، إحنا هنا كلنا بنساعد بعض.

سحب "حاتم" نفسًا عميقًا بتفكير:
طيب عندي فكرة كويسة، إيه رأيك أنا أتكفل بالمباني وكل حاجة متعلقة بيها، والفلوس اللي تجمعوها نشتري بيها عفش جديد ونفرش البيت من كل حاجة ممكن يحتاجها، وأجهزة المطبخ كمان.

ضيق "عبد العزيز" عيناه بتفكير، فما إقترحه "حاتم" فكرة رائعة، ليهتف:
تمام... فكرة كويسة، وأهو برضه نكون قدرنا نساعده أكتر.
تنهد "حاتم" براحة، فقد أسعدته موافقة "عبد العزيز" على إقتراحه، ليهتف بجدية:
أي حاجة تحتاجوها في أي وقت تؤمرني على طول، وأنا أنفذ.

ليربت" عبد العزيز " على كتفه مرة آخرى، فرغم حداثة وجوده بحيهم إلا أنه لم يتأخر عن مساعدة أي محتاج، ولم يشعرهم يوم بغربته عنهم، مردفًا بطيبة:
مايؤمرش عليك ظالم يا إبني، ربنا يكرمك من فضله.
إن شاء الله هنبدأ خلال يومين في عملية هدم البيت.

أجابه "حاتم" بود:
سيبلي الموضوع كله والشركة عندي هتقوم بكل حاجة، وخلال اليومين دول إن شاء الله.
أنهي "عبد العزيز" و"حاتم" حديثهم وكان يُتابعهم "عمر" بإهتمام وفخر بوالدته، وإعجاب بكرم "حاتم" ومسارعته لفعل الخير، وإتجها نحو مسكنهما، ليردف "عمر":
رغم إنه بقاله كام شهر ساكن معانا في الحي، بس تحس إنه إبن أصول وطيب، وبيحب الناس كلها.

أكدَ "عبد العزيز" على كلامه مشيرًا برأسه:
الإنسان الطيب مابيختلفش عليه إتنين، خليك دايما ياابني مستعد لتقديم المساعدة لأي حد يحتاجك يوم حتى من قبل مايطلبها، فيه ناس كتير كبريائها يمنعها من البوح بإحتياجها.

رمقه "عمر" بإندهاش، مردفًا:
وإزاي أعرف إنه محتاج من غير مايطلب يابابا؟!
إبتسم "عبد العزيز "إبتسامته البشوشة، مردفًا بود:
دايما يا إبني حس بالناس وخاللي قلبك عامر بذكر ربنا وقرب له، هتلاقيك دايما بتحس بالمحتاج من غير مايتكلم.

قصر السيوفي
الجميع مجتمع حول طاولة الفطور، لكن ذلك المقعد الرئيسي بها مازال خاويًا بإنتظار من تستحقه، وتزينه، طافت "نجلاء" ببصرها بين وجوه الجميع بسعادة، لتستقر نحو مقعدها الفارغ، فتردف بنبرة يكسوها الإشتياق:
هنستناها النهاردة يا "ثائر" مش هنتغدا من غيرها،
لتلتفت نحوه مثبته أنظارها بحدقتاه بجدية:
إن شاء الله... صح؟ .

لتجاوبها "هيا" بسعادة مؤكدة:
أكيد يا "نونا" مش هنتغدي من غيرها النهاردة.
فيتدخل "خالد" بالحديث، وهو يفتت قطعة الجبن في طبقه بالسكين:
ماهي لو مجاتش النهاردة بالي هيبقى مشغول وأخسر البطولة، و طبعا يا "نونا" إنتي و"يوكا" هتحضروها زي كل سنة، أنا بتفائل بيكم.

ضربت " نجلاء" رأسها بتذكر، مردفةً:
يانهار... ده أنا ناسية إن عندك بطولة النهاردة.
لتنهض "هيا" من مقعدها قاصدة أخيها، فتحتضن رأسه بحنان، مرددةً:
أكيد يا "لودي" هنحضر البطولة، ولازم تفوز بيها زي كل سنة...
لتستقيم بوقفتها رافعةً يدها كنجمة سينمائية تلوح لجمهورها، مكملة حديثها:
فارس عيلة السيوفي لن يتنازل عن المرتبة الأولى إطلاقاً.

لكن هناك من يحتضنها بنظراته القلقة، فذلك الكابوس مازال يسيطر على كامل تفكيره، مازال الخوف عليها ينهش قلبه بمخالبه الحادة، فأي خطر هذا الذي يترقبها؟!، من يريد إيذائها لتلك الدرجة؟!...
ليقسم بين ذاته إن تجرأ أحد وحاول أن يمس شعرة واحدة منها، لسوف يمحيه من على وجه البسيطة.

لتخرجه "هيا" من هواجسه، بحديثها عن ذلك الحفل:
عايزين تنظيم عالمي للحفلة يا "حمزة "، أي نعم إحنا مش عارفين الحفلة دي لإيه!
بس مش مهم المهم عايزين حفلة جامدة.
حرك "حمزة" رأسه بالموافقة دون أن ينبس ببنت شفة، وعلامات الإرهاق والتوتر تستوطن ملامحه، لتعقد "هيا" جبينها بإستغراب، هاتفةً:
مالك يا"حمزة"؟ ... إنت كويس؟!

ليلتفت الجميع صوبه، محدقين بمعالم وجهه بإمعان، فتهتف "نجلاء":
مالك يا حبيبي.؟ .. تعبان من حاجة؟!
بينما هتف "خالد" بجدية:
لو تعبان ممكن تريح النهاردة، وأنا هساعدك في تجهيزات الحفلة، البطولة هتنتهي على الساعة واحدة الضهر.

إلا أن" حمزة" هب من مقعدة بغضب جامح، ليُلقي ملعقته بالطبق، صارخًا:
أنا كويس... شوية إرهاق من الشغل، مش مستاهل كل الكلام ده.
ويغادر مهرولًا ودقات ذلك الأهوج تزداد قلقًا وتوترًا.

تبع "ثائر" أثر شقيقه بنظرات مترقبة يكسوها الكثير من الغموض، ليلتفت نحوهم، هاتفًا بثبات:
سيبوه... أكيد إرهاق من الشغل.
وينهض من مقعده، ملتقطًا مفتاح سيارته، ونظارته الشمسية، متنهدًا براحة:
أنا خارج يا ست الكل... محتاجة حاجة.
لتبتسم بحنان، وتحرك رأسها بود:
سلامتك يا حبيبي، هنستناكم على الغدا.

شقة" عبد العزيز"
إنشغلت "همس" بتحضير الفطور، وتجهيز كل مالذ وطاب من طعام، وعلامات الجدية ترافقها بعملها، لتدلف والدتها إلى المطبخ بإندهاش، مردفة بإستنكار:
"همس" بتحضرلنا الفطار!... يا سلام.

لتلتقط "همس" صينية كبيرة نوعًا ما و تبدأ برص الأطباق عليها، وتراجع الأصناف بهمس:
أيوة ده الفول، والطعمية، والبيض بالسمن البلدي، والجبنة، والخيار، والمربي، والعسل، وده العيش، بس أكيد نسيت حاجة، فيه حاجة ناقصة، لتهتف عاليًا أيوة صح: الفطير.

وإلتفتت نحو رخامة المطبخ لتلتقط الفطير الساخن، وتضعه بجوار ما سبق رصه، وتحمل الصينية مرددة بحماس:
معلش ياماما... الأكل عندك في الأطباق يادوب هترصيه على السفرة، وأنا هاخد الأكل ده وأطلعه لتيته "فريدة".

جذبتها "حنان" نحوها بذهول، هاتفة بإستنكار:
تيته "فريدة"!
تيته "فريدة" مين يابنتي؟!
أردفت "همس " بتعجل:
تيتة "فريدة" ياماما اللي ساكنة في الأوضتين اللي في "عالم همس" وأنا أتأخرت عليها بالفطار، يدوب أطلع عشان أفطر معاها.
وتغادر بجدية قاصدة تيتة" فريدة".

تبابعت "حنان" أثرها بإستغراب، لتضرب كفًا بالآخر، مردفةً:
البت إتجننت وواخدة الأكل وطالعة لواحدة أول مرة أعرف إنها موجودة في العمارة أصلا.
لتجد من يحاوط كتفيها بذراعه ويضمها بحنو إلى صدره، هامسًا:
الجميل بيكلم نفسه ليه؟!

إلتفتت نحوه ببلاهة، مردفة:
بنتك طالعة لتيتة "فريدة" يا" عبد العزيز"... بقالها تيتة وأنا معرفش.
لتتعالي ضحكاته المتعحبة لحال زوجته، فيشدد من إحتضانها، مُقبلًا رأسها بحنان.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة