رواية نوفيلا جنون تحت السيطرة للكاتبة شروق حسن الفصل السادس
بعد مرور شهر.
عاد «سليم» لل يلا الخاصة بأبيه مُنهك للغاية، بعدما قضى طيلة هذا الشهر جانب «مدثر» الذي لم يستيقظ من غيبوبته حتى الآن، الجميع في حالة من الصدمة حتى كادوا أن يُصابوا بالجنون، خاصةً والديه و لوچي التي تقضي أيامها في بكاءٍ مستمر.
صعد الدرج بتعب مُقررًا الإستحمام وتغيير ثيابه ثم العودة لصديقه مُجددًا للمبيت معه كما اعتاد، قابل في طريقه «هايدي» والتي من المفترض أن تكون زوجته الآن، لقد تم إلغاء الزواج بسببها هي، وقفت أمامه تقطع طريقه لينفخ هو بنفاذ صبر سائلًا إياها بحدة: عايزة إيه؟
قطبت جبينها بغضب وهي تسأله: في إيه يا سليم إيه المعاملة دي؟
ضرب على جانب رأسه مجيبًا إياها بسخط: بقولك إيه حِلي عن نفوخي أنا مش ناقصك، ولو هتتكلمي في نفس فأنا خلاص قُلت اللي اللي عندي، أنا خلاص مش عايزك.
تجمعت الدموع بعيناها ثم اقتربت منه تحاول استعطافه: يا سليم أنا لسه بحبك.
تشنج وجهه باستنكار مُبتعدًا عنها وهو يُردف باستنكار: بتحبيني! بتحبيني لدرجة إنك لغيتي الجواز قبل الفرح بأسبوع!
ارتعشت شفتيها ببكاء حقيقي تلك المرة مُخبرة إياه: مكنش قصدي. أنا كنت خايفة وحاسة إني مش هقدر أشيل المسؤولية.
رسم ابتسامة ساخرة على ثغره وهي يهز رأسه نافيًا: لأ أنتِ مكنتيش خايفة، أنتِ سمعتي كلام صحابك اللي قالولك اتقلي عليه عشان تشوفي بيحبك قد إيه، وأنا اللي كنت زي العبيط بخاف على زعلك وكانت دموعك عندي أغلى من حياتي، بقيتي تستغلي حبي ليكِ ومفكراه ضعف مني، لكن أنا مش شغال عند الهانم اللي عملتني رهان قذر في إيديها مع صحابها، وأنا دلوقتي اللي مش عايزك، حبك اتمحى من قلبي بأستيكة ولا كأنه كان موجود، ودلوقتي أنتِ زي أختي وبس، ولولا إن عمو مصطفي صديق مخلص لبابا أنا كان هيبقى ليا تصرف تاني معاكِ.
أنهى كلماته ثم استكمل صعود الدرج بجمود شديد، تاركًا إياها تأكل أظافرها من الندم وخسارتها إياه، دلف «سليم» للغرفة يفك أزرار قميصه بإختناق كلما تذكر ما فعلته، كان صادقًا في كل كلمة قد قالها لها، هو حقًا لم يعد يُفكر بها، احتلت قلبه أخرى سلبته بعفويتها ورقتها، عازمًا على التقدم إليها عندما يتعافى صديقه تمامًا.
القلوب تترابط بأنسجة من الحب والصداقة، وقلوبهم تربطهم روحًا واحدة لكن بجسدين مختلفين، اقتربت «لوچي من فِراش «مدثر» النائم بلا أي ردة فعل، جلست جانبه على المقعد المجاور لفراشه مُمسكة بكف يده بحنان، هبطت برأسها على يده تُقبلها بإشتياق، خرجت شهقة منها أثناء بكاؤها وهي تخبره بهمس خافت:.
مكنتش أعرف إن قلبك قاسي عليا أوي كدا، بقالك شهر نايم كدا ومش عايز تشوفني! قوم نفسي أسمع صوتك، أنت متعرفش مدثر بالنسبة للوجي إيه! مش عارف غلاوتك عندي عشان تحرمني منك لشهر كامل! طيب. طيب أنا موحشتكش! مش عايز تشوف لوچي حبيبتك! رُد عليا يا مدثر وكفايا وجع، أنا تعبت وأنا شايفاك كدا.
دلفت الممرضة التي حدجتها بشفقة واضعة يدها على كتفها تواسيها بود: اهدي يا آنسة هو كويس والله ومؤشراته الحيوية كلها سليمة، هي مسألة وقت مش أكتر.
رفعت «لوچي» عيناها المُملتئة بالدموع ثم سألتها بخوف: طيب هو مش عايز يصحى ليه؟ أنا خايفة عليه، والله أنا خايفة أوي.
حولت أنظارها إليه مجددًا وهي تهزه تلك المرة بعنف وعقل يرفض حالته ومكوثه هذا: قوم يا مدثر ومتسبنيش كدا، حرام عليك كفاية بقا.
توترت الممرضة من حالتها لذلك هرعت للخارج مُنادية الطبيب والذي جاء مسرعًا ومعه مُمرضتان أخريتان، ليجد تلك التي تبكي بعنف تطلب من ذلك النائم أن يستيقظ الآن، أشار للمرضتان بإشارة يفهماها جيدًا، فذهبوا تجاهها مُقيدين حركتها التي زادت لمقاومتهما، فاقترب الطبيب مُسرعًا غارزًا إبرة من المُهديء في ذراعها، وثوانٍ كانت تميل على الجانب برأسها.
تم نقل «لوچي» لغرفة عادية في نفس الطابق الخاص بغرفة «مدثر» وسط إنهيار بقية العائلة لرؤيتها هكذا، جلست «زهر» بجانبها تُمسد على خصلاتها وهي تبكي، وعلى الجانب الآخر يجلس «فارس» الذي ينظر أمامه بشرود، لا يعلم ما الذي سيحدث بعد الآن، لقد طالت فترة إحتجاز «مدثر» وابنته تفقد روحها شيئًا فشيئًا.
بالخارج، أحاط «ريان» زوجته التي كانت تبكي بكاءً شديدًا، كانت تكتم بكاؤها لأسبوعٍ مضى تقريبًا، وعندما رأت «لوچي» في تلك الحالة بكت وانفجرت أخيرًا.
مسد على ظهرها بحنان أثناء دفنها لوجهها في صدره، خرج صوته هامسًا ليُهدئها بحزن دفين: اهدي يا حبيبتي، هما الاتنين هيبقوا بخير صدقيني، كفاية عياط بقى أنا مش قادر اتحمل وقع قلب أكتر من كدا.
صمتت «غزل» ثم رفعت أنظارها تُطالعه بترقب قائلة بحذر: مالك يا حبيبي! أنت كويس يا ريان؟
ابتلع «ريان» تلك الغصة المؤلمة التي بحلقه، ثم هز رأسه نافيًا وطبقة كثيفة من الدموع تشكلت في عيناه، ليخرج صوته مُتحشرجًا: حاسس إن روحي بتروح مني، أنا قلبي بيوجعني بطريقة تخوف وأنا كل دا ومستحمل، بس مبقتش قادر.
سحبته من يده ثم أجلسته على المقعد الموجود في آخر الرواق، جلست بالقرب منه ثم قالت ببكاء: متخوفنيش عليك، حاسس بإيه يا ريان! عايز إيه وأنا أعملهولك بس تكون كويس؟
أجابها بضعف وهو يرمي برأسه على كتفها: عايز ابني.
استندت برأسها على خاصته وبكت بصمت معه، وبعد ثوانٍ خرج صوتها قائلة بوهن: وأنا كمان عايزة ابني.
شعرت «غزل» بدموع «ريان» تسقط على كتفها حيثما يستند برأسه، وما أكد لها هو اهتزاز جسده الذي اشتد كثيرًا، ولسوء حظها لم تجد ما تواسيه به، فهي أيضًا ضعيفة مثله تمامًا، أغمضت عيناها ببكاء ثم أحاطته مُقبلة خصلاته بحنان وكأنها تواسيه بصمت، وكأن «مدثر» نام كل تلك الفترة ليعرف مدى حبهم الشديد إليهم، هو كان وسيظل بهجة عائلتهم الأولى، بِكرهم الأحب والأقرب لهم على الإطلاق.
عاد «سليم» للمشفى مرةً أخرى وكاد أن يدلف للداخل فوجد الشباب جميعهم جالسين على الأرض الخضراء بالحديقة الخاصة بالمشفى، سار تجاههم حتى وصل إليهم، وبدون أن يتحدث جلس جانبهم بصمت.
مر الوقت عليهم دون أن يشعروا، فقط شاردين لا يفعلون شيء سوى الصمت، وأخيرًا صعد صوت «عدي» الذي تسائل بحزن: تفتكروا هيفوق امتى؟
أجابه «إسحاق» مُبشرًا إياهم: قريب بإذن الله، قريب أوي كمان بس انتوا قولوا يارب.
آمن الجميع على حديثه وقلوبهم تنبض بألم، هم ليسوا فقط كأصدقاء، هُم أكثر من أخوة، تحدث «رياض» ببسمة واسعة لكنها حزينة، مُذكرًا إياهم بطفولتهم المشاكسة: فاكرين واحنا صغيرين لما كنا بنتجمع في بيت عمي يزن! كنا بننزل تحت السُفرة ونقرصهم وهما مش عارفين مين اللي بيعمل كدا.
اتسعت ابتسامتهم تدريجيًا وزاد الحنين لتلك الأيام التي افتقدوها كثيرًا خاصةً الآن، شعور الدفئ الذي كان يُحاوطهم وهم صغار مازال مُسيطر عليهم للآن، وهنا خرج صوت «سليم» ضاحكًا: ولما في مرة بابا قفش مدثر وهو بيبوس لوچي تحت السُفرة.
تدخل «سليمان» ضاحكًا بدموع تشكلت في عيناه رغمًا عنه: ولما مدثر اتعورت في المدرسة عشان كان بيدافع عننا واحنا صغيرين.
سحب «سليم» رأسه له قائلًا بقوة: اجمد ياض كدا وخلي عندك أمل في ربنا كبير، كل دي ذكريات حلوة عملناها عشان نفتكرها ونضحك بعدين، مش علشان نعيط يا أهبل، ولما مدثر يفوق هنفتكرها كلنا ونفكره بمصايبه وهو صغير.
مسح «سليمان» دموعه قائلًا بإشتياق: وحشني أوي الجذمة، مكنتش أعرف إن غلاوته غالية عندي كدا.
أخرج «عدي» زفيرًا قوي من داخل صدره مُجيبًا إياه بألم: كلنا يا سليمان، وحشنا كلنا ونفسي يرجع وسطنا من تاني.
صمتوا جميعًا مرة أخرى وهم يتذكرون أوقاتهم المرحة معًا، كانت طفولتهم بريئة للغاية، لا يوجد بها حزن أو ألم، يشتاقون لتلك الأيام التي مرت سريعًا، يشتاقون لذاتهم القديمة، والأهم. يشتاقون لمدثر كثيرًا.
انتفض «إسحاق» من مكانه ثم نظر إليهم متحدثًا بأمل: تعالوا يا شباب نروح نصلي وندعيله، تعالوا نطلب من ربنا يرجعلنا أخونا وسطنا من تاني، وأنا واثق إن ربنا مش هيخيب دعائنا ولا ثقتنا أبدًا.
استحسن الجميع اقتراحه فهبوا من أماكنهم أيضًا مُتجهين إلى المسجد، وأثناء سيرهم أحاط «رياض» ب«سليمان» ضاربًا إياه في معدته بمرح: متكشرش كدا ياض وخليك فريش الفرافيش، متبقاش بومة كدا.
تلك المرة ضحك «سليمان» عاليًا، وداخله يشكر الله على وجود مثل الصحبة التي تُهون عليه الكثير، دلف الجميع للمسجد بقلوب خاضعة لله عز وجل، وبدأوا في الوضوء مُرددين بصوت هامس اللهم اجعلنا من التوابين واجعلنا من المتطهرين.
انتهوا ثم خرجوا من المرحاض بهدوء، يشعرون بالراحة في بيت الله، تلك السكينة التي تحتضن قلوبهم لتُربت عليها جعلتهم مُتيقنين بحُسن اختيارهم، وبعدها أقاموا الصلاة بنية شفاء صديقهم الحبيب، وبعدما انتهوا دعوا بفؤاد يرجو المولى عز وجل لإستجابة دعائهم، خائفين نعم، لكن مُتيقنين أيضًا.
رفع «سليمان» يده يدعو بصوت عالٍ نسبيًا وهُم يؤمنون خلفه: اللهم اشفي لي صديقًا كان بمثابة أخً لي.
آمين.
اللهم لا تُريني فيه ما يضره.
آمين.
اللهم أنت الشافي المُعافي الصادق الأمين فتقبل مني يا الله.
آمين.
اللهم اغفر له ذنوبه أولها وآخرها واجعله من عبادك الصالحين.
آمين.
اللهم أنت السلام ومنك السلام فأنزل السكينة والسلام على قلب رفيقي.
آمين.
وهل كنتم تظنون أن الخالق سيرد أيديهم وهي فارغة؟ وها قد جاءت الإستجابة الإلهية عندما اهتز هاتف «إسحاق» برنين خافت فوجده أبيه، أجاب بشيء من الخوف قائلًا بارتعاشة: السلام عليكم يا بابا.
أتاه صوت «موسى» الذي هلل بسعادة: وعليكم السلام يا حبيبي، أنت فين مدثر فاق.
هاربة من العالم إلى الظلام، تُفضل غيبوبتها بدلًا أن تعيش حياةً بدونه، أنفاسه كانت أكسير الحياة بالنسبة لها، وعندما سكن؛ سكنت روحها هي الأخرى، فاختفت معالم الحياة منها.
كانت «لوچي» مُتسطحة على فراش المشفى مُغمضة لعيناها لكنها مُستيقظة الذهن، هبطت دموعها بألم من بين جفنيها، لا تريد إكمال أيامها بدونه، ورغمًا عنها خرجت شهقة مُتألمة منها نتيجة لبكاؤها، لم تُلاحظ غياب والداها، كانت شاردة الذهن وعقلها معه هو فقط.
دلفت المُمرضة التي كانت معها من قبل فوجدتها تبكي بصمت، اقتربت منها مُقررة إخبارها عن استيقاظ زوجها علها تصمت قليلًا، وضعت يدها على كتفها تهزها بخفة قائلة: اهدي يا آنسة وكفاية عياط، المريض الحمد لله فاق.
توقفت عن البكاء بغتةً، وفتحت عيناها مُسرعًا ناظرة إليها بعدم تصديق وهي تسألها بلهفة: بتقولي إيه!
لاحظت تبدل حالتها قي ثوانٍ، لذلك أعادت عليها حديثها مبتسمة: بقولك إن المريض اللي كنتِ عنده فاق من شوية.
لم تستمع لباقي حديثها حيث انتفضت من مكانها مُهرولة للخارج بخطوات غير مُتزنة، يقتلها الشوق لإحتضانه والإرتماء بين ذراعيه ليُطمئنها، تريد أن تشعر به وتتلمسه، تريد أن ترتاح هي وقلبها.
قبل قليل...
تم نقل «مدثر» لغرفة عادية عندما تم فحص مؤشراته الحيوية والإطمئنان عليه، دلفت «غزل» أولًا فوجدته مُستندًا بظهره على الفراش ويظهر على محياه التعب الطفيف، اندفعت له مُحتضنة إياه وللأسف لم تستطيع السيطرة على دموعها.
أحاطت بوجهه بكلتا يديها مُقبلة كل إنش به وهي تُردد بالحمد لسلامته، هدئها «مدثر» بخفوت مُحتضنًا إياها بحرص قائلًا: بس اهدي يا ماما أنا كويس.
أحاطته «غزل» بقوة ثم انفجرت في البكاء، وهو لا يفعل شيء سوى تهدئتها، ابعدها قليلًا مُقبلًا جبينها، وبأنامله مسح دموعها الغزيرة التي تملأ وجهها بقوة مش شدة البكاء، ليقول بصوت خفيض مازح: إيه الدموع دي كلها يا غزالة، سيبتي إيه أنتِ عشان تنكدي على بابا؟
لما تُبالي «غزل» بحديثه، بل خرجت من أحضانه تتفحصه بعناية وهي تتسائل ببكاء: أنت كويس صح؟ حاسس بحاجة بتوجع؟
وتلك المرة أدمعت عيناه، حبها صادق لا يوجد به ذَرة كذب، دائمًا ما سيشكر والده على جلبه لتلك النعمة للمنزل، تعامله كأبنه بل وأكثر، دائمًا ما كان يسمع عن جشع زوجة الأب لكنها مُختلفة تمامًا، مسح دمعاتها مُتحدثًا بتحشرج: علشان خاطري اهدي أنا كويس والله يا ماما.
عانقته مرة أخرى قائلة بتحشرج: وحشتني يا نور عيني أوي، الدنيا كانت وحشة من غيرك أوي.
كل ذلك وكان «ريان» يُتابعهم بثبات، يشعر بأنه تماسك كل تلك الأيام غِبطةً، والآن يريد الإنهيار وإخراج ما بجبعته، رفع «مدثر» أنظاره لوالده فوجده يكتم دموعه بصعوبة، رسم ابتسامة طفيفة على ثغره ثم تسائل بحنين: موحشتكش يا بابا.
أغمض «ريان» عيناه بقوة يمنع بكاؤه ولا يعلم بماذا يُجيب ذلك المُغفل، وقفت «غزل» تبتعد عن فراش ابنها، ثم اتجهت نحو «ريان» مُمسكة بيده الباردة بشدة أثر هروب الدماء منها، ثم تحدثت بصوت مُشتاق: مدثر فاق يا ريان، ابننا بقى كويس.
حدجها «ريان» بتيهة وكأنه لا يُصدق وجوده حتى الآن، اقترب رويدًا من فراشه حتى جلس جانبه على الفراش الكبير نسبيًا، مُتسائلًا بتحشرج: أنت. أنت كويس!
هز «مدثر» رأسه بنفي ثم أردف بحنين: لأ مش كويس، محتاج تحضني.
أنهى حديثه فوجد ذاته مُحاضر بين ذراع والده الذي احتضنه بقوة شديدة، وهو لم يُمانع، بل بادله العناق بآخر أشد وكأنه يروي ظمأ تلك اللحظات التي قضاها يُقاوم الألم بدون وجوده، حينها تذكر تلك اللحظات عندما كان صغيرًا ويُجرح جُرحًا صغيرًا، كان يهرول لوالده الذي يستقبله بحنان يُقبل محل إصابته وكأنها ستلتئم بعد تلك القُبلة، وللعجب كانت تلتئم بالفعل؟
هبطت دموع «ريان» كمان هبطت دموع «مدثر» هو الآخر، علاقتهم ليست مجرد علاقة بين الأب وابنه، بل علاقة صداقة أيضًا مبنية على الحب المتبادل بينهما، حيث كان «ريان» بالنسبة ل«مدثر» كرفيق الدرب، يعشقه حتى أكثر من ذاته، ولو عاد الزمان لبادله نفس الحب ولكن أكثر.
أنت كويس!
همسة خرجت من فم «ريان» المُحتضن لإبنه الباكي، ليومأ له «مدثر» بنعم ثم أجابه بعاطفة جياشة: بقيت كويس بعد ما شوفتك، أنت اللي بتشحني طاقة عشان أعرف أكمل، طول ما أنا كنت نايم كنت سامع صوتك وأنت بتعيط مش قادر أقوم، وكأن فيه حاجة بتشدني وبتمنعني، وكمان شوفت، ااا.
حثه «ريان» على التحدث وكذلك «غزل» التي تقف على الجانب الآخر منهما: قول يا حبيبي شوفت مين!
أجاب بصوت خفيض حرج: شوفت ماما الله يرحمها.
قال الأخيرة وهو ينظر ل«غزل» يرى تعابيراتها، ظن أنها ستنزعج أو تغار، لكنه وجدها تبتسم له بحنان شديد، هبطت على جبينه تُقبله بحب أموي قائلة: مفكرني هزعل صح؟ بشكر مامتك من كل قلبي أنها خلفت ولد قمر زيك كدا، ودايمًا بدعيلها بالرحمة، عمري ما أكرهها أو أغير منها، بالعكس أنا كل ما أشوفك أنت وأبوك وأختك بدعيلها من قلبي على النعمة اللي سابتها ليا دي.
وطي كدا شوية يا غزالة أقولك كلمة سر.
انخفضت له «غزل» بضحكة خفيفة من طريقته المرحة، فوجدته يطبع قبلة قوية على وجنتها ثم أردف بعدها: بحبك يا غزالة والله.
ما توسعوا بقى خلوني أحضن أخويا كفاية كدا.
قالتها «منار» بشيء من الشوق والإنزعاج كما بقية العائلة، فابتعدت لها «غزل» ضاحكة تاركة إياها تحتضن أخاها بشوق وحنين شديدان، وأتبعت العناق بقولها المازح حتى لا تهبط دموعها بتأثر: وحشتني ياض يا مدثر والله، في الفترة دي حسيت بقيمتك أوي وعرفت قد إيه أنت غالي عندي.
ضحك «مدثر» بخفة وهو يحتضنها اكثر: والله؟ وعرفتي إزاي بقى؟
أجابته ببلاهة: غزل بقالها شهر معملتش المكرونة بشاميل بسببك، فعرفت قيمتك بقى.
دفعها حانقًا بعيدًا عنها مُردفًا بإستنكار: طب غوري بقى أبو دمك يا شيخة.
ضحك جميع من بالغرفة بمرح، واقترب «فارس» الذي فتح ذراعه له بشوق يشوبه المزاح: منور الدنيا كلها يا غالي يابن الغالي، هات بوسة ياض وحشتني.
قهقه «مدثر» عاليًا ثم احتضنه هو الآخر مُجيبًا إياه بعبث: وأنت كمان وحشتني يا غالي يا أبو الغالية.
سافل وهتفضل طول عمرك سافل يابن ريان.
جاء الجميع من خلفه فيما هم أعمامه وزوجاتهم وكذلك الفتيات اللواتي رحبوا به بلهفة وسعادة جلية، دار «مدثر» بعيناه متسائلًا بإستغراب: فين لوجي!
نظر له الجميع بصمت ولم يُجيبوه، وبالطبع لن يخبروه بأمر مرضها وانهيارها العصبي الذي دلفت به دون قصد بسببه، لذلك تحدث «ريان» بهدوء: هي تعبانة شوية بس عشان كدا روحت ترتاح.
انتفض قلب «مدثر» بهلع متشدقًا بخوف: إيه! تعبانة مالها يعني!
وما كاد أن يُجيبه بكذب، حتى وجد باب الغرفة يُفتح على مصرعيه و«لوچي» تدلف منها بنظرات لاهفة تبحث عنه، توقفت فجأة عندما وجدته جالسًا أمامها على الفراش، ابتسمت تزامنًا مع هطول دموعها بكثرة، وهمسة واحدة خرجت بإسمه بعدم تصديق أثناء انطلاقها لإحتضانه: مدثر.
التمعت عيني «مدثر» بعشق جارف عند رؤيتها، وكأنه لم يراها منذ عدة أعوام ليس شهر واحد، فتح ذراعه يحثها على الإقتراب منه، وبالفعل لبت رغبته عندما هرولت إليه مُحتضنة إياه بقوة بالغة، وكأنها تريد إدخالها داخل قلبها لتُغلق عليه ولا تسمح له بالخروج، علت شهقاتها وزاد بكاؤها وهي تُتمتم ببعض الكلمات الغير مفهومة بسبب بكاؤها، هدهدها بحنان مُربتًا على ظهرها بهدوء، وتارةً أخرى يُقبل رأسها من أعلى حجابها المُشعث بحنان، وأخيرًا خرج صوته الحنون قائلًا: كفاية عياط يا روح قلبي عشان خاطري، أنا كويس والله.
كانت تحتضنه بقوة وكأن ما يقوله لا يكفي لطمأنتها، خرج صوتها هامسًا ببكاء عنيف ترجوه: متسبنيش تاني يا مدثر.
قبلها من جانب عنقها أثناء احتضانه لها مجيبًا إياها بهمس: مش هسيبك أبدًا يا عيوني، خلاص عشان خاطري.
أوعدني إنك مش هتسيبني.
قرر مشاغبتها حتى تكف عن البكاء، فأردف بعبث ماكر تعشقه هي حد اللعنة: لن أترككِ يا لبابة القلب.
ضحكت بخفة وهي بين ذراعيه، فأخرجها من بين أحضانه مُجففًا دمعاتها بهدوء أثناء قوله المُشاكس: بقى العيون الحلوة دي تعيط عشاني! يا ستي هاتي بوسة بقى عشان أصالحك.
وبالفعل قبلها من وجنتها اليُمنى أمام الجميع دون ذَرة خجل، وبعدها اليُسري، وكاد أن يقترب أكثر حتى شعر بيد «فارس» تقبض على تلابيه صارخًا به بضيق زائف: أنت هتعمل إيه يلا سيب البت، هتخدش حيائها كدا.
نظرت «لوچي» لوالدها بضيق بعد أن مسحت أهدابها من الدموع العالقة بها، ثم أردفت بسخط: يوه! ما تسيبه يا بابا يبوسني!
أيدها «مدثر» ضاجرًا: أيوا. ما تسيبني يا عمي أبوسها!
أنهى حديثه ثم استدار لها يجذبها لأحضانه مرة أخرى وهو يقول: تعالي يا روح الروح في حضني وميهمكيش حد.
أشار فارس» ل«ريان» بضجر تجاه «مدثر» هاتفًا بصياح: شايف ابنك وتربيته! ما تلم ابن يا ريان.
تأفف «ريان» وهو يجيبه: ما تسيبه يبوسها يا فارس الله؟ الواد لسه طالع من غيبوبة وعايز يطري على قلبه يا جدع.
أنا بتكلم معاك أنت وابنك ليه، أنا هاخد بنتي ونمشي من هنا.
جذبها من يدها لتتشبث ب«مدثر» أكثر وهي تنفي برأسها: لأ أنا هفضل مع جوزي هنا.
تشكلت ابتسامة بالهة على ثغر «مدثر»، فأدار وجهها إليه قائلًا بهيام: قولي جوزي كدا تاني.
أخفضت «لوچي» رأسها للأسفل قائلة بحرج: بس بقى يا مدثر بتكسف.
تشنج وجه «فارس» وهو يردد خلفها كلمتها الأخيرة: بتكسف!
وعلى بغتة منها ومنه جذبها لتقف جانبه مُثبتًا إياها، ثم كز بين أسنانه بغضب: كلمة سافلة كمان منك ومنه وهخليه يطلقك، يخربيت قلة الأدب يا جدع أنت وهي.
استمع الجميع لضجة وفوضى قادمة من الخارج، تبعها دخول الشباب جميعًا وهم يصيحون بمرح: كفارة يا نمس، صاحبي اللي مني، حبيب قلبي، تتجوزني ياض!
والكلمة الأخيرة خرجت من فم «رياض» الذي قالها ببلاهة، لينظر الجميع له بإشمئزاز وشك استعجبهم، وثوانٍ كان الجميع ينفجرون في الضحك، وعلى بغتة هجم الخمس شباب على «مدثر» يحتضنوه باشتياق جارف، فصاح مدثر بنفس مكتوم وهو يلهس: الحقوني. هموت بجد المرادي يخربيت التحرش.
أبعد «ريان» الشباب عن ابنه ثم صاح بما جعل الجميع يُصيح بسعادة: اعملوا حسابكم فرح «مدثر ولوچي» آخر الأسبوع دا، يعني بعد يومين من النهاردة.