قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية نعيمي وجحيمها للكاتبة أمل نصر الفصل الثامن والخمسون

رواية نعيمي وجحيمها للكاتبة أمل نصر الفصل الثامن والخمسون

رواية نعيمي وجحيمها للكاتبة أمل نصر الفصل الثامن والخمسون

لم تأتي بتخطيط ولا حتى عن توقع، أن يراها هكذا فجأة وهو يتسوق بداخل المجمع التجاري الشهير؛ إنه لمن أسعد الأشياء التي قد تمر به بيومه، أن يجمعك القدر بمن يحترق قلبك لرؤيته، في ترتيب عجيب وهي وحدها ملتهية عنه بالتحدث بالهاتف، حتى تعطيه الفرصة للتحديق بها عن قرب وحفظ تفاصيلها التي غابت عنه من زواجها بهذا الملعون الذي خطفها منه، إنها بالفعل ما يطلق عليه الصدف الجميلة، لا بل هي التي ينطبق عليها القول الشهير، رُب صدفة خير من ألف ميعاد.

حينما راَها بجوار محل الملابس النسائية لم يدري بأقدامه التي انساقت نحوها على غير إرادته، حتى وقف خلفها بالظبط، في انتظار انتهاء مكالمتها وصدره يصعد ويهبط بقوة ابتهاجًا برؤية من كانت حلم ليله ويقظته؛ وما تزال حتى الاَن، عاشر العديد من النساء في الحلال والحرام، ولم تتمكن واحدة منهم أن تنسيه لمستها أو القبلة التي خطفها منها وهي في بداية إزدهارها كوردة جميلة تتفتح حديثًا، لم ولن ينساها إلى الأبد.

-وحشتي عمك فهمي يا زهرة.
قالها متابعًا إلتهام تفاصيل وجهها وهذه التغيرات الذي زادت من جمالها لأضعاف مضاعفة، بعد أن التفت إليه لتُصعق لرؤيته وتتوسع عينبها برعب تملكها بالفعل، لتهتف بشراسة غير لائقة بها وبوضعها الجديد: -أبعد عن سكتي يا جدع انت وغور في داهية من وشي انت مش قد جوزي واللي هيعملوا فيك لو لمحك بس دلوقتي.

أطلق ضحكة خشنة مقيته ليردف بعدم تصديق لها: -جوزك مين يا برنسيسة اللي يشوفني؟ هو الباشا برضوا هيسيب أشغاله ويجي يلف معاكي في المول يدور ع الهدوم اللي تناسب، الوضع الجديد.
قال الأخيرة متنهدًا وعينيه تركزت على بروز حملها من الفستان الذي ترتديه مما جعل كفها ترتفع عليه بغريزة أمومية لحماية طفلها.
-بتخبي العيل بكفك ليه؟ ولا تكونيش فاكراني هحسدك مثلا؟

قالها ساخرًا ثم أكمل بملامح ارتسم عليها الغل والحقد: -كان هيبقى عيلي انا ده دلوقت لولا غراب البين اللي خطفك مني على اَخر لحظة.
هتفت بازدراء للفكرة نفسها وهي غير قابلة بكلمة سوء على زوجها: -غراب في عينك، دي مين دي اللي كانت هتشيل طفلك يا حيوان؟ دا انا كنت اموت نفسي احسن ولا اتجوزك.

أثارت شياطينه فتقدم نحوها بوجه مظلم وعينان تبرقان بالغضب ذكرتها بحادثتها القديمة معه، لينتفض قلبها من الرعب وهي ترتد بأقدامها للخلف، رغم مجاهدتها للتماسك، وهي تسمعه يزأر بفحيح: -صوتك على يا بت فهمي وبتدافعي كمان عن الكل، جوزك بعد كل اللي عملوا فيا، لما خرج ابوكي وحط أسمي مكانه، أوعي تكوني فاكراني هفوت حقي فيك ولا حقي في اللي عملوا جوزك فيا، دا انا مبقاش فهي صنارة لو معرفتوا مقامه، وانتي...

علي وشك السقوط وقلبها يكاد أن يتوقف من الزعر الذي يسببه لها هذا القبيح، رغم علمها بموقعها في هذا التجمع التجاري الكبير والذي يضج بالحركة الدائمة للبشر وبالزحام المنتشر حولهم، وأنه حتى لو أراد أن يأذيها لن يقدر، لكن ومع ذلك لا تضمن بخوفها القديم منه وتهديده لها بحياة زوجها وطفلها...

علي خاطرها الأخيرة تشبث كفيها على موضع جنينها وهي ترتد للخلف وهذا يتقدم نحوها بملامحه البشعة في نظرها، يتابع بغل: - مش هفوت حقي فيكي ومسيرك ترجعيلي يا زهرة بعد ما ارد لكل واحد قلمه، جوزك وابوك الأهبل، انا مبنساش حقي يابت ولا بسيب حاجة نفسي فيها من غير ما اطولها.
- زهرة.

أتت كنجدة لها من خلفه لتلتف إليها وتلتف رأسه هو معها، فتراجع للخلف سريعًا حتى يتمكن من الهرب ولكن زهرة استدركت لتهتف على لمياء بصوت متهدج ومنقطع الأنفاس وهي تشير بيدها على الحارسين الوقفان في جهة أخرى وقد غفلوا عن مراقبتها في غمرة الزحام الكثيف: -قوليهم يجروا بسرعة يمسكوا الحيوان ده ارجوك يا طن...

قطعت لتقع على الأرض مغشيَا عليها ولمياء تصرخ باسمها وبأسماء الحراس ليلحقوا بفهمي قبل ان يختفي في الزحام.

دلفت لدخل غرفة مكاتبها وهو خلفها وفور ان انغلق باب الغرفة عليهما أجفلها فجأة بجذبها من ذراعها لتصطدم بصدره العريض، ويحاصرها بذراعه، شهقت هاتفه بغضب: - إيه اللي انت بتعمله دا يا كارم؟ إبعد أيدك عني وعيب كدة.
تبسم يرد بنبرة هادئة: -عيب ايه؟ انتي مش واخدة بالك إني راجع من السفر ومن حقي عليكي استقبال كويس يليق بيا كزوج مستقبلي.

دفعته بكفيها حتى تستطيع الأبتعاد عنه لتردف بلهجة لا تقبل النقاش: - بلاش الأسلوب دا معايا يا كارم، إنت عارف اني محبش الكلام ده، وكذا مرة انبهك.
عاد مرددًا بصيغة أخرى: - خلي بالك انا راجع من السفر بشوقي ليك، انتي بقى مشتاقتليش؟

تود قول الأخيرة، ولكن مع وضعها بهذه اللحظة فلا يصح، لذلك أجابته بمرواغة: -حتى لو كان شوقي ليك أضعاف، انا برضوا محبش اخالف مبدئي، أرجوك بقى تحترم رغبتي، ثم متنساش كمان اننا في المكتب، يعني مينفعش.
- ولو كان برا المكتب كنتي هترضي؟
سألها في رد على كلماتها، فردت تُجيبه بالنفي: - لا يا كارم عشان المبدا زي ما قولت.

صمت قليلًا يتطلع إليها بانفاس هادرة كانت تشعر بها، وغلاف وجهه الغامض يخفي عنها أي شرح لتفاصيل ما يفكر به، ثم ما لبث أن يتركها بدون أنذار ليتحرك ويجلس على كرسيه أمام المكتب وكأن شيئا ما لم يكون ليردف بكل هدوء بعد تنهيدة طويلة أظهرت تحكم هائل في كبح انفعال جسده بعد فشل تمكنه بالقرب منها: - ها بقى، إيه أخبارك؟

رغم الارتياح الذي شعرت به فور تركها لها، إلا أن مشاهدت انقلابه فجأة هكذا جعلت حالة من الدهشة تكتنفها بشدة، ولكنها تداركت لتُعدل من هندامها وتجلس على المكتب بعملية أمامه، وهي تجيبه: - الحمد لله بخير، المهم بقى انت عملت ايه في سفريتك؟
علي نفس الوتيرة الهادئة المريبة كان يجيبها: - هايلة يا كاميليا، كل حاجة كانت بيرفكت، ماكنش ناقصني غير وجودك بس معايا عشان احس بطعم النجاح.

تبسمت له بمجاملة لتجده تقرب برأسه يستطرد: - انا اخترت الأماكن اللي هنقضي فيها شهر العسل، حاجة كدة ولا في الخيال.
ارتدت برأسها للخلف وهي تطالعه بنظرة مجفلة لتردف سائلة بدهشة: - شهر عسل إيه؟ هو احنا لسة كملنا شهرين خطوبة؟
اعتدل عائدًا بجسده للخلف ليقول بابتسامة لم تفهمها: - وافرضي حتى الخطوبة مكملتش اسبوع، مدام كل حاجة جاهزة، يبقى ننتظر ليه؟

كان هذا دورها لتعتدل وتجيبه بقوة: - عشان الفيلا اللي مخلصتش تشطيب يا استاذ كارم، ولا انت نسيت؟
ازداد اتساع ابتسامته لتزداد بداخلها استغرابًا منه، ويباغتها هو بقوله: - لا طبعًا منستش، بس انا فكرت كويس واكتشفت ان مدة الخطوبة هتستمر على الاقل شهور تانية على ما تجهز الفيلا، فعشان كدة غيرت رأيي وبقول بقى نتجوز في بيت العيلة على ما تجهز الفيلا براحتها.

همت لتعترض ولكنه تابع: - اصل بصراحة حسيت بالذنب، امي ست كبيرة وقاعدة لوحدها والبيت طويل عريض عليها زي ما انتي شوفتي بنفسك كدة في زيارتك ليها، دي انبسطت قوي على فكرة، بجد انا مش عارف اشكرك ازاي على الحركة دي يا كاميليا، دي ماما دلوقتي بتقول فيكي شعر.

طالعته بصدمة تبتلع ريقها الجاف بصعوبة، فبرغم لهجته العادية وترحيبه بزيارة والدته إلا أن شئ ما لا تعرف وجهته لا يجعلها تشعر بالراحة، تماسكت تجلي حلقها ثم قالت باعتراض: - من غير شكر، والدتك زي والدتي وانا عملت الواجب، بس بقى حكاية اننا نتجوز معاها في الفيلا دي انا مفكرتش فيها نهائي، وكمان من حقي ان يبقالي بيت لوحدي، دا غير كمان انك فاجأتني بتغير ميعاد الفرح، وانا برفض الاسلوب د...

- براحة شوية يا كاميليا.
قالها بمقاطعة ليُكمل: - مش عايزك تقولي اي رأي دلوقتي، خدي فرصتك في التفكير الأول، المهم بقى.
-ايه هو المهم بقى؟
سألته عاقدة حاجبيها باستفهام، فرد يجيبها وهو ينهض عن مقعده: - المهم انك هتيجي معايا بكرة عشان الست الوالدة بعد زيارتك ليها، مُصرة انها تقوم بواجبها معاكي وعزماكي ع الغدا احتفالًا كمان برجوعي من السفر.

نهضت تقابله قائلة باعتراض: - اروح معاك فين يا كارم؟ وهي لازم العزومة تبقى في بيتكم يعني؟
تبسم يجيبها قبل وهو يرتدي نظارته الشمسية استعدادًا للإنصراف: - وماله يا حبيتي البيت؟ دا هيبقى في بيتك في الأول والآخر، ولا انتي معجبكيش استقبال الست الوالدة بقى في زيارتك ليها؟

تلجمت تنظر إليه بازبهلال وقد ألجمها بحجته، لترى اتساع ابتسامته مرة أخرى ليرسل لها قبله في الهواء قبل أن يغادر ويتركها في حالة من التشتت وحيرة قاسية من الأفكار المتواترة، لاتعرف لها حلًا على الإطلاق.

- إيه اللي حصل؟ ما لها زهرة؟
هتف بها جاسر فور ولوجه للمنزل على أثر المكالمة التي تلقاها من أبيه ليحضر على الفور، مع محاولاته المتكررة بالإتصال بها وعدم ردها على أي واحدة منهم، طالعه عامر وهو جالس بتحفز مشبكًا كفيه للأمام، زامًا شفتيه بخط قاسي على وجه مظلم قلما يراه منه حتى لو مع خصومه واعدائه، بسبب طبيعته المتساهلة دائما، ولكن معنى أن يصل إلى هذه المرحلة، فهذا يُنبؤه أن الأمر جلل.

- مالها زهرة يا والدي؟ في حاجة حصلتلها او مست ابننا؟
سأله جاسر وقلبه يكاد أن يسقط منه من الرعب، أجاب عامر بكلمات مقتضبة: -ان شاء الله ما فيش حاجة اطمن يا جاسر.
صاح جاسر بعدم تصديق ونفاذ صبر: - اطمن ازاي بعد اتصالك بيا وانت شكلك أصلًا ميطمنش؟
- ما قالك اطمن يا بني مافيش حاجة.

قالتها لمياء وهي تهبط الدرج من الطابق الثاني، تقدم نحوها جاسر ليتقفلها فور ان هبطت اقدامها على الأرض ليسألها: - ما هو لا بيتكلم ولا بيريحني، اتكلمي انتي ياماما وريحيني، ولا اطلع انا بنفسي اطمن عليها.
أوقفته والدته بجذبه من ذراعه، وهي تخاطبه بمهادنة: - طب اسمعني بس الاول قبل ما تطلعلها، وانا افهمك زي ما انت عايز، انا مصدقت انها نامت أساسًا.

تخشب محله وحديث والدته المبهم زاد من قلقه حد الموت، فهتف صارخًا: -طب فهميني يا ماما أرجوكي، انا حاسس قلبي هيوقف من الخوف على مراتي وابني.

تنهدت بقوة لمياء في محاولة للسيطرة على توترها هي الأخرى، فهذه الساعات العصبية لم تصادفها من وقت مرض زوجها وحادثة ابنها قبل ذلك، فابتعدت قليلًا حتى جلست على أقرب كرسي وجدته أمامها، لتستطيع التماسك وإخراج الكلمات اَخيرًا: - مراتك النهاردة وقعت مني في المول بعد ما اتعرضلها واحد بلطجي، انا مش عارفة ايه اللي حصل بالظبط لأني كنت داخل المحل بنقيلها كام فستان، وهي كانت بتكلمك في التليفون، بس لما اتأخرت وخرجت لها، لقيتها صرخت بأسمي على طول أنا والحراس عشان ننقذها من الراجل ده، اللي بعد ما شافني حاول يهرب على طول...

-والحرس البهايم راحوا فين وسابوكم؟
صاح بها بمقاطعة حادة، ردت والدته على الفور لطمأنته: - يا حبيبي مكانوش واخدين بالهم من الزحمة وكانوا فاكرينها معايا في المحل، بس لما ندهت بإسمي وصرخت على البلطجي ده قدروا والحمد لله يمسكوه.
صمت قليلًا وكأن استيعاب فهمه لكلمات والدته يأتي متأخر مع رفض عقله للتصديق، ثم ما لبث أن يردف سائلَا بعدها: -اسمه إيه البلطجي ده؟

ردت لمياء: - انا معرفش اسمه بالظبط؟ لأني كنت مشغولة مع زهرة، بس هي كانت بتخرف بأسم كدة...
أوقفت وهي تحاول التذكر فتدخل عامر والذي علم بالأسم من التحقيقات الأولية للشرطة: -اسمه فهمي يا جاسر.
- أيوة فهمي.
هتفت بالأسم من خلفه لتتابع مرددة: - بس زهرة كانت بتقول عليه فهمي برشام.
ردد جاسر أيضًا الأسم ولكن بغضب شديد: - فهمي زفت اتجرأ واتعرض لمراتي انا؟
هدر من خلفه عامر: - الواد ده لازم يتربى يا جاسر.

هم أن يرد جاسر ولكنه أجفل مع والديه على صوت صرخة قوية أتت من الطابق الثاني في الأعلى، ليتمتم سريعًا قبل أن يركض إليها في غرفتها: - زهرة.

وصل إليها وهي تصرخ بهيستريا مع انطفاء الضوء ليشعل عليها الأنوار سريعًا وينضم إليها على التخت ليضمها بقوة حتى يمتص زعرها الذي كان يُترجم بالصراخ الدائم والهذيان بالكلمات: -الضلمة، الضملة لا ياخالي، الضلمة لأ يا جاسر، حد فيكم يلحقني، التعابين وفهمي برشام هيخنقني تحت بير السلم.
صرخ بصوته العالي مع تشديده بذراعيه: -اهدي يا زهرة اهدى، انا جاسر وانتي قاعدة في حضني.

مع صرخته الأخيرة صمت صوتها، ولكنها كانت ترتجف بحضنه وهي تبكي بحرقة وهو يزيد بضمها ومهادنتها بالكلمات المطمئنة حتى دلف إليه والديه، ليصرخ برؤيتهم: - مين فيكم اللي طفي عليها النور يا ماما؟ انتوا مش عارفين ان زهرة بتخاف من الضلمة؟
ردت لمياء بارتياع لمشهدها المؤلم: - أنا اللي طفيت النور يا جاسر عشان ترتاح، مكنتش اعرف ان عندها فوبيا من النور المطفي.

ررد بصوت متحشرج من وجع قد مس قلبه من الخوف عليها: - دي بتترعب يا ماما، مش بتخاف وبس، بتترعب.
تسمر عامر وزوجته التي لم تقوى على كبح دموعها مع رؤية ابنها الذي يجاهد بشتى الطرق لتهدئة زوجته التي كانت تهذي وتبكي دون توقفت وصوت نشجيها يجعل قلب الحجر يلين لها، ضم عامر المتماسك زوجته بذراعه من كتفيها ليردف لها هامسًا: - يالا بينا يالميا، خلينا نسيبهم وحدهم.

اعترضت لمياء قائلة من بين بكاءها: - نسيبهم ازاي انا خايفة عليها قوي؟ نطلبلها دكتور طب يهديها؟
هتفت بالاَخيرة نحو جاسر الذي تمدد باقدمه على الفراش، ليميل بزهرة بين ذراعيه حتى تتمكن من النوم، فقال بصوت خفيض: .
- بعدين يا ماما، بعد ما تصحى مش دلوقت.
أومأ له عامر ليسحب زوجته ويخرج بها ضد ارادتها مع رغبتها الشديدة بعدم تركهم.

بعد مدة طويلة من الوقت وبعد أن غفت لفترة ليست بالقليلة وغفي هو معها أيضًا، وذراعه لم تتركها أو تبتعد عنها على الإطلاق، استفاقت اَخيرًا على رائحة عطر قميصه التي تخللت حواسها، ظلت لعدة دقائق تتطلع إليه صامتة، مستمتعة بدفء جسده والذي كان يبث إليها الاَمان بغمرته القوية لها، لا تريد الاستيقاظ وقد وجدت مسكنها بحضنه، تود أن تظل هكذا ولا تفترق عنه أبدًا.

يبدوا أنه قد شعر بتحديقها به فاستيقظ هو الاَخر ليُقابل عينيها بخاصتيه ويظل حديث الأعين لعدة لحظات قبل ان يُبادر بقوله لها: - إيه الأخبار؟
أومأت برأسها له كطفلة صغيرة تجيب أباها، تنهد بصوت عالي بارتياح ليُقربها إليه حتى يُقبلها على جبهتها قبلة طويلة وعميقة، حتى ظنت أنها لن تنتهي ليتركها اَخيرًا ويتطلع إليها بحنان بسؤاله لها: - لسة حاسة نفسك خايفة برضو؟

نفت برأسها أيضًا بصمت لتُثير ابتسامة مشاكسة على وجهه في مخاطبتها: - إيه بقى؟ هي الحلوة هتفضل اليوم كله النهاردة تجاوب بدماغها بس من غير ما تتكلم؟
ردت بابتسامتها ولكن خرج صوتها باهتزاز متأثرًا بالأحداث السابقة: -ما خلاص يا جاسر، هو انا لازم اقوله بلساني يعني؟
- اَه يا روحي لازم تقولي بلسانك عشان اطمن امال ايه؟
وعشان كمان تحضري نفسك للأستجواب؟

قالها بلهجة عملية عن قصد، مما جعلها تعتدل عنه بجذعها لتسأله باستغراب: - تستجوبني في إيه بالظبط يا جاسر؟
اعتدل هو الاَخر ليقابلها وليرد على سؤالها: - استجوبك في اللي حصل يا قلبي، ما هو مش معقول يعني هنعدي الأمر كدة من غير ما اعرف الحيوان ده عمل معاكي إيه؟ وازاي قدر يسببلك حالة الرعب الشديدة دي؟
اعتدلت متذكرة لتنفص رأسها صائحة بخوف: - يانهار اسود، هو فهمي صحيح راح فين؟..

اوقفها فجأة بوضع كفه على فمها ليخاطبها بلهجة هادئة مطمئنة: - اهدي يا زهرة، الزفت اتقبض عليه.
سالت دموعها حتى بللت كفه ليعود بسؤاله مرة أخرى بعد نزع كفه عنها: - الهستيريا الشديدة ترجعني تاني لنفس السؤال، الزفت ده هددك بإيه عشان تخافي كدة؟

سهمت تنظر إليه منعقدة اللسان لا تود البوح بما أخبرها به هذا الرجل الكريه، ولا تريد التحدث عن أي شئ مع جاسر قد يؤدي لجرها إلى الجرح القديم والحادثة التي زادت على عقدتها الأزلية، حتى أثرت بشخصيتها فجعلتها هذه الإنسانة الجبانة التي تخاف من الظلمة كالأطفال.
- لدرجادي السؤال صعب يا زهرة؟

هتف بها يقطع عنها شرودها، طالعته قليلًا بتفكير قبل ان تُسمعه ردها ألرافض: -ممكن يا جاسر تعفيني من الإجابة، عشان انا بصراحة مش هقدر اقول ولا اتكلم في أي حاجة دلوقت.
- يعني لما تهدي بعد شوية هتتكلمي؟
قالها في محاولة أخرى بإلحاح، وكان ردها أن نهضت من أمامه على الفور تجيبه باعتراض: - لأ يا جاسر.
نهض هو الاَخر ليُقابلها مرددًا خلفها بصدمة: -لأ يا زهرة! طب ليه؟

اسبلت بأهدابها حتى لا تواجه عينيه ويدها اليمنى تتلاعب بأطراف أنامل كفها الأخرى بصمت جعل غضبه يزداد اشتغالات مع محاولاته الشديدة لكبح الانف جار بوجهها، يشعر بحالة من الاحتقان تجعل صدره كبركان يغلي بداخله: - يا زهرة اتكلمي وقولي الحيوان دا قالك إيه؟ أنا مش هستريح غير لما اعرف.

رفعت رأسها إليه رافضة بعنف: - أرجوك يا جاسر ارحمني وريح نفسك، انتوا بتقولوا انه اتحبس، يبقى خلاص بقى لأن انا مش قادرة اتكلم بصراحة.

ختمت لتُجفل معه على صوت طرق الباب، لتلج منه لمياء بعد سماح جاسر لها بالدخول وفور ان رات زهرة واقفة أمامها بحالة مختلفة عما سبق هتفت بلهفة تردد وهي تقترب منها وتفحصها جيدًا: - الحمد لله يارب انتي كويسة يا زهرة؟ حاسة بأي حاجة دلوقتي؟ والبيبي عامل إيه؟ طب أنتي أكيد جعانة، يبقى لازم تاكلي دلوقتي عشان تأكلي الببيي كمان معاكي.

كانت تتلقى أسئلتها وتُجيبها بهدوء مع تنقل انظارها إليه مع شعورها بسهام عينيه التي تطالعه بغصب يشوبه العتب.

في اليوم التالي
كانت الجلسة في منزل عامر، بحضور رقية التي لم تستطع الانتظار فور ان علمت من ابنها ما تناقلته وسائل السوشيال ميديا عن تهجم أحد الأشخاص على زوجة رجل الأعمال جاسر الريان مع ذكر اسم زهرة وبعض التفاصيل المبالغة عن الحادث والقبض عن المجرم، ثم صورتها وهي مغشيًا عليها زادت من الأمر قلقًا
ليتنفض خالد من بكرة الصباح كي يأتي ويطمئن عليها بصحبة والدته وسمية ومعها صفية شقيقتها الصغرى.

علي الأرض كانت جالسة ورأسها بحجر جدتها وذراعيها ملتفان حول المرأة ذات الجسد الهزيل وهي تربت بكفها وتلمس بحنان على شعر رأسها بالآيات والأدعية الحافظة.
- إيه ده؟ زهرة انتي قاعدة ليه كدة ع الأرض؟
قالتها لمياء بصدمة فور رؤيتها بهذا الوضع وهي في طريقها لاستقبال الحضور بصحبة جاسر والذي هتف يجيبها: - سبيها يا ماما هي متعودة على كدة.
- متعودة ازاي يعني؟

غمغمت بها بصوت خفيض قبل ان تضطر صاغرة باستسلام لتخطيها والذهاب للترحيب بالباقي ثم جلست معهن تستمع للنقاش الدائر بين جاسر وخالد الذي كان يهدر بغضب: - الحيوان دا انا لو كنت شوفته وقتها، اقسم بالله ما كنت هسيبه غير ع النقالة في الإسعاف.
- ومين سمعك بس؟ دا انا دمي بيغلي من وقتها، ونفسي اعرف قالها ايه يخليها تترعب بالشكل ده،؟ عشان اربيه واندمه ساعتها العمر كله.

تدخلت سمية: - دا بلطجي وطول عمره بيأذي شباب الحارة بالبرشام اللي بيبعه، ربنا يجازيه، على العيال اللي بياخد ذنبهم.
سألتها لمياء باستفسار: - برشام يعني إيه؟
- يعني مخ درات يا ماما.
قالها جاسر في إجابة عن سؤالها قبل أن يلتف لخالد يسأله بصوت خفيض وهو يقرب رأسه منه: - هي زهرة عندها عقدة تانية غير الضلمة.
- تقصد إيه؟

تفوه بها خالد عاقد الحاجبين باستفهام قبل ان ينتبه على اقتراب عامر ليرحب به ويصافحه قبل أن يذهب لرقية ثم سمية، ليتوقف عند صفية ليغازلها بصوت لفت انظار الجميع نحوه: - يا مشاء الله، إيه البنوتة الحلوة دي؟ انتي مين يا قمر؟
خجلت صفية من كلماته لتشيح برأسها لتخفي ابتسامتها منه، فصاح مشاكسًا: - دي كمان بتتكسف يا جاسر، دي إيه الجمال ده؟

تبسم له الاَخير يرد وهو يهز رأسه بيأس منه: - دي صفية اخت زهرة من والدها وامها الست سمية اللي قاعدة جمبها دي.
- يا أهلا يا هانم.
قالها عامر يرحب مرة ثانية بالمرأة قبل أن يجلس بالقرب من صفية التي مازالت تضحك بخجل ليردف مندهشًا وهو ينظر إليها جيدًا من خلف نظارته: - حلو جو البنات اللي بتتكسف ده، زي زهرة مرات ابني، هو انت متأكد ان البنت دي اختها من الوالد بس؟ دي حتى في الشكل تشبها.

قال الأخيرة مخاطبًا جاسر، ليرد خالد بزهو: -لا لو ع الأدب والكسوف، البت دي تربيت ايدي زيها زي اختها الكبيرة بالظبط.
- برافو يا خالد.
قالها عامر بإعجاب، فتدخلت سمية تكمل على قول الاخر بسجيبتها: - و لو ع الشكل هي فعلًا تشبها، عشان انا بصراحة كنت بحب زهرة اوي وهي صغيرة، وطول شهور الوحم بتاعتي بقعد ابصيلها كدة كتير أوي عشان يطلع اللي في بطني زيها.

- والله وانتي كمان برافو عليكي، ما هو اللي يلاقي حاجة حلوة، لازم برضوا يتمني يجيب زيها، يا زين ما ما ربيتي ويا زين ما خلفتي، بنتك يا قمر والله قمر.
قالها عامر وارتفعت رأس زهرة عن حجر جدتها تشاركهم الضحك فتدخلت رقية تخاطبه: - يا راجل بطل معاكسة، وفر كلامك الحلو ده للست اللي قاعدة جمبك دي.

سمع منها ليلتفت إلى زوجته التي كان تبتسم إليه صامتة فقال بمناكفة: - مراتي؟ دي حبيبة قلبي، ايه اللي انتي بتقوليه دا بس يا رقية؟
ضحكت لمياء على قوله كما ضحك الجميع، بمشاكسات عامر مع رقية التي أشاعت جوًا من المرح قليلًا وبعيدًا عن التوتر، حتى أتتت كاميليا ومعها غادة لتنضما إليهم في الاطمئنان على زهرة.

والى مكان اَخر
حيث كانت ميرفت تشاهد في الهاتف الخبر الذي انتشر من الأمس، وهي لا تمل من القراءة على أي صفحة تناقلته او موقع، حتى وهي تتحدث إلى ميري في الهاتف الاَن: - ايوه يا ميري، سماعاكي كويس اتكلمي.
وصلها وصوت الأخرى بصياح: - اتكلم إيه انتي كمان، هي شغلانة، بقالي ساعة بشرحلك، الزفت مارو اتفق مع بابا وعايز كتب كتاب وفرح على طول، وابويا مصدق عايز يخلص مني.

ضحكت ميرفت بدون صوت قبل أن تجيبها بتمثيل المؤازرة: - يا حبيبتي يا ميري، طب انا اعملك ايه طيب؟ ما هو والدك دماغه ناشفة بصراحة، وانا اخاف اكلمه.

وصلها صوت صرخة ساخطة لتزبد من مرحها والأخرى تتابع برجاء: - حاولي يا ميرفت، وحياتي عندك يا شيخة، انا الواد ده قرفت منه أساسًا من ساعة الفضيحة اللي عملاهالي لما خسرني فرصة عمري في رد اعتباري بجد، بعد طلاقي من جاسر، ولا ووالده ده كمان راجل بلدي ومحدث نعمة على اقل حاجة يقول انا جيبت وعملت، وانا مش طايقة اعاشر الناس دي، وبابا اهم حاجة عنده الفلوس.
- خلاص با حبيبتي احاول عشان خاطرك.

قالتها لتنهي المكالمة بسأم من الإطالة، رغم ما كانت تشعر به من مرح بالذي أصاب ميري هذه الحمقاء الغبية ليقع نصيبها اَخيرًا على مارو الشاب الذي يصغرها بعدة سنوات، تدعي دعمها في الأبتعاد عنه، هي تتمنى بشدة ارتباطها به، فهذا ما يليق بها كامرة تافهة وحمقاء.

صدر صوت أخيها من الخلف يهتف بإسمها بعد عودته من الخارج، لتلتف إليه ويخاطبها في محاولة أخرى لإقناعها: - انا خلاص حدتت ميعاد سفري يا ميرفت، لسة برضوا مصممة ما تجيش معايا؟
أجابته نافية برأسها قائلة: - سافر يا قلبي وانا أكيد هحصلك، بس بقى حسب الظروف، يعني ممكن بعد شهر او اتنين او حتى سنة، اكيد هحصلك.
- انتي حرة.

قالها يشير بيده قبل أن يتابع طريقه إلى غرفته وتكمل هي مغمغمة مع نفسها وهي تنظر لصورة فهمي التي أوقفت عليها الشاشة: - بس لما اعمل اللي في دماغي الأول.

وعودة الى منزل عامر
والذي كان ممتلأً بالأفراد الذين تفرقوا جماعات، الكبار رقية وعامر ولمياء، والفتيات كاميليا وزهرة وصفية وغادة، والشباب خالد وجاسر الذي اصر أن ينفرد بالاَخر كي يعرف منه، مارفضت البوح به زهرة.
- بير السلم! يعني ايه مش فاهم؟

كان سؤال خالد لجاسر الذي تابع بتركيز: - انا بسألك عن الكلام اللي كانت بتهذي بيه زهرة، التعابين والضلمة انا عرفت قصتهم المرتبطة بوفاة والدتها، اما حكاية بير السلم والخنقة دي مع اسم الحيوان دا اللي اتعرضلها، ايه مناسبتهم؟ واشمعني بعد ما شافت الزفت دا يحصل معاها كدة؟

تطلع إليه خالد بصمت وقد فهم مقصده بعد أن ربط الخيوط ببعضها، ليتنبه إلى تعابير وجهه جاسر، ليخاطبه على يقين: - إنت عارف الحكاية صح؟ طب ياريت بقى بجد تحكيلي عشان انا مش ههدى غير لما اعرف كل حاجة النهاردة.

-كسر حقه! قال حقه حال؟
هتفت بها غادة بحمائية بعد سماع ما قصته عليهن زهرة، لتتبعها كاميليا أيضًا بالقول: - دا بني ادم مريض، والظاهر كدة ان البرشام اللي بيتاجر فيه، مسح مخه هو كمان.
ردت زهرة على كلماتهن: - انا كنت هموت من الرعب وهو بيهددني، حتى برغم وجود الزحمة والناس برضوا قلبي كان هيوقف من الخوف.

صاحت غادة بهمس حتى لا تلفت النظر إليها: - دا انتي كنت فقعتي عينه اللي تدب فيها رصاصة دي، ايه بابت اللي يخليكي تخافي منه؟ دا انت جوزك يقدر يوديه ورا الشمس.
هزهزت زهرة رأسها باعتراض: .
- لا يا بنات انا مقدرتش اتكلم ولا اقول حاجة قدام جاسر، بصراحة خوفت قوي يجرني للكلام القديم.
- ليه يا زهرة تخافي ولا تتكسفي، دي حاجة تدينه هو مش تدينك انتي؟

قالتها كاميليا برفض قاطع لموقف زهرة، قبل ان تجفل على اتصال كارم، بتنبيه لها للخروج، فنهضت من جوارهم مستأذنة: - طب يا زهرة بقى انا مضطرة امشي واسيبك، عشان كارم بيستعجلني.
سألتها غادة: - ويستعجلك ليه؟ وراكم مشوار.
ردت بسخرية قبل أن تتبعد بخطواتها عنهم: - اصله عازمني ع الغدا عند والدته، في بيت سيادة اللوا حمايا المرحوم، ادعولي بقى عشان ماوقعش تحفة ولا أنتيكة من المتحف هناك.

ردت غادة في استجابة لمزاحها: - يااه لدرجادي؟
- واكتر من الدرجادي كمان والله.
قالتها ثم انصرفت لتلحق مشوارها مع كارم.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة