رواية نصال الهوى الجزء الرابع للكاتبة إسراء علي الفصل السادس والثلاثون
لنبحث عن الحب أولا فكل شيء آخر سيأتي لاحقاً.
رفع سُليمان رأسه ب صعوبة بالغة ونظر إلى صُهيب الواقف أمامه ب هيمنة واضحة ب أعين متورمة ثم هتف ب صوتٍ ضعيف، مُنكسر
-مين!..
ضحك صُهيب ب سُخرية مقيتة ثم إقترب أكثر حتى وضحت ملامحه خلف الأضواء التي جعلت من هيئته أكثر وحشية وهدر ب نبرةٍ هادئة إلا أنها تحمل في طياتها إعصار أسود
-لحقت تنسى اللعبة اللي كانت ف إيدك! الجرح اللي ف وشي دا مبيفكركش ب حد!
-هتف سُليمان ب تفاجؤ: صُ. صُهيب!..
أومأ صُهيب ب قوة ليهتف سُليمان ب غضب
-جاي عشان تشمت ف عمك!..
لم يرد صُهيب على الفور بل إنتظر قليلًا. قليلًا فقط جعل من سُليمان يقطب جبينه إلا أن الآخر إقترب ب رأسهِ من أذن عمه وهسهس ب فحيح مُرعب
-لأ وأنت الصادق جاي أخلص على عمي
شحب وجه سُليمان أكثر مما هو عليه وتراجع ب رأسهِ إلى الخلف مصعوقًا بما سمعه ثم حدق ب إهتزاز به ليومئ صُهيب مُكملًا حديثه.
-دا وقت إنتقامي. قولت مش هسيب حقي لا منك ولا منه
ليحول أنظاره فجأة إلى عبد الرحمن المُقلى ب إهمال وعاود النظر إلى عمهِ وهمس ب صوتٍ مُرعب
-و أنا كدا برحمك من جاسر الصياد واللي هيعمله فيك
إتسعت عيني سُليمان ب ذعر مقيت وهو يجد صُهيب ينزع سُترته تبعته ب رابطة عنقه ثم قميصه الأبيض ليردف وهو يتجه إلى عمهِ لينزع قيوده
-مش تباركلي! فرحي على جُلنار الصياد النهاردة.
لم يبدُ على سُليمان أنه سمعه من الأساس بل كان ب عالم آخر مما سمعه لتو. إنحنى صُهيب تجاه عمه ثم أمسك فكه ب شراسة وهدر ب فحيح
-متعرفش أنا فضلت أستنى اللحظة دي بقالي أد
ضغط على فكهِ ب قوة وقد أظلمت عيناه ب ضراوة وتحدث ب نبرةٍ توازي ظلام عينيه
-حق اللي عملته ف أمي و أخواتي. حق كل سنة و يوم عيشتهولنا ف خوف و ذُل. ودلوقتي أنت المذلول وقُدام رجلي. وهاخد حقي.
تأوه سُليمان لضغط صُهيب المُتزايد على فكهِ ثم تساءل ب تجهم غليظ
-سؤال واحد. ليه كاريمان! إيه بينها وبين الصياد!
-أجاب سُليمان مُتأوهًا: فلوس
ضغط صُهيب على أحد جروحه التي سببها جاسر الصياد ليصرخ سُليمان ب ألم فتّاك ليعود ويهدر ب غلظة
-بينها وبين جاسر إيه!
-بينهم إنتقام. جاسر الصياد قتل عيلتها
-قطب صُهيب حاجبيه وتساءل: مين!
-لهث سُليمان وقال: معرفش اسمه. لكن كل اللي أعرفه إن جوز أختها من أكتر من عشرين سنة خانه لعيلتنا ف قتله وقتل مراته وعيلته كلها
إبتعدت صُهيب قليلًا وقد بدأت بعض الأمور المُبهمة في الظهور ليُكمل صُهيب حديثه ب همهمة
-أختها اسمها خضرة! اللي جاسر الصياد خلى الدكتورة روجيدا نفسها تقتله!
-أومأ سُليمان وأكمل ب إجهاد: هي مقتلتوش. هو اللي قتله. بعدها ب فترة عيلته كلها إختفت وهي الوحيدة اللي هربت.
ساد الصمت لمدة وجيزة قبل أن تعلو ضحكات صُهيب حتى صدا صداها ب جميع أنحاء المخزن قبل أنا يردف ب سُخرية لاذعة
-مقتلوش. مقتلوش نهائي. جاسر الصياد سفره بعيد عن البلد وعن نفسه و عنكم
-تمتم سُليمان ب صدمة: مُستحيل
-رد صُهيب ب بساطة: مش مُستحيل. إبقى إسأله ف الآخرة
نهض صُهيب و سحبه إلى الخارج ف أوقفه أحد الحارسين ثم سأله
-واخده على فين!
-أجاب صُهيب ب هدوء: هقتله.
نظرا الحارسين إلى بعضهما ب حيرة ولكن صُهيب لم يهتم بل تركهم وأكمل سحب سُليمان خلفه دون تعابير واضحة
ألقى به فوق الرمال ثم أمسك آلة الحفر وبدأ في عمل حُفرة ولم يحتج السؤال لِمَ تلك ف الإجابة هي قبره. توقفت ضربات قلبه عن النبض و تساءل ب إهتزاز مُرتعب
-أنت هتقتلني وهتدفني هنا!
-أجاب صُهيب مُصححًا ب بساطة: تؤ هدفنك حي هنا.
لو أن الروح غادرته باكرًا مُذ تعذيب جاسر له لكان أهون مما يفعله صُهيب ابن أخيه الآن. صرخ سُليمان ب هلع وحاول الزحف مُبتعدًا قدر المستطاع ولكن صُهيب كان أسرع حينما قبض على ساقهِ وجره إلى الحُفرة ليسقط بها
رفع سُليمان يده وهو يلوح نافيًا ب جزع قتل جميع خلاياه ثم هتف ب صوتٍ متوسل
-إعقل يا صُهيب هتقتل عمك! أنت عُمرك ما كُنت كدا. هتقتل دلوقتي!
-جأر صُهيب ب سُخرية: العرق دساس يا عمي. وعرقكم ال ساب بصمته فيا. بس أنا هخلص العالم من شروركم
وباءت توسلاته ب الفشل وقد بدأ صُهيب حقًا ب وضع الرمال فوقه. يدفنه ب قلب الصحراء كما والده تمامًا لا أحد يعلم أرضهما إلا الله. على الرغم من زئير ضميره و إرتجافه من فعلته إلا أنه يعلم تمام العِلم أن شر تلك العائلة لن ينتهي سوى ب إنتهاءهم.
بعدما إنتهى صُهيب من دفن كِلاهما عاد إلى المخزن وجلس فوق صندوق خشبي كبير يلهث لا تعبًا ولكن لفظاعة ما إرتكبته يداه. تلك اليد التي من المُفترض إنقاذ الحياة ها هي تسلب حياتين. وهو الذي أقسم ألا ترتكب يداه ما إقترفته أيدي عائلته
تنهد ب تعب ثم رفع يده يُعيد خُصلاتهِ إلى خلف ليلمح ذلك الصبي الثالث الذي يرتجف ب وضوح. ف نهض صُهيب وإرتدى ثيابه ليردف ب هدوء
-أنت لأ متخافش.
وضع السُترة فوق كتفهِ ورحل. رحل قد يكون فاقدًا لجزء من ضميره ولكنه إكتسب إحترام نفسه على الأقل. إحترام نفسه للقضاء على تلك العائلة الملعونة.
زفرت روجيدا ب إجهاد وهي تُحاول إقناع جاسر ب الهبوط وإستقبال الحشود ب القصر. ف الوقت قد حان وهو لا يتزحزح عن موقفه
حكت جبينها ب إعياء واضح ثم جثت أمام جاسر رادفة وهي تُمسد رُكبته ب حنو
-جاسر حبيبي مينفعش اللي بتعمله دا. الناس تحت و جواد وصابر و سامح هما اللي بيستقبلوا الناس. عيب كدا
-هتف جاسر ب شراسة: رجعت ف كلامي وقولت مش هجوز حد
-تساءلت روجيدا ب إستنكار: مش هتجوز حد إزاي!
-أنا حُر يا ستي.
أخذت روجيدا نفسًا عميق تُهدأ نفسها وهي تعلم أن لا فائدة من المُجادلة فقط عليها إتباع السياسة التي تنجح على الدوام
نهضت روجيدا لتجلس على ساقيهِ وكما توقعت وقع ب الفخ وهو يُحاوط خصرها ب أيدٍ حديدية. لترفع يدها وتُحاوط هي عُنقه ثم قربت نفسها أكثر وهمست ب دلال قاتل
-طب ولو قولت عشان خاطري!
-إبتسم ب مكر وقال: آثرتي فيا بس برضو لأ
-مطت شفتيها ب إمتعاض وقالت: تؤ بقى يا جاسر. عشان خاطري بقى والله هزعل.
أمسك ذقنها ب رقة بالغة ثم قرب وجهها منه ليهمس وهو يُحدق ب فيروزها اللامع
-إحنا منقدرش على زعل الفراولة
-أردفت ب سعادة: يعني هتنزل!..
طبع قُبلة رقيقة على شفتيها وأردف بعدها ب مرح
-منقدرش ننزل للفراولة كلمة
صفقت روجيدا ب مرح ثم أردفت وهي تُحاول النهوض
-يلا قوم إلبس
إلا أنه لم يسمح لها ب النهوض وهو يُعاود جذبها من خصرها إليه ثم همس ب عبث
-رايحة فين! أنا مش وافقت وبذلت مجهود! فين بقى حقي!
-ردت روجيدا ب إستنكار: دلوقتي!
-أومأ رادفًا ب مرح: أه أصل الكيف وحش أوي
كانت يده تعبث ب سحاب ثوبها الأسود لتُمسك هي ب يدهِ وصرخت ب عجالة
-جاسر الناس تحت
-رد عليها وشفتيه تعبث ب عُنقها: يستنوا
كان عليها أن تعلم نهاية الطريق الذي سلكته ف مكر جاسر الصياد لا يُمكن إئتمانه.
ترجل يزن من السيارة وتبعته خالته التي تذمرت وهي تُمسك مرفقه تتكئ عليه
-مش عارفة إيه لازمتها المرمطة دي ما كنتوا كتبتوا الكتاب وخلاص
-ضحك يزن وقال: إحنا بنتكلم عن جاسر الصياد يا يا لولو
-تمتمت ب إمتعاض: وعشان جاسر الصياد مكنتش عاوزة فرح
نظر يزن إلى خالتهِ ب قلة حيلة وكذلك فعل رمزي. في طريقهم إلى الداخل قابلا صُهيب وهو يترجل من السيارة ف توقف يزن وحياه
-ألف مبروك يا دكتور.
-إبتسم صُهيب ب مرونة وقال: الله يبارك فيك. مبروك أنت كمان
تمتم يزن ب شُكر ثم عرف خالته وصديقه إلى صُهيب والذي تقدم منه وتساءل ب جدية مُخيفة حتى أنها أجفلت يزن
-أنت عملت إيه خليت جاسر الصياد يوافق عليك!
-قطب يزن ب تساؤل: مش فاهم؟!
-أجاب صُهيب ب حيرة: أكيد عملتله عمل عشان يوافق ب السرعة دي. إزاي مفكرتش ف الموضوع دا.
ضحك يزن ب إستمتاع بينما نظرات لُبنى واضحة أنها ترى مخبول وليس شاب في ريعان شبابه أو هكذا تظن.
القصر كان يحوي العديد من الأفراد. بحث ب عينيهِ عن والدته ليجدها تجلس ب أحد الأركان بعيدًا. يعلم أنه من الصعب عليها العودة إلى هُنا. قد تركت البلاد و رحلت لتتركه هُنا يُكمل تعليمه. قطعت كُل تواصل مع تلك العائلة و معه أيضًا. علاقتهم كانت في أوج توترها نظرًا لمُقابلاته لعمه وإمتثاله لما يُريد. لذلك كان بعيد كُل البُعد عنهم وتركها هي دون الضغط عليها.
ولكنها هُنا الآن لأجله وهو يُقدر ذلك بعدما عَلِمت الحقيقة. كما أن صحتها المُتأخرة لا تسمح ب الكثير من الحركة و الحديث. لذلك توجه إليهم وتبادل معهم أطراف الحديث بعد الترحيب بهم ب حفاوة دون مُبالغة. ما تعرض له الجميع يجعل من الصعب تخطي تلك العلاقات والأيام ولكن كُل ذلك إنتهى أليس كذلك!
الموسيقى تصدح ب المكان. الأنوار إنطفأت ولم يبقَ سوى تلك التي تُنير الدرج. حيث جاسر و إبنتيه مع وب أسفل الدرج يقف كُلًا من صُهيب و يزن ب حلتيهما السوداء ب لمعة جذابة تُناسب ملامحهم الرجولية.
النظرة الأولى بينهما لم تكن كما يُحكى ب الأساطير بل كان شيئًا لا تستطع الأحرف وصفه. كانت جُلنار ب ثوبها الأبيض المُرصع ب ألماس أشبه ب حور هاربة من الجنة. الثوب كان مُحتشم ب درجة مُذهلة. بسيط وأنيق في الوقت ذاته
يُخفي جسدها ب روعة حفاظًا على ما أسفله. من الأعلى مُرصع ب ألماس حتى منطقة الصدر. ويُغطي جيدها و ذراعيه طبقة شفافة من القُماش منقوشة ب رسومات غريبة ولكنها رقيقة ومُزينة ب ألماسات صغيرة.
خُصلاتهِا نافست جمال وجهها ب ذلك التاج الماسي يجمع خُصلاتهِا الحُرة ب إفتتان
إبتسامتها لا تُضاهي إبتسامة. وكأن العالم إختفى من حولها ولم يبقَ سواهما حتى جاسر الصياد قد إختفى تمامًا
وها هي تقف أمامه على بُعد درجة ولكن ماذا يمنعها من التقدم!، اااه دعنا لا ننسى جاسر الذي يقبض على مرفقها ب قوة حتى أن جُلنار تأوهت وهمست ب أُذنهِ
-بابتي الناس بتبص علينا. سيب إيدي.
لم يرد عليها بل كانت عيناه تُحدق ب عيني صُهيب التي فهمت رسالته وهمس ب هدوء واثق
-متخافش عليها معايا. أنا صُهيب وبس. صدقني جُلنار مش بس عشق لأ جُلنار البيت الدافي ليا
يأمل من الله ألا يُفسد تلك اللحظة ب أحد تعليقاته القاتلة. وحينما طال الصمت وهو لا يتخلى عن يد إبنته قامت هي ب مدّ يدها إلى صُهيب ف أمسك بها وسحبها ب قوة لترتمي بين أحضانهِ.
كاد أن يلكمه جاسر ولكن روجيدا تداركت الأمر وهي تُمسك يده وتحكم حولها القيد ثم همست ب توسل
-عشان خاطري إهدى أنا مُستعدة أدفع الضريبة بداله
تنفس جاسر ب غضب ولكن صُهيب لم يأبه بل جذب جُلنار بعيدًا ثم قَبّل جبينها مُطولًا ليهمس ب صوتٍ أجش
-مبروك عليا أنتِ. إحسبي حياتنا من اللحظة دي
وعلى الجهة الأُخرى.
كان يزن مأخوذ ب كل ما بها. نظراتها الضائعة. جسدها المُرتجف. شفتيها الفارغة. ثوبها الملائكي ب لونهِ الأبيض الناصع. إحتشامه يُنافس إحتشام ثوب شقيقتها. ولكنه مُرصع ب اللؤلؤ و بعض الزهور التي تخرج من أفرع فضية تلتف حول الثوب ب روعة سالبة للأنفاس
خُصلاتهِا جُمعت في جديلة إرتمت على كتفها الأيسر تتخللها زهور بيضاء ك تلك التي تخرج من أفرع الثوب. وعلى رأسها وضعت تاج من الورود يُنافس هيئتها رقة.
تلك المُهلكة ستُصبح له بعد دقائق
وما حدث ما صُهيب كان حليف يزن ولكنه تعامل ب حكمة سبقته بها روجيدا والتي سحبت جاسر بعيدًا. على الرغم من رُعبها على إبنتها إلا أنها تثق ب يزن
ضمت چيلان يديها أمامها وفركتهم ب توتر. ليبتسم يزن ب عطف لحالتها. لذلك دون أن يُحاول الإقتراب أو حتى لمسها
-تحبي نرقص ولا نقعد على طول!..
ترددت كثيرًا ما بين خوفها وعزيمتها ألا تخذل والدها والذي لم يخذلها حتى الآن. وكذلك الذي يقف أمامها. الحصن والحائط الذي إتكئت عليه ولم يتعب من ثقل الحمل. بل كان صبور، مراعي، عطوف عليها إلى حد البُكاء
لذلك أخذت نفسًا عميق وأردفت ب إهتزاز
-لأ هنرقص
-أردف ب تأكيد: مش عاوز أضغط عليكِ
-أنا بعمل كدا عشان بابي.
أومأ يزن ب تفهم ليمد يده ويُمسك كفها ب رقة ثم جذبها خلفه. كانت تُحاول التملص منه ولكنه لم يدعها تفعل بل كُلما حاولت سحب يدها شدد عليها أكثر ف إستسلمت.