قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثاني بقلم رضوى جاويش الفصل العشرون والأخير

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثاني رضوى جاويش

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثاني بقلم رضوى جاويش ( موال التوهة والوجع ) الفصل العشرون والأخير

ترددت تكبيرات عيد الأضحى من اقرب جامع للسراىّ تلك التكبيرات التي تصدح عاليا بصوت مهران الذى كان يصمم كل عيد منذ بلغ الخامسة عشرة ان يهتف بها عاليا من مأذنة الجامع العتيق بالقرب من السراىّ و الذى بناه جده الأكبر صادق و أضيفت اليه الكثير من التعديلات و التوسعات...

انتهى مهران و باسل و كل رجال العائلة من صلاة العيد ليندفعوا للسراىّ من اجل الذبح و التضحية و التى صمم شباب العائلة القيام بتلك المهمة هذا العام.. باسل الذى انتهى من معهده المتوسط منذ ما يقارب السنتين و زاد ما يحمله من مسؤليات العائلة و مهران الذى انتهى من سنته الثانية فى كلية الطب البيطري و الذى مارس مهامه فى اختيار البهيمة و انتقائها من اجل الذبح بعين خبير مدقق.. و الذى كان اكثر الشباب اصرارا للقيام بمهمة الذبح لانه امر مستحب دينيا..

انتفخت أوداج عاصم و هو يهمس لحسام التهامى:- و الله و كبروا العيال.. !!.. ربنا يبارك لنا فيهم.. و نشوفوا هيعملوا ايه فى الدبايح.. و قهقه مستطردا.. ربنا يستر.. الحريم مستعجلين عايزين يطبخوا و دول شكلهم لسه غشم.. شكلهم هيفطرونا على المغرب..
قهقه حسام بدوره: - لااه.. باذن الله يظبطوها تمام.. احنا أهم حاجة نضمن الكبدة ندوها للحريم يفطرونا بيها و بعدين يبجى لها صرفة..

أكد عاصم باسما: - على جولك.. نضمن الفطور و بعدين يحلها ربك..
توجه الشباب مهران و باسل للذبيحة الكائنة فى الجانب الخلفى من السراىّ..و اعدوا العدة..
وذبحوها و عملوا على تقطيعها و توزيعها كما يجب..

عمل كل منهما بهمة و نشاط.. حتى نهض مهران هاتفا: - محتاجين حاچات تانى نوزعوا فيها.. انا رايح اجيب اللى أجدر عليه من المطبخ..
هز باسل رأسه موافقا و هو منهمك فى عمله لحظات غاب فيها مهران ليبقى وحيدا يفكر فى تلك التى لم يرى محياها فى صبيحة العيد..
لم يأت العيد بعد يا باسل..كان يحدث نفسه.. ما عاد هناك عيد ما لم تتكحل عيناه بمرأها.. صاحبة الطلّة الصاخبة التى تنقر على جدران قلبه بأساورها فتثير فيه العديد من الزوابع..

و فجأة و فى عز انهماكه بتقطيع اللحم انتفض قلبه لمسمع الصخب الأقرب لقلبه و الأحب لروحه صخب اساورها التى هلت و التى ألتقطها قلبه قبل أذنيه..و تأكد حدسه عندما هتفت متعجلة اياهم: - ايه يا جماعة.. محتاجين الكبدة ضرورى فى المطبخ.. هانفطر امتى..!؟.. الضهر..!!
تلك الانتفاضة لمسمع صوتها و رناتها التى تترد بقلبه جعلته ينتفض و تنتفض سكينه بدورها بين كفيه لتضرب احد أصابعه بدلا من اللحم الذى كان ينهمك فى تقطيعه..

دفع السكين بعيدا وهو يتأوه ممسكا بإصبعه المصاب.. اندفعت هى بلا اى تفكير تجاهه لتجلس بدورها قبالته فى ذعر هاتفة: - ايه اللى حصل..!؟.. انت جرحت نفسك..!؟..
هتف فى نزق وبكبرياء حمقاء: - مفيش حاچة.. ده چرح صغير و السكينة حامية.. عاادى..

ظهر كذب ادعائه عندما بدأ الدم الغزير يتساقط من بين اصابع كفه القابضة على إبهامه الجريح و النازف بشدة..
هتفت فى رعب: - انت بتنزف جامد..
و جالت بنظرها حولها و وضعت يدها فى جيب عباءتها لتصطدم باحد مناديلها و بلا وعى اندفعت تجذب كفه المصابة بين كفيها تحاول ان تكتم اندفاع الدم من الجرح بمنديلها الذى ربطته حوله إصبعه..

صمت هو و هو يرى كفه مستكينة بين كفيها فى وداعة.. يرى لهفتها عليه و ذعرها لجرحه.. يرى اندفاعها لنجدته و منديلها الغالى يعانق جرحه
انتفض كلاهما عندما دخل مهران هاتفا وهو يراهما فى تلك الحالة: - ايه فى.. !؟..ايه اللى چرى.؟!!..
انتفضت سندس هاتفة فى حرج: - ألحق واد عمتك يا مهران.. جرح حاله.. و بينزف جامد..

انتفض مهران ملقيا ما بيده من أوعية مندفعا باتجاه باسل يلتقط كفه ليطمئن على بن عمته المصاب و اخيراً زفر فى راحة: - الحمد لله.. الچرح مش چامد... ثم نظر لباسل فى مرح: - خضتنى يا شيخ.. چلت هتشمت فينا الكبار اللى مستنيين چوه عشان يخلونا سلوتهم..
ابتسم باسل هاتفا: - لاااه.. الحمد لله چت سليمة..

دفع مهران بوعاء لسندس التى كانت تقف دون أدنى رد فعل و هى تدارى إحراجها تتذكر ما فعلت مع باسل و كيف اندفعت اليه بهذا الشكل..لا تصدق انها وصلت من الحماقة تلك الدرجة التى جعلتها تصرح بذعرها و قلقها عليه..

لم تع يد مهران الممدودة لها و هى غارقة فى افكارها تجاه ذاك الجريح الذى كان لا يقل عنها تيهاً و شرود ينظر لذاك المنديل الغالى الذى مازال يعصب إصبعه و لا يجرؤ على رفع نظراته ليتأمل صاحبته فما عاد قلبه يستطيع تحمل وجيبه المتنامى فى حضرتها... و قد اكتفى.. نعم اكتفى.. فها قد طل العيد و هلت نسائمه بمرأها.. بل زاد روعة بلهفتها و ذعرها لجرحه.. فما أروعه من عيد !!..

هتف مهران للمرة الثالثة صارخا: - سندس.. ايه.. روحتى فين..!؟.. خدى اهااا الكبدة عشان نفطروا
بدل ما ابوكِ و عمك حسام يفضحونا..
انتفضت تتناول الوعاء من يده.. و تخرج مندفعة للمطبخ تناوله للنساء..
و تعود لتنادي مهران من جديد حاملة كوب من اللبن المحلى بالعسل الأبيض ليعطي باسل إياه..
اخذه مهران لباسل هاتفا: - ياللاه يا عّم.. اشرب..

الظاهر سندس چالت للدكتورة زهرة على اللى حصل فبعتت لك كوباية اللبن دى..
تناول باسل اللبن ليتجرعه على دفعتين متلذذا و هو يتساءل كيف عرفوا انه يحبه بارد من المبرد رأسا لمعدته..
دخلت زهرة الحظيرة حيث تتم عملية الذبح لتطمئن على سير العملية لتهتف فى قلق: - ايه ده !؟.. انت اتجرحت و لا ايه يا باسل..!؟..
هتف باسل مبتسما: - چرح بسيط يا مرت خالى.. متجلجيش..

اندمجت زهرة فى الحديث مع ولدها مهران بينما تاه هو فى ذاك الكوب الفارغ الذى وضعه بالقرب يؤكد له انها هى من احضره من تلقاء نفسها و ليست الدكتورة زهرة كما ادعى مهران و هو يناوله إياه.. هل تهتم لأمره.. !؟ أم هى مجرد شفقة من قبلها لابن عمتها الجريح.. !!

نظر لاصبعه الذى عقمه و ضمده له مهران بالشاش الطبى و مد كفه يربت على جيب جلبابه الذى يحمل هديتها الثمينة التى ما كان حاصلا عليها الا وهى مدرجة بدمائه..

هتف زكريا في حازم محاولا إثناءه عن رأيه:- يعنى خلاص يا حازم.. هي كلية الشرطة..!؟؟.. لازماً يعنى.. ما جدامك اى چامعة هنا في اسكندرية.. اختار لك واحدة و خليك چنبينا..و اذا كان ولابد كلية عسكرية ما جدامك البحرية طيب..!؟

هتف حازم في إصرار: - لا يا بابا.. اناعايز شرطة.. و عمى مختار وعدنى انه يساعدنى.. و بعدين محدش عارف مش يمكن مقبلش.. ادينى بجرب..
ابتسم زكريا و هو يربت على كتف ولده: - ربنا يجدم لك اللى فيه الخير يا ولدى..روح چرب حظك.. محدش عارف نصيبه فين!؟..
هتفت هدير ذات الأربعة عشر عاما مشاكسة:- سيبه يا بابا خليه يروح.. هو في كلية تانى هاترضى تقبله بتكشيرته دى..!؟.
انفجر زكريا ضاحكاً على مشاكسة هدير لأخيها و خاصة مع امتعاض حازم الذى نظر اليها في غيظ لكنه ترفع عن الرد عليها..

تساءل زكريا و هي يضم كتفيها: - و انتِ بجى يا ستى.. تحبى تدخلى كلية ايه..!؟..
هتفت هدير بدلال: - يا دادى انا لسه مخترعوش كلية تليق لى..
عاد زكريا يقهقه من جديد ليهتف حازم حانقاً:- ايوه صحيح...لسه مخترعوش كلية تليق على تسريحة شعرك.. او لون بلوزتك نظرت اليه هدير بابتسامة واسعة و ما ان استدار والدهما ليجلس خلف مكتبه حتى أخرجت لسانها تكيد اخيها.. الذى نظر اليها متوعدا.. لتخرج في سرعة تختفى من أمامه ليهتف زكريا: - طالما ده اللى انت عاوزه يا حازم..يبجى لازم انزل معاك جريب..

سأل حازم مستفسراً: - هاتيجى معايا عشان الاختبارات و التقديم يعنى يا بابا..!؟..
نفى زكريا: - لااه.. روح انت جدم و خلص على خير.. و لما تجبل باذن الله.. هايبجى لينا جاعدة تانية.. و نزولة لمصر باذن الله.
اومأ حازم برأسه موافقا و هو يتعجب متسائلا في نفسه.. عن اى شيء يتحدث والده..!؟..

وصل السراىّ نبأ وفاة الحاج قدرى التهامى فى الصباح الباكر ليهرع الجميع لدار التهامية فى لحظتها لمساندة صهرهم حسام التهامى و اداء الواجب المفترض فى مثل هذه الظروف الحزينة..
اندفع مهران بدوره مع ابيه..كان الأكثر تأثرا بين الجميع فقد كان دوما الأقرب له..

مرت الثلاث ليال الاولى بعد وفاة الحاج قدرى كئيبة تظلل الجميع بسحابة من حزن طغى على جميع الملامح بلا استثناء..
اليوم.. ميعاد لقاءه الاسبوعي مع جده قدرى.. دمعت عينا مهران.. فى تلك اللحظة كان من المفترض عليه التوجه لدار التهامية ليجلس فى تلك القاعة التى كان لا يبرحها الجد أبدا الا الى فراشه ليلا..

ازداد حزنه عندما تذكر موعد اللقاء و زاد الحزن شدة عندما ادرك انه لن يراها بشكل أسبوعى كما كان يحدث بالسابق.. فمن كان يجمعهما من اجل حفظ و ترتيل كتاب الله قد رحل.. غادر بغير رجعة.. لن يراها.. و لكم كان ذاك الخاطر قاسيا لا يُحتمل.. لم يع الا و قدماه تقوده الا بيت عمته و دخل من الباب الخلفى للدار حيث يظل باب القاعة مفتوحا على مصراعيه كعادته..

تنحنح فى تأدب و كأنما كان يتوقع ان يسمع الجد صوت استئذانه فيأذن له.. كانت القاعة فارغة كعادتها فى تلك الساعة من النهار..
تقدم مهران لداخلها و جال ببصره فى ارجائها حتى وقعت عيناه على مصحف الجد قدرى الذى لم يكن يبارح كفه الا فيما ندر.. و بجانب المصحف مدلاة من حامله الخشبي تقبع مسبحته الكهرمانية تقدم مهران يتحسس أشياء جده قدرى العزيزة فى محبة و شوق لذاك الرجل الذى يدين له بالكثير من أمور دينه و
دنياه..

اصطدم مهران بعصا الجد التى كانت تقبع بالقرب و لم يرها فسقطت أرضا محدثة دويا مسموعا لحد كبير.. لم يكن يريد ان يدرك احد انه هنا. كان يريد الانفراد ولو قليلا بذاك المكان الطاهر الذى جمعهم هو و جده و تسنيم..
اااه.. تسنيم.. ما بالها الان..!؟.. انه يشفق عليها فمن المؤكد انها فى دنيا اخرى من حزنها على جده.. ليته يستطيع ان يراها أو حتى يطمئن على حالها..

و كأنما كانت أبواب السماء مفتوحة لتُستجاب أمنيته فى لحظتها.. فقد فُتح الباب فى اندفاع لتدخل منه تسنيم..
انتفض هو ليواجه القادم..
نظر اليها و الى ذاك الحزن الذى عشش على ملامح وجهها الصبوح..

كانت تقف كالمشدوهة.. نظرت للعصا الساقطة أرضا و قد ادرك ان صوت سقوطها هو ما جذب انتباهها للقاعة بدأت تستفيق من صدمة ما تجلت على ملامحها و استطاع ان يستنتج انها تعيش نفس حالة النكران التى عانى منها فى الأيام الاولى للوفاة.. كان يعتقد انه فى حلم سئ و سيستيقظ منه قريبا ليدرك ان كل هذا محض خيال و انه لم يحدث فى الواقع.. و بالفعل استفاق.. لكن على الحقيقة التى كان يحاول الهرب منها بالإنكار..

هى لم تستفق بعد.. ولقد أتت تجرى للقاعة ظنا منها انها يمكنها رؤية الجد قدرى و هو يجلس على مقعده و يقرأ فى مصحفه أو يتمتم محركا حبات مسبحته.. لكنها لم تجد الا طيف ذكرى و أياه..
تحركت فى بطء و جلست على أطراف الأريكة القريبة من الباب.. و ذاغت نظراتها فى المجهول أمامها..

ماذا عليه ان يفعل..!؟.. انه لا يطيق رؤيتها بهذه الحالة.. كيف يمكنه مواساتها..!؟.. كيف يمكنه اخراجها من حالة التيه و النكران التى تسيطر عليها بهذا الشكل الموجع.. !؟..

عاد ينظر من جديد للمصحف و المسبحة و اخيراً جلس فى هدوء و بدأ فى تلاوة القرآن بصوت عذب شجى.. و بدأت هى تبكى و تبكى..
حتى انتهى و صمت.. كان تأثره وصل به مبلغاً شديداً جعله ينهض راغبا فى الرحيل..
و ما ان هم بالخروج من باب القاعة حتى هتفت به تسنيم بصوت متحشرج: - يا شيخ مهران..!؟..
نادته كما تناديه جدته فضيلة.. كانت المرة الاولى التى تناديه فيها منذ زمن بعيد.. منذ تخطيا اعتاب الطفولة و هى لم تنطق اسمه مطلقا.. لا مجردا أو حتى بألقاب تسبقه..

الان فقط سمعه منها.. و تعجب من حاله..
هل يمكن لانسان ان يجمع بأعماق قلبه مشاعر حزن دفين و مشاعر فرح صارخ في آن واحد..!؟.. هل يمكن ان يحدث هذا لشخص عاقل..!؟..
استدار فى بطء يحاول ان يغض الطرف عن محياها قدر استطاعته..
توجهت هى حيث موضع المسبحة و تناولتها فى إجلال و ضمتها لصدرها فى شوق لصاحبها و اخيراً تمالكت نفسها و ازدردت ريقها و هى تستدير له هامسة بصوت غير قادر على الإفصاح من شدة تحشرجه: - چدى كان موصينى لو چراله حاچة تبجى السبحة بتاعته من نصيبك انت..

كاد ان يمد كفه ليلتقطها من كفها لكنه خشى ان يمس ذاك الكف الطاهر الذى لم يصافح رجلا قط فعدل وضعية كفه ليبسطها أمامها فتسقط عليها المسبحة فى بطء ليضم عليها أصابعه و يندفع خارجا و قد انتزع نفسه من امام نظراتها التى تقطر حزنا على جدها انتزاعا..

هتف زكريا في مشاكسة: - نلاقى عندكم كباية شاى مظبوطة و لا ناخد بعضنا ونمشى..!؟..
اندفع المعلم خميس من داخل مقهاه ما ان سمع صوت زكريا يهتف مشاكساً من الخارج ليهتف خميس مللا في فرحة: - زكريا..!؟.. يا مرحب يا مرحب.. شاى بس.. ده احنا نجيب شربات لمجيتك دى..

ثم هرش خميس في رأسه يحاول التذكر:- بس هو النهاردة موافق كام..!؟.. ده مش معادك من كل سنة يا صاحبى..!؟..
اومأ زكريا مؤكدا على صدق قول خميس فبالفعل لم توافق بعد ذكرى رحيل بدور السنوية و التي يأتي اليها من الإسكندرية
يطل على الحارة و أهلها و يزور البيت و يخرج ما أمكنه من صدقة على روحها و روح ابيها.. قبل ان يزور قبرهما..

جلس زكريا و قبالته جلس خميس متعجباً و خاصة عندما لم يرد زكريا بل نظر لمدخل الحارة و أخيرا أشار لأحدهما من بعيد ما ان اقترب حتى هتف زكريا مشيرا لحازم الذى تأخر عن والده قليلا يبتاع غرض ما: - اهو يا سيدى السبب..!!؟..

نظر خميس للشاب الفارع الطول و الذى يمشى في كبرياء متطلعاً حوله حتى وصل اليهما ليشير له زكريا: - سلم يا حازم على عمك خميس.. فاكره..
صرخ خميس مهللاً: - حازم..!! ده حازم.!!.. الله اكبر.. الله اكبر.. بقى راجل طول بعرض ما شاء الله.. دى خالتك نعمة هاتفرح بشوفتك قووى..

ابتسم حازم بدبلوماسية و لم يعقب..و جلس على احد المقاعد المجاورة ليستكمل زكريا هاتفاً: - حازم قبل في كلية الشرطة.. هايبقى ظابط باذن الله.. و انا قلت مفيش مكان ممكن يقعد فيه هنا في مصر لو اضطرته الظروف و منزلش اسكندرية كل إجازة.. الا هنا.. في الحارة وسطكم..

هلل خميس بنشوة: - و احنا نشيله في عنينا ده هيبقى ضهرنا في الداخلية باذن الله..
قهقه زكريا.. و ابتسم حازم و الذى بالتأكيد لم يكن اقتراح ابيه في البقاء لو اضطرته الظروف في الحارة على هواه.. فقد كان يتمنى ان يشترى له ابيه شقة خاصة تكون ملاذه وقت الحاجة.. لا بيت قديم في حارة شعبية عتيقة حتى و لو كان يحمل عبق امه الراحلة.. هو يعلم كم كان يكن ابوه لامه من مشاعر دوما كانت محل نقاش بينهما..

دوما ما كان حازم يسخر من الحب و المحبين و لا يصدق في ترهات القلب و احاديث العشق و الشوق.. يعتبر رغم حداثة سنه ان تلك الشاعر المرهفة التي طالما ذكرها ابوه ما هي الا نوع من أنواع الضعف التي لا يحب و لا يتمنى ان يعيشها و لو للحظة.. و لا يعتقد انه سيفعل.. بل كان واثقا من انه ابعد ما يكون عنها...

سار فى اتجاه جامعتها يمنى نفسه برؤيتها.. فمنذ حادثة إصبعه صبيحة العيد لم يلمح طيفها حتى و لو من بعيد.. فقد اعتزلت حجرتها من اجل المذاكرة بسبب امتحاناتها التى على وشك البدء..

و اخيراً جاءته الفرصة على طبق من فضة.. خاله عاصم مسافر و مهران فى جامعته فقد بدأت امتحاناته.. و السيارة التى دوما ما يبعثها خاله من اجلها معطلة بالفعل و سعيد أتى بالمكانيكى لإصلاحها....انتشى فرحا فقد اجتمعت الأسباب و الظروف كلها ليكون هو الوحيد الموجود ليذهب لاحضارها..

اقترب من الحرم الجامعى الذى لم يكن له حظ الالتحاق به فمعهده المتوسط فى محافظة اخرى و قد أنهى الدراسة التى لم تزد عن السنتين به ليتفرغ للعمل مع والده منذ ما يزيد عن عامين... اما هى فألتحقت بكلية الحقوق عن رغبة قوية منها رغم مجموعها العالى فى الثانوية العامة..

تنهد فى ضيق.. لطالما كان و سيظل الفارق التعليمى بينهما سبب قويا فى ابتعاد كل منهما عن الاخر.. هو يعلم تماما انها تسعى للتفوق فى كليتها للحصول على الماجستير فى تخصصها اما هو فقد اكتفى من التعليم بما حصل عليه بالفعل كل سنة يجد الهوة بينهما اتسعت بل و تزداد اتساعا مع ازدياد طموحها العلمى الذى يخالف عدم شغفه التام بالدراسة..

توقف امام بوابة الجامعة و كما أكدت عليه زوجة خاله زهرة أن سندس تنتظر امام البوابة مجئ سعيد بسيارتهم كما تعودت.. جال بنظره امام البوابة لعله يلمح طيفها ليجدها تقف بالفعل مع احدهم انتفض فى غيظ هامسا فى ضيق لنفسه: - مين دِه؟!؟ و ليه واجفة تكلم معاه عادى كِده..!؟

اشتعل غيرة و رغبة فى الاندفاع اليها ليجذبها من ذراعها دافعا بها للسيارة بعيدا عن هذا الشاب السمج الذى يحادثها لكنه سيطر على نفسه بالكاد جازا على اسنانه فى حنق بالغ..

لمحته صديقتان لسندس يقف فى توتر بانتظارها ليتهامسا بغمز: - بصى.. ده بن عمة سندس.. اللى واقف مستنى هناك ده عند العربية الزرقا..
هتفت صديقتها: - معقول.. دى سندس دى محظوظة متوقعش الا واقفة..

و نظرتا لسندس التى كانت تنهى حوارها مع الدكتور عمرو الذى وقفت تستفهم منه على بعض النقاط الخاصة بامتحان المادة القادم.. لتهتف احداهما: - طبعا.. بن عمتها من ناحية و الدكتور عمرو من ناحية تانية.. بجد مبتضيعش وقت و الاتنين ايه.. مال و جمال..
هتفت الاخرى: - لااا.. سيبك من بن عمتها.. ده اخره معهد متوسط.. لكن خليكى فى دكتور عمرو اللى واضح انه مغرم قووى.. حظها نااار.. مش احنا..!

هنا كانت وصلت سندس لتنضم إليهما لتهتف احداهما فى نبرة متمنية: - بن عمتك أهو يا سندس.. يا بختك يا ستى.. حد يكون عنده ابن عمة بالشكل ده و يسيبه.. طول بعرض.. اوعدنا يا رب..

صمتت سندس و لم تعقب لتهتف الاخرى بنبرة حاقدة استطاعت اخفاءها ببراعة: - لاااا.. لااا.. بن عمتها مين.. ده معهد سنتين.. بقى اسيب دكتور عمرو اللى هايبقى دكتور فى القانون و اخد ده.!؟
عند هذه النقطة اشتعلت سندس ضيقا و حنقا لتهتف بهما: - إنتوا خلاص قررتوا و بتختاروا لى اللى هتجوزه كمان.. !!؟.. ده إنتوا بنات دماغها فاضية.. انا امشى أحسن و انصرفت فى ضيق مندفعة باتجاه باسل الذى كان اخر من تريد رؤياه بعد هذه المناقشة السخيفة..

فكلتاهما ضغطت على المعضلة التى تؤرقها ليل نهار.. و تزيد من احتدام الصراع المتواصل بين قلبها و عقلها..
وصلت عنده فألقت التحية فى هدوء تجيد اصطناعه رغم ذاك الصخب الدائر داخلها لتفتح الباب و تجلس فى المقعد الامامى بلا تفكير..
دخل هو يضبط نفسه امام مقود العربة فهو أبدا لم يكن قريبا منها فى مجلس ما مثلما هو قريب منها الان.. فيما عدا تلك اللحظة التى اندفعت مزعورة تجاهه يوم جرح إصبعه الميمون..

ازدرد ريقه فى توتر و هو يحاول ضبط أعصابه التى بدأت فى الغليان هاتفا لنفسه: - مش هتسألها مين ده..!؟.. مش هتسألها سااامع.. !!؟..
و أخذ يؤكد لنفسه ذلك مرارا و تكرارا وهو يدير السيارة و ينطلق بها عائدا للنجع..
اخرجت هى احد كتبها و منظارها الطبي و بدأت فى مطالعته متناسية إياه أو ربما تتجاهل وجوده كعادتها التى تثير اعاصير غضبه..

ألقى ببضع نظرات فى اتجاه نافذته للخارج يحاول التنفس بعمق حتى يضبط قدرته على الانفعال و يسيطر عليها..و داس بعنف على زر مشغل الاغانى لعله يقذف بخواطره فى اتجاه اخر بعيدا عن تلك الهادئة حد برود القطب الشمالي بجواره و هو يستعر غضبا بجانبها حد الجحيم..
تسربت الاغنية من المشغل هاتفة: - جرب نار الغيرة و قولى.. ايه رأيك..!؟. رأيك..!؟.. جرب و أُوصِّف لى..

انتفض فى غيظ مغلقا الاغنية التى شعر انها تخرج له لسانها بغية إغاظته و سكب البنزين على نار صدره..
هنا استفاقت الساكنة لتهتف فى اعتراض: - ليه قفلت الاغنية..!؟؟... دى لذيذة قووى..
جز على اسنانه طالبا من الله المزيد من السيطرة على النفس وهو يهتف: - مش عچبانى..

نظرت اليه بغيظ و عادت لتجاهله بالنظر لكتابها الذى مارس أقصى درجات ضبط النفس حتى لا ينتزعه من يدها ملقيا به فى عرض الطريق.. و اخيراً قررت التمرد لتمد كفها تفتح مشغل الاغانى من جديد ليهتف الصوت المنبعث منه هاتفا: - يااامستبدة..
اعادت إغلاق المشغل بسرعة و شعرت و كأنه يسبها لينفجر باسل هاتفا فى استمتاع: - ليه جفلتيه.. و بدأ فى تقليد صوتها هاتفا: - دى أغنية لذيذة قووى..

زفرت فى حنق و لم تعقب كعادتها التى تثير جنونه ليسود الصمت الصاخب بينهما من جديد ليعود مؤكدا لنفسه انه لن يسألها.. نعم لن يسألها..
و فجأة هتف مجفلا إياها: - مين اللى انت كنتِ واجفة معاه دِه..!؟..
رفعت رأسها فى هدوء مجيبة: - ده دكتور عمرو.. استاذى.. و دكتور المادة اللى هنمتحنها كمان أسبوع.. ليه..!؟..

هتف محاولا تصنع اللامبالاة: - لااه.. مفيش.. بس هو عادى توجفى مع الدكاترة بتوعك كِده و فى الشارع كمان.. و فى الاخر تسلمى عليهم بيدك و أنتِ ضحكتك ملية وشك.. !؟..
هتفت فى حنق: - قصدك ايه..!؟.. و بعدين انا مكنتش فى الشارع.. انا كنت على البوابة لحقته قبل ما يخرج عشان فى حاجات مهمة كنت بستفسر عنها.. و بعدين ايه ضحتك مالية وشك دى.. انا مقبلش اى تلميح من اى نوع.. و بعدين انت ايه اللى جابك أصلا.. فين عم سعيد..!؟..

نظر اليها و على الرغم من انه أشعل غضبها الا انه كان فى قمة الاستمتاع فها هو يرى وجها اخر لها بخلاف ذاك الوجه البارد الذى تطالعه به دوما ما ان يلتقيها..

نظر اليها فى ضيق مصطنع هاتفا وهى يضغط على حرف السين عقدتها محولا إياه ل ثاء كما تنطفه: - عم سعيد بيصلح عربيتكم و مرت خالى هى اللى طلبت منى أجيبك.. المرة الچاية انا اللى هجول لمرت خالى اعفينى.. عشان مبحبش اضايج بتك.. و اسيبها توجف مع اللى يعجبها من غير ما يكون ليا حج فى السؤال..

انتفضت فى غضب حقيقى تغلق كتابها فى عنف هاتفة: - انا مسمحل...
قاطعها مشغلا الراديو هذه المرة بصوت هادر حتى لا تصله اعتراضاتها و يستمتع بانتصاره عليها اخيراً و خاصة انه نجح فى إذابة بعض من الجليد الذى يحيط بتلك الواثقة الباردة دوما..

ليهدر المذياع قاذفا كلماته التى ألجمت كلاهما لتصمت هى و ينتبه هو بكل حواسه لتلك القصيدة الملقاة: -
ايوه بغير..
اصل المشكلة عندك.. عِندك..
جلت حاسيبها وبكرة تحس
بعده تحس
بعده تحس
ده انا لو جبس كنت زعجت
ماشي صداجة وماشي زمالة
بس مچتش على الرچالة
ماهي نسوان الدنيا كَتير
وانا ما بجولش تخاصمي الناس
ولا تِتْحِچبي عن الرچالة
ولا تعتكفي وتسكني دير
بس يا ريت حبة تجدير
اني بحبك
واني بريدك
واني زرعت حياتي في ايدك
واني غزلت بنات الدنيا عجود على چيدك
واني تعبت من التفكير
واني بغير.

انتهت القصيدة.. ليعلو صوت التصفيق من المذياع و يمد باسل كفه فى آلية ليغلقه وهو فى تيه كامل.. لا يجرؤ حتى للنظر لتلك التى عادت لسكونها المريب بالقرب منه..نظر من نافذته لثوان ثم عاد بناظريه يثبتهما على الطريق و قد أيقن إنهما وصلا بالفعل فقد لاحت السراىّ على مرمى البصر
توقف فى لحظات امام بابها الداخلى بعد ان اجتاز بوابتها فى سرعة و اخيراً داس على المكابح فى غيظ لتتوقف السيارة مزمجرة فتندفع منها سندس الى داخل السراىّ بسرعة الصاروخ ليزفر هو فى قوة و يضرب المقود بكفه فى غضب.. و يستدير بالسيارة راحلا..

مرت عدة أعوام من عمر شراكة زكريا مع العميد مختار كانت أخصب سنوات عمل بالنسبة لزكريا.. فقد توطدت علاقتهما الاجتماعية و توسعت المعرفة على نطاق العائلتين لتصبح صداقة متينة الأواصر..
وقفزت شركة زكريا من مصاف الشركات الجيدة السمعة والكفاءة الى مستوى اعلى بمراحل وضعها في مصاف أقوى شركات الإنشاءات..

كان من المفترض ان تتم بينهما مقابلة في تمام الساعة الخامسة.. لكن هاهى الساعة شارفت على السادسة و لم يظهر مختار كما هو متفق و هذه ليست من عادته فهو دقيق جدا في مواعيده مما دفع القلق الى نفس زكريا و هو يتلفت على امل ان يراه قادما
لكن لا فائدة... ليهم بالنهوض مغادراً ليجده أخيرا يندفع معتذرا: - اسف على التأخير يا زكريا.. معلش امر طارئ..
هتف زكريا بقلق: - خير يا باشا..!؟..

اكد مختار: - خير..أصل من فترة كانت بتجيلى شوية تهديدات..!؟.. و الظاهر عرفوا مين وراها..!؟...
هتف زكريا مزعورا: - تهديدات..!؟.. و مين وراها دى..!؟..
هتف مختار كأن الامر لا يعنيه: - عارف العيال اللى حاولوا يموتونى في السجن لولاك..!؟.. هم دوول..
هتف زكريا: - بس دِه كان من زمن يا مختار باشا و انت سبتلهم الداخلية بحالها عايزين منك ايه تانى..!؟..

ابتسم مختار: - عايزين تارهم..العيال دى مبتنساش.. و اللى كان منهم ساعتها لسه تابع صغير دلوقتى بقى أمير جماعة قد الدنيا.. بيأمر والكل يطيع.. دلوقتى بقوا متوغلين في كل حارة و كل بيت.. كلامهم اللى متغمس بآيات من القران و احاديث نبوية
مخلى الناس مغشوشين فيهم و بيقولوا عليهم بتوع ربنا..
هتف زكريا في ضيق: - لا حول و لا قوة الا بالله.. طب و العمل دلوجت يا مختار بيه..!؟؟...

ابتسم مختار: - العمل عمل ربنا يا زكريا.. العمر واحد و الرب واحد و اللى له نصيب في حاجة هيشوفها..
همس زكريا: - و نعم بالله..
نهض مختار متعجلا: - طب يا زكريا انا لازم امشى دلوقتى.. عندى معاد مهم جدا.. و اكيد هقبلك تانى عشان نكمل كلامنا اللى مخلصش النهاردة..
نهض زكريا بدوره هاتفاً: - طب انا كمان ماشى معاك.. انت تروح مشوارك و انا ارچع الشركة..

خرجا سويا من ذاك المقهى العريق في احد اهم شوارع الإسكندرية.. اتجه زكريا لسيارته و بالمثل فعل مختار.. ليتذكر مختار شيء ما ليعود مسرعا لزكريا هاتفاً
به من نافذة عربته: - زكريا..!؟.. خد..
و يسلمه ظرفا مغلقا يتناوله زكريا بنظرة مستفسرة.. ليستطرد مختار: - لو حصل لى حاجة يا زكريا.. افتح الظرف ده.. ده وصيتى..

انقبض قلب زكريا ليندفع خارج سيارته هاتفاً في ضيق: - ليه بس يا مختار باشا السيرة دى..!؟.. ربنا يخليك لأهل بيتك..
ربت مختار على كتف زكريا بابتسامة هاتفاًو هو يودعه ملوحا: - اشوف وشك بخير يا زكريا..
لا يعلم مختار لما هتف بتلك التحية و هو يغادر زكريا الذى ارتسمت على وجهه ملامح الضيق و شعر بانقباض في صدره دفعه ليلتقط أنفاسه في شهيق قوى..

و ما ان عاد للسيارة يتبع مختار بنظراته و هو يستدير بسيارته لتكون بمحازاة سيارة زكريا.. حتى بدأ الهرج و المرج.. و صوت صرخات تعلو و طلقات متتابعة تدوى.. و ظلام تام غلف واقع زكريا المحيط و هو يهتف باسم واحد.. مختار..
و يده يضعها على جيب سترته حيث أودع وصية صديقه ..

 دخلت زهرة حجرتها فاذا بعاصم ممدد على سريرهما وما ان طالعته وهى تدخل حتى سألها فى تخابث: - لسه فى فردة حمام من غداء النهاردة نتسلوا بيها!؟..
ابتسمت وهى ترفع حاجبيها متعجبة: - فردة واحدة.. دوول يبقوا جوز حمام عشان خاطر عاصم بيه..
جلست على طرف الفراش وهى تستطرد: - بس انا بخاف على عصومى ينام بالليل تقيل
ربت عاصم على معدته البارزة مقهقها: - خايفة على عصومى و لا على شكل عصومى اللى بجى مش ولابد و هايمشى چمبك يجولوا مين الجمر اللى ماشية ويا ابوها دى.. !!؟..

انفجرت ضاحكة على غزله الصريح: - قمر ايه بس يا عاصم.. بس تعرف..
تنبه بكل حواسه عندما قالت كلمتها الاخيرة و التى اعتاد دوما ان يسمع بعدها ما يسر قلبه.. استكملت هى حديثها و ابتسامة هادئة تكلل شفتيها و عيونها تلمع ببريق يحمل جمال الذكرى عندما هتفت: - الكرش مش فارق معايا كتير..لان انا لسه شيفاك زى اول مرة شفتك فيها..
ثم أسرعت قائلة بضحكة واسعة:- مش اول مرة قووى يعنى.. عشان كانت صعبة الصراحة..

كان دوره لينفجر ضاحكاً متسائلا: - ألا صحيح.. حسيتى بايه لما شفتينى اول مرة!؟..
ابتسمت هاتفة: - حسيت برعب غريب و صوت داخلى بيقولى اهربى من قدام الراجل ده.. بس ملحقتش
ابتسم هو و نظراته لها تؤكد عشقه هامسا: - انا لو اعرف اللى هيجرالى منيكِ ساعتها.. كنت انى اللى هربت.
ظهرت على جانب فمها ابتسامة و نظرة معاتبة و هى تقول: - كنت هربت..!؟.. طيب..اما اهرب انا كمان.. و مفيش أكل حمام النهاردة..

و اندفعت مبتعدة مشاكسة أياه.. ليهتف هو ضاحكاً: - خلاص بلاها الحمام.. و نحاول نجلل من الاكل بالليل عشان خاطر عيون زهرة..
قررت الاستمرار فى مشاكسته: - اه الصراحة.. حرام عليك.. يعنى زهرة بنت عزيزة تركبها بكرشك ده.. الرفق بالحيوان هيقاضونا يا عاصم..
لم يصمت هذه المرة بل اندفع ليمسك بها قبل ان تهرب مختبئة فى الحمام و يهتف مازحاً: - خايفة على زهرة الفرسة منى.. و بتجولى الرفج بالحيوان هيجاضينا.. طب شوفى من هيخلص زهرة اللى هو انتِ من يدى دلوجت.!؟؟

هتفت مازحة وهو يلتف حولها ليقف خلف ظهرها و يطوق خصرها بذراعيه و يرفعها قليلا عن الأرض حتى ما عادت قدميها تلامسها..: - عاصم.. هصرخ و اشهد عليك عيالك اللى بقوا طولك ..
انفجر ضاحكاً و هى يلقى بها على الفراش: - متعمليهاش..
و اقترب منها لتهتف بتحدى: - ايه.!؟جايب الثقة دى منين..!؟..

انحنى عليها و هى لازالت على حالها ليأسرها بذراعيه وهى يقول بصوت يقطر حبا: - عارفة چايبها منين..!؟.. من عيونك دى اللى كلها تحدى و اللى وجعتنى فيكِ.. دِه يوم ما وجفتى تتحدينى وانا بكتب عليكِ غصب..مصرختيش.. هاتيجى دلوجت و تصرخي.. !!..

همست مدعية النداء مازحة: - يا مهرااان.. يا سندس.. يا ماااجد.. تعالوا شوفوا ابوكوا بيعمل ايه..
انفجر ضاحكاً و قال: - طب ما تخدنيش فى دوكة و جوليلى.. انتِ شيفانى كيف..!؟..
ابتسمت وهو تطوق ذراعيها حول عنقه: - شيفاك زى اول مرة شفتك فيها بقلبى..
رفع حاجبيه معجبا: - وااه.. ده باينه كلام كبييير.. كيف يعنى..!؟..

ابتسمت و هى تستطرد: - لسه شيفاك يا عاصم زى يوم ما قلبى و عقلى اتفقوا ان روحى متعلقة بيك و انى مقدرش أعيش من غيرك...يوم ما خدتنى قدامك على الفرسة و كان نفسنا نعيش العمر على ضهرها بعيد عن الدنيا كلها.. يوم ما لقيتك بين دراعاتى غرقان فى دمك و عيونك بتلومنى انى هبعد عنك.. لسه شيفاك عاصم اللى مقبلش الظلم على بن عمه و كان هيدفع حياته تمن لرد الحق لصاحبه.. عاصم البار بابوه و امه.. عاصم الحنين على اخته.. عاصم حبيب قلبى و روحى..

نظر اليها مشدوها تلمع عيناه كنجمتين فى سماء شديدة الظلمة.. تنحنح محاولا تقليل تأثره بكلامها و انحنى يقبل جبينها قبلة عميقة أودعها كل عشقه و حنانه و رفع رأسه يقول بنبرة مشاكسة: - خليها اخر مرة.. و جومى هاتى الحمام..
انفجرت ضاحكة و هى تتعلق اكثر برقبته.

ظلام دامس.. انوار تُضاء و تُطفأ.. صرخات و ضحكات.. نداءات من عمق سحيق و همسات بجوار مسامعه..
صورة امه الحبيبة التي لم تتكحل عيناه برؤيتها منذ زمن بعيد.. عاصم بن عمه الذى يعده بمثابة الأخ الحقيقى..
النجع و كل شبر بأرضه التي يعشقها حد الهوس و رغم ذلك ابتعد عنها حد اللانهاية

ابنة عمه سهام ربيبته.. و حبيبته الأولى و نايه الذى دفنه مع ذكرياته القاتمة بجوار قبر ابيه غسان الهوارى الذى لم يعترف به ابنا في حياته و اقسم ان يعود ليصبح افضل مما حلم ان يكون اذا بقى في النجع .. سيكون زكريا لذاته...

بدور و عشقها الذى ما غادر روحه قط و حنانها و الأمان بين ذراعيها..
سنوات السجن و سنجأ..
زينة و حكايته معها و كيف حركت فيه قلب ظنه دُفن منذ زمن مع سارقة روحه الغالية. كل تفاصيل حياته في فيلا الحاج مندور..
ابناءه.. حازم و هدير..
و أخيرا.. الباشا..سيادة العميد مختار..
ووصيته..

حرك كفه في تثاقل يبحث عنها في جيب سترته.. لكنه لا يجد موضع الجيب من الأساس.. لا.. الا الوصية.. أين هي..!؟..
أين ذهبت..!؟..
تململ في ضيق و أخيرا بدأ يفتح جفونه في تثاقل ليطالع أشباحا تتراقص امام عينيه لا يستطيع تمييزها مباشرة فهمس:-.. أمى.!!.. عاصم..!!؟..
بدأت الصورة تتضح امام عينيه المشوشة تدريجياً ليتبين ان الشبحان هما لحازم ولده و زينة زوجته التي كان وجهها يغطيه الدمع بغزارة...

لا يعلم كم غاب.. و لا يعلم ما حدث..
لكن كل ما استطاع ان ينطقه في صوت منهك متحشرج: - فين الظرف اللى كان في چيبى..!؟.. فين وصية مختار باشا..!؟..
اندفعت زينة تسلمه ذاك الظرف الذى وجدوه في جيب سترته مدرج بالدماء..

قبض على الظرف و ضمه لصدره مستطردا في وهن.. رچعونى النچع.. عايز ارچع بلدنا..
لينظر كل من حازم و زينة لبعضهما و لم يكن بوسعهما الا الازعان لطلبه و قد اومأ كل منهما برأسه إيجابا...ليستكين هو مغمضا عينيه مرة أخرى محاولا الاسترخاء و قد أدرك ان موال تيهه ووجعه قد أوشك على الانتهاء...

تمت
الجزء التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة