قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثاني بقلم رضوى جاويش الفصل الثالث

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثاني رضوى جاويش

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثاني بقلم رضوى جاويش ( موال التوهة والوجع ) الفصل الثالث

بدأ زكريا عمله في ذاك المتجر الذى كلم الحاج وهيب صاحبه ليوظف زكريا عنده.. كان متجر لمستلزمات البناء و أساساته من طوب و إسمنت و أخشاب.. لم يكن زكريا على علم بالمطلوب منه بالظبط لكنه كان متحمسا للتعلم و المعرفة .. في البداية بدأ في نقل أجوال الإسمنت و رصها في أماكنها المعتادة و كذلك بعض الأخشاب و أدوات الحفر و الترميم و اوانى حمل الإسمنت التي يستخدمها العمال في تحويله للأدوار العليا في المباني المرتفعة قيد الإنشاء ..

كان العمل عند الحاج مرشدى ليس بالعمل الصعب لكنه شاق لحد كبير ..لكنه لم يعبأ ابدا بذلك فكل ما يشغل باله الان هو كيف يثبت أقدامه في ذاك العمل و يكتسب ثقة الحاج مرشدى و يتعلم كل ما يستطيع ادراكه و يتشرب الصنعة بجوارحه ..و في صبيحة احد الأيام و بينما هو سائر خارج الحارة و
وصل بالفعل للربع الأخير منها متوجها لعمله الجديد في همة حتى استوقفه فجأة رجل ضخم الجثة أشار أمرا بصوت أجش :- المعلم طالبك..

كان الرجل يشير لذاك المقهى البلدى الذى يقبع في الركن الأيسر من الطريق و الذى يستطيع رؤية كل من يدخل و يخرج من الحارة بفضل موقعه بالقرب من مدخلها ..
استدار زكريا في هدوء و بدأ في السير خلف الرجل الضخم الجثة باتجاه المقهى..
و التي ما ان خط زكريا عتبتها حتى سمع صوت جهورى مرحب في تهليل :- اهلا .. اهلا بسيد الرجالة .. الصعيدى المجدع...

نهض المعلم خميس اللول من خلف طاولته التي تحتل قلب المقهى هي و صورته التي تزين الجدار خلفها بشاربه وجسده الممتلئ المتوسط الطول مؤكدة انه المالك الأوحد لذاك المقهى ..
مد المعلم خميس كفه باتجاه زكريا في مودة حقيقية .. و بالمثل فعل زكريا على الرغم من توجسه لما يحدث فهو لا يعلم لما استدعاه المعلم خميس من الأساس وهو لا يعرفه و لا سبق ان تعامل معه او حتى جلس يوما ما على مقهاه ..

اجلسه المعلم خميس في مكانه المفضل بالقرب من مكتبه حيث يتسنى له مراقبة الزبائن و كذلك الحركة المتدفقة من و الى قلب الحارة ..
هتف المعلم خميس و هو يربت بقوة على كتف زكريا :- و المرسى أبو العباس .. انت مفيش منك اتنين .. وقفت زى السبع للسمرى و رجالته و لبستهم تُرح.. مجدع بصحيح ..

ابتسم زكريا و قد فهم المقصد من الزيارة :- انا معملتش حاچة يا معلم ..واحد غلط و بنأدبوه ..
انفجر المعلم خميس مقهقها و هو يربت على كتف زكريا من جديد :- تعجبنى يا صعيدى ... ثم استدرك قائلا :- انا لو كنت موجود مكنتش خليته يقرب لحد في الحارة و خصوصى الحاج وهيب و اهل بيته .. انا كنت بره الحارة بجيب لوازم للقهوة .. بس انت ما شاء الله عليك... سديت و قمت بالواجب و زيادة .. بص بقى .. انا هجيلك دغرى .. انا عايزك تبقى واحد من رجالتى .. ايه قولك ..!؟..

على قدر تعجب زكريا من مطلبه الا انه لم يبد تلك الدهشة و هو يقول مبتسما في هدوء :- معلش .. اعفينى يا معلم .. طلبك على عينىّ و راسى .. بس انى بچد مليش في شغل الفتونة دِه .. انا راچل عايز امشى چنب الحيط و تيجى معايا سلامات من غير مشاكل و بالذات ان الظابط حاططنى في دماغه من يوم العركة أياها ..ويمكن من جبليها كمان.

ربت المعلم خميس في تفهم على كتف زكريا و هو يهز راسه مدركا ما يقصده و أخيرا هتف :- خلاص يا زكريا .. على العموم فكر و انا قهوتى مفتوحة لك على طوول و انا تحت امرك في ايتها حاجة ..انا استجدعتك .. و انا اللى استجدعه و ينخشش في نفوخى مبيطلعش خلاص ..و انا استجدعتك.. و يا بخت اللى يعزه المعلم خميس اللول .. حبيب الكل ..

ضحك زكريا في مودة و هتف في راحة حقيقية :- تسلم يا معلم لول ..
ثم نهض زكريا مستأذنا :- طب ألحج انا شغلى يا معلم .. و متشكرين على الشاي ..
نهض المعلم خميس من مقعده مودعاً زكريا و هو يهمس خلفه في حسرة :- خسارة و الف خسارة .. جدع بصحيح ..

اندفع عاصم الى حجرته في ضيق واضح يبحث عن بعض الأوراق التي قد يكون نسيها في حجرة نومه ولم يودعها المكتب كعادته .. دخل في عجالة يبحث عنها و نظر باتجاه زهرة المستلقية دوما على الفراش في ثبات تتطلع اليه بعيون تتبعه في كل حركة ..
توقف لحظات ينظر اليها و هتف في ضيق :- انا خارچ متجلجيش .. بس استحملى شوية ريحتى اللى مش بطجيها و اللى بجالى شهر و اكتر مش بجرب من اوضتى عشانها ..

استدار يبحث في احد الإدراج و لم يدرك انها خلفه تماما ترنحت حتى وصلت حيث يقف ولمست ذراعه في شوق هامسة :- عاصم..!!؟..
انتفض هو و استدار بكليته و قد انتابه الذعر عندما وجدها تقف خلفه مترنحة بهذا الشكل فحملها بين ذراعيه في خوف و اتجه بها للفراش هاتفاً :- ايه بس اللى جومكِ من السرير ..!!؟..

شبكت كفيها خلف رقبته و دفنت رأسها في صدره و همست :- اصلك وحشتنى قووى ..انحنى
يضعها على الفراش و هم بالنهوض لكنها ابت ان تفك تشابك كفيها حول عنقه .. فرفع ناظريه تجاهها هامساً :- مش اكتر منى يا زهرة و ربنا العالم .. بس انا..
و جلس على طرف الفراش و رفع يده يفك تشابك كفيها حول عنقه و يلثم كفيها في شوق ..

عاد للنظر اليها من جديد و شوقه يكاد يقتله فهمس :- هانت يا بت خالتى .. و بس ياجوا العيال دى .. اما طلعت عينهم زى ما طلعوا عينا ولاد ..
ابتسمت في شجن و هي تضع كفها على شفتيه هامسة :- أوعى تشتم ابوهم .. ده حبيبى ..
اقترب منها اكثر و ضمها لصدره وهو يربت على شعرها في حنو بالغ و دموعها الساخنة تبلل كتفه حيث يرقد خدها، و شوقه اليها يكاد يذهب بتعقله، ظل بقربها ينعم بمحياها الذى افتقده حد العذاب و قد نسى كل ما يتعلق بالأوراق التي كان يبحث عنها .. و تذكر فقط انه بالقرب منها .

كان يصعد الدرج بعد يوم عمل شاق عند الحاج مرشدى كان كل ما يتوق اليه في تلك اللحظة هو التمدد على الفراش و الغرق في نوم عميق حتى صباح اليوم التالى..

تناهى لمسامعه وهو يتوجه ليعتلى ما تبقى من درجات حتى غرفته صوت نعمة و هي تنهر بدور في صوت مؤنب :- ما قولنا ما تطلعيش في المطرة تودى البطاطين أوضة السطح .. اهو ده اللى نابك .. نازلة غرقانة مية من فوق و آخرتها دور ما يعلم بيه الا ربنا ..
لم يسمع ردا لبدور غير ذاك السعال الذى تردد في قوة حتى وصل الى اسماعه و اخترقها كأنه الرعد ..

لا يعلم لما توقفت قدماه عن الصعود و تسمر للحظات مكانه على اعتاب السطح ليجد نفسه يستدير عائدا ليهبط الدرج في سرعة ليختفى للحظات خارج البيت ثم يعود حاملا كيسا ورقيا .. صعد حتى وصل لبيت الحاج وهيب و امام باب شقته وقف للحظات ..
انحنى ليضع الكيس الورقى و يطرق الباب ثم يصعد في سرعة لحجرته ..

سمعت نعمة الطرق على الباب فاعتقدت انه زوجها الحاج وهيب فاندفعت تفتح في عجالة الا انها لم تجد احدهم بالباب .. همت بغلق الباب لتكتشف ذاك الكيس الورقى لتحمله في تعجب و تدخل ..
هتفت بدور التي كانت تتمدد الان على الأريكة فى ردهة المنزل تتدثر بالأغطية الصوفية من رأسها حتى اخمص قدميها .. تسعل بشدة في كل دقيقة متعجبة مما تحمل نعمة :- ايه اللى في إيدك ده يا نعمة ..!؟..

هتفت نعمة متعجبة بدورها :- ده كيس برتقان(برتقال) بس مين اللى جابه ..!؟.. يكون ابوكِ بعته .. أصل لقيته محطوط قدام الباب ..
صمتت بدور و لم تعقب لتهتف نعمة و كأنها تسأل و تجيب نفسها :- بس هيسيبه قصاد الباب ليه ..!؟.. طب ما كان جابه في أيده و هو طالع ..
ثم توجهت بالحديث لبدور هاتفة بخبث :- عارفة مين اللى جابه ..!؟..

تنبهت بدور لتعرف الإجابة .. لتستطرد نعمة بنبرة العالم ببواطن الأمور :- الراجل الصعيدى اللى فوق ..
هتفت بدور :- طب و ليه يعمل كده ..!؟.. و مخبطش ليه يدهولنا لو عايز يهادى يعنى !؟..
ابتسمت نعمة هاتفة :- يا بنتى تلاقيه عارف ان ابوكِ مش موجود مرضيش يخبط علينا و احنا لوحدنا .. أنتِ مش شيفاه طالع نازل و عينه في الأرض مبيرفعهاش ..

و اتسعت ابتسامة نعمة هاتفة :- لا.. وجايب برتقان عشان البرد .. تلاقيه عرف انك عيانة..
صمتت بدور و تذكرت صدمتها به و سقوطهما المدوى في بركة الماء فوق ارض السطح فابتسمت و لم تعلق بحرف ..

هتف احد رجال المعلم سمرى في غيظ :- جرى ايه يا معلم سمرى!!.. هو احنا هنسيب الواد الصعيدى ده عاادى كِده بعد ما علم علينا لامؤاخذة ..!!؟..
صرخ المعلم سمرى خانقا :- نسيب مين ..!!؟.. ده انا هجيبه تحت رجليا هنا يطلب العفو و السماح قدام الحارة كلها .. و الكبيرة بقى .. و ضحك ضحكة خشنة ملؤها الحقد مستطرداً:- هخليه يشهد على جوازى من ست الحسن والدلال اللى بيحاميلها و عامل لنا فيها عنتر ..

انتشى رجال السمرى و انتفخت أوداجهم ليهتف احدهم :- امتى يا معلم .. امتى ..!؟؟.. لحسن الواحد من يوميها مش عارف يرفع عينه في وش جربوع من اهالى الحارة ..
اومأ المعلم سمرى برأسه متمهلا و هو يهمس بصوت مسموع لرجاله وهو يدفع بمبسم نرجيلته بين شفتين صبغهما النيكوتين بلون ازق مقيت :- قريب .. كله جاى .. و الحساب يجمع ..

اندفع زكريا صاعداً درج بيت الحاج وهيب في حماسة و ما ان وصل للدرجات التي توصله باتجاه حجرته حتى كاد يصطدم ببدور التي كانت في طريقها للأسفل حيث شقة ابيها .. تراجع زكريا في سرعة قبل ان يصطدم بها فاصطدام واحد يكفى و يزيد.. سرعته كادت ان تسقطه مرتدا على الدرجات خلفه لكنه تماسك قدر استطاعته وهى أيضا لم تتوانى عن تقديم يد المساعدة التي مدتها ليستعيد توازنه حيث هتفت في لوعة :- حاسب يا سى زكريا ..

استعاد ثباته من جديد و انتفض من لمستها على ذراعه حيث انتشلته .. تنبهت فانتفضت مبعدة كفها و اضطربت وهى تبرر تواجدها على السطح بالقرب من حجرته :- كنت بحط لك لقمة كده على ما اُسم قبل ما ترجع .. حاجة بسيطة يا رب تعجبك ..
واندفعت مهرولة للأسفل لكن زكريا استوقفها هاتفاً بدوره :- يا ست بدور ..!!؟..
توقفت فجأة لندائه و رفعت بصرها باتجاهه ليستكمل قوله :- الحاج وهيب موچود تحت ..!!؟..

أومأت برأسها إيجابا .. فقال في عزم :- طب انا نازل .. يا ريت تبلغيه ان انى هنزله دلوجتى ..
هتفت :- طب ما تتفضل ..
قال :- ادخلى ناديه و انا نازل حالا ..
خرج الحاج وهيب لزكريا الذى طلب لقاءه و ما ان طالعه محياه حتى هتف في عزم :- بص يا حاج وهيب .. احنا خلاص بجينا اهل و كِده مينفعش الصراحة ..
متزعلش منى .. بس اى اكل هلاجيه فوج هدفع تمنه و الا و الله مانا دايجه ..

هتف الحاج وهيب :- ايه ده ..!؟ و انا اللى بقول ان الصعايدة اهل الكرم ..
هتف زكريا مؤكدا :- و الله هم فعلا اهل الكرم و الچود كله .. لكن اهل حج كمان .. و ده حجك يا حاچ وهيب .. هو انى كنت بدفعلك اجرة الاوضة عشان تأكلني بيها .. !!!؟..ده ميرضنيش
عشان كِده هزود ايچار الاوضة
هتف الحاج وهيب في استسلام :- خلاص يا زكريا يا بنى اللى تشوفه ..

هتف زكريا :- تسلم يا حاچ .
و اندفع صاعداً لحجرته مرة أخرى .. دخل حجرته ليجد صينية الطعام في انتظاره .. أنعشت الرائحة الذكية صدره و هو يرفع الغطاء عنها و شعر فجأة بالجوع الشديد امام منظر الطعام الشهى الذى جلس يتناوله في استمتاع حقيقى فقد افتقد طعام امه بشدة و هذا الطعام يحمل نفس نفسها الشهى ..

اندفع عاصم لداخل حجرة نومه بما يحمل من أكياس مختلفة الاشكال و الاحجام تتبعه الحاجة فضيلة في فرحة ..
و ما ان طالعه وجه زهرة الباسم وهو يدفع الباب والجاً الى داخل الحجرة حتى هتف في حبور:- ازيك النهاردة يا ام العيال ..!!..
اتسعت ابتسامة زهرة و شعرت بالزهو فهى ستصبح ام لاطفال ذلك الرجل الذى تعشقه روحها المتعلقة به كمن يتعلق بسبب وجوده ..
وضع الاكياس أمامها و جلست الحاجة فضيلة بدورها على الجانب الاخر من الفراش تستمتع بتلك الفرحة البادية من ولدها و نشوته التي لم يستطع مداراتها..

جلس بدوره و بدأ في فتح الاكياس بلهفة هاتفاً في حماسة :- بصى يا ستى .. بعد ما خلاص عرفنا اللى فيها ..واد و بت ..
ضحكت الحاجة فضيلة عاليا على تشبيه ابنها على ما تحمله زوجته ليستطرد عاصم بابتسامة و هو يفرد ما اخرجه من اول الاكياس البلاستيكية :- أدى يا ستى لبس الواد مهران الصغير ..و أدى لبس البت سندس .. كل الاكياس دى فيها حاچات ليهم بس ايه بجى مجلكيش ..

ردت زهرة في حبور وهى تطلع للملابس أمامها :- تعيش و تجيب لهم يا عاصم ..
هتفت الحاجة فضيلة في سعادة فائقة :- ربنا يجعلهم ذرية صالحة يارب و يرزجكم برهم .
هتف كل من زهرة و عاصم مؤمنين على دعاءها ..
نهضت الحاجة فضيلة مستأذنة لتطل على الحاج مهران و ما ان أغلقت الباب خلفها حتى اقترب عاصم من زهرة دافعا الاكياس جانبا وهو يهمس في سعادة و قد انحنى مقبلاً جبينها ثم عاد ليستقر أمامها من جديد :- مبسوطة!!؟..

احتضنت وجهه بين كفيها في عشق وهى تهمس بدورها :- مش هكون مبسوطة اكتر من كِده يا عاصم .. كل اللى طلبته من ربنا بيحققهولى .. طلبت يرزقنى بطفل منك و كان أكرم و رزقنى باتنين .. هعوز ايه تانى .. الحمد لله ..
همس عاصم بصوت متحشرج تأثرا :- الحمد لله ..
و فجأة انتفض من مكانه هاتفاً :- وااه .. نسيت الناس اللى مستنيانى تحت .. واعية .. نستينى روحى انتِ وعيالكِ ..
انفجرت ضاحكة وهى تسأله في فضول وهو يبدل ثيابه :- ناس مين دوول يا عاصم ..!؟؟..

هتف :- دوول الجزارين .. عشان ندبح عجلين لوجه الله ..
قالت زهرة :- مش لما أولد باذن الله ..!!؟..
هتف محتجا :- لاااه ..احنا مش هنتشرطوا على ربنا .. و بعدين لما تجومى بالسلامة انتى و العيال يبجى فيها حديت تانى ..
و ما ان اكمل تبديل ملابسه حتى هم بالخروج من الغرفة لكنه استدرك و عاد لزهرة مرة أخرى لينحنى في شوق هامساً :- خلى بالكِ على حالكِ ..انا عارف انكِ تعبتى من الرجدة الطويلة دى ..

هااانت .. هزت رأسها إيجابا و على شفتيها ابتسامة حبور لأهتمامه و تفهمه و زادت سعادتها عندما طبع قبلة على خدها قبل ان يندفع خارج الغرفة مغالبا
شوقه في البقاء قربها ..

كان يجلس في غرفته يحضر لنفسه كوبا من الشاي يعينه على تحمل ذاك البرد القارص و فجأة لمح ظلا ما يتحرك على السطح .. شعر برغبة عجيبة في الخروج و رؤيتها .. شعر انها هي .. ربما صعدت تحصل على بعض الأغراض من غرفة الخزين الصغيرة المقابلة لغرفته ..
ظل يسأل نفسه الف سؤال لم يستطع ان يجد الإجابة داخله على اى منها .. كل ما يعرفه انه يريد رؤيتها و التأكد انها بخير ..

لم يحدث مطلقا ان شعر برغبة كهذه تجاه اى امرأة حتى سهام ابنة عمه كان دافع حمايتها هو انها ابنة عمه و وصاية الحاجة فضيلة له بان يحرص على سلامتها .. كان يفعل ذلك بدافع الواجب ثم تلك العاطفة التي تولدت تجاهها فيما بعد .. لكن هذه المرأة التي لا يعرف .. هناك شيء خفى يجذبه اليها كالمغناطيس .. يشعر انه يشبه البحار الذى تأسره عروس البحر بسحر غنائها فلا يستطيع الفكاك حتى يجد نفسه غارقا بين الأمواج و لا قبل له على مقاومتها..

اندفع بقوة لا إرادية تجاه باب غرفته ليفتحه حتى يطالع محياها .. و اخيراً توقف مصدوما..
فما كان ذاك الظل التي تخيل الا تراقص ملابسها المنشورة على احد الأحبال بعرض السطح .. رداءها الذى يتطاير في رقة الان جعلت قلبه يتطاير كورقة شجر خريفية في مهب الريح ..

ابتسم لنفسه في حسرة و دخل مرة أخرى يحتمى داخل غرفته من الجو البارد .. يتعجب من حاله التي اضحى عليها
هو هنا بالفعل منذ عدة شهور .. و دوما ما كانت نظراته لا ترتفع لمحياها .. لكنه يشعر انه يراها .. نعم يراها و يكاد يحفظ تفاصيل وجهها عن ظهر قلب و كأنه رفع الطرف مرة اليها لتكون كافية تماما حتى تضحى قسمات وجهها الصبوح موشومة على جدار قلبه ..

تناول كوب الشاي يرتشفه ليجده قد  برد بالفعل .. ارتشفه على اى حال فقد شمله دفء من نوع خاص لا يعرف كنهه ..

لكزت نعمة ابنة زوجها بدور بمرفقها لتستفيق من أحلامها وهى تطل من نافذتها المفضلة كالعادة و لكن من خلف زجاجها اتقاءا للبرد هاتفة بها في صوت خفيض حتى لا يصل الصوت لزوجها بالخارج و الذى كان يجلس على أريكته المفضلة يشاهد التلفاز :- خليكى كِده يا خايبة .. متشعلقة في حباله الدايبة ..
هتفت بدور باضطراب :- هو مين ده ..!!؟..

قالت نعمة :- قال يعنى مش عارفة ..!؟.. الصعيدى اللى طالع نازل عينه في الأرض كأنه بيدور على حاجة ضايعة منه و هو لو دقق شوية هيلاقى قلبكِ انتِ اللى مدعوك تحت مداسه ..
هتفت بدور تتصنع اللامبالاة :- و النبى انتِ فايقة يا نعمة .. حب ايه و صعيدى ايه بس ..!؟..

كل الحكاية ان الراجل نجدنا من سمرى و بجد خايفة الموضوع يقلب بمصيبة  و تكون من تحت راسى ..سمرى غايب عن الحارة بقاله مدة و ده يوغوش.. حاسة انه بيحضر بلوة ربنا يستر ..
همست نعمة متجاهلة كل ما قالت بدور  راغبة في استثارة غيظها :- اصله صعبان عليكى !؟ اصل هو وحدانى..!؟.. اصل هيجيله مشاكل بسببى ..!؟.. كلها حجج فاضية بس نقول ايه .. هو بيبدأ كده ..

و ما ان همت بدور بفتح فمها لتسأل عن كنه ذاك الشئ الذى تتحدث عنه نعمة حتى  ابتدرتها الأخيرة  تدندن في سعادة كلمات اغنية ليلى مراد .. الحب جميل ..
و تركت بدور في تخبطها و حيرتها ..

اندفعت سمية لداخل بيت ابيها و الذى اضحى أشبه بخرابة ينعق حولها البوم و تحلق فوقها الغربان .. جلست لأقرب مقعد جوار الباب تتنهد في حسرة و هي تتطلع حولها لجدران البيت و اخيراً طالعتها أمها التي كانت تجرجر قدمها أتية من الداخل ..
تحدثت أمها بصوت مرهق :- سمية .. كيفك يا بتى ..

بكت سمية في صمت هامسة :- يا ريتنى سمعت كلامك ياما .. ياريتنى فضلت هنا چارك و لا اتچوزت الچوازة الشوم دى ..
ربتت رتيبة على كتفها في محاولة لتطييب خاطرها :- خلاص .. معدش الكلام دِه يچيب همه يا بتى .. ارضى بنصيبك .. حتى عشان خاطر ولدك اللى على يدك دِه ..

هتفت سمية في ضيق :- مش جادرة .. عدلى و أمه مبهدلينى .. جلة جيمة و مسخرة في الروحة و الچاية كنهم اشترونى .. لو سليم هنا مكنش استچرى يرفع صوته علىّ .. لكن اجول ايه .. حظى و نصيبى..
هتفت أمها :- لو سليم هنا مكنش چوزك ليه من الأساس .. و معدش ليكِ غير واد عمك اللى اتچوزتى عدلى عشان تكيديه ...
تاريكِ كدتى روحك ..

هتفت سمية :- ايوه .. عاصم .. هروحله يشوف لى حل مع عدلى واد محروس .. انا خلاص مبجتش جادرة عليه و على أمه .. انا بت غسان الهوارى .. يتعمل فيا كِده .. !!..
و بدأت في النواح من جديد...

أسرعت بدور لتضع شالها على كتفها مندفعة تهبط درجات سلم بيتهم في عجالة لتصبح خارجه في ثوان معدودة متجهة بذعر لتشترى ذاك الدواء لابيها الذى فاجأته نوبة من نوبات مرضه التي تدخله في شبه اغماءة لا يبدأ الاستفاقة منها الا بعد تناوله الدواء الذى تحث السير لتبتاعه بانفاس لاهثة و خطوات متعثرة..

عادت في عجالة و ما ان همت بالولوج لبيتها حتى اعترض طريقها رجال المعلم سمرى الذى كان يقف في الزاوية يتطلع لرجاله وهم يحاصروها و هي لا تستطيع الفكاك منهم لتسرع بالدواء لابيها ..
سار المعلم سمرى بخطوات متمهلة حتى وصل للحلقة المتمثلة في رجاله  و ضحك بخشونة ضحكة مستفزة اثارت اشمئزازها وهو يهمس بالقرب منها :- خلاص .. معدش بخطرك يا جميل .. برضاكِ او غصب عنكِ هتبقى حرم المعلم السمرى ..

و زاد صوته فحيحا و هو يهمس متطلعاً اليها برغبة شديدة .. و الليلة ..
كانت بدور تقف لا حول لها ولا قوة .. تتطلع اليها الاعين المحيطة بها في الحارة غير قادرين على التدخل و الزود عنها و معاداة المعلم سمرى و رجاله ..فما كان منها الا اعمال العقل و الحيلة فهتفت متصنعة الموافقة :- و ماله يا معلم .. هو انا أطول ..بس سبنى اطلع لابويا بالدوا بتاعه و يبقى الكلام بين الرجالة
مش في الشارع و على عينك يا تاجر كده ..

انفجر ضاحكاً باستهزاء :- لااا .. الكلام ده مبقاش ياكل معايا يا حلوة ..
و جذب من كفها دواء ابيها و دفع به لأحد رجاله هاتفاً :- اطلع بالدوا ده للحاج وهيب .. و قوله.. بنته بدور ..عروسة المعلم سمرى .. عنده معززة مكرمة و لما يفوق كِده و يقوم بالسلامة يبقى يحصلنا عشان نكتب الكتاب و نعلى الجواب ..

وما ان انتهى من كلماته التي جمدت بدور مكانها غير مدركة لما يحدث .. مذهوله لما يقوم به المعلم سمرى و ما وصل اليه من جنون .. هل وصل به الامر لأختطافها هكذا على اعين الأشهاد و امام كل من بالحارة حتى يتزوجها غصبا .. و رغما عن ارادتها ..!!؟؟..
استفاقت من ذهولها على كفه التي اندفعت قابضة على ساعدها جاذبة أياها خلفه كالذبيحة لتصرخ هي مستنجدة بمن حولها و لا مجير ..

على اعتاب الحارة استشعر المعلم خميس اللول صاحب مقهى الشمندورة بعض من توتر في قلب الحارة حيث الاحداث التي لا تصل اليه في أطرافها الا متأخرة نوعا ما فدفع بأحد رجاله ليستطلع له الامر و قد صدق حدسه عندما جاءه رجله يلهث هاتفاً :- إلحق يا معلم لول .. السمرى لامم رجالته و بيسحب  بدور بنت الحاج وهيب من قدام بيت ابوها و عايز يكتب عليها بالعافية و ابوها تعبان فوق بيموت عنده الأزمة و محدش ادخل ينجدها من ايده ..

انتفض المعلم خميس ما ان سمع ما يحدث ليهب هو ورجاله صارخاً :- و الله ما نبقى رجالة لما الحريم يستنجدوا و ما يلاقوا اللى ينجدهم من أيدين واحد زى سمرى ده ..
و ما ان وضع المعلم لول اول خطوة لقدمه خارج مقهاه و خلفه رجاله مدججين بالعصى و الأسلحة البيضاء حتى ظهر زكريا متجها الى مدخل المقهى وما ان رأى المعلم اللول و رجاله على هذه الحالة من التأهب حتى هتف مستفسراً في تعجب :- چرى ايه يا معلم .. خير ..!؟؟.. رايح برچالتك على فين ..!؟..

اندفع احد الرجال ليقص على زكريا ما يحدث لينتفض قبل ان يكمل الرجل حكايته منتشلا احدى العصى من كف احد رجال المعلم خميس و قد اندفع لقلب الحارة بأقصى قوته و قد ابصر من موضعه كف السمرى وهى تكبل ساعد بدور جاذباً إياها خلفه في مهانة ..
لم يشعر الا وهو يطيح ذراع السمرى القابضة على بدور بعصاه صارخاً في غضب هادر:- هي حَصلَت يا خسيس ..!؟..

ما ان تدخل زكريا وكسر القيد الذى كان يكبل معصمها حتى اندفعت في ذعر لمدخل بيتها تحتمى من السمرى ورجاله و قد أغلقت بابه خشية ان يصل اليها احدهم.. ألتقطت أنفاسها في تلاحق و هي لا تصدق انها نجت من بين يدى هذا الحقير .. و نظرت من خلال شراعة الباب لما يحدث بالخارج تتابع تلك المعركة التي يدور رحاها  بين زكريا و قد انضم اليه رجال المعلم خميس اللول وبين رجال السمرى...

تدخل المعلم خميس هاتفاً بصوت جهورى في المتقاتلين يحثهم على وقف التناحر فأشار المعلم سمرى لرجاله بالتراجع و كذلك فعل زكريا و رجال المعلم خميس والذى هتف مستنكرا :- دى أصول يا معلم سمرى ..!!؟.. من امتى بنات الناس بيتعمل معاها كده ..!؟

هتف سمرى مستنكرا بدوره :- لما يبقوا بنات ناس بصحيح و مش بيلوعوا اللى طلبهم في الحلال على سنة الله و رسوله ...!؟..و عشان أحميها من كلام الناس عليها من ساعة ما الصعيدى ده .. و أشار على زكريا مشمئزا و مستطرداً .. جه و سكن في البيت عندهم و الناس لسانتها مبتبطلش .. و دى بت حتتى وتهمنى ..

ما ان انتهى السمرى من كلماته المسمومة حتى اندفع اليه زكريا في غيظ بعصاه ينوى تجديد الصراع و التهجم عليه من جديد بغية خلع لسانه النجس من منبته لما تفوه به في حق سمعة بدور و شرفها ..

و قال صارخاً و المعلم لول يحول بينه و بين الوصول لعنق السمرى ليزهق روحه :- دى اشرف منيك و من اهلك كلهم يا نچس.. و انطج كلمة تانية في حجها عشان يبجى اخر يوم في عمرك النهاردة ..

انفجر السمرى ضاحكا في سخرية :- معلش.. متخدوش على كلامه .. عايز يعمل فيها سبع الرجال قدام المحروسة .. مش عيب .. بس مش مع السمرى يا واد ..عشان السمرى لما يحط عينه على حاجة هيخدها غصب عن عين التخين .. وورينى بقى يا حيلتها هتمنعنى ازاى ..!؟..
هتف زكريا في ثورة :- ورينى انت هتچوزها ازاى ..!؟..  دى مرتى(زوجتى) ..سامع يا سمرى .. مرتى ..

لا يعرف زكريا ما الذى دفعه لينطق بها كاذبا بهذا الشكل و على مسمع و مرأى من الحارة كلها .. كان يصرخ بها مؤكدا .. و كأنما يؤكدها لنفسه .. يصرخ بها و هو لا يطيق ان يسترجع مشهد السمرى منذ لحظات وهو قابض على ذراعها بهذه المهانة جاذباً أياها خلفه .. لا يطيق ان يفكر انها يمكن ان تصبح ملك لغيره .. لا يعرف متى ادرك كل تلك المشاعر المتضاربة ووجودها مختزنة داخله
لكن هاهى انتفضت حية من أعماقه متى استشعر انها ستذهب عنه بعيدا بغير رجعة ..

هو لا يدرك ما الدافع .. كل ما يدركه  انه كان على استعداد لقطع يد سمرى التي تجرأت و لمستها .. لا يدرك ما معنى ذلك ..
كل ما يدركه انه يشعر انها مسؤولة منه و تخصه و ان أى سوء تتعرض له يسوؤه بشكل ما لا يدرك كنهه .. لكن يستشعره و بقوة...يوما ما كان له حبيبة لم يستطع البوح بحبها و لا استطاع نيلها رغم انه كان احق الناس بها الان .. لا و الف لا .. لن يقف مكتوف الايدى و هي تضيع امام عينيه ..

لن يقف مكبلا لا يحارب من اجل الاحتفاظ بها .. ستكون له .. و لن تكون لغيره ابدا.. فقد اكتفى من خساراته القلبية و ما عاد قادر على تحمل المزيد مهما كلفه الامر...
ظهر صوت الحاج وهيب  ضعيفا و قد سار لقلب الحلقة البشرية بمساعدة زوجته و ابنته بدور .. توقف يلتقط أنفاسه و أخيرا هتف على قدر استطاعته :- يا سمرى .. بينا و بينك ربنا في عرض الولايا و بنتى مش ممكن تعمل كده عارف ليه ..!!؟.. عشان مفيش واحدة هتمشى في السر مع جوزها ..

اندفعت الهمهمات المتعجبة من كل صوب وناحية حتى من النوافذ و الشرفات التي كانت تضج بساكنيها ممن استرعى انتباههم المشهد فوقفوا يتابعونه في فضول ..

شمل الذهول ملامح الجميع حتى أصحاب الشأن أنفسهم ..وكأنما الحارة بأسرها ايقنت صدق زكريا لادعائه انها زوجته عندما هتف بها الحاج وهيب ..و على الرغم من ذلك  فلقد ارتسمت ملامح الدهشة على وجه زكريا الذى اعتلاه بعض الجروح و الخدوش مما ساعده على مداراة مفاجأته بما يدعيه الحاج وهيب .. اما بدور فوقفت لا تحرك ساكنا كل ما جال بخاطرها هو النظر الى زكريا و مشاهدة اثار دهشته لتأكيد ابوها بما ادَّعاه امام الحارة بأكملها..

كانت عيناها تتعلق به وكأنما هو طوَّق النجاة الأخير لتصل لشاطئ الامل في رجل حقيقى يعوضها شبابها و يعيد اليها رغبتها في الحياة بين ذراعيه من جديد .. لقد هتف بها صارخاً .. انها زوجته .. فهل كان يقصدها بالفعل ..!؟؟.. هل هي رغبة حقيقة ظهرت من أعماقه في لحظات فارقة..ام انها شهامة و مروءة يحاول بها انقاذها من السمرى و رجاله .. !!؟..

اما المعلم سمرى فقد كانت الصدمة الأكبر من نصيبه فقد وقف مسمرا لا يأتي بأى رد فعل ينظر لرجاله في ذهول غير قادر على التصرف و أخيرا هتف في صرخة غاضبة :- طب فين قسيمة الجواز ..!؟؟.. شكلها تمثيلية ومتفقين عليها سواا..
هتف المعلم خميس بدوره مستفسراً :- اه يا حاج وهيب صحيح .. فين قسيمة الجواز !؟.
طلعها و حطها في عين التخين .

قال المعلم خميس كلمته الأخيرة بإستهزاء و هو ينظر الى السمرى الذى احتقن وجهه غضبا و حقدا ..
تحدث الحاج وهيب في هدوء واثق مؤكدا :- قسيمة الجواز موجودة .. بس احنا لسه كاتبين الكتاب امبارح .. و هي بتاخد وقت على بال ما تطلع .. بس الشيخ حسنين المأذون موجود و نسأله ..

لم يكذب السمرى خبرا و لم ييأس ليدفع بأحد رجاله على دراجته البخارية ليحضر الشيخ حسنين من بيته الذى يقع على بعد حارتين ..ليعود في لمح البصر مؤكدا ان الشيخ حسنين ليس في داره .. ليهتف سمرى حانقاً من جديد :- و لما انتوا كتبتوا الكتاب كنتوا ناوين تقولوا امتى إن شاء الله... لما تجيبوا اول عيل ..!!؟... ثم استدرك شامتا :- و لا ده انا افتكرت صحيح .. العروسة ملهاش في الخلفة ..

هنا لم يطق زكريا الوقوف ساكنا و القيام بدور المتفرج و هذا الاحمق يهين من هي زوجته على الأقل امام الناس .. فأندفع كالإعصار ليسقط على وجه سمرى بكف يده جعله يترنح متأوها كثور يخور و قد انبثقت الدماء من شفتيه ..
كان دوى الصفعة كقنبلة بقلب الحارة عم بعدها الصمت الرهيب

كان الجميع يتوقع هجوما شرسا من سمرى و رجاله و الذين تأهبوا بالفعل للفتك بزكريا الا ان سمرى مسح فمه المدمم بسطح كفه في استهانة و أشار لرجاله بالتراجع و نظر لزكريا في غل و حقد لثانيتين و أخيرا اندفع مغادراً يتبعه رجاله في صمت قطعه المعلم خميس هاتفاً في سعادة :- امبارح انكتب الكتاب يبقى النهاردة احلى فرح و احلى زفة اسكندرانى للصعيدى المجدع وعروسته و كله تحية من المعلم خميس اللول ..

و هتف في رجاله ليبدأوا في تحضيرات الزفاف الذى سيقام في قلب الحارة وعلى مسمع و مرأى من سمرى الذى كان الحقد الأعمى قد وصل به للذروة ونساء الحارة تودعه بالزغاريد المنطلقة من كل صوب و جهة تشفيا ..
اما العروسان فيبدو ان كل منهما كان في واد .. فالعروس اندفعت لتصعد درجات منزل ابيها باكية بعد إهانة سمرى لها .. اما زكريا فوقف لا يعرف ما عليه فعله ..فها هو يجد نفسه عريسا بالصدفة ..

هتف عاصم حانقاً في غضب مكتوم و هو يزرع الردهة الطويلة ذهابا و إيابا و امه الحاجة فضيلة تحاول تهدأته :- ايه الوجت دِه كله..!؟.. ايه اللى بيُحصل .. مش يفهمونا ..!؟
قال الحاجة فضيلة بهدوء حاولت به مداراة قلقها على زهرة :- اتصبر يا ولدى .. دلوجت الداكتور يخرچ يجول ايه في ..

و بالفعل ما ان انتهت كلماتها حتى فتح الطبيب باب غرفة الولادة متطلعاً لعاصم الذى اندفع اليه كالمجنون يسأله في لهفة :- ايه يا داكتور ..!؟.. مش خير ان شاء الله .!؟..
هز الطبيب راسه بألية متحدثا بنبرة عملية باردة :- خير باذن الله يا عاصم بيه .. بس انا لازم اخد توقيع حضرتك على بعض الأوراق عشان المدام لازم لها عملية قيصرية ..

هتف عاصم في ذعر بينما شهقت الحاجة فضيلة في لوعة ..:- عملية .. ليه ..!؟؟.. دى ولادة عااادى ..
تكلم الطبيب :- المدام حامل في توأم و الأجنة وضعهم مقلوب فلازم عملية قيصرية و إلا هايبقى في خطر على حياة الأجنة و الام ..
هتف عاصم في ذعر :- سترك يا رب .. و اخذ يضرب كفا بكف في قلة حيلة و أخيرا اندفع للطبيب هاتفاً في تأكيد :- يا داكتور اعمل اللازم .. بس بجول لك ايه .. انا ميهمنيش حاچة الا مرتى .. المهم هي ..اى حاچة تانى تاجى بعد حياتها سامعنى يا داكتور..!!؟..

ربت الطبيب على ذراع عاصم هاتفاً :- اطمن يا عاصم بيه .. الام و الأولاد هيكونوا كلهم بخير باذن الله .. بس انت قول يا رب .. واتفضل نمضى الأوراق .. اندفع خلفه عاصم و ترك خلفه الحاجة فضيلة تتمتم من خلفه بالدعاء الذى لم ينقطع للحظة ...

هتف الحاج وهيب مناديا عندما لاح له خيال زكريا صاعداً حجرته من خلف باب شقته التي تركها مواربا حتى يتسنى له رؤية زكريا في صعوده .. وقف زكريا ملبياً  و نظراته لم تُرفع على الباب الموارب
قائلا :- نعم يا حاچ وهيب ..
أمره الحاج وهيب :- ادخل يا بنى عايزك ..

دفع زكريا الباب في هوادة متنحنحا حتى ما ان ادرك ان الطريق خال من النساء الا و تقدم باتجاه الحاج وهيب الذى نهض امرا بصنع الشاي و تبعه زكريا الى غرفة الصالون  ..
أغلق الحاج وهيب الباب خلفه و جلس و هو يربت على كتف زكريا الذى كان يهم بالنهوض تأدبا ليعاود جلوسه من جديد ..
تحدث الحاج وهيب بصوت هادئ قائلا :- سامحنى يابنى .. مكنش القصد توريطك في جوازة حتى ولو بالكدب .. بس اعمل ايه !؟..

هم زكريا بمقاطعته ليوضح انه بالفعل يطلبها رغبة في ذلك .. و لا شبهة توريط  في الامر. لكن الحاج وهيب أشار له بكفه ليصمت مستمعا ليكمل الحاج وهيب بنفس النبرة الهادئة..:- ما باليد حيلة .. كنت هقول ايه و سمرى بيخوض في عرض بنتى قدام الحارة كلها .. والناس بقت نيتها وحشة و محدش هيفسر وقفتك معانا جدعنة و لوجه الله ...

انا عارف ان ملكش ذنب في حاجة و حظك اللى وقفك في طريقنا..
وان ده مكنش في حسبانك و انت لسه نازل من بلدكم بتقول يا هااادى و كرم أخلاقك هو اللى خلاك تعلن قدام الناس كلها انها مراتك عشان تخرسهم .. بس انا مش طالب حاجة و لا انت ملزم بحاجة..انا هبعتها عند اهل أمها و انا هروح انا ونعمة نقعد في بلدها عند أهلها و أبيع البيت و المحل من سكات و انت تشوف حالك و قدام الناس و لحد ده ما يحصل تفضل كأنها على زمتك ..قلت ايه يابنى ..

هتف زكريا مؤكدا :- جلت انها مرتى جدام الناس كلها يا حاچ وهيب و انا كنت جاصدها وبطلبها تانى .. انا بطلب يد بتك يا حاچ وهيب .. و على سنة الله و رسوله  ..و.. قاطع كلامه طرقات على باب الحجرة تعلن وصول الشاي نهض الحاج وهيب ليفتح الباب وقد تهلل وجهه بالبشرلطلب زكريا ... اشار لبدور التي تحمل صينية الشاي بالدخول ..و

ما ان همت بوضع الصينية على الطاولة امام زكريا و لا قدرة لها على رفع نظراتها تجاهه حتى هتف ابوها لها في فرحة :- قدمى الشاي لعريسك يا بدور ..
انتفضت هي متطلعة لابيها :- عريسى .. عريس مين ..!؟.. ما كلنا عارفين اللى فيها يا حاج  ..
هتف الاب حانقاً :- زكريا طلبك منى و انا وافقت ..
هتفت بعناد :- بس انا اللى مش موافقة .. و خلاص قررت اتجوز سمرى ..

اندفع عاصم من موضعه الى الفراش المسجاه عليه زهرة ما ان استشعر بوادر استفاقتها .. امسك بكفها بين راحته و هو يهمس باسمها لعلها ترد باسمه او حتى تفتح عيونها تطمئنه انها بخير فما عاد يحتمل القلق عليها :- زهرة .. زهرة .. انا عاصم ..
تنبهت ببطء لاتجاه صوته و ابتسمت في وهن ونادت باسمه في حشرجة واهنة ..ابتسم لها بالمقابل و هو ينحنى يقبل جبينها و يهمس في راحة :- حمدالله على السلامة ..

ترك كفها و اندفع ينادى الطبيب المعالج ليطمئنه على حالها ..
قام الطبيب باللازم و انصرف مباركا في حبور .. عاد عاصم لموضعه الأول و هو يمسك بكفها محتضناً أياها و بكفه الاخر يملس على شعرها في حنو هامساً :- اعملى حسابك مفيش عيال تانى ..
نظرت له و ابتسامة على شفتيها و همست مستفهمة :- ليه ..!!؟..

همس صادقا :- انا دمى نشف و اعصابى بَاظت لما الداكتور جال عملية .. لااااه .. لو العيال بياجوا بالمرار ده بلاها .. كفاية علينا اللى ربنا رزج بيه .. مهران و سندس ..
ابتسمت وهى تشد على كفه المحتضنة لكفها و تساءلت :- هم الولاد فين يا عاصم ..!؟..

ربت على رأسها مطمئناً :- متجلجيش .. زى الفل بس الداكتور جال لازم يتحطوا في الحضانة كام يوم .. و قهقه مستطرداً ..و الحاچة فضيلة من ساعتها واجفة جصاد الاوضة الجِزار تطل عليهم خايفة يبدلوهم ..
أمسكت ضحكاتها رغما عنها حتى لا تتألم و اكتفت بابتسامة واسعة طلت على شفتيها في سعادة و هي ترى الابتسامة تعاود ظهورها من جديد على وجه عاصم الذى كان وجهه شاحبا مذعوراً يحاكى وجوه الموتى و هو ينقلها الى المشفى عندما فاجأتها ألام المخاض

هتفت نعمة في بدور بغيظ :- انتِ اتهبلتى و لا حصل ايه في دماغك ..!؟.. مش ده اللى كنتِ هتموتى بس عشان يرفع عينه و يبص لك.. جه لحد عندك و طالبك في الحلال و انت اللى ترفضيه .. ده جنان رسمي ..
هتفت بدور :- برضة لا .. مش هتجوزه و لو حصل ايه ..!؟.. انا حرة ..
هتفت نعمة :- لا انتِ مش حرة .. انتِ مجنونة اقسم بالله .. هو الراجل الجدع ده يتساب ..!!..
هتفت بدور و الدموع تطفر من عينيها :- ماهو عشان جدع لازم اسيبه ..

همست نعمة :- لااا.. كده كتير.. هتجنينى معاكِ .. منين جدع و منين تسيبيه و انت هتموتى عليه اهو ..!؟.. فزورة دى..!! ..و بعدين الصِوان اللى بينصبه المعلم خميس و رجالته تحت ده هنعمل فيه ايه .!؟.. هنقوله خلاص فضينا الليلة و العروسة رجعت في كلامها.!؟.. .. مش بمزاجك .. ده انت مراته قدام الناس و متقال ان اتكتب كتابكم .. خلاص اطلعى قولى الحقيقة عشان الصوان اللى تحت ده يبقى لدخلتك على سمرى يا جدعة ..

هتفت بدور و الدموع تخنق حروفها :- هو ذنبه ايه يا نعمة .. ذنبه ايه ياخد واحدة هو مش اول بختها و كمان مبتخلفش و فوق كل ده يبقى من وراها مشاكل وعداوات .. هو ميستاهلش كل ده .. هو يستاهل ست البنات
حرام يا نعمة اشبكه بيا .. حرام ..

هزت نعمة رأسها في تفهم و ربتت على كتف بدور في حنو هامسة :- بس يا بدور اذا كان هو عارف ده كله و راضى ..و ..
قاطعتها بدور هاتفة :- لااا .. هو كان بيدافع عن سمعتى و شرفى و اضطر يقول كده ..

و احنا بقى بدل ما نقوله كتر خيرك و متشكرين و نفضوها .. لا ماسكين فيه و ما صدقنا... مش هتجوزه يا بدور .. عشان خاطره هو .. عشان مصلحته .. واذا كان على الصِوان و الناس اللى تحت .. خلاص هو ينزل يقعد مع الرجالة و انا هظبط نفسى و اقعد مع النسوان فوق .. و بعد ما المولد ده يتفض خلاص .. كل واحد يروح لحاله لكن جواز و مأذون .. لااا ..

ربتت نعمة على كتفها من جديد في تفهم و لم تعقب بحرف بعد ما ايقنت انها غير قادرة على إقناع بدور بالزواج من زكريا و خرجت من غرفة بدور لتخبر الحاج وهيب الذى كان ينتظر بفارغ الصبر نتيجة ما توصلت اليه  بعد ان أعيته الحيل ليدفعها للقبول بعرض زكريا الذى لا يُعوض ...وما ان طالعه محياها حتى اندفع اليها متسائلا :- هااا .. عرفتى تلينى دماغها ..

هزت رأسها نافية لكنها همست للحاج وهيب مؤكدة :- بس مطاوعهاش .. اعمل اللى انت قلت عليه ..
همس مستفسراً في تردد :- بس مش هايبقى حرام يا نعمة ..!!؟..
أكدت هامسة :- حرام لما تكون عارف و متأكد انها مش موافقة لكن احلف لك على مصحف و ابصم بالعشرة كمان انها موافقة و بتكابر ..

سأل الحاج وهيب :-فكركِ كِده.. !!؟.. يعنى اتوكل على الله ..!؟..
أكدت :- طبعا .. و من غير تأخير ..
اومأ برأسه موافقا .. و اندفع ينفذ ما اتفقا عليه من غير تأخير          

صدحت الاغانى و الأنغام من قلب ذاك الصِوان الذى نصبه المعلم خميس ورجاله في قلب الحارة تحية منه لزفاف زكريا و بدور و و أخيرا بدأ الجميع في الاستئذان حتى خلا الصِوان على المعلم خميس و رجاله و الحاج وهيب و زكريا الذى شكر المعلم خميس لكل ما تكبده في سبيل احياء الليلة و إخراجها بهذا الشكل .. و اندفع زكريا و معه الحاج وهيب للبيت..

دخل الحاج وهيب لشقته ظنا منه ان زوجته و بدور بالداخل بعد رحيل جميع النساء بالأعلى.. و كذلك زكريا الذى دلف الى السطح غير متوقع لوجود احد الا انه فوجئ بوجود بعض النسوة المقربات لبدور ما ان رأينه حتى اندفعن مغادرات يصحبهمن الغمز و اللمز و الضحكات المستترة ..و المزيد من الزغاريد .. صاحبتهن نعمة في خروجهن و نزلت معهن حتى تترك العروس بصحبة العريس امام النساء ليتم اكتمال المسرحية حتى النهاية ..

وقفت بدور مرتبكة لا تعرف ما عليها فعله هل تبقى قليلا حتى التأكد من رحيل النساء او ترحل الان وفورا من أمامه.!؟..
  فهى المرة الأولى التي تجد نفسها معه وحيدين .. وهي معه وبصحبته تكاد تذوب خجلاً و حياءً ..
تقدم منها  في هدوء و كلما تقدم خطوة زاد وجيب قلبها أضعافا حتى توقف أمامها مباشرة و همس في ثبات و بنبرة رجولية تعشقها :- مبرووك ..
رفعت رأسها محاولة تصنع الثبات :- مبرووك على ايه ..!؟.. انت عارف اللى فيها يا سى زكريا ..

ابتسم للمرة الأولى منذ وعته عيناها و هو يهمس مؤكدا :- ما هو عشان انى عارف اللى فيها بجولك مبرووك ..
نظرت اليه مستفسرة في تعجب وابتسامته تزداد اتساعا و تزيده وسامة و محبة الى قلبها الذى يئن الان شوقاً يكاد يدميه ..
همس مستطرداً :- انا جلتها جدام الناس كلها .. و الشادر اللى تحت دِه كان لفرحنا .. الجواز اصله الاشهار مش ورجة .. و الناس كلها عرفت خلاص انك مرتى .. عشان كِده بجولك مبروك .. وهو ده اللى فيها يا مرتى ..

فغرت فاها غير مصدقة ما يقول .. ألهذا طاوعها ابوها و تركها تقول ما تريد ..!؟..  
هتفت متحدية أياه :- برضك لا .. مفيش كتاب اتكتب .. و لا ورق رسمي يقول انى مراتك ..
يبقى لا و الف لا ..

ابتسم وهو يقترب منها مشاكساً :- مين جال كِده ..!؟.. انا و الحاج وهيب كتبنا الكتاب لما الشيخ حسنين كان هنا وكان محضر كل حاجة على الإمضا و لما دخلت نعمة تمضيكى في اوضتك و الحريم بره  مجدرتيش تجولى لا .. و مضيتى .. و بكده بجيتى مرتى رسمي...
شهقت و هي تبتعد عنه متقهقرة للخلف في ذعر غير مصدقة انها بالفعل أضحت زوجته
لكنها استعادت ثباتها فجاة وهى تهتف :- الجوازة باطلة لانها مش بموافقتى ..
جذبها زكريا اليه مشاغبا :- طب و اللى يخليكى توافجى ..!؟..

شهقت وهى ترى نفسها مصطدمة بصدره الصلب .. نظرت اليه في صدمة غير مصدقة ما يحدث معها .. البارحة كانت تتمنى ان يتطلع فقط اليها و يرفع نظراته المسبلة دوما تجاه الأرض ناحيتها ولو للحظة و اليوم هاهى بين احضانه ينظر اليها ملأ العين و يشاكسها بتلك النظرات التي غابت فيهما كما يغيب قمر خلف الغيوم ..

انتفض كلاهما و ابتعدت هي عنه عندما أتاهما صوت نعمة من الدور السفلى تنادى بدور التي ما ان سمعت النداء حتى اندفعت ملبية و كأنه جاءها نجدة من السماء ليبعدها عن طوفان المشاعر الذى كانت تعيشه مع ذاك الصعيدى الذى يدفعها للجنون ..

هبطت في عجالة حتى ما ان طالعتها نعمة حتى دفعت اليها بصينية طعام ممتلئة و مغطاه هتفت بها وهى تغمز لها ضاحكة :- خدى ياختى عشاكم ..
تناولت بدور الصينية في صمت وهى لم تستفيق بعد من صدمة ما حدث بالأعلى وصعدت بها في تردد وقدماها تترنح .. و أخيرا ما ان دلفت لمدخل السطح حتى تركت الصينية ارضا هاتفة في عجالة :- عشاك يا سى زكريا ..

و اندفعت تهبط الدرج في سرعة و كأن الشياطين تتعقبها وضحكاته الخشنة تتبعها و كل ما يجول بخاطرها ان لا قبل لها لمواجهة ذاك الرجل الذى تملك قلبها منذ طالعته عينيها...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة