قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثاني بقلم رضوى جاويش الفصل التاسع

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثاني رضوى جاويش

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثاني بقلم رضوى جاويش ( موال التوهة والوجع ) الفصل التاسع

انتفض زكريا على صوت باب غرفة العمليات يُفتح لتطل منه بدور على سرير مدولب مدفوعة خارج الغرفة و بيد احدى الممرضات لفافة صغيرة تحمل فيها طفلهما حازم.. دفعته الممرضة بين ذراعى زكريا منتظرة ما يجود به عليها فرحة بقدوم المولود لكنه كان في عالم اخر.. فعيونه تلحق بدور و الى أين تتجه..

حتى انه لم ينتبه لكلام الممرضة و لا حتى ألقى نظرة واحدة على ذاك الضيف الجديد الذى أتى للعالم بعد سنوات من الانتظار و الامل..
سار يتبع بدور و أوقف السرير ينظر اليها في اضطراب رغبة في التأكد انها بخير.. نادى باسمها.. لتفتح جفونها المذابلة في إرهاق تبتسم في إعياء هامسة: - انا كويسة يا سى زكريا.. انا تمام..

زفر في راحة و اندفع بها الممرضون لداخل القسم النسائى و الذى يمنع على الرجال التواجد بداخله.. فحملت تهانى حازم من بين يدىّ زكريا و توجهت بِه لداخل القسم مؤكدة لزكريا انها ستعتنى بهما: - انا هبيت معاها جوه و هخلى بالى من حازم متقلقش..
شكرها زكريا ممتناً هاتفاً: - تشكرى يا ست تهانى.. و انا هجعد هنا مش هتحرك.. لو عوزتوا حاچة انى موچود..

أومأت برأسها و دخلت القسم بجوار بدور و الذى كان عبارة عن عنبر ملئ بالآسرة البيضاء التي تكتظ بالمريضات و ذويهن من النساء أيضا..
هتفت زهرة متصنعة الحنق و هي تخلص ولدها مهران البالغ من العمر عامين من بين كفى باسل الذى يبلغ ضعف عمره تقريبا: - تعالى بقى يا سهام.. شوفى صرفة في ابنك ده..

قهقهت سهام ببطنها المنتفخ أمامها هاتفة: - ماله ولدى.. !!؟..راچل و سيد الرچالة..
هتفت زهرة من جديد و هي تحمل مهران الباكى بين ذراعيها: - يعنى مش شيفاه و شايفة عمايله.. ميحلالوش الضرب الا في مهران.. لكن سندس.. شغال لها حارس خصوصى.. ده حتى محرم مهران يقرب منها..

قهقهت سهام من جديد: - طب و اعمله ايه طييب.. ولدى بتاع حريم..بس يمكن ربنا يهديه بعد ما ياچيله اخ و لا أخت..اهو يدور الضرب فيه و يحل عن مهران...
قهقهت زهرة: - يا مسهل.. أو يمكن العكس.. اللى جاى يخلص حق مهران من ابنك..
اومأت سهام برأسها إيجابا هاتفة: - على جولك.. يوضع سره في اضعف خلجه..

هتفت زهرة و هي تعاود النظر لسندس و باسل و اللذان يلعبان بانسجام عجيب.. و باسل يتبعها في كل خطواتها حتى انها اندفعت خارج الحجرة التي كانوا يتجمعون بها في الأعلى امام التلفاز ليخرج وراءها تابعا لها كظلها..
على عكس المعتاد كانت تلك الشرفة البعيدة في اخر الرواق مفتوحة لتدخل بعض من نسمات الهواء في هذا الجو الشديد الحرارة كانت دوما ما تجذب هذه الشرفة فضول مهران و سندس لذا كانت زهرة حريصة على اغلاقها دوما..

ما ان رأت سندس شرفتها التى يدفعها الفضول لدخولها مفتوحة حتى اندفعت اليها في سعادة.. كانت شرفة واسعة لا يوجد فيها اى نوع من المقاعد أو الطاولات نظرا لعدم استخدامها من الأساس و لكن كان السبب الأساسى لاغلاق زهرة لها هو ذاك الفراغ الواسع الموجود بين سُوَر الشرفة و قاعدته
كانت تلك الفجوة يمكن ان تمرر طفلا متوسط الحجم و كان المنظر مغريا من الأعلى لتندفع سندس في شغف لاستطلاعه من خلال تلك الفجوة.. مدت رأسها الصغير و بدأت في دفع جسدها من خلالها حتى اضحى جسدها كله تقريبا في الخارج و ما ان كانت على وشك السقوط حتى اندفع تجاهها باسل يمسك بطرف حذائها و يتشبث بقدمها الصغيرة بين كفيه الصغيرين محاولا جذبها للداخل مرة أخرى..

صرخ باسل باسمها عدة مرات.. و لكن للأسف لم تصل صرخاته لزهرة أو سهام اللتان اندمجتا في الحديث دون وعى بغياب سندس و باسل المريب بجانب صوت التلفاز المرتفع على اغان للأطفال حجبت عنهما نداءات باسل المفزوعة.. لكن من ادرك تلك الصرخات كان عاصم الذى كان يدخل من باب السراىّ متوجها لداخلها فألتقطت أذنه صراخ ابن اخته باسم ابنته بهذا الشكل المذعور ليلتفت حوله مستكشفا من أين تأتى تلك النداءات الملتاعة حتى تنبه اخيراً لمصدرها بالأعلى.. شهق في ذعر عندما رأى جسد ابنته متدل بهذا الشكل ليصرخ هاتفا مستدعيا سعيد الذى حضر شاهقا بدوره عندما لمح سندس على هذا الوضع.. صرخ فيه عاصم أمرا: - تعال اوجف مكانى عشان لو حصل حاچة لا قدر الله تستلجاها.. و انا هطلع ألحجها من فوج..

اندفع عاصم لداخل السراىّ في جنون ملقيا عصاه و عباءته خلفه و مندفعا للطابق الثانى حيث الشرفة والتي وصلها اخيراً وهو يندفع بطول الردهة مارا بالحجرة التي تجمع سهام و زهرة..و اللتان انتفضتا ما لمحا عاصم يندفع بهذا الشكل لوجهة غير معلومة بالنسبة لهما و خاصة مع ادراكهما المتأخر لغياب سندس و مهران..لحقتا به..

ليصل هو و يرى باسل يبكى ممسكا بقدم سندس و معظم جسدها متدلى من ذاك الفراغ و قد بدأت تشعر بالتهديد فأخذت بالبكاء هي الأخرى..
كادت زهرة تفقد وعيها ذعرا على طفلتها و كذلك سهام التي استندت على الحائط تستمد منه القوة حتى لا تسقط جراء فزعها بحملها الذى كانت تنوء بثقله قدميها خاصة في تلك اللحظة..

استطاع عاصم جذب جسد سندس ببطء و اخراجها من ذاك الفراغ في سُوَر الشرفة و اخيراً ضمها لصدره و هو يحاول ان يهدئ من روعها و خاصة مع ارتفاع وتيرة بكائها سقطت زهرة على ركبتيها في إعياء بعد ان تأكدت ان ابنتها بخير.. و التي تركت أحضان ابيها مندفعة لتلقى بنفسها بين ذراعى أمها تكمل بكاءها.. تلقتها زهرة بين ذراعيها تضمها بقوة لا تصدق ان ابنتها نجت من موت محقق..

نهض باسل و هو ينتحب مندفع لأمه متعلقا بعباءتها مداريا وجهه الباكى بين طياتها ليجذبه عاصم اليه رابتا على ظهره مقبلا إياه حتى كف عن البكاء و بدأ يستعيد هدوءه..
نهض عاصم في هدوء مخيف ينظر لزهرة و سهام بغضب مكبوت لو انفجر لأحرق الأخضر و اليابس و اخيراً تركهما و اندفع لحجرته و أغلق بابها خلفه في شكل عاصف .. تاركا كلتاهما تزدرد ريقها في صعوبة من جراء نظراته.. و تنتفض من جراء إغلاق الباب بهذا الشكل..
 
هتفت تهانى و هي تشير لزكريا ليأتى في سرعة.. اقترب زكريا بسرعة هاتفاً في قلق: - خير يا ست تهانى..!؟؟..
أكدت في همس: - تعال.. بدور عيزاك ضرورى..
هم بأن يسألها كيف يتسنى له الدخول.. فقاطعته هامسة: - متقلقش.. انا ظبطت الممرضة المسؤولة عن العنبر بقرشين..

خش بسرعة و أنجز.. هي في اخر سرير في الاوضة على الشمال.. و انا هقف هنا اتابع اللى جاى لحسن الدكتور يجى على فجأة..
أكد زكريا و اندفع مطأطأ الرأس.. يغض بصره حتى وصل لفراش بدور التي اندفع اليه في لهفة يطوق كفها الممدودة اليه بين كفيه..
هتف في لهفة مجيبا نداءها:- نعم يا بدور.. انت كويسة!؟؟..

أومأت مؤكدة في وهن: - الحمد لله يا سى زكريا..
و نظرت لولدها المسجى بجوارها على الفراش يغط في نوم عميق.. لتهمس بفرحة تحاول ان تدارى بها ذاك التعب الذى يعتريها:- شفت حازم يا سى زكريا.. نسخة منك..
ابتسم زكريا و القلق يتأكله على محياها الشاحب ليهمس ناهضاً:- انا هبعت لك الداكتور يشوفك..

تمسكت اكثر بكفه هاتفة: - لااا.. خليك معايا يا سى زكريا الشوية دوول.. متبعدش..
انحنى زكريا ملثما جبينها و هو يحاول السيطرة على بريق عينيه الذى يظهر تأثره بمرأها الشاحب..
لتستطرد هي في عفوية: - مش انا شفت ابويا يا سى زكريا..!؟؟..

انتفض زكريا في ذعر حقيقى عندما ذكرت بدور ابيها الحاج وهيب رحمة الله عليه و لجمت الصدمة لسانه لتكمل في تعب متنهدة تلتقط أنفاسها: - شفته و انا بولد.. رحت من التعب شوية كِده محستش بروحى.. لقيته جاى و نفسه يشوفنى.. و خدنى في حضنه..
نفسى اشوفه قووى يا سى زكريا.. وحشنى بجد..

هتف زكريا في عجالة: - و لا يتوحشك اليوم يا بدور..
هتفت فى عدم فهم لتلك الكلمة التي يقولها الصعايدة عادة عند ذكر وحشة الحى للمتوفى درأً للفأل السئ: - يعنى ايه..!؟..
هتف: - يعنى انت لازماً الداكتور يشوفك دلوجت.. و حالا عشان يطمنى عليكِ..
هتفت وهى تحسه على الاقتراب منها جالسا على حافة فراشها: - قرب يا سى زكريا..
و ابتسمت محاولة مشاكسته: - عايزة اقولك سر..

جلس على طرف الفراش مقربا رأسه من وجهها لتهمس في عشق: - انا بحبكِ قووى يا سى زكريا.. خدنى في حضنك و متفتنيش..
لم يستطع زكريا ان يرفض طلبها و هي على هذه الحالة ليرفع الجزء الأعلى من جسدها عن الفراش يضمها لصدره و هو يتنهد في
اضطراب و يلف ذراعيه حولها و كأنه يحاول ان يتشرب وهنها و وجعها بين أضلعه ليبعده عنها..

همست بالقرب من مسامعه: - هاتنسانى يا سى زكريا.. افتكرنى.. افتكر بدور..اللى محبتش حد في الدنيا قدك..
ارتجف زكريا لكلماتها يبعدها قليلا عن صدره ناظراً لعينيها ليرى نظرات زابلة لم يعهدها على محياها.. وضع كفه على الفراش يحاول إرجاعها لوضعها الأول و الإسراع بمناداة الطبيب لتنزلق كفه على لزوجة ما على الشرشيف ليرفع كفه فاغرا فاه لمرأى الدماء تغرقه ليتنبه لتلك البقعة الضخمة حول بدور..

و قد حجبها الغطاء عن ناظريه..انها تنزف و لا احد يدرى..
تركها مندفعا خارج العنبر كالمجنون ينادى على الأطباء ليأتى احدهم لانقاذها..
اضطرب المشفى لصرخاته.. و بالفعل جاء الطبيب ليؤكد ضرورة نقل بدور لغرفة العمليات من جديد لوقف ذاك النزيف الدامى.. خرجت على نفس السرير الذى دخلت عليه للعنبر منذ ساعات قليلة.. و هي في طريقها لغرفة العمليات هتفت بأقصى صوت استطاعت إخراجه تجاه زكريا الذى كان يجرى بجوار فراشها المدولب: - خلى بالك على حازم يا سى زكريا..

و انغلق الباب خلفها ليُترك وحيدا يموت الف مرة خوفا و هلعا عليها.. ليمر الوقت كحد سكين يقتطع من صبره و جلده.. و اخيراً خرج الطبيب من غرفة العمليات منكس الرأس هاتفاً في حزن: - البقاء لله.. حاولنا نعمل اللى علينا بس دى إرادة ربنا.. شدوا حيلكم..
انفجرت تهانى شاهقة في بكاء مرير و هي تحتضن حازم بين ذراعيها و بكى غندور بدموع صامتة.. اما هو زكريا..فلم يبكى.. كيف يبكى..!؟.. و يبكى من..!؟..

يبكيها ام يبكى حاله..!؟.. فهو قد مات معها.. فاضت روحه مع روحها.. الان هو يقف بلا روح.. تمثال شمعى لا حياة فيه.. تحرك بآلية باتجاه غرفة العمليات ينظر للجسد المسجى من خلف زجاج الحجرة ثم يدفع الباب ليدخل لا يعرف كيف طاوعته قدماه حتى وصل الى الفراش و رفع الشرشيف الأبيض الذى يغطى الوجه الطاهر الذى عشقه دوما.. ربت على خدها و هو يناديها.. لعلها تسمع.. لعلها تستجيب..

فهى ما تجاهلت نداءً له قط.. و دوما كانت ملبية قبل حتى ان يُكمل همسه بإسمها..
لم لا تطيع الان..!؟.. لما لا تلبى كما عودته دوما..!؟..
رفعها اليه يضمها و يعتصرها بين ذراعيه يتمنى لو يعطيها من روحه و يقتسم معها دقات قلبه..
دخل اليه غندور يحاول ان يهدئ من روعه هاتفاً في تجلد: - وحد الله يا سى كرم.. البقاء لله.. كلنا لها..
و ربت على كتف زكريا.. لكنه لم يستجيب..
هتف غندور باكيا: - اذكر الله..
كررها ثانية صارخاً: - اذكر الله يا سى زكريا.. اذكر الله..

تنبه زكريا فأعاد جسد بدور لموضعه الأول ممددا على الفراش يغطى وجهها ببطئ و هو يهتف بلسان متلجلج: - لا إله الا الله.. انا لله و انا اليه راچعون..انا لله و انا اليه راچعون..انا لله و انا اليه راچعون...
جذبه غندور بعيدا عن الجسد المسجى بضع خطوات لكن زكريا عاد اليها من جديد رافعا غطاء وجهها ليقبل جبينها القبلة الأخيرة..

و أعاد الغطاء على وجهها من جديد ليتبع غندور لكتابة اعلان الوفاة.. و تصريح الدفن..
و ما ان سأل الطبيب عن اسم المتوفية حتى قاطع زكريا غندور الذى هم بذكر اسمها المستعار الذى كانت معروفة به منذ أتت للإسكندرية متخفية و هتف بحزم: - اسمها.. بدور وهيب محمد..
ليفغر غندور فيه و ينظر الى زكريا في صدمة...

ثلاث ليال لم يخاطبها بحرف.. لم ينظر اليها حتى.. هذا كثير.. هي تعلم انها مخطئة و انها اهملت في رعاية سندس.. لكن هذا عقاب اكثر من موجع..و لم يسبق لها ان جربت مرارته.. فهما أبدا لم يفترقا عن بعضهما بهذا الشكل على الرغم انهما يعيشا في نفس المكان و يبيتا ليلتهما في نفس الغرفة لكنه لا ينطق بحرف و لا يوجه لها حديثا و لا حتى يرد على اى من استفساراتها التي تتحجج بمعرفة إجابتها فقط لتتجاذب معه أطراف الحديث ليعود لطبيعته من جديد..

لم يعد لديها القدرة لاحتمال هجره اكثر من هذا..و لا قبل لها لتحمل مثل هذا العذاب..
نهضت عندما شعرت به ينهض من جوارها متوجها للحمام.. اندفعت لمشغل الاغانى و ما ان شعرت بقرب خروجه حتى ضغطت على ذر التشغيل ليصدح صوت شادية متأسفا:-معلش النوبة دى عشان خاطري معلشى.. و سامحنى النوبة دى..عشان خاطري..
 سامحنى...

لا ينكر انه تفاجأ بصوت الأغنية الصادحة من جهاز التسجيل عندما خرج متجهما من الحمام و على الرغم من انه بدأ يستشعر اللين تجاهها داخليا الا انه لم يظهر ذلك على قسمات وجهه التي ظلت على نفس حالتها من التجهم..

اندفع يلتقط جلبابه من المشجب لتسرع هي بإحضاره و مساعدته في ارتدائه و هي تنظر اليه في شوق كاد يدفعه ليأخذها بين ذراعيه و خاصة و الاغنية تشدو في عتاب: - من امتى بخاصمك من امتى ده الْيَوْمَ في خصامك بسنين..
ارتدى ملابسه و جلس يرتدى حذاءه و اخيراً توجه للمرآة يضع عمامته و عباءته و هو يراقبها محاولا وأد ابتسامة تحاول القفز على شفتيه و هو يراها تدور حوله في الغرفة محاولة استرضاءه قدر استطاعتها..

اقتربت منه لتضم ظهره اليها ليتصلب في محاولة للسيطرة على اختلاجة قلبه لقربها القاهر..
همست في شوق باسمه: - عاصم..
لتستطرد في نبرة معاتبة: - مش كفاية كده.!؟
استدار ليواجهها واضعا كفيه على عضديها هامسا بعتب مماثل: - أنتِ عارفة يا زهرة لولا ستر ربنا ووچود الواد باسل ماسك في رچل بتك كان ممكن ايه اللى يُحصل..!؟..كان..

انتفضت..ووضعت كفها على فمه تمنعه من الاسترسال.. شعر هو بارتجافة جسدها تحت كفيه و اخيراً.. اندفعت الدموع من عينيها هاتفة في ذعر: - متفكرنيش يا عاصم.. انا من ساعة اللى حصل و انا مش بنام كل ما اتخيل ايه اللى كان ممكن يحصل ساعتها..
و شهقت في لوعة فطوقها بذراعيه مشفقا عليها لائما نفسه لقسوته عليها الأيام الماضية و خاصة عندما ادرك قدر تعذيب الذات و لوم النفس الذى عاشته...

قبل جبينها في محبة هامسا: - الحمد لله.. حُصل خير..و العيال كبروا و بجت حركتهم كَتيرة و مش هاتجدرى عليهم لوحدك.. البت ابتهال أخت سعيد مش كانت بتاجى أوجات تساعدك .. انا هخليها تاجى كل يوم..
رفعت رأسها تطالع عينيه التي اشتاقت لنظراتهما هامسة: - يعنى خلاص مش زعلان منى..!؟..

همس لها مشاكسا و متغنيا بكلمات الاغنية: - من امتى بخاصمك من امتى..!؟.. ده الْيَوْمَ في خصامك بسنين..
ابتسمت في سعادة هاتفة: - لا ده انت كنت مركز بقى..!؟..
قهقه هاتفا: - فكرينى أزعل كَتير طالما في كل مرة هتصلحينى كِده..
انفجرت ضاحكة و هي تخبئ وجهها في احضانه منتشية...

لم يستطع احد ان يثنيه عن عزمه في اصطحاب جسد بدور الى مثواها الأخير و دفنها بجوار والدها الحاج وهيب.. فلم تفلح توسلات تهانى و لا تحذيرات غندور من عواقب تسرعه و دفعه لتعديل رأيه و ظهر تمسكه بكل ما أنتواه مدى صلابة رأسه الصعيدى..حتى انه كتب شهادة وفاتها باسمها الحقيقى لا بذاك الاسم المستعار الذى كانت معروفة به في الإسكندرية..

و أخيرا انصاع غندور لمشيئته فجهزسيارة لنقل زكريا و طفله و الجثمان للقاهرة حتى تُدفن بجوار ابيها.. فيما اعتبره زكريا وصيتها الأخيرة غير عابئ بالمخاطر التي تحيق به جراء قراره الصارم..
وصلت السيارة حيث المدافن و كان في استقبالها بعض من رجال و نساء الحارة منهم نعمة بعباءتها السوداء و دموعها الذابلة من البكاء كمدا على الاب و ابنته الشابة التي لحقت به و التي كانت تعتبرها اخت لها..

و المعلم خميس اللول الذى ما ان رأى السيارة تقترب حتى اندفع حيث توقفت يفتح الباب يتلقف الطفل من بين يدىّ زكريا دافعا به لنعمة التى تلقفته بدورها كقطعة غالية لا تقدر بثمن تدسه بين ذراعيها و تضمه لصدرها في لوعة و أخيرا جذب المعلم خميس زكريا من مقعده هاتفاً به ينبهه و يخرجه من صدمته التي لم يستفق منها بعد:- وحد الله يا زكريا..

اومأ زكريا براسه في تأكيد و هو يهمس بان لا اله الا الله.. و يخرج من السيارة محاولا التماسك قدر استطاعته وهو يتوجه لمكان الصندوق الخشبي الذى يحمل جثمانها الطاهر توجه عدد من الرجال من بينهم عم طايع بائع البطيخ و صبى المعلم خميس و غيرهم لحمل الجثمان و ما ان تقدموا عدة خطوات من بوابة المدفن حتى ظهرت سرينة سيارة الشرطة تنعق في رتابة..

خرج الضابط مسرعا من السيارة الميرى التي توقفت بالقرب من مكان وقفة الرجال حاملى النعش و الذى كان يتقدمهم زكريا واقفا في لامبالاة بوجه جليدي لا يحمل اى رد فعل يذكر و كأن الامر لا يعنيه..
اندفع المعلم خميس من موضعه أسفل النعش متوجها ناحية الضابط و همس بالقرب منه: - يا باشا الموت ليه حرمته.. و الراجل بيدفن مراته.. يعنى الرحمة حلوة..

هتف الضابط: - الله يرحمها..بس انا بنفذ الحكم الصادر ..
هتف المعلم خميس: - و احنا معترضناش يا باشا.. ده شغلك.. بس الراجل يدفن مراته و ياخد عزاها تحت عنيكم و يبقى تحت امركم بعد كده..
تنهد الضابط بعدم اقتناع لكن مع الجو العام الذى عمه الأنين الصادر من جهة النساء و الصمت المطبق من جهة الرجال وافق الضابط بإيماءة من راسه جعلت خميس يهتف له شاكرا و يعود لموضعه الأول حاملا النعش و الضابط يشير لرجاله يمنة و يسارا ليطوقوا المكان خشية هروب زكريا مرة أخرى..

تمت صلاة الجنازة على روحها و فُتح النعش الذى يحمل جثمانها.. صرخ زكريا في الرجال الذين تطوعوا لحملها لمثواها الأخير
اشفاقا عليه.. تراجع الجميع لصراخه فما كان له ان يدع رجلا يمس جسدها الطاهر او يحملها حتى ولو جثة بلا روح ..
رفع جثمانها و نزل به حيث مثواها الأخير في ثبات لا يصدق..

حتى ان بعض الرجال بكوا لصلابته التي كانت مجرد صلابة خارجية.. فمن منهم لم يفقد عزيزا كانت صدمته الأولى لفقده جعلته في مثل حالة زكريا من الذهول و التيه..
حتى يستفيق على انهار من الدموع بعد بعض الوقت عندما يبدأ استشعار مرارة الفقد و ألمه هبط زكريا تلك السلالم التي توصله لغرف الدفن ليدخل احداها المخصصة للنساء و ينحنى واضعا أياها و ينهض ليغادر لكن قدماه لا تطاوعه و مرأى جسدها يخبره انها غادرت بغير رجعة.. غادرت و لن ينعم بقربها و حنانها مرة أخرى..

و أخيرا طفقت الدموع من عينيه بشهقات لا إرادية تجرح صدره وهى تصعد بلهيب حارق و لم ينتبه الا و صوت ينادى باسمه دافعا أياه لينهض في تثاقل صاعداً تاركا روحه و قد غادرته للأبد.. هامسا في لوعة: - مع السلامة يا روح زكريا..

وقف زكريا في مقدمة ذاك الصِوان الذى شغل عرض الحارة كله امام بيت الحاج وهيب رحمه الله يتلقى العزاء في زوجته الراحلة بيد تمتد بألية و عين تائهة النظرة و قلب فارغ و روح ما عادت تسكنه.. فقد تركها هناك حيث وارى جسدها الطاهر..

مرت ساعات وفى فيها ضابط تنفيذ الأحكام فيها بوعده و ها هو يتقلب في توتر على كرسيه و ينظر الى ساعته في ضيق..
و أخيرا و بعد ان فاض به الكيل نهض ليحيط بزكريا هو ورجاله ليعلو نحيب النسوة من الشرفات و النوافذ و هن يتابعن الحدث الجلل و تندفع نعمة هاتفة في زكريا قبل ان يغيب عن ناظريها: - سى زكريا.. !!؟؟..

ألتفت لها و قد تنبه لوجود ولده بين ذراعيها تقدم في بطء باتجاهه و أخذه بين ذراعيه فربما تكون المرة الأخيرة..يتلمس فيه رائحة امه الغالية و يستودعه الله و هو يضعه بين ذراعى نعمة من جديد هامساً: - اسمه حازم.. الغالية اختارتهوله.. خلى بالك منه يا ست نعمة و عزيه زى ما كنتِ بتعزى امه و چده.. هو أمانة في رجبتكِ لحد لما ربنا يأذن لى بالفرچ من عِنده..

هتفت بصوت متحشرج اجهده البكاء و النحيب: - في عينى يا سى زكريا.. ده من ريحة الغاليين.. متحملش هم و ربك هيهونها جذبه العساكر ليدفعوا به للصندوق الخلفى لسيارة الشرطة و المعلم خميس خلفه هاتفاً: - هاجيلك الصبح و معايا اكبر محامى..ربنا معاك..

اومأ زكريا و لم ينطق بحرف.. فماذا عليه ان يقول..!!؟.. و لمن..!؟.. فهو فوض أمره لله.. و من كانت يبثها نجواه و شكواه و تهون عليه ظلم العالم و سواده قد رحلت مخلفة وراءها جسد بلا روح يدعى زكريا الهوارى..

صرخت بخيتة في ذعر منتفضة من نومها: - ولدى.. زكريا ولدى..اطلجوه.. هملوه لحاله..
انتفضت كسبانة بدورها على تلك الصرخات التي وصل صداها لغرفتها هي وحمزة الملاصقة لغرفة بخيتة.. لتنهض مهرولة اليها هاتفة في لوعة: - خبر ايه يا خالتى..!!؟.. خير ان شاء الله..!؟..

مدت كسبانة كفها بكوب الماء من الطاولة القريبة باتجاه بخيتة لتشرب منه لعلها تهدأ من ذاك الكابوس الذى يلازمها من ليلتين تقريبا..
تنهدت بخيتة بعد عدة رشفات و هي تعتذر لكسبانة: - جلجتك يا بتى زى كل ليلة..
همست كسبانة: - و لا جلج و لا حاچة يا خالتى.. انا كنت فايجة مع حمزة.. مغلبنى و مرضيش ينام..

طل حمزة من خلف الباب الموارب قليلا برأسه مما دفع بخيتة للابتسام و هي تشير اليه بالاقتراب ليتقدم اليها مسرعا لتتلقفه كسبانة بين ذراعيها و تضعه في أحضان بخيتة..لعلها تلتهى به عن حلمها المتكرر عن زكريا.. لكن كسبانة نفسها يقتلها الفضول لتعلم ماهية ذاك الحلم..
فهتف: - ألا يا خالتى.. فيه ايه المنام اللى عتشوفيه بجالك ليلتين و يجومك من نومتك كِده..!؟..

تنهدت بخيتة في حزن: - زكريا يا بتى.. زكريا في ضيجة كبيرة.. انى حاسة..
تنهدت كسبانة: - سى زكريا بجاله اكتر من سنتين متصلش و لا سمعنا صوته يا خالتى..
دِه معناته انه بخير.. مش عاصم بيه جالنا كِده..!!؟.. حتى راح زار اهل بيته و جال لمرته تاجى تجعد معانا لحد ما ربنا يفرچها عليه.. و اهى من ساعتها لا سألت و لا جالت انتوا فيين..!؟..

تنهدت بخيتة: - كل واحد و عذره معاه يا بتى.. محدش عارف هي ايه حالها..ربنا يفرچها على الكل..
زفرت كسبانة بضيق و هتفت: - ياارب.. يسهلها على عبيده..
ثم نهضت حاملة حمزة من بين ذراعى بخيتة و قد راح في نوم عميق هاتفة محاولة إخراجها من حزنها: - انتِ بتعمليله إيه الواد دِه عشان ينام.. ده انا بجالى ساعتين بنيم فيه و مفيشى فايدة ياجى دجتين بين دراعاتك يا خالتى ينام.. و الله منتش هينة يا بخيتة..

ابتسمت بخيتة في شجن.. لتربت كسبانة على كتفها في مودة و تنحنى تقبل هامتها هامسة: -نامى يا خالتى.. و باذن الله هنسمع اخبار زينة عن سى زكريا..
تمددت بخيتة على فراشها و جذبت على نفسها الغطاء لترحل كسبانة بعد ان أطفأت نور الحجرة تاركة بخيتة تتذكر كيف رأت زكريا مقيدا بسلاسل من حديد من أطرافه يجتذبها أشخاص مجهولين لا تعرفهم و هو يحاول المقاومة و لم شتات نفسه لكن لا فائدة ترجى فتنهض هاتفة بإسمه مذعورة..

وصلت عربة الترحيلات امام السجن لينزل منها المرحلون و منهم زكريا الذى نظر لبوابة السجن الخشبية الضخمة و التي تنفرج للداخل عبر باب خشبى مستطيل الشكل بالكاد يُمكن شخص بالغ من المرور عبره و التي تعلوها عبارة.. السجن تهذيب و إصلاح.. هل هو فعلا يحتاج لذاك التهذيب و تحتاج نفسه لهذا الإصلاح.. !!؟..

دخل عبر تلك البوابة الصغيرة التي أنحنى قليلا بهامته ليعبرها.. سلم كل ما له علاقة بعالمه الخارجي و استلم بدلة السجن الزرقاء
مر بكم من الخطوات و الإجراءات كان يؤديها و هو أشبه بالغافل عما يجرى حوله..
كان ينفذ الأوامر الملقاة له بألية عجيبة حتى وجد نفسه ملقى في احد العنابر بصحبة الصول جابر كما سمعهم ينادونه.. أشار جابر على أحد الآسرة هاتفاً: - ده سريرك يا زكريا..

توجه اليه زكريا في صمت يضع عليه تلك البطانية الحقيرة التي سلموه أياها.. كان سريره هو السرير الأسفل من ضمن سرير بطابقين كما باقى آسرة العنبر..
حل الصمت على العنبر ككل حتى رحل الصول جابر.. و ما ان أُغلق الباب.. حتى سادت الهمهمات و الهمسات على ذلك الذى دخل بصحبة الصول جابر و لم ينبس بحرف واحد بل تمدد على فراشه مغمض العينين لا يبالى بما حوله او بمن حوله..

حتى انه نسى اهم القواعد الواجب اتباعها و هي التعريف عن نفسه و تقديم فروض الولاء و الطاعة لسيد العنبر و مساعديه..و الذى تقدم منه احدهم هاتفاً بصوت جهورى: - احنا هنعذرك عشان متعرفش الأصول.. بس لو متعرفهاش.. نعرفهالك..
فتح زكريا عينيه عندما تناهى لمسامعه ذاك الصوت القبيح متسائلا بتعجب: - انت بتكلمنى انى..!؟..
هتف صاحب الصوت الجهورى المدعو سلومة: - ايه ده..!؟.. الجدع طلع صعيدى..

طب ده المفروض بتفهم الأصول.. و عارف ان كل مكان و له ريسه و لا ايه..!؟..
هتف زكريا في ضيق: - يعنى عايز ايه من الاخر.. انا مطيجش روحى..!؟؟..
جذب سلومة زكريا من كتف قميصه هاتفاً: - لما تكلمنى تقوم تقف و تتكلم بأدب.. و لو متربتش و اتعلمت الادب احنا نعلمهولك..

دفع زكريا يد سلومة من على كتفه في حنق و لم يبادله أي رد بل تجاهله تماما و عاد من جديد ليتمدد على فراشه و الذى قبل ان يمسه كان سلومة دافعا أياه من فوقه ليقع زكريا من الجانب الاخر وسط الهرج و المرج الذى بدأ يسود داخل العنبر و ضحكات المساجين المتهكمة على سقوطه..

نهض زكريا في هدوء مخيف و استدار باتجاه سلومة و ما ان اقترب منه حتى همس و هو يجذب راس سلومة بكفه من خلف عنقه لينطح بها جبينه: - الادب.. ده اخر حاچة تعرفها يا خفيف عشان تعلمهالى..
صرخ سلومة متأوها و هي يضع كفيه على جبهته بعد ان نال صدمة قوية من تلك الراس الصعيدية اليابسة..

دفع زكريا بسلومة بعيدا عن فراشه و عاد ليتمدد عليه من جديد وسط تلك الصرخات المشجعة و التهليل طلبا للمزيد من الشجار لكن كل ذلك انتهى في لحظة ما ان أشار احد المساجين والذى ما كان الا الذراع الأخرى لكبير العنبر و من يأتمر بأمره الجميع والذى كان يتابع تلك المسرحية التي دفع سلومة لتمثيلها على زكريا كما يفعل مع كل مسجون جديد حتى يستشف مدى قوته و مدى إمكانية السيطرة عليه و تطويعه في خدمة طلباته..

هنا نهض المعلم سيد كبير العنبر متجها نحو سرير زكريا و الجميع صامتا في ترقب لما سيسفر عنه اللقاء..
هتف المعلم سيد وهو يقف في مواجهة سرير زكريا: - مرحب بيك يا زكريا في عنبر المعلم سيد..
فتح زكريا عينيه من جديد ليطالعه جسد ضخم و وجهه اسمر بشارب رفيع لا يتفق إطلاقا و ذاك الوجه او تلك البنية..

هتف حمادة الذراع اليمنى للمعلم سيد معرفا أياه لزكريا: - ده المعلم سيد.. كبير العنبر و اللى كلنا هنا تحت طوعه و عايشين من خيره..
نهض زكريا من فراشه هاتفاً: - اهلا يا معلم سيد..
سأل المعلم سيد في فضول: - هو انت هنا بتهمة ايه يا زكريا..!؟..
هتف زكريا في عجالة: - جتل يا معلم سيد..تأبيدة..
هتف المعلم سيد مهللاً: - الله اكبر.. تعجبنى يا صعيدى.. اكيد تار..
هتف زكريا نافيا: - لاااه يا معلم..

و نظر لسلومة الذى كان لايزل يتأوه متألماً و استطرد في ضيق: - ده واحد كان شايف حاله و حب يعلمنى الادب.. فجلنا نربوه..
قهقه المعلم سيد منتشياً و هو يربت على كتف زكريا: - عفارم عليك يا صعيدى.. دمك حامى صحيح.. تعجبنى..
و نهض هاتفاً في صبيانه: - العنبر غداه النهاردة على حسابى حلاوة تشريف زكريا..
ابتسم زكريا هاتفاً: - يا معلم هو الحلاوة دى بتبجى للدخول و لا للخروچ بالسلامة..!!؟..

انفجر المعلم سيد مقهقها وهاتفاً: - الاتنين يا صعيدى.. خلى المساجين تفرح..
ابتسم زكريا و هو يرى الجميع يحييه ويهلل في سعادة.. و لما لا..!؟.. فهو تميمة سعدهم و التي هبطت عليهم وجعلت المعلم سيد كبير عنبرهم يجود عليهم بخيراته..

تناول المساجين طعامهم في عنبر المعلم سيد حتى امتلأت بطونهم و حتى الصولات و الشاويشية طالهم من النعيم جانب.. فالمعلم سيد كعادته لا ينساهم فهو معروف بكرمه الواسع...و لما لا..!؟.. و هو يعد واحد من اكبر مستوردى اللحم المجمد و المُصنع..

كان في الأصل مجرد جزار.. لكن من جراء الصفقات المشبوهة اصبح من اكبر تجار اللحوم.. و ما أتى به الا احدى تلك الصفقات التي أحكمت الشرطة فيها الأدلة التي تدينه هذه المرة فلم يستطع الإفلات و دفع احد من رجاله لحمل القضية برمتها كعادته في كل قضية سابقة..
هتف المعلم سيد وهو يربت على كتف زكريا هاتفاً: - استنى بقى لما نتسلطن..

اخرج من جيبه علبة من السجائر دفع بإحداها لزكريا الذى فكر ان يرفض بأدب..لكنه تناول من العلبة سجارة متظاهرا بانه سيدخنها فيما بعد ووضعها في جيب سترته..
ليهتف المعلم سيد: - هو فين الواد سنجأ..!!..
هتف صوت جهورى لشاب في أواخر العشرينات تقريبا من احد الأركان رافعا كفه مؤكدا مكانه: - انى هنا يا معلم..

أمره المعلم سيد: - قوم يا واد سمعنا حاجة من اللى بتقرفنا بيهم.. نوُح يا خويا نوُح..
انفجر الجميع ضاحكين ليهتف سنجأ في ضيق و بلهجة صعيدية لا يخالجها الشك دفعت زكريا للانتباه للشاب الأسمر متوسط الطول الذى برز من بين المساجين: - بجى كِده يا معلم.. غنايا بجى نواح.. !!؟..
هتف المعلم سيد من بين قهقهاته: - خلاص ياخوى هاتعمل لنا فيها فنان.. غنى من سكات و حاجة فرايحى عشان الراجل اللى لسه مشرفنا جديد ده.. مش عايزين نسود عيشته من أولها..

هتف زكريا للشاب الواقف فى ضيق محاولا جبر خاطره: - غنى اللى انت عاوزه يا سنچأ.. انى راضى..
انفرجت اسارير سنجأ و بدأ يشدو في سعادة و بصوت ساحر:-
فى دايرة الرحلة طرج بينا تخلا
آه يا حبيب عمري وصحبتي وجمري
عيون مره تباعد..خطاوي مره تعاند
حنين چوانا يحكي..

وشوج چوانا يبكي
والدمع ساچية كبت
فى دايرة الرحلة طرق بينا تخلا
ليه يا سنين العمر ترضي لنا بالمر
ده لولا فينا صبر لهان علينا العمر
فى دايرة الرحلة ايامنا على المولى
رحلة يا رحلة ياصعبة يا سهلة
رحالة خطوتنا فى دايرة الرحلة
فى دايرة الرحلة طرج بينا تخلا.

المساجين بما فيهم المعلم سيد كانوا يضحكون على حركات سنجأ التي كان يقلد فيها ذاك المغنى الأسمر المشهور صاحب الاغنية و لم ينتبه احدهم ان تلك الكلمات التي يغنيها سنجأ بذاك الصوت الساحر تنكأ جراح لازالت حية بقلب زكريا وروحه..

ساد الصمت للحظات بعد ان انهى سنجأ شدوه و توجهت كل الوجوة باتجاه زكريا في انتظار تقييمه لصوت مطربهم.. تمالك زكريا شتات نفسه و دفن أحزانه كما اعتاد دوما في أعماق روحه و بصوت مصطنع يغلب عليه نبرة المزاح هتف في سنجأ: - و الله المعلم سيد عِنده حج.. جلبت علينا المواچع يا فجرى..
انفجر الجميع مقهقهين.. و انقلب المعلم سيد على ظهره من شدة قهقهاته و هو يرى زمجرة سنجأ المعترضة.. و يربت على كتف زكريا في حبور...

تسلل ذاك الظل القاتم لداخل الدار على الرغم من وجود الخفيرين اللذان وضعهما عاصم لحماية دار زكريا..
و تسحب حتى وصل لحجرة كسبانة في هدوء ليقترب من فراشها وهو يتطلع لجسدها المسجى على الفراش في رغبة هامسا في نفسه: - لساتها حلوة بت الكلاف..

اقترب من وجهها يتطلع لملامحها الناعسة التي بدأ يتذكرها بعد تلك السنوات لتنتفض هي عندما شعرت بأنفاسه الحارة تضرب عنقها هاتفة و هي تضم غطاء الفراش لجسدها في ذعر: - مين..!؟.. انت مين..!؟
همس و هو يقترب منها: - لحجتى تنسينى.. نسيتى أبو ولدك يا كسبانة..!؟..

هتفت في ذعر وهو يرفع اللثام عن وجهه لتظهر ملامحه التي تبغضها فتهتف شاهقة باسمه: - سليم..!!..
انكمشت من جديد لطرف الفراش غير مصدقة انه هنا بعد كل تلك السنوات.. بعد ان ظنت انها تخلصت منه و من كل ما يذكرها به.. لكن هاهو يظهر من جديد ليحيي كل تلك الكوابيس و العذابات التي رأتها بالقرب منه..

نظر اليها متفرسا فيها من رأسها حتى اخمص قدميها ليزداد أقترابا منها متمتما بصوت تملؤه الرغبة: - لساكِ زى ما انت.. متغيرتيش.. كنى فُتك عشية..
و دفع كفيه ليقبضا على كتفيها البضتين الا انها كانت الأسرع حيث اندفعت للجهة الأخرى من الفراش هاربة منه.. لكنه لحقها ليمسك بذراعها واضعا كفه على فمها كاتما صرخاتها التي ما همت باخراجها حتى كانت كفه هي الأسبق لإسكاتها..

جذبها من جديد دافعا إياها على الفراش في قسوة هامسا بصوت يشبه الفحيح: - انتِ لساتك مرتى.. و لا نسيتى.. يعنى حجى فيكِ هخده.. بخطرك أو بالغصب.. متفرجش معاى.. و انتِ خابرة كلامى زين.. و لا نسيتى..!؟..

تذكرت كيف كان يعاملها منذ اللحظة الأولى لزواجهما الذى قبلت به غصبا لتخلص نفسها و اَهلها من بطشه و جبروته..و تقطعت أنفاسها في ذعر وهى تتذكر كيف كانت تتوسل اليه الا يقربها الا ان تمنعها كان يشعل نار رغبته اكثر لينتهكها في وحشية ثم يلقى بها خارج فراشه كخرقة بالية..

بدأت ترتجف و هو ينحني على وجهها يقترب منها ليلثمها و اخيراً تأتى رحمة الله من السماء في صرخة عاصم الهادرة التي دفعت به بعيدا عنها لتجذب هي غطاء الفراش حول جسدها و تتراجع لأحد أركان الغرفة تنتفض غير مصدقة انها نجت من بين يديه يكاد دوار رأسها يفقدها وعيها و شعورها القاتل بالغثيان يسيطر عليها بشكل غير طبيعى..

اندفع عاصم لسليم الذى ارتجف من طلته فقد كان الغول على حق في تلك اللحظة و الذى قبض على مقدمة جلباب سليم في غضب صارخا فيه وهو يهزه أمرا:- طلجها.. أرمى اليمين عليها دلوجت..
لم يكن سليم بقادر حتى على الاعتراض امام مظهر عاصم و غضبه الهادر لذا هتف متوجها بانظاره نحو كسبانة التي لازالت على ارتجافاتها في ركن الغرفة: - انتِ طالج..

هتف عاصم دون ان يستدير لكسبانة: - سبينا دلوجت لحالنا يا أم حمزة و روحى لولدك..
اندفعت كسبانة لخارج الغرفة مسرعة في اتجاه غرفة بخيتة و التي لحسن الحظ أصرت الليلة الماضية على نوم حمزة بجوارها..
ما ان خرجت كسبانة و أغلقت الباب خلفها حتى بدأ عاصم في جذب مقدمة جلباب سليم في غضب بركان هادر عاود إطلاق حممه هاتفا: -اسوى ايه فيك اكتر من رميك بره النچع كيف الكلب الأچرب..!؟.. اجتلك و اخلص منيك و أتعير بيك العمر كله و انت متستاهلش..!؟.. اسوى فيك ايه..!؟.. جولى...

دفع عاصم سليم ليرتطم ظهره بالحائط خلفه ليتأوه في ألم و عاصم يزفر في ضيق..
و اخيراً ما ان هدأت نفسه حتى عاود النظر لسليم في اشمئزاز من جديد:- بص.. هي نوبة تانى زى دى تكسر فيها كلمتى.. و اقسم بالله.. ما ليك عِندى لا حج جرابة ولا دم.. و انى بنفسى اللى هبلغ الحَكومة عنيك..

انا سايبك بخطرى هربان منيهم بس لو ليا غرض هچيبك تحت رچلى في دجيجة..و أسلمك ليهم.. و انت تعرف انى أجدر و هعملها عن جريب لو كسرت كلمتى و نزلت النچع من تانى.. و صرخ اخيراً هاتفا بصوت أشبه بهدير الرعد جعل سليم ينتفض فزعا.. ساااااامع.. !!!!...

ليومئ سليم برأسه مؤكدا في عجالة ليهمس عاصم بالقرب منه: - يبجى تنفذ..
ليندفع سليم خارج الحجرة و منها لخارج الدار في عجالة.. و كأن شياطين الجحيم تتعقبه...
تنحنح عاصم وهو يخرج من الحجرة ليقابل كسبانة التي تسترت بعباءتها و غطاء رأسها
و بجوارها تجلس بخيتة تحمل حمزة الذى ازدادت وتيرة بكاءه بسبب صوت الشجار..

هتف عاصم غاضا بصره: - مبروك على الطلاج يا أم حمزة.. خلاص.. انسيه الموضوع دِه.. و سليم عمره ما هيجرب
هنا تانى.. بس اللى حُصل ده نخليه بناتنا
تمام..!؟..
هتفت كسبانة مؤكدة: - تمام يا عاصم بيه..
ربنا يبارك لك و يخليك لينا..

هتف عاصم: - الشكر لله.. و لخالة بخيتة لولا هي اللى سمعته و شيعتلى واحد من الغفيرين اللى زى جلتهم بره دوول.. محدش عارف سليم بجنانه كان ممكن
يسوى ايه !؟.
استأذن عاصم مغادرا لتندفع كسبانة تحتمى بذراعى بخيتة تشهق باكية بعد كل تلك الأحداث التي مرت بها الليلة..لتربت بخيتة على رأسها تطيب خاطرها هاتفة: - أحمدى ربك يا بتى.. لولا ولدك بكى و جمت اجيب له يشرب مكنتش سمعت سليم وهو عِندك..

الحمد لله..
جذبت كسبانة طفلها لاحضانها من بين ذراعى بخيتة تضمه في امتنان و هي لا تصدق انها تخلصت من الكابوس المسمى سليم.. و أصبحت اخيراً حرة..

كانت فترة الراحة فخرج الجميع الى فناء السجن مدفوعا برغبة في الحصول على بعض الهواء النقى و الشمس الدافئة بعيد عن جو العنبر الخانق..
سار زكريا وحيدا مبتعداً عن تجمعات المساجين المعتادة او حتى جلسات المعلم سيد في مكانه المعتاد و التي غادرها متسللا راغبا في الوحدة و الاختلاء بنفسه قليلا..

مر أكثر من شهر على مجيئه الى هنا و لا يعلم متى سيخرج.. شعر بوحشة عجيبة..
فقد مر ذاك الشهر وهو لم يرى ملامحها و لا عادت جواره.. شعر بنفس المشاعر الخانقة التي كانت تعتريه في الإسكندرية قبل قدومها اليه.. لكن الان.. هو يعلم انها لن تأتى.. يعلم انه حتى ولو خرج من هنا..

لن يجدها بانتظاره.. لن يستمع الى صوتها
يداعب أذنيه عند الاستيقاظ و لا همهماتها باحضانه في ذاك الفراش الضيق الذى كان يجمعهما متلاحمين.. انه يفتقدها حد الوجع..
لو يعلم ان سجنه كل تلك المدة كفيل باعادتها
لحياته من جديد لهانت عليه أعوام السجن و لياليه الطويلة ثمنا لمطلب غال كذلك..
لكن هي رحلت.. غادرت بلا عودة..

تذكر كلماتها الأخيرة و التي همست بها قبل ان تختفى خلف باب غرفة العمليات توصيه فيها بابنهما حازم..
دمعت عيناه عندما تذكر ولده الذى لم يتذكر حتى ملامحه.. فما كان هناك وقت ساعتها ليتملى في وجهه الصغير ليحفظ تلك الملامح
و لا ينساها..
ربت سنجأ على كتف زكريا مخرجا أياه من شروده و أفكاره ليهمس متعاطفا: - كله هيهون يا زكريا.. سلمها للمولى..
همس زكريا بصوت متحشرج: - و نعم بالله..

هتف زكريا محاولا الخروج من حزنه: - مجلتليش يا سنجأ انت منين في الصعيد..!؟.
هتف سنجأ بلامبالاة: - من كل البلاد يا هوارى..
ابتسم زكريا متسائلا: - كيف يعنى..!؟..

ابتسم سنجأ ابتسامة محرجة هاتفاً: - واحد واد حرام.. ميعرفش ابوه..و امه كانت غازية في الموالد..هيبجى منين يعنى..!؟..
البلد اللى فيها رزجك او حبيبك.. هي بلدك يا هوارى..

ربت زكريا على كتفه و هو يشعر بألم سنجأ و يستشعر بعضه.. فقد عاش زمن طويل من عمره لا يعرف له أبا و حتى عندما علم لم يجرؤ على البوح باسمه او حتى وضع اسمه العريق خلف اسمه المتواضع فهو بن بخيتة تلك الفتاة الفقيرة ابنة مراكبى المعدية
كيف يمكن ان يقترن اسم ولدها باسم سليل اكبر العائلات..

هتف زكريا باسماً: - بس انت حسك (صوتك ) حلو جووى.. و لا عبدالحليم في زمانه..
انفجر سنجأ مهللا في فرحة: - واااه يا واد عمى.. العندليب نوبة واحدة.. !!؟.. ربنا يچبر بخاطرك يا زكريا.. ليستطرد مغيرا الموضوع هاتفاً: - بس معجول يا زكريا تهمتك الجتل.. انا مصدجش.. يعنى انى اعملها لكن انت لاااه..
ابتسم زكريا متسائلا: - يعنى انت على كِده جتلت..!؟..

أكد سنجأ بنبرة معتزة:- أيووه.. جتلت چوز أمى المفترى.. جتلت و انا بدافع عنى و عنيها و هو اللى بداها.. روحت جايب رجبته.. و لا كنت ههمله لما يجتلنا وهو كان شارب و شادد حيله علينا.. و اهاا.. خدت فيه سبع سنين اللى ما يسوى دِه عدى منيهم أربع سنين تجريبا..
و ربنا يسهل علينا الباجى..
ربت زكريا على كتفه في تعاطف هامساً بنبرة متضرعة: - يااارب..

سافر عاصم للقاهرة مدفوعا باتصال المعلم خميس و الذى اخبره بكل ما حدث مع زكريا
من وفاة زوجته و ظهوره لدفنها و قبض الشرطة عليه لينفذ الحكم الذى صدر ضده غيابيا.. أكد عاصم رغبته في زيارة بن عمه و اصطحاب ولده حازم معه للبلد ليكون تحت رعاية ام زكريا..

لم يستطع المعلم خميس إثناءه عن القدوم و ها هو يهل بطلته المميزة يقترب من مقهى المعلم خميس و الذى رحب به هاتفاً: - مرحب بابن عم الغالى.. ازيك يا عاصم بيه..!؟..
هتف عاصم وهو يجلس على احد المقاعد يلتقط أنفاسه متعجلا المعلم خميس:- الحمد لله يا معلم خميس.. بخير بس هم يا معلم.. عايز اروح أزور زكريا.. و تعالى معايا عشان اخد ولده.. احنا أولى بيه و بربايته..

هتف خميس و هو يشير لصبيه بجلب الشاي:- اهدى بس و خد نفسك يا عاصم بيه
.. انا المحامى جالى من كام يوم و هو اللى جاب لى الجواب ده من زكريا و طلب فيه ابلغك بكل اللى حصل.. بس هو ليه عندك طلبين
هتف عاصم مقاطعا: - طب ما انا واخد اذن بالزيارة و هشوفه و يجولى اللى هو رايده لو كان لبن العصفور هچبهوله..
هتف المعلم خميس محرجا: - ما هو ده طلبه الأول..!؟..
تعجب عاصم مستفسرًا:- طلب ايه..!؟..

تنحنح خميس محرجا: - الزيارة.. مش عايزك تزوره.. صعبان عليه نفسه و حاله.. و مش عايزك تشوفه في الموقف ده..
صمت عاصم للحظات و لم يعقب ليستطرد المعلم خميس: - و الطلب التانى.. حازم ولده.. مش عايز يتربى في البلد.. عايزه يفضل هنا..
هنا هتف عاصم حانقاً: - كيف يعنى..!؟.. يعنى نسيب ولدنا يتربى على يد الأغراب و احنا اهله و عزوته ملناش صالح و لا عازة!؟؟...

هتف المعلم خميس مهدئا عاصم: - محناش اغراب قووى يا عاصم بيه.. احنا برضة اهل زكريا و ناسه يوم ما كان عايش وسطينا هنا..
تحرج عاصم هاتفا:- انا مجصدش يا معلم انتوا على عينا و راسنا.. بس برضك.. دِه ولدنا..
هتف المعلم خميس وهو يستحث عاصم على ارتشاف الشاي: - يا عاصم بيه.. هو مش عايز حازم يتربى في البلد و يتعير هناك بأبوه اللى خرج من البلد حالف يرجع لها رافع راسه و في الاخر اتهموه بجريمة معملهاش و يشيله العار..

زكريا قالى بالحرف.. قول لعاصم واد عمى لما يجيك ان زكريا مش عايز ولده يدوق نفس المرار اللى هو داقه بسبب اسم ابوه..
تنهد عاصم في ضيق ليستطرد خميس: - معلش يا عاصم بيه.. ما على الرسول الا البلاغ.. و دى طلباته..و انت ادرى بزكريا و نشفيه دماغه..
هز عاصم رأسه موافقا خميس و أشار على المعلم خميس ليصطحبه حتى نعمة التي أصبحت تقطن بيت الحاج وهيب وحيدة مع حازم الذى ملأ حياتها بعد ان ظنت انها أصبحت خاوية لا قيمة لها..

ليرى عاصم بن زكريا و يترك له ما يكفى ويفيض من نقود تكفل ليُقدم للطفل افضل رعاية معتصرا قلبه حتى يستطيع ان يتركه و لا يصطحبه معه للنجع تماشيا مع رغبة زكريا مؤكدا على المعلم خميس الاتصال به اذا ما جدت اى اخبار بخصوص زكريا..مع الحرص على إرسال مبلغ مالى كل شهر من اجل رعاية حازم..

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة