قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثالث بقلم رضوى جاويش الفصل العاشر

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثالث رضوى جاويش

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثالث (رباب النوح والبوح) بقلم رضوى جاويش الفصل العاشر

دخل عاصم حجرته المعتمة و ما ان استدار مغلقا الباب خلفه ضاغطا ذر الإضاءة حتى تفاجئ بزهرة تجلس فى طرف الحجرة على احد المقاعد تبكى و هو الذى ظن انها سبقته للنوم على غير عادتها ..
اندفع فى قلق هاتفا :- ايه فيه يا زهرة!؟..

مسحت دموعها و هى تنهض فى تكاسل هاتفة فى نبرة منكسرة :- مفيش يا عاصم .. هروح احضر لك العشا .. تلاقيك جعاا..
قاطعها عاصم هاتفا :- مش چعان و مش واكل الا لما اعرف ايه فيه خلاكى تبكى كِده ..!؟..

انحدرت دموعها من جديد هاتفة بصوت متحشرج و هى تعاود الجلوس مرة اخرى على كرسيها :- مهران يا عاصم .. عاجبك حاله ..!؟.. من يوم موضوع الراجل اللى ضربه بالنار ده و هو مش مهران .. مهران اتبدل .. و ازداد نحيبها هاتفة .. اتبدل بواحد تانى .. تايه عن الدنيا و مش عارفة ماله و لا ايه اللى ف راسه .. حتى جناح جوازه اللى كان بيشتغل فيه بأيده من كتر لهفته على تجهيزه بسرعة مبقاش حتى بيطل عليه و لا بيدخله من اساسه و لا حتى فكر يجيب العمال يكملوا شغل فيه ..

تنهد عاصم و هو يقترب منها مربتا على كتفها فى حنو و هتف بحسرة :- صدجتى ف كل كلمة .. انى شايف كل اللى انتِ واعية له دِه بس معرفش ايه فى ..!؟.. الموضوع خلص على خير الحمد لله .. يبجى ليه اللى بيحصل دِه.. !؟..انى مش لاجى سبب ..

عم الصمت للحظات و اخيرا هتف عاصم كمن وجد حلا لمعضلة :- تاهت و لجيناها .. مفيش غير الچواز اللى هيخرچه م اللى هو فيه دِه .. احنا مش كنّا متفجين مع حسام اول ما تخلص اوضتهم هنفرش و نكتب على طوول و لا فى فرح و لا يحزنون .. مش ولدك كان متفج معاهم انه هيولم يوم كتب الكتاب و ياخد عروسته بزفة من بيت ابوها و خلاص على كِده .. يبجى الليلة سهلة اهى .. من بكرة أبعت اجيب العمال تخلص الاوضة و نفرشوها و هكلم حسام و نظبط الليلة على اول الشهر باْذن الله .. ايه جولك!؟...

تلهفت زهرة قائلة :- يا ريت يا عاصم .. يا ريت .. اذا كان ده اللى هيخرجه م اللى هو فيه  .. يبقى نعجل بجوازهم و نفرحه ..
تنهد عاصم فى راحة و هو ينهض من مجلسه جوار زهرة واضعا عصاه فى مكانها المعتاد هاتفا فى عزم :- باذن الله كله هايبجى تمام .. انا هكلم حسام و خير البر عاجله .. و ربنا يسعدهم..

كان حمزة يجلس على تلك الأرجوحة التى تقبع فى احد أركان الحديقة و التى يقطنها الان مع عمه زكريا وولديه حازم و هدير..
و بناء على طلبه لم يرضى ابدا بالبقاء داخل الفيلا حتى لا يقيد حرية ساكنيها و خاصة هدير ..
فأصر على عمه ليبقيه فى الجناح الملحق بالفيلا و المخصص عادة للضيوف و لكن هذا بالفعل ما أرضاه و أشعره ببعض الاستقلالية و الراحة.

تنهد فى عمق مستنشقا القدر الكاف من نسيم الليل البارد الذى ينعش روحه و بدأ يترنح فى هدوء بتلك الأرجوحة التى تذكره بأرجوحته التى صنعها من احد اطارات السيارات و علقها فى فرع الشجرة العتيقة المتاخمة لدار عمه زكريا حيث ولد و نشأ ..

ابتسم للذكرى و هلت على انفاسه تلك الروائح التى كان يعبق بها جو النجع فى تلك الأمسيات اللطيفة من الصيف و التى كانت من النادر الحصول عليها فى جو الصعيد الحار ..
انتفض فجأة عندما سمع خطوات تقترب .. انتبه الى المكان الذى تاتى منه تلك الخطوات فى حذر و اخيرا شهق بصوت مسموع عندما رأها ..
الا يوجد رادع لتلك الفتاة ابدا ..!؟..

انه يكاد يقسم الان انه على استعاد لوأدها كما كان يفعل العرب فى الجاهلية نظير لما يراها ترتديه الان
و هى تقف فى الحديقة برداء كهذا بكل حرية..
اندفع متنحنحا فى غضب ظاهر
هاتفاً :- انتِ ايه اللى منزلك من أوضتك الساعة دى ..!؟..

هتفت بغيظ مماثل :- مكنتش اعرف انى لازم اخد منك الإذن قبل ما انزل جنينة ڤيلاتنا.. !!؟؟..
ضغط على اسنانه حانقاً و هو يدير نظراته فى كل الاتجاهات بإستثناء اتجاهها و خاصة و هى تقف أمامه بتلك المنامة التى تتكون من قطعتين العليا تكشف بلا حياء و السفلى لا تستر ما يجب ستره ..
و اخيرا همس :- عارفة يا هدير لو مطلعتيش أوضتك حلاً .. هعمل فيكِ ايه ..!؟..

بدل من ان تخاف و تصعد لغرفتها دون جدال هتفت فى لهجة فضولية :- ايه .. هاا ايه!؟؟..
ضم قبضته فى حنق محاولا السيطرة على أعصابه حتى لا ينفلت عقالها :- هديكى كف و الله لتكشى اكتر ما انتِ كاشة .. و هتبجى شبه لبيسة الجلم الچاف.. اخرك اعلجك فى چيب جميصى ..

بدل من ان تغضب .. انفجرت ضاحكة لتشبيهه هاتفة :-تصدق هبقى كيوت خالص ..و هبقى شايفة الدنيا كلها كده من فوق بدل ما ان قزعة .. و الأهم بقى انى هبقى قريبة من قلبك و اعرف الاخ ده معمول من ايه ..!؟.. الله يكون فى عونك يا تسبيح .. انا عارفة مستحملاك على ايه ..!؟؟..
عند هذه النقطة و خاصة عند ذكرها لقلبه و شؤونه و تذكيره بتسبيح التى أهمل الاتصال بها منذ فترة كل هذا جعل غضبه يصل لذروته هاتفاً :- هدير.!؟..على فوج احسنلك .. جَبل ما حد يشوفك بالمنظر ده..

هتفت بغيظ متحدية :- و ان مطلعتش!؟...
اندفع و كل الغيظ و الغضب و الإحساس بالذنب يدفعه لفتح الصنبور الأرضى لرى الحديقة و يحمل الخرطوم المطاطي موجهه اليها ليندفع الماء باتجاهها مغرقها .. لتصرخ هى لثوان قبل ان تندفع لداخل الفيلا محتمية من المياه المندفعة باتجاهها .. و تندفع صاعدة غرفتها وهى تبكى قهرا و غيظا .. مِن ذاك الرجعى الاحمق و الذى لسوء حظها ..يكون بن عمها ..

اندفعت تسبيح لداخل حجرتها المشتركة مع اختها و التي يبدو ان الاخيرة ستغادرها أسرع مما توقعت و ستصبح لها وحدها وهتفت :- سمعتى اخر الاخبار يا تسنيم .. خالك عاصم جدم الفرح ..
انتفضت تسنيم هاتفة :- فرح مين اللى اتجدم !؟..
هتفت تسبيح :- هيكون فرح مين يعنى .. فرحى !؟.. اكيد فرحك انت و مهران ..

انتفضت تسنيم من موضعها تجوب الغرفة بأضطراب مما دفع تسبيح تهتف في فضول :- ايه في يا تسنيم!؟.. ده انا كنت فاكرة ان الخبر ده هيفرحك !؟..
لم تجب تسنيم بل ظلت على حالها المضطرب الذى دفع اختها لتستطرد فى تعجب :- مالك يا بنتى ..!؟.. المفروض تفرحى .. انا لولا ما عارفة انتِ بتحبى مهران ازاى كنت جلت انك مغصوبة ع الچوازة دى .. و كمان موضوع ضرب النار ده انتِ جولتيلى خلص على خير برغم انى مش مصدجة و لا انتِ حكيتى تفاصيل و حالك يوميها مكنش بيجول كده ..

بس لو مهران شاكك ف حاچة من ساعتها كان هيفكر يتم الفرح و بسرعة كمان..!؟.. إنتوا الاتنين ملخبطين عقلى ..انا هروح لمهران و اجوله ان الراچل اللى كان چاى يجابلك كان جاصدنى انى مش انتِ..ما هو انا مش هجعد ساكتة و انا شايفة اللى بينكم ده !؟.. و الأدهى انى السبب ... لازما مهران يعرف ان ملكيش ذنب من اساسه ..

صرخت تسنيم موبخة :- اياكِ .. و استطردت كاذبة :- مهران اصلا ميعرفش اى حاچة عن موضوع السى دى ده .. انا خدته م الراچل و خفيته .. مهران ضرب الراچل لما لجيه واجف معايا و بيحاول يجل أدبه .. هتروحى تفضحى حالك جدامه بعد كل اللى عملناه ده عشان ندارى ع الفضايح !؟..

هتفت تسبيح صارخة بنبرة موجوعة:- و هو مين اللى خلاكى تروحى للراچل ده !؟.. مش انا .. و كان عشان خاطرى انا .. يبجى لازما اعرف مهران بكل حاچة ..
هتفت تسنيم من جديد بنبرة متحسرة تحمل وجع العالم :- و يعنى انتِ فاكرة لو جلتى لمهران هيصدج !؟.. هيجول دى چاية تشيل عن اختها التهمة .. خلينا ساكتين يا تسبيح بلاش نفتح على نفسنا سكك ملهاش لازمة ..

و ابتسمت فى شجن مستكملة :- و خلينا نتأملوا ف رحمة الشيخ مهران و حلمه ..
ابتسمت تسبيح مستطردة :- و حبه ..
صمتت تسنيم لفترة و لم تعقب على كلمة اختها وظلت على حالها من الصمت و هى تحاول استيعاب خبر تعجيل الزفاف بعد كل ما كان .. فقد كانت تتوقع إلغاء الزفاف في ايه لحظة و كانت تنتظر على حد سيف ان يُفتح باب حجرتها لتتلقى ذلك الخبر المشؤوم في اى وقت ..

اشفقت تسبيح على حال اختها التي تآكلها الصمت و القلق فنهضت تقترب منها و احتضنتها اليها في حنو هامسة بصوت داعم :- لو في حاچة يا تسنيم جوليلى .. انا اختك اللى مبتخبيش عليكِ حاچة .. انا حاسة بالذنب انى انا اللى ورطك ف موضوع البيت المهچور ده بس غصب عنى مكنش ليا غيرك اجوله و اشكيله ذى ما انا مستنية تجوليلى ايه فيكِ .. و منتيش فرحانة ذى اى عروسة ليه !؟.. مش ده مهران حبيب الجلب اللى كنتوا بتعدوا الأيام عشان يچمعكم بيت واحد!؟.. امال خبر ايه .. !؟.. لو تريحينى و تجولى فيكِ ايه !؟..

لم تستطع تسنيم كبت ما بداخلها من ألم اكثر من هذا و التظاهر بعكس القهر الذى يشملها فأنفجرت باكية في لوعة بين ذراعى اختها الصغيرة غير قادرة على البوح بما يعتمل بصدرها من وجع مر و لا تملك غير نوح قلبها على حب عمرها الذى يتسرب من بين حنايا الروح ..

تسلل صاعدا الدرج و هو يستمع لضحكات الفتيات و مشاغباتهن و صوت الموسيقى الصادح عاليا من باب شقة ابيه .. تنفس الصعداء عندما وصل للشقة العلوية او بالأدق شقته .. فها هو يفوز بها دون نادر اخيه الذى سيفاجأ بما يحدث ..فغداً سيعقد قرانه على شيماء و سيكون نادر هو احد الشاهدين على العقد كما اتفق مع ابيه فغداً كما علم من صديق اخيه ميعاد اجازة نادر الشهرية .. كم ستكون المفاجأة كبيرة عندما يدخل للحارة و يجد ذاك الصوان الكبير و قد نُصب لزفافه غدا .. !!..

دس كفه فى جيبه باحثا عن مفتاح الشقة و فتحها فى رهبة ممزوجة بالسعادة .. انها المرة الاولى التى سيدخلها بعد كل تلك التجهيزات التى قامت به امه و شيماء و بعض من صديقاتها من بنات الحارة .. لم يكن يراها تقريبا خلال الأيام الماضية الا لمحات قليلة فقد كان إعداد الشقة فى تلك الفترة الضيقة يأخذ وقتها بالكامل .. لكم يشتاقها..!؟.

دفع الباب فى حذّر على الرغم من علمه ان لا احد بالداخل لكن تلك الرهبة الداخلية لازالت تسيطر عليه كليا .. دخل متطلعا حوله فى وجل و جال ببصره فى جميع الأنحاء حتى وقعت عيناه على أبواب الغرف .. تساءل فى نفسه .. أيهما اختارته شيماء ليكون غرفتهما ..!؟..

ابتسم فى براءة و هو يمنى نفسه ان تكون الغرفة التى وقع عليها اختياره تكون هى اختيارها بالمثل.. اندفع اليها فى لهفة و ما ان فتحها حتى ادرك انه كان على حق .. كاد يقفز فرحا و تنبه لنفسه و هو فى ظل تلك الحالة التى لم تنتابه من قبل فقهقه حتى دمعت عيناه و دخل الحجرة فى قدسية يتطلع لكل ما فيها بإعجاب و كأنه يرى فيها جنة مصغرة على الارض..

النوافذ و الستائر و المقاعد و الخزائن و البسط و اخيرا الفراش و غطائه الحريرى الوردى .. تحسس بإجلال الغطاء و ابتسم لنفسه فى بلاهة .. و تطلع للفراش و أعمدته و وسائده المتناثرة و كأنه قطعة من النعيم ستجمعهما بعد ساعات تبدو له الان طويلة .. طويلة و كأنها الابدية  .. غدا ..!!!.. متى يأتى الغد ..!؟.. بل متى يأتى مساء الغد!؟..

بل متى ستأتى تلك اللحظة التى سيجدها فيها هنا فى تلك الحجرة معه وحيدين .!؟... وحينها .. انه لا يعلم ما سيحدث له حينها .. لكن كل ما يدركه الان انه سيخبرها.. نعم سيخبرها .. سيبوح لتلك الحمقاء الصغيرة  ويخبرها و هى ترتدى رداء عرسها الأبيض الملائكى كم يعشقها .. و كم يهواها قلبه منذ لحظة ان ضمها لصدره ابنة الثالثة و نطقت اسمه بأحرف متقطعة و هى تخرج لسانها بحرف الصاد بطريقة أفقدته فؤاده بلحظات وهو ذاك الطفل الذى ما كان يدرى ما كنه الهوى ..

تاه للحظات بجو الغرفة و تفاصيلها حتى تناهى لمسامعه شهقات بكاء قادمة من الردهة الخارجية للشقة .. تطلع فى حذّر خارج باب الحجرة الموارب قليلا ليراها تجلس على احدى الأرائك تبكى فى لوعة مزقته و تنبه ان تلك الضجة و الموسيقى الصاخبة قد توقفت بالأسفل تماما مما يعنى ان جميع الفتيات و نساء الحارة قد رحلن .. لكن ما الداعى لصعودها هنا فى تلك الساعة ..!؟..

قرر الظهور و كأنه كان هنا ليضع بعض الأغراض و تظاهر بصدمته لرؤيتها هاتفا :- شيماء ..!!.. فى ايه!؟.. و بتعيطى ليه كده !؟..
انتفضت فى ذهول لمرأه و اسكتت الصدمة نشيج بكائها تماما .. نهضت بعد لحظات فى عجالة هاتفة بصوت متحشرج و هى تزيل اثر الدموع عن خديها فى سرعة :- مفيش يا ناصر .. مفيش ..

همت بالاندفاع خارج الشقة ليستوقفها هو فى حزم :- استنى هنا .. فى ايه!؟..مش هاتنزلى من هنا الا لما تقوليلى مالك بالظبط ..
وضعت كفها على فمها تكتم شهقات بكاءها الحار و هى تجلس فى انهيار على الأريكة من جديد ..

تطلع اليها فى وجع لا يقل بأى حال من الأحوال عن وجعها بل ربما يزيد و قد ادرك ما يعتريها من حزن و ما ينثر روحها كشظايا موجوعة .. انه نسى او يحاول ان يتناسى تلك الحادثة و كأنها لم تكن .. لكن هى لم تنساها و لن تفعل .. لازالت تئن من جرح الوجيعة و مرارة الشعور بالخزى مع شعور مضاعف بالذنب تجاهه لانه فى اعتقادها تحمل نتيجة جريرتها كاملة .. ياللحمقاء ..!

استدار موليا لها ظهره غير قادر على التطلع اليها و هى بتلك الحالة و لا يندفع ليعتصرها بين ذراعيه رغبة فى ابعاد اشباح الخزى و الذنب التى تطاردها .. تمسك بقمة احد المقاعد المقابلة له يضغط عليها فى عنف يبثها رغبة كادت تقتله لمواساتها .. و اخيرا تنهد فى إشفاق على حالها و انتظر حتى هدأت تماما و همس بصوت مبحوح هادئ النبرات على غير العادة :- قومى انزلى تحت يا شيماء.. وافتكرى حاجة واحدة بس .. انا ناصر يا شيماء .. ناصر اللى مش ممكن هتندمى لحظة انك اديتيه ثقتك و أمنتيه على حياتك ..

للمرة الثانية تتوقف شهقات بكائها لكن ليس لمرأه هذه المرة بل لقوله الذى جعلها تتطلع اليه فى دهشة بعيون متسائلة دامعة جعلته يهتف صارخا رغما عنه غير قادر على مواجهتها :- قومى ياللاه .. اخلصى ..
انتفضت مندفعة لخارج الشقة تهرول هابطة الدرج لشقة خالها بينما تطلع هو الى موضع خروجها و همس لنفسه فى عشق :- بكرة يا شيماء .. بكرة ..

هعرفك ازاى تحبى ناصر زى ما بيحبك و اكتر ..
و هتف متضرعا فى لهفة :- امتى يجى بكرة !؟..
و اندفع خارج الشقة يلقى عليها نظرة اخيرة يزيلها بابتسامة أمل فى دنو ما كان يظنه مستحيلا.. و أغلق الباب خلفه و هرول لشقة ابيه فى انتظار الغد ..و على شفتيه تساؤل متلهف واحد .. أيها الغد متى تأتى ..!؟

تعالت الزغاريد حتى وصلت لذروتها عندما وصل العروسان لباب غرفتهما فتحت زهرة باب الغرفة المغلق فى سعادة واشارت لولدها العريس المتجهم ليحمل عروسه قبل ان تخط أقدامهما الغرفة ففعل حاملا أياها وهو يحاول جاهدا رسم ابتسامة على شفتيه..
دلف العروسان للغرفة فأسرعت زهرة بإغلاقها خلفهما وتعالت من جديد الزغاريد المبتهجة حد السماء ..

ظل مهران يحمل عروسه المنتفضة بين ذراعيه خجلاً  وما ان شعر بإبتعاد الجميع حتى دفعها من فوق ذراعيه فى خشونة لا تليق ابدا بالشيخ مهران الحنون..  دفعها عن ذراعيه كأنما يدفع عنه أدران نجسة .. كادت تسقط من هول مفاجأتها لكنها استطاعت استجماع شتات نفسها ووقفت فى ثبات اخيرا .. متعجبة هى تنظر من خلف تل خمارها الابيض تستطلع اخبار ذاك الجافى الذى رحل بعيد عنها فى أقصى اطراف الغرفة يصارع مشاعر شتى لا تعلم بها ولا تدرى كنهها لكنها تستشعرها من ذاك الإضطراب الباد عليه ومن صدره الذى يرتفع ويهبط فى سرعة وكأنما كان يعدو باقصى قوته دون توقف لإلتقاط الانفاس ..

تحركت فى هدوء وهى تهمس باسمه :- مهرا..
لم يدعها تكمل نطق اسمه الذى لطالما كان سماعه من بين شفتيها الطاهرتان حلم من احلام حياته .. لكن الان .. لا
..لا يرغب فى سماعه ..هتف فيها كاظما غيظه :- متنطجيش اسمى على لسانك .....اياااكِ..
انخرطت فجأة فى بكاء عاصف مكتوم الاهات فهتف مؤنبا :- بتبكى .!؟.. على ايه ولا ايه ..!؟؟.. على ثقة ابوكى وامك اللى ضيعتيها ولا على المصيبة اللى ارتكبتيها فى حج نفسك .. ولا على حج ربنا اللى ضيعتيه .. ولا على حجى انا اللى..

و توقف عند تلك النقطة ولم يسهب بل قطع كلامه لها وهو يكاد يقتلها غيظا ..
رفعت عيونها الدامعة اليه ولم تعقب بكلمة .. وتوقف نبض قلبه لثوان عندما طالعته تلك العيون الندية بدموع الندم .. انها تسنيم وستظل .. حب الطفولة والصبا .. و رغبة الشباب التى ما ان تحققت حتى أضحت الان فى تلك اللحظة سراب ..
ارتفع وجيب قلبه على نحو مفاجئ وقاوم رغبة ملحة حد اللامعقول فى ان يضمها اليه .. انه يحبها بل يعشقها
لكن ما حدث منها اذل كرامته وحطم كبرياءه الرجولية ..

كان لابد من مهرب من أسرها الأنثوى الذى بدأ يغشى عقله
عن التفكير السليم .. اندفع من امام محياها الباكى بشق الانفس .. و هتف جازا على اسنانه ساخرا:- كفاية عليكِ الباشا اللى كنتِ تعرفيه ..كان يستاهل للدرچة دى تخسرى كل دوول عشان خاطره !؟..
همست فى عدم تصديق :- أنا!؟
وازداد نحيبها ..

صرخ فى غضب :- ايوه انتِ .!؟.. وانتبه لنبرة صوته العالية فأخفضها فى ضيق مستطردا :-ايه .. لسه عايزة تمثلى دور الطاهرة الشريفة ..!؟.. مبجاش  لايج عليكِ..
ازدادت شهقات بكائها حتى وصل لذروته بأنات تمذق نياط قلبه ..
رغم كل القسوة التى تحملها كلماته كرصاصات موجهة لعمق روحها تتلقاها هى فى صمت غير قادرة على الإفصاح بكلمة.

ظلت تقف كتمثال شمعى بلا روح تنتظر حكمه فيها .. طالما تساءلت هل صدق بحق ما رأه و سمعه !؟ ..و ها هى  اتهاماته القاسية لها الان تجيب عن هذا السؤال بكل وضوح .. لقد اكتفى بما رأه بعينيه و سمعته أذنيه  ولم يكن بحاجة للمزيد ..كانت تمنى نفسها بأنه سيقدر .. سيتفهم .. حتى يسألها عما حدث .. ينتظر تفسيرها لكنه لم يفعل ..
سألت بصوت متحشرج لازال يحمل اثر بكاء :- ليه اتچوزتنى!؟...

هتف ساخراً :- مش محتاچة سؤال.. عشان ارتبطت مع ابوكِ واخوكِ بكلمة رچالة وطلبتك منيهم جبل ما اعرف مصايبك ...و عشان خاطر ابوكِ وامك اللى ما يستهلوش ان يركبهم العار بسببك ..عشان خاطر باسل اللى ممكن يجتلك ويروح فيكِ .. وعشان أحچم فچرك ..
انتفضت من هول الكلمة ووقعها على مسامعها .. وهى الصوامة القوامة التى ما مسها رجل قط .. ولا اطلع منها على اكثر مما يسمح به شرع الله .. لقد حرمت على نفسها مصافحة الرجال حتى لا يمسها كف رجل خلاف كفه هو ..

الان أصبحت فاجرة فى نظره يبأى الاقتراب منها كأنها نجسة .. وينأى عنها وكأنها رجس من عمل شيطان
همست فى نفسها .. لقد ظلملتنى يا شيخ مهران .. لكن ..صبرا جميلا .. والله المستعان على ما تصفون ..
استكمل حديثه فى تثاقل .. وبنبرة تحمل حزن العالم مجتمع فى احرف :- انتِ من الليلة .. متحرمة على حرمانية امى لحد ما ياجى الوجت المناسب .. وصمت لحظات قبل ان يستطرد .. وكل واحد يروح لحاله ..

واندفع للحمام واغلق بابه وراءه فى عنف أجفلها وطفقت دموع عينيها من جديد .. بينما وقف هو داخل الحمام يستند على اطراف حوض المياه كأنما يستمد منه قوة وهمية ..
فتح صنبور المياه يقذف بالمياه لوجهه فى غضب وثورة ..
لكن ذاك لم يكن كاف ليهدأ بركان غضبه الذى تتقافز حممه ..

اندفع كالمحموم داخل المغطس وهو لا يزل بكامل ملابسه وفتح المياه بكل قوتها تندفع على رأسه الذى يمور بالافكار .. وجسده الثائر رغبة فى تلك الفاسقة هناك .. والتى لم تدافع عن نفسها او تدفع عنها جريمتها فى حق كل من يحبوها ..
وهو أولهم .. ذاك العاشق الذائب فيها .. المقتول فى هواها ..الراغب فيها حد اللانهاية .. الزاهد فيها حد اللامعقول ..

انه يموت ويحيا الف مرة .. و اسباب موته .. وأسباب حياته بيدها وحدها .. اسند رأسه المتثاقلة بالخواطر على حائط المغطس الرخامى لعل ملمسه البارد يخفف من لهيب رأسه المحموم .. وصرخ من اعماق روحه بدعاء لا صوت له .. يااارب ..

أعلن سكرتير حمزة بفرع القاهرة الذى وصله صباحا من الإسكندرية وصول رئيس مجلس إدارة شركات العشماوي جروب و التي استقر عليها الاختيار لمشاركة مجموعة الهوارى ذاك المشروع الضخم المزمع إنشاءه في قلب الصعيد و الذى سيكون حمزة المسؤول عن تنفيذه بأعتباره رئيس فرع شركات الهوارى هناك ..

انتفض حمزة معدلا من هندام سترته و هو يندفع في اتجاه باب قاعة الاجتماعات الكبرى التي فضل الانتظار فيها حتى وصول ذاك الشريك المزعوم ..
طل سيد العشماوي من باب القاعة متوجها لحمزة و على وجه كل منهما علامات تعجب كبرى فكل منهما كان يظن الاخر اكبر سنا بكثير .. فسيد لا يكبر حمزة الا بمقدار سنتين او ثلاثة على الأكثرو كان الأسبق لتأكيد الملاحظة هو سيد الذى هتف متعجبا و هو يضع كفه في قلب كف حمزة بثقة عالية :- اهلًا باشمهندس حمزة .. اتوقعتك اكبر من كده بكتير ..

ابتسم حمزة في ود :- و انى كمان كنت فاكرك ف سن عمى زكريا ..
ضحك سيد في دبلوماسية هاتفا :- ده فال خير ان المشروع يمسكه الشباب اكيد فكرنا هايبقى متقارب كتير .. و لا ايه يا باشمهندس ..!؟..
اكد حمزة بإيماءة من رأسه :- اكيد يا باشمهندس سيد .. اكيد ..

و أشار بكفه لطاولة الاجتماعات الضخمة ليجلس كل منهما على احد جانبيها و امامه اسم شركته و الكثير من الأوراق ..و تبدأ المباحثات فيما يخص المشروع و ميزانيته و العائد منه و هنا هتف سيد في لهجة عملية تعاكس تماما تلك اللهجة الودودة التي بدأ بها حديثه مما جعل حمزة يدرك ان هذا الرجل لا يعبث و انه رجل اعمال من الطراز الأول قادر تماما على الفصل في لحظات ما بين الإجواء الاجتماعية و أجواء العمل و متطلباته :- انا بقترح زيارة لأرض المشروع يا باشمهندس حمزة ..يناسبك امتى !؟..

هتف حمزة في ثقة :- اى وجت تحدده هتلاجينى سابجك على هناك عشان اسهل لك الأمور ..
هتف سيد في راحة :- تمام .. مش بقولك هنرتاح سوا ..
و ابتسم ابتسامة صفراء ظهرت على وجهه فأنقبض لها قلب حمزة الا ان سيد استطاع بمهارة كبيرة إخفاء تلك البسمة القاتمة على شفتيه ليحل محلها ابتسامة أخرى ندية بددت اثر سابقتها كأنها لم تكن و جعلت حمزة ينسى في لحظة انقباض صدره و يعود للانشراح من جديد و سيد يستطرد و هو ينهض ملقيا التحية على حمزة في محبة لا يمكن إغفالها استطاع إظهارها بأحترافية :- خلاص يا باشمهندس .. مكتبى هيبلغ مكتبك عن الوقت المناسب للزيارة قبلها بأسبوع.. ده يناسبك ..!؟..

اكد حمزة في أريحية :- اكيد طبعا .. انا ف الانتظار ..
خرج سيد هاتفا و هو يشد على كتف حمزة في حفاوة :- فرصة سعيدة يا باشمهندس حمزة .. و أتمنى ان العلاقة تتعدى العمل للصداقة ..
ابتسم حمزة في مودة :- اكيد يا باشمهندس سيد .. دِه يشرفنى ..

جذب سيد كفه و استدار مغادرا مقر شركة الهوارى و هو يبتسم نفس تلك الابتسامة الصفراء التي أصبحت عنوان يطل على محياه عندما يصادفه  كل ما هو هوارى ..دخل سيارته و أغلق بابها خلفه في عنف و هو يجز على اسنانه غيظا و يضم كفه التي حوّت منذ لحظات كف حمزة و ضرب بها ظهر المقعد المقابل له في غيظ هامسا :- الحساب قرب .. الحساب يجمع يا هوارية ..

تعالت الزغاريد لتملاء اجواء السراىّ بهجة .. فانتفض مهران على فراشه فزعا.. و استغفر ربه وهو يمسح وجهه بكفه يطرد ما بقى من اثر للنوم وقد تذكر ان بالامس كان زفافه .. فأبتسم ساخراً وهو يجول ببصره فى ارجاء الغرفة باحثا عن تلك المزعومة المسماه فرضا عروسه ..لم يبصرها من موضعه فأخذه القلق لينهض فى تثاقل باحثا عنها فى عتمة الحجرة التى لم يدخلها نور الصباح بسبب الستائر الثقيلة التى تحجب الضوء و التى تحرك من موضعه ليفتحها فوطئت احدى قدميه قماش مخملى جعله يتوقف متوترا...

تراجع خطوة للوراء و انحنى قليلا يتبين ما هذا .. ليفاجأ بتسنيم تنام فى فستان عرسها .. تفترش مصلاه .... رق قلبه لحالها و هى تتوسد ذراعيها المتشابكين و الدموع جافة على وجنتيها التى غطى جزء منهما القماش الناعم  الشفاف لطرحتها ..و استدار رداءها الملائكى حولها يحيطها كبتلات زهرة ندية ..
خُطف قلبه من جديد . واعترف انه لا قبل له بالقسوة عليها .. واعترف ايضا انه لا قبل له بالعفو فى نفس ذات الوقت ..
انه يتمزق ما بين رغبتى القسوة  عليها والعفو عنها ...

ارتفعت الزغاريد مرة اخرى لتوقظه من خواطره ليقف فى عزم
وقد تغلبت رغبة القسوة ليهتف فى صوت يقطر شدة وصلابة:- جووومى
لتنتفض تسنيم فى ذعر ... تتلفت حولها فى تيه .. واخيرا ترفع رأسها لتقابل نظراتها الناعسة نظراته القاسية .. فتدمع عيناها من جديد .. و خاصة عندما أشاح عنها بوجهه ..

طالعها كشجرة نخيل باثقة .. تشتاق لترفع كفها تقتطف منها ثمار الحنان الناضجة التى لطالما اشتهتها.. لكن هيهات ..
فتلك الثمار التى تمنتها ايام وليال طويلة .. و انتظرت أوان قطافها اصبحت الان بطعم الحنظل .. و مرارة العلقم ..

قطع توارد افكارها هتافه المتحامل من جديد :- جووومى ..شكل ابوكى وامك جم برة .. ألحجى غيرى هدومك عشان انا اول ما هنزل لهم .. امك ها تطلع لك .. همى ..
و اندفع مبتعدا للحمام يستعد للنزول .. ليتركها نهباً للأفكار من جديد .. و قد ايقنت انها فقدت مكانتها فى قلبه للأبد

هتف حامد و هو يدخل من باب الحجرة القبلية المخصصة للضيوف يتبعه ذاك الشاب النحيل جميل الطلّة ليستأذنه حامد لدقائق و يخرج من باب الغرفة الذى يُفتح على صحن الدار ليقابل جدته سكينة و بجوارها كالمعتاد جدته بخيتة و أخيرا طلت امه كسبانة من الردهة المفضية للمطبخ ليهتف بها مؤكدا :- أما اعملى حسابك عندى ضيف ع الغدا النهاردة ..

هتفت كسبانة متزمرة :- طب مش كنت جلت من بدرى شوية يا حامد نعملوا حاچة تليج بيه ..!!
هتف حامد :- كل اللى ياجى من يدك خير .. و الچودة بالموچودة ..
عادت كسبانة مرة أخرى لمطبخها لتعد ما يمكنها اعداده ليتشرف ولدها امام ضيفه بينما هتفت سكينة في فضول كعادتها :- بس هو مين ضيفك دِه يا حامد !؟.. احنا نعرفه !؟.. چه يعنى هنا جبل سابج !؟..

هتفت بخيتة :- و انتِ ايه دخلك يا ولية .. ضيف و چاى مالك انتِ ..
هتفت سكينة معترضة :- مش نعرفوا مين الضيف .. !؟..
هتف حامد يوقف المعركة بين جدتيه قبل ان تبدأ و تصل لمسامع الضيف بالداخل :- دِه واحد زميلى من ايّام الثانوية العامة يا ستى .. بس انى دخلت زراعة و هو دخل هندسة ..

خرجت في تلك اللحظة كسبانة تحمل صينية حاملة ما لذ و طاب من أصناف الطعام تلقاها حامد في سعادة
مهللا لأمه :- تسلم يدك يا ست الكل ..
و اندفع بها لداخل قاعة الضيف لتندفع خلفه جدته سكينة متعللة بنسيان حامد لأبريق الماء و الأكواب ليتفاجأ بها داخل القاعة خلفه تماما تكاد تصطدم به..

تنحنح في احراج و هي تضع الإبريق و الأكواب على احدى الموائد متطلعة للشاب الضيف في نظرات نافذة و هتف حامد معرفا :- عبدالله .. دى ستى سكينة .. ام ابويا چاية ترحب بيك ..
نهض عبدالله في تأدب مادا كفه في وداعة ملقيا التحية .. تقبلت سكينة تلك اليد الممدودة في توجس عجيب و هي تتطلع لملامح ذاك الوجه كالبلهاء ..
و أخيرا طردت شرودها هاتفة في تساؤل تعجب منه حامد :- انت مين يا عبدالله.!؟...واد مين هنا ف النچع ..

تولى حامد الإجابة عن صديقه الخجول هاتفا :- عبدالله مش من النچع يا ستى .. عبدالله من نچع بعدينا ع السكة ..بن عمدته .. من نچع الحناوية..
أسقطت سكينة كف عبدالله التي كانت ما تزل بين كفها و غاب اللون عن وجهها للحظات .. و أخيرا هتفت بصوت متحشرج و هي تهرب صوب الباب :- شرفت يا ولدى .. شرفت ..

خرجت و أغلقت باب القاعة على حفيدها و صديقه لكن يبدو ان هناك الف باب في سبيلها لتُفتح و لا علم لديها هل هي أبواب من جنة ام أبواب من جحيم..!؟..

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة