قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثالث بقلم رضوى جاويش الفصل الرابع والعشرون

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثالث رضوى جاويش

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثالث (رباب النوح والبوح) بقلم رضوى جاويش الفصل الرابع والعشرون

فتح باب شقته فى تكاسل و همة خائرة و تمنى من صميم قلبه ان لا يجدها بالداخل و لكن تلك الحركة الحثيثة التى يسمعها كانت لها و هى تعد له طعام العشاء.. تعجب من حاله فقد نزل عنها لشقة ابيه بحال و صعد اليها بحال مغاير تماما و حمد الله انه لم يتهور و يطاوع قلبه و يخبرها بمكنوناته و الا كان فى تلك اللحظة فى موقف يحسد عليه و خاصة بعد ما قرأ رسالة اخيه الراحل و ما تضمنته..

تنهد فى ضيق و هو يدلف للداخل و لم يلق التحية كعادته بل اندفع لحجرته كالطلقة حتى انها توقفت مدهوشة و هى تحمل الأطباق فى سبيلها لوضعها على المائدة و هى تراه على هذه الحالة المذعورة..
تبعته فى هدوء و طرقت باب غرفته لكن لا مجيب فما كان له القدرة على الرد.. عاودت الطرق هاتفة فى بساطة:- العشا جاهز يا ناصر.. مش هتاكل و لا ايه !؟..

اخيرا وجد صوته و هتف فى اضطراب:- لا مش هاكل.. مش عايز..
تنهدت فى تعجب و ما ان همت بالابتعاد عن باب الغرفة حتى عاودت الرجوع اليه فى تهور مدفوعة برغبتها فى معرفة ما يجرى و بالفضول لكشف حقيقة تمنعه عن تناول العشاء معها فهى ليست عادته فقد استشعرت فى الأيام الماضية كيف كان ذلك يسعده و ان اجتماعهما معا بات شئ مستساغ بل محبب له اذا جاز لها التعبير و ان لم تكن مشاعرها تخونها.. فقد بات يأنس لها و يستطيب عشرتها طرقت الباب من جديد فى اصرار هاتفة:- انا مش هاكل الا لو انت طلعت تاكل..

هتف و هو يفتح الباب بعنف مزمجرا:- عنك ما كلتى..
ما ان فتح الباب و طالعه محياها المصدوم لقوله الجاف و تلك الدموع التى تترقرق فى تلك اللحظة على حافتى عينيها التى يعشق حتى صرخ بلا وعى منه:- فيه ايه!؟.. انتِ عايزة منى ايه!؟.. سبينى ف حالى بقى.. حلى عنى..

و اندفع خارج الغرفة متخطيا إياها فى قسوة جعلتها تهتز حتى كادت تسقط مترنحة و خرج صافقا الباب خلفه فى شدة لتنفجر باكية و هى لا تعلم ماذا جنت حتى يكون هذا هو رد فعله..

قفز هو درجات السلم لأعلى فى سرعة مدفوعا بتلك النيران المتأججة بصدره و التى اشعلتها نظراتها تجاهه ما ان فتح باب غرفته ليطالعها قبالته تلومه و تجلده.. تنهد فى ضيق و هو يجلس على تلك الأريكة بالسطح محاولا إلتقاط انفاسه فى تلاحق لعلها تطفئ بعض مما يعانيه و تخفف و لو قليلا من ذاك الوجع الذى يستشعره بروحه..

تمدد على الأريكة و هو يتحسس خطاب اخيه الذى أودعه جيب سترته التى ضمها حول جسده و هو يتمدد على الأريكة الخشبية و قد بدأت نسمة الخريف الليلية تشتد برودة.. انه لن يعاود الهبوط لشقته فلا قبل له لمواجهتها من جديد و تلك النظرات المتسائلة فى براءة ستظل تلاحقه بالسؤال عن جريرتها و لا اجابة لديه.. و بالمثل لن يستطع النزول للمبيت فى شقة ابيه و الا بدأت التساؤلات من هنا و هناك عن السبب الذى دفعه لترك شقته و النزول للمبيت بالأسفل..

سيضطر للمبيت ها هنا و ليكن ما يكون و لكنه ابدا لن يدخل الشقة الا و هى ليست فيها.. لن يخون ذكرى اخاه مهما حدث.. لن يطل اى شئ كان له او حتى تمناه يوما بالتدنيس ابدا.. عاود ضم سترته اليه و شبك ذراعيه امام صدره و راح فى نوم عميق بعد فترة لا بأس بها من التفكير و المعاناة التى لازمته طويلا و يبدو انها تأبى المغادرة و استطابت البقاء.

طاف زنزانته عشرات المرات لعله يهدأ و لو قليلا لكنه ظل على حاله يتأكله القلق و يعصف به الغضب من جراء ما يحدث له و الذى لا يعرف كيف حدث من الاساس!؟..

و الأدهى من هذا كله هو ما حدث من هدير ابنة عمه..و تساءل.. ماذا يجرى!؟.. انها المرة الاولى التى يراها على هذه الحالة.. انها المرة الاولى تماما التى يشعر فيها انه شخص غالى عند احدهم.. و انه موضع ثقة لا حد لها فقد هتفت بكل جرأة انه برئ من اى ذنب و لا يمكن ان يكون قد ارتكب اى جرم و هى حتى لا تعرف ما هى جريرته من الاساس.. برأته قبل ان تعرف جريمته او حتى تستمع الى الاتهامات الموجهة اليه..

شعر بوجيب غريب يطرق قلبه و هو يستعيد لحظة هتافها بأسمه بكل هذا الكم من الالم و اللوعة فأنفطر فؤاده..
ضرب الحائط بقبضة مضمومة كاد يدميها و هو لا يعرف ما عليه فعله.. و جذب نفسه من خواطره تجاه ابنة عمه العزيزة ليوجها عنوة تجاه تلك المصيبة التى تنتظره و التى لا يعلم متى حلت عليه !؟.. و ما الذى يتوجب عليه القيام به لينفيها عنه !؟.. انه لم يقترف ذنب.. و لم يفعل يوما ما يغضب ربه.. فكيف به يقوم بفعلة كتلك!؟..

جلس على احدى المصاطب الاسمنتية فى تلك الزنزانة الباردة و وضع رأسه ما بين كفيه هاتفا فى تضرع:- يا رب.. انا معمِلتش عمرى اللى يغضبك.. يا رب لچل امى الغلبانة اللى ممكن تموت بحسرتها على.. و عمى اللى حط أمله كله فيا.. نچينى يا رب..
ووجد نفسه دون ان يدرك همس على استحياء و نبضات قلبه طبول حرب تعلن عن شئ ما ينمو هاهنا و رغما عن ارادته:- وعشانها هى كمان يا رب.. عشان تعرف ان ظنها كان ف محله.. و ان حمزة عمره ما يعمل كِده ابدا..

دمعت عيناه رغما عنه و كانت المرة الاولى تماما التى يستشعر فيها حرارة الدمع بمقلتيه.. دمعت عيناه لحاله و لحال أحبته عندما يصلهم الخبر و اخيرا على حالها و عاود صراخها باسمه يهز جنبات روحه من جديد ليدرك انه ما عاد حمزة القديم الذى كان يُؤْمِن ان قلبه قُد من حجر.. و لكن اما آن للصخر ان يلين!؟..

كانت ثريا في غرفة الحاجة فضيلة كعادتها كل فترة و تحدثتا سويا عن سيد العشماوي و افعاله.. و انفجرت الحاجة فضيلة ضاحكة عندما قصت عليها ثريا ما حدث في الموقع و مظهره بعد سقوطهما دون ان تخوض في الحديث عن كثير من التفاصيل المحرجة.. و ما ان همت بالإستئذان حتى تذكرت امرا فأستدارت و قد استدركت راغبة فى سؤالها عن سيدة و قد شغلها سؤال سيد عنها يوم ان كان هنا اخر مرة فهتفت فى تساؤل:- ألا بالحج يا حاچة.. تعرفى ايه عن سيدة المچذوبة!؟..

تنبهت فضيلة للأسم و صمتت لبعض الوقت تقلب فى دفاتر ذاكرتها و اخيرا هتفت فى تساؤل:- تجصدى سيدة بت الحاوى!؟..
هتفت ثريا:-مش عارفة.. اللى اعرفه و بسمعه بيجولوه عنيها.. سيدة المچذوبة لكن ايه حكايتها و لا هى بچت كِده ليه!؟.. معرِفش..
تنهدت فضيلة فى حسرة هاتفة:- اللى انتِ وعيالها مچنونة دى كانت جمر اربعتاشر.. سبحان الله.. بس بجت كِده ليه و ازاى.. انى كمان معنديش علم.. بس تعرفى مين اللى يعرف حكايتها كلها !؟..

هتفت ثريا فى فضول:- مين!؟..
اكدت بخيتة:- نچاة.. امك..
هتفت ثريا فى تعجب:- امى تعرفها!؟..عچيبة..عمرى ما سمعتها بتتكلم عنيها من اساسه..

هتفت فضيلة مؤكدة:- لاااه.. امك تعرفها عز المعرفة و كانوا حبايب جوووى بس فچأة لجينا سيدة اختفت هى و ابوها و محدش عارف فين أراضيهم و امك اتچوزت ابوكِ وچات على هنا.. و بعدها بياچى كام سنة لجيناها رچعت و مبتتكلمش و لا كنها تعرف حد.. و شوية و بجت زى ما انتِ وعيالها كِده.. عجلها خف.. ايه السبب !؟..و ايه اللى خلاها تروح من هنا!..و ليه رچعت!؟..و ايه اللى حصل لها و حصل لأبوها!؟.. العلم عند الله يا بتى.. ربنا يتولاها..
همست ثريا بدورها:- ربنا يتولاها.. اسيبك يا حاچة تستريحى و اروح انى اشوف حالى..

تمددت فضيلة على فراشها بغية الحصول على قسط من الراحة و قد حان وقت قيلولتها المعتادة و همست ناعسة:- روحى يا بتى.. روحى..
خرجت ثريا من حجرة الحاجة فضيلة و قد زاد فضولها لمعرفة من تلك المجذوبة التى كانت فى يوم ما احدى جميلات النجع و صديقة مقربة لأمها..

تطلعت سكينة الى تلك التي هلك الحزن و البكاء عينيها و تنهدت في ضيق هاتفة:- انتِ لساتك على حالك يا بتى!؟.. هو انى مش جلت لك هلاجلها حل..
هتفت كسبانة في قلة حيلة:- يعنى حيلتى ايه يا خالتى !؟..انى عارفة ان يونس ميعملهاش بس مش يمكن تحلا ف عينه و البت صغار و حلوة.. و دى وصية برضك يا خالتى..

هتفت سكينة:- حيلتك كَتير.. و الحل تحت يدك و انت مشيفاهوش..
تطلعت كسبانة نحوها مستفسرة و هتفت عندما طال الصمت:- جصدك ايه يا خالتى!؟.. و الله ما فيا دماغ أفكر و لا أدور على حلول لا تحت يدى و لا تحت رچلى..

ابتسمت سكينة و هي تربت على كتفها تهدئ من روعها هاتفة:- ولدك حامد هو الحل..
هتفت كسبانة متعجبة:- حامد !؟.. و ايه دخل حامد ف اللى احنا فيه دِه !؟..
اكدت سكينة:- دِه هو الحل اللى بتدورى عليه يا حزينة.. ليه ما يتچوزش عيشة بدل ابوه !؟..
فغرت كسبانة فاها في دهشة متطلعة الى سكينة تحاول استيعاب ما تصرح به و هتفت أخيرا في تعجب:- بتجولى حامد يا خالتى !؟.. طب و هو يرضى برضك!؟..

هتفت سكينة متعجبة:- و ميرضاش ليه !.. البت صغار و حلوة زى ما لساتك جايلة و على كد يدنا..
همهمت كسبانة بعدم اقتناع ثم هتفت:- لكن يا خالتى الواد لسه طالع من حكاية زميلته اللى كان رايدها دى..احنا ما صدجنا انه اتعدل شوية و راج.. مظنيش انه يوافج..

هتفت سكينة ممتعضة:- يا چلعكم الماسخ..و ايه فيها واحد عشج و لا طالشى.. لا هو اول واحد و لا هايبجى الأخير.. چوزى ولدك و اضمنيه چارك مع واحدة بت حلال تصونه و تريحه..
صمتت كسبانة دون ان تنطق حرفا تحاول ان تدرس كلام سكينة من كل الجوانب و تحاول استنتاج رد فعل حامد اذا ما فاتحته في الامر..

نهضت سكينة متأهبة للرحيل عنها هاتفة:- انى جلت اللى عِندى و انتِ بشوجك يا مرت ولدى..اروح انام انى بجى.. تصبحى على خير..
هتفت كسبانة في لهفة تستوقفها:- بجولك ايه يا خالتى !؟.. مين اللى هيفاتح حامد ف الموضوع دِه طيب !؟
ابتسمت سكينة و قد شعرت ان زوجة ولدها قد اقتنعت بشكل كبير للفكرة و تبحث عن إمكانية التنفيذ فهتفت تريح قلبها:- و لا تحطى ف بالك.. انى أكلمه.. و مش هسيبه غير لما يجول امين.. و ايه رأيك.. هكلمه دلوجت..

هتفت كسبانة:- دلوجت يا خالتى.. الصباح رباح..
هتفت سكينة:- لاااه.. خير البر عاجله.. انى هكلمه.. خلونا نفضوه الموضوع الماسخ دِه.. و الله لولا ما حمزة خاطب بت عمته سهام لكنت جلت نجوزوها لحمزة و ما كان جال لااه مش ولدك المچلع..
و اندفعت سكينة لحجرة حامد تطرق بابها و دخلت و أغلقت بابها دون امه التي ظلت بالخارج تنتظر جواب ولدها الذى قد يريح قلبها..

جلست سكينة بجوار حفيدها على فراشه هاتفة في محاولة لدفع الحوار لنقطة تنطلق منها لتفاتحه في الامر:- بجولك ايه يا حامد..انت مفكرتش تتچوز !؟..
تنهد حامد متطلعا اليها بنظرة جانبية متعجبا من منحى الحوار و همس بصوت يحمل شجنا:- ما چربنا يا ستى و انت عارفة كان ايه اخرتها.. وچع جلب و جلة جيمة..

ربتت سكينة على كتفه مواسية و صمتت لحظة ثم ابتدرته هاتفة:- طب انت چربت من ناحيتك.. ايه جولك تچرب من ناحيتى!؟..
تطلع حامد اليها متعجبا ثم هتف مستفسرًا:- يعنى ايه !؟.. مش فاهم جصدك يا ستى..
و ما ان همت بالكلام حتى اعتدل بغتة و كأنه ادرك مقصدها فهتف متسائلا في دهشة مازحا:- كنك چيبالى عروسة يا سَكينة !؟.. صح..!؟

ابتسمت و قد ارتاحت انه ادرك مقصدها و استطرد هاتفا يحاول تحويل مجرى الحديث لمزيد من المزاح كعادته:- و مين اللى أمها داعية عليها دى و ترضى تاخدني !؟.
هتفت سكينة مستنكرة:- بعد الشر عنك و عنيها.. جول أمها داعية لها و هو في ف حنيتك و لا طيبة جلبك يا واد ولدى..
ابتسم حامد و رفع كف جدته يلثمها في محبة هاتفا في لهجة مرحة:- الجرد ف عين امه غزال..

قهقهت سكينة و هتفت:- يخيبك.. جرد..و الله العروسة اللى بجولك عليها بت حلال.. و زى الجمر..و بتاعت معايش و على كد يدنا.. بس انت جول اه..
كان دور حامد ليقهقه هاتفا:- اجول اه عميانى يا ستى من غير حتى ما أشوفها و لا حتى اعرف هي مين..
هتفت سكينة مؤكدة:- انت تعرفها يا حامد..
تطلع اليها مستفسرًا لتستطرد عازمة على إنهاء الامر:- عيشة يا حامد يا ولدى.. ايه جولك!؟..

هتف فاغر الفاه:- عيشة بت عم ابوى!؟..
اومأت سكينة برأسها إيجابا ليكمل هتافه المتعجب:- عيشة اللى المفروض ان ابويا هو اللى يتجوزها عشان ينفذ وصية چدى حامد!؟..
اومأت سكينة رأسها إيجابا مرة أخرى في صبر على رد فعله المتعجب..

ساد الصمت للحظات و عندما وجدت سكينة انه ما عاد لديه ما يصرح به نهضت في تثاقل متوجهة نحو باب الغرفة و همست أخيرا:- خد وجتك و فكر.. و چدك لما وصى ان ابوك يتچوزها عشان بس خايف عليها و عايز يصونها لانها كانت غالية عليه زى عمتك هداية بالتمام.. فكر يا حامد ازاى هتريح جلب امك اللى انفطر من ساعة ما عرفت الوصية دى.. فكر زين يا ولدى.. چربت جلبك مرة.. چرب عجلك المرة دى..

و ما ان همت بفتح الباب مغادرة حتى هتف حامد يستوقفها في لهفة:- ستى!..
استدارت تتطلع اليه دون ان تنبس بحرف واحد.. ازدرد هو ريقه هاتفا في اندفاع:- انى موافج..
تهلل وجه سكينة بالبشر و امأت برأسها إيجابا و خرجت و أغلقت باب حجرته خلفها و تطلعت لكسبانة في سعادة و ما كانت كسبانة بحاجة لقول المزيد بعد ما قرأته على صفحة وجه خالتها المرسومة على قسماته الفرحة.. فأتسعت ابتسامتها أخيرا بعد ان غادرتها منذ زمن..

همت كل منهما بالخلود للراحة الا ان رنين الهاتف في تلك الساعة جذب انتباهمها و ما ان همت كسبانة بالرد حتى كان حامد الذى اندفع من حجرته تجاه الهاتف ليكون المجيب..
لحظات و انقلبت ملامح حامد للنقيض بعد ان كان يمازح محدثه على الطرف الاخر و هتف في ذعر:- كيف ده !؟.. امتى حصل و ليه !؟..

هرولت سكينة تجاه حفيدها و كذلك كسبانة متطلعة اليه ما ان أغلق الهاتف صارخة في قلق:- ايه في يا حامد.. انطج !؟.. اخوك حمزة فيه ايه!؟..
هتف حامد في حزن:- حمزة مجبوض عليه في چريمة تهريب كَبيرة..
هتفت كسبانة صارخة:- لااااه.. حمزة لااااه..
و سقطت فاقدة وعيها ليتلقفها حامد بين ذراعيه...

استقبله باسل على باب الحديقة الخلفى هاتفا فى مرح:- واااه طولت الغيبة يا واد خالى.. عامل زى هلال العيد..
ابتسم حازم مؤكدا:- معلش بقى يا باسل و الله الشغل مبيخلصش..
هتف باسل رابتا على كتفه فى مودة:-الله يكون ف العون يا واد خالى شغلكم صعب.. ربنا يحميك و يحفظك..
ابتسم حازم:- تسلم يا باسل ربنا يخليك..

تطلع حازم بعينه حوله فى حذّر.. يموت شوقا لرؤيتها او حتى التطلع اليها من بعيد.. يموت شوقا و ذنبا.. شوقا يتنازعه لمرأها و ذنبا يحيك بصدره لاندفاعه للمجئ لرؤيتها رغم علمه ان تلك ليست ابدا اخلاقه و لا طباعه لكن لا سيطرة له على ذاك الدافع البغيض الذى يجذبه كمغناطيس الى هنا فقط لمطالعة محياها..

تنبه ان باسل يكلمه فانتفض من شروده هاتفا:- هااا.. بتقول ايه يا باسل !؟..
ابتسم باسل مازحا:- وااه روحت فين بعجلك يا واد خالى !؟.. ايووه عارفها انى التوهة دى.. دى توهة عاشج..
انتفض حازم و زم ما بين حاجبيه فى اضطراب الا ان باسل استطرد فى أريحية:- تلاجي بجالك كَتير منزلتش اچازة و لا شفتش خطيبتك!؟.. حجك تنزل.. الحالة اللى انت فيها دى ما يتسكتش عليها ابدا..

و قهقه باسل ليبتسم حازم و ضربات قلبه قد علت حتى تجاوزت الحد المسموح به ما ان طلت هى على الدرج قادمة إليهما فى هوادة تحمل صينية الشاي..
رن هاتف حازم فى تلك اللحظة فأنتفض من جديد و تناوله يرد فى سرعة على ابيه يدارى ذاك الاضطراب الذى اعتراه من مجرد رؤيتها تتوجه صوبه:- ايوه يا بابا.. تمام..ايه.. بتقول ايه !؟.. حمزة.. لا مش ممكن..

كانت تسبيح قد وصلت لمجلسهما حتى ألتقطت مسامعها اسم حمزة فتوقفت فى قلق تتطلع لباسل.. ما ان انهى حازم مكالمته حتى هتف فى عجالة:-انا أسف يا جماعة لازم أمشى دلوقتى.. و انا أسف انى أبلغكم ان حمزة اتقبض عليه فى جريمة تهريب كبيرة و لازم انزل إسكندرية حالا..
هتف باسل مصدوما:- لا حول و لا قوة الا بالله..

اما تسبيح فلم تتمالك أعصابها و سقطت صينية الشاى من بين كفيها و اندفعت مبتعدة عن المجلس بمن فيه
لا تقوى على النظر له و كأنما استشعرت ان الله يعاقبها بما يحدث نظرا لخواطر قلبها اللعين الذى لا يطاوعها و ينحى بمشاعره تجاه اخر..

اما حازم فقد اندفع مستقلا سيارته و قد شعر بمزيد من الضيق يعربد بصدره.. ضيق لما يحدث لحمزة و الذى يعلم علم اليقين انه لا يمكن ان يرتكب ذاك الجرم ابدا..و ضيق اخر مشمول بالذنب لردة فعلها التى طالعها بنفسه منذ لحظات عندما سمعت النبأ المشؤوم على لسانه شعر بالشفقة عليها و فى نفس اللحظة عربد شعور قاتل بالغيرة لمرأها حزينة على ما يحدث لحمزة.. انه يكاد يختنق و لا سبيل لديه للنجاة.. تنهد فى غضب ظاهر ليس من طبعه ابدا و ضرب على مقود السيارة فى عنف و هو يختنق بمشاعره المشوشة و ذنبه الذى يتسربل فيه..

طرق بابها متعللا بالاطمئنان عليها على الرغم من علمه بانه يريد ان يلقى أحماله على أعتابها كما كان يفعل دوما.. دلف لحجرتها و تنهد و هو يراها تتمدد على فراشها فى سكينة كان يظنها نائمة و ما ان هم بالخروج حتى هتفت أمره:- تعال يا عاصم.. انى مش نعسانة..
ابتسم فى محبة و ترك الباب مواربا و دخل اليها حتى جلس على طرف فراشها و انحنى يرفع كفها مقبلا اياه مما حملها لتستطرد فى لهجة العالم ببواطن الامور:- خير يا عاصم.. ايه فى يا ولدى!؟..وعيالك مش رايجين !؟..

تنهد عاصم مجددا هامسا بضيق:- الحمل زاد على كتافى يا حاچة.. حمل و هم تجيل جووى..
تنهدت بدورها و هى تربت على كفه هاتفة:- متجوليش كِده..انت شَديد جووى كيف الچبل.. و انى عرفاك لو كد الهم دِه عشر مرات هتشيل و ما تجوليش اااه..بس انت جول يا رب..
هتف عاصم متضرعا:- ياارب..

كان مهران فى سبيله للدخول لغرفة جدته و سمع بعض من همس والده معها.. كان قادما بدوره يلقى همومه على مسامعها لعلها تخفف عنه بعض مما يعانى فوجد ان أباه قد سبقه اليها.. فقرر التخفيف عنه فدخل باشاً يهتف فى مرح:- اااه.. لجيتك مع حبيبك يا ستى.. ماليش عازة انى بجى..
هتفت الحاجة فضيلة بمحبة:- برضك يا مهران.. هو انى أجدر استغنى عنيك.. دِه انت واد الغالى و على اسم الغالى يا حبة جلبى..
انحنى مهران يقبل جبينها فى محبة لتهتف الحاجة فضيلة مستطردة:- ودونى عند ماچد.. عايزة اشوفه يا عاصم..

تنبه كل من عاصم و مهران لطلبها العجيب و نظر كل منهما للأخر مستفسرًا لعل احد منهما قد قَص لها ما حدث لماجد و ما اعتراه بسبب فقده لقدمه لكن كل منهما اكد انه ما فعل و قد انتبهت لنظراتهما المتعجبة فهتفت باسمة:- ايه فى!؟...ايوه عرفت كل حاچة حصلت لماچد.. و مش هجولك غير رد الحاچ مهران لما كنت استعچب زييكم كِده لما ألاجيه عارف كل اللى بيچرى ف السرايا.. كان يجول لى.. هو اكمنى بجيب أسد عچوز مش هعرف اللى بيچرى ف دارى!؟..
ابتسم عاصم فى شجن رابتا على ظاهر كف امه الممدودة امامه هاتفا:- يديكى الصحة و طولة العمر يا حاچة.. بس ماچد عِملناله أوضة تحت عشان ظروفه اللى چدت..

و تحشرج صوت عاصم تأثرا و استكمل متسائلا:- كيف هتنزليله يا حاچة !؟.. هايبجى تعب عليكِ..
هنا تدخل مهران هاتفا:- ليه!؟.. و انى رحت فين !؟.. و الله يا ستى ما اخليكِ تمسى الارض و هشيلك لحد تحت..
انفجرت الحاجة فضيلة ضاحكة:- وااه يا مهران.. دِه انى متشلتش من ايّام چدك الله يرحمه ما كان شباب.. هتشال دلوجت !؟..
ابتسم عاصم فى سعادة هاتفا للحاجة فضيلة:- باينك موعودة يا حاچة فضيلة بشيلة مهران الكبير و بمهران الصغير كمان..

قهقهت الحاجة فضيلة هاتفة تحاول إثناءه عما ينتوى فعله:- يا ولدى عروستك تغير..
اندفع مهران تجاه جسد جدته المسجى بعد ان نهض عاصم من على طرف الفراش موسعا له الطريق ليحملها فى عزم هاتفا:- مين دى اللى تغير!؟.. طب خليها تتكلم..

قهقهت الحاجة فضيلة من جديد و هى محمولة بين ذراعى حفيدها هاتفة:- يعنى هاتعمل لها ايه لو اتكلمت.. و الله ما تجدر على زعلها يا واد الغالى..
ابتسم مهران ناظرا لجدته المتعلقة به و هو يهبط الدرج فى هوادة خوفا عليها:- ان چيتى للحج يا ستى.. عِندك حج..
علت القهقهات من جديد حتى وصل مهران اخيرا الى باب حجرة اخيه فطرق عاصم الباب و دفعه منفرجا ليدخل مهران حاملا جدته مواجها ماجد المنكس الرأس على كرسيه المدولب و فى جانب الحجرة تجلس زهرة باكية..

وضع مهران الحاجة فضيلة على طرف الفراش لتتبدل نبرتها المرحة بأخرى جادة أمرة الجميع بالخروج من الحجرة هاتفة:- هملونى لحالى مع واد ولدى..
كان أمرها الحازم كافيا لتخلو الحجرة فى ثوان من الجميع عاداها هى و حفيدها ماجد و الذى كان لايزل منكس الرأس لا يقو على رفع نظراته ليواجه اى من كان بعد خزلانه من تلك التى وهبها قلبه بسبب اصابته التى تعد شرف لا ينكره و التى لا يعلم بتلك الخسارة الا ايمان فقط.. او بالاصح استنتجتها بفطنتها عندما جاءت لتلملم بقايا تلك المعركة..

نظرت الحاجة فضيلة لحاله و لموضع قدمه المبتورة تحت غطاء ما موضع على حجره و رق قلبها الا انها استردت بأسها المعتاد هاتفة فى لهجة أمرة:- ارفع راسك يا واد.. چيب عينك ف عينى و جولى انك ندمان على اللى راح.. ندمان على اللى سبجك للچنة و خلالك مكان فيها..
انتفض ماجد يرفع نظراته لجدته هاتفا:- لاااه يا ستى.. مش ندمان و لا عمرى هندم.. أندم على شرف ربنا رزجنى بيه.. بس..

و صمت ماجد و لم يستطرد مما دفع الحاجة فضيلة لتهتف مستفسرة:- بس ايه يا ماچد !؟.. جلبك مكنش ف المكان الصح.. و ربنا رچعهولك
عشان تصونه و تديه للى يستاهله و بدل ما تبجى مبسوط.. زعلان و معترض على حكمه!؟.. استحمده يا ولدى.. استحمده..
تطلع اليها ماجد فى تعجب مما تنطق به و كأن احدهم أبلغها بما يستشعر فهمس فى تيه:- الحمد لله.. الحمد لله على كل حال..
هتفت الحاجة فضيلة امره اياه فى مودة:- جرب..

تقدم ماجد اليها بكرسيه المدولب فأحنت الحاجة فضيلة رأسها و قبلت مكان بتر ساقه مما دفعه لينتفض هاتفا فى خجل محاولا الابتعاد:- بتعملى ايه بس يا ستى!؟..
و رفع رأسها عنه فى إكبار لفعلتها فهتفت هى مؤكدة:- ايه يا واد الغالى.. مش عايزنى أحب على شرف الهوارية كلهم و تاچ راسهم كمان.. ربنا مكنش رايد بالشهادة بس خلالنا نصيب منيها..نفرحوا بالنصيب دِه و لا نطاطى له روسنا و نداريه كنه عيبة..

اومأ ماجد برأسه تفهما لجدته و لم يعقب لتظهر ايمان على اعتاب باب الحجرة المطل على الحديقة و الذى كان مفتوح على مصراعيه و هتفت تستأذن فى الدخول فى حرج..
فأذن لها ماجد لتدخل فى هدوء وجهها تعلوه ابتسامة متوجهة حيث تجلس الحاجة فصيلة و التى تفرست فيها قليلا و اخيرا هتفت:- واااه.. كنى واعية لسمية بشحمها و لحمها.. سبحان الله..

ابتسمت ايمان و قد وصلت لموضع جلوس الحاجة فضيلة وانحنت مقبلة ظاهر كفها بأدب:- كنها هى يا ستى.. انى ايمان بتها..
ربتت الحاجة فضيلة على رأس ايمان المنحنى و المتوج بحجابها الحريرى و ابتسمت فى مودة هاتفة:- كنك هى.. و مش هى.. سبحانه.. ربنا يراضيكِ يا بتى.. و البقاء لله ف مؤمن.. شفيعكم يا حبيبتى بعد نبينا باذن الله..

تحشرج صوت ايمان عند ذكر مؤمن اخيها و همست:- باذن الله يا ستى..هو راح لمكانه اللى كان مستنيه.. طول عمره عايش وسطينا بجلب ملايكة.. مكانه هناك يا ستى مش هنا...

تنهدت الحاجة فضيلة مؤكدة و هى تربت على كف ايمان فى محبة:- صدجتى يا بتى.. صدجتى يا غالية.. ربنا يحفظك و يكملك بعجلك يا ست البنات..
و ربتت من جديد على كف ايمان التى لازالت محتفظة بها بين كفيها ثم جذبتها فى محبة و قبلت وجنتيها و اخيرا هتفت لمهران القابع خلف باب الحجرة بالخارج ينتظرامرها ليعيدها لحجرتها من حيث أتى بها..

دخل مهران هاتفا فى مرح:- خلاص يا ستى.. هاااا.. نرچعوا لأوضتك!؟
اكدت الحاجة فضيلة هاتفة:- ايوه يا مهران.. ياللاه تعال شيل.. ربنا يعينك على ما بلاك يا ولدى..
حملها مهران فى سهولة هاتفا فيها معاتبا و هو يهم بالخروج من باب حجرة ماجد:- برضك يا ستى تجولى ما بلانى !؟.. طب جولى اللى اكرمنى بيه..
هتفت الحاجة فضيلة رابتة على كتفه فى امتنان:- ربنا يسعدك و يهنيك و يريح بالك يا حبة جلبى..

فهمس هو مؤمنا فى تضرع و قبل ان يستدير خارجا هتفت به تتمهله قليلا متوجهة بحديثها لماجد و هى تنظر لإيمان التى كانت تستأذن بدورها فى اتجاه حجرة القراءة نظرة جانبية عله يعيها هاتفة:- اللى منيك منيك يا ماچد.. اللى منيك ليك يا واد الغالى..هو اللى يشيل و يبجى راضى و على جلبه كيف العسل..

تطلع اليها ماجد متعجبا فى بادئ الامر و اخيرا لاحظ مع تكرارها لكلماتها الاخيرة ما كانت ترمى اليه وقد خرجت ايمان بدورها من غرفته فأبتسم فى هدوء و ما ان ايقنت الحاجة فضيلة ان رسالتها وصلت على أكمل وجه حتى أمرت مهران بالسير ليخرج من باب الحجرة اخيرا و هو يهتف بها مازحا و قد اعتلى أولى درجات الدرج صاعدا لحجرتها:- شكلك استحليتى الحكاية يا ستى و كل شوية هاتجوليلى انى عايزة اشوف ماچد.. نزولنى عند الغالى..

انفجرت الحاجة فضيلة مقهقهة ثم هتفت اخيرا و هو يضعها على فراشها فى حنو بالغ:- لااااه.. مش هجول.. ماچد هو اللى هايچينى لحد هنا..
تطلع اليها مهران فى تساؤل لم يصرح بِه لكنها وعته فهتفت:- ايوه.. هيحصل و هتلاجيه داخل علينا و ابجى شوف ستك متجلش كلمة و تنزل الارض ابدااا..
اومأ مهران برأسه موافقا إياها على الرغم من عدم اقتناعه لعلمه بعدم رغبة ماجد فى الحصول على قدم تعويضية.. لكن يقينه كان ان لا شئ على الله بعزيز.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة