قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثالث بقلم رضوى جاويش الفصل الخامس والثلاثون

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثالث رضوى جاويش

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثالث (رباب النوح والبوح) بقلم رضوى جاويش الفصل الخامس والثلاثون

ثلاث ليال فقط.. ثلاث ليال فاصلة هى كل ما بقى لتصبح زوجه امام الله و الناس.. لقد تقرر عقد قرانهما فى نفس الليلة مع فرح ماهر اخيها.. انها لاتصدق انها ستصبح حليلته بعد عدة ساعات.. أغمضت عينيها فى نشوة و طلت ابتسامة ساحرة على شفتيها لم تستطع مداراتها.. كانت مأخوذة تماما بخواطرها و لم تلحظ ذاك الذى كان مأخوذا بدوره بصورتها المنعكسة على مرآة السيارة الجانبية حيث يجلس.. كان قد قرر تركها تهنأ بأحلام يقظتها لكن ذاك الجانب المشاغب فى شخصيته ما استطاع الا ان يهمس بالقرب من اذنيها عندما ترجلت من السيارة و هو يتبعها:- باقى تلت ايّام بس و انول المراد من رب العباد.. قرب البعيد يا رب.

تصنعت الشدة هاتفة محاولة تمالك زمام أعصابها:- جصدك ايه !؟..
همس مشاكسا:- قصدى هعرف اخيرا ألوان الطيف اللى بتنور و تطفى على وشك دى اخرتها ايه يا بت عمتى.. و خدى بالك.. انا غتيت.. هعرف يعنى هعرف..

اضطربت تحاول مداراة خجلها و ما استطاعت الرد بكلمة تردعه الا انها هتفت اخيرا:- المحاضرة جربت تبدأ.. شكلنا اتاخرنا..
رن هاتفه فأنقذها من المزيد من تعليقاته التى ما عادت قادرة على مجاراتها.. توقف للحظة يتطلع لشاشة هاتفه و تغيرت ملامحه بشكل عجيب لكنه هتف فى ثبات:- أسبقينى انت يا ايمان و انا هلحقك..

اومأت برأسها فى تفهم و انضمت لبعض زميلاتها و غابت داخل المدرج معهم.. لكنه غاب عن عادته و ها هى المحاضرة على وشك البدء.. عادت تبحث عنه خارج المدرج و اقتربت عندما لمحت محياه و ما ان همت بالهتاف عاتبة حتى ابتلعت احرف كلماتها فى صدمة و هى تستمع له يقول:- تمام.. خلاص اتفقنا..انا نازل القاهرة.. نتقابل بكرة باذن الله.. مع السلامة يا نرمين..

هل ما سمعته صحيحا!؟.. هل كان يحادث حبيبته السابقة !؟.. تلك الحبيبة التى خزلته و اولت له ظهرها فى اكثر أوقاته احتياجا لها !؟. وقع الاسم على مسامعها وقع الصاعقة و ما عادت قدماها قادرة على حملها و لا تعلم من اين لها بتلك القدرة التى جعلتها تندفع باتجاه المدرج هاربة من نظراته و هو يلتفت بعد إنهاء مكالمته الميمونة ليجدها تقف تنظر اليه فى صدمة..

حاول ان ينادى عليها لتقف لكن لا المكان و لا الوقت مناسب... فتنهد فى ضيق و دخل المدرج بدوره و ما ان انتهت المحاضرة حتى بحث عنها و لم يجد لها أثرا يذكر.. عاد للعربة و قد قرر ان يصارح ايمان بكل ما كان يعتمل بصدره لكن ليس الان.. و لكن بعد عودته من القاهرة حيث هناك موعده مع الماضى..

تقدم حازم فى تؤدة متعكزا على عصا خشبية تساعده على السير نظرا لإصابة قدمه التى فى سبيلها للشفاء بعد حادثه الاخير و توجه حيث يجلس حمزة بن عمه على الأرجوحة فى الحديقة الخلفية حيث مكانه المفضل..
هتف حازم بالتحية:- سلام عليكم يا واد عمى..
ابتسم حمزة و نهض مسرعا يساعد حازم على الجلوس جواره على الأرجوحة هاتفا:- و عليكم السلام يا بطل.. اخبارك ايه النهاردة !؟..

اكد حازم:- الحمد لله.. احسن..
و استطرد بعد لحظات من الصمت المتردد:- انت ليه فسخت خطبتك على تسبيح يا حمزة !؟..
نظر حمزة اليه مبتسما:- عشان مكنش ينفع يا واد عمى..
تعجب حازم:- ايه هو اللى مكنش ينفع !؟.
هتف حمزة:- مكنش ينفع اعرف انها بتحب حد تانى و اكمل..

هتف حازم مبهوتا:- حد تانى !؟.. مين !؟.. و ازاى!؟.. و هى اللى قالت لك كده !؟..
قهقه حمزة:- لاااه هى مجالتليش.. هى جالت للناس كلها..
تعجب حازم:- انت بتهزر يا حمزة صح.!؟.
هز حمزة رأسه نفيا و هو لا يزل مبتسما و هتف فى مشاكسة:-
والأدهى من دِه كله ان المغفل لسه ما يعرفش انها بتحبه.. و هو واجع فيها لشوشته و كان بيهلوس بيها..

هتف حازم بضيق و اضطراب:- ايه يا عم الألغاز دى !؟.. انا مش فاهم حاجة..
هتف حمزة بجدية:- هى صرخت بإسمه يوم كتب الكتاب.. اول ما عرفت انه أتمسك من الإرهابيين ف الچبل..
بهت حازم و نهض مذعورا حتى كاد يسقط من شدة صدمته و ما عاد قادرًا على التفوه بحرف.. ساد الصمت لبرهة و اخيرا هتف حازم:- حمزة.. انا.. انت.. بتقول..

همس حمزة:- انى بجول الصدج يا واد عمى.. و انت كنت بتهلوس باسمها و مكنش فيه غيره على لسانك و انت غايب عن الدنيا..
تلفت حازم فى كل اتجاه و تمنى لو ان الارض تنشق و تبتلعه لكن حمزة هتف مهدئا اياه و مشيرا اليه ليعود لموضع جلوسه من جديد.. جلس حازم لا يستطيع التطلع لوجه بن عمه حرجا و حمزة يستطرد شارحا:- لما اتجدمت لتسبيح يا حازم مكنش ف عجلى الا حاچة واحدة بس..

اخرس احساس الذنب اللى چوايا بسبب حادثة الحصان اللى كانت السبب فى اللى حصل لرچلها.. لا كنت بفكر ف حب و لا حتى أعرف يعنى ايه حب م الاساس و انت اكتر واحد واعى للموضوع دِه.. الحادثة بتاعتك چت ف وجتها.. عرفت ساعتها انى كنت هرتكب غلطة عمرى لو اتچوزتها.. كنت هظلمها و للمرة التانية هظلم حالى و انا اللى كنت فاكر انى بسدد دين عليا ليها.. دلوجتى اتاكدت ان الحاچة الصح الوحيدة اللى هتحسسنى انى اتحررت من عجدة الذنب الجديمة هى انى اجولك انها بتحبك انت و انى متأكد انك هتصونها و تحفظها لانها تستحج حد يحبها بجد و يخاف عليها.

تلجلج حازم هامسا:- بس يا حمزة.. اصل..
هتف حمزة مقاطعا ومذكرا اياه:- فاكر يا واد عمى لما كنّا هنا و ف نفس المكان دِه جلت لك انى لا اعرف يعنى ايه حب و لا عايز اعرف..
و قهقه حمزة فى سخرية :- جال يعنى الواحد بمزاچه يعرفه و لا ميعرفهوش!؟..
و تنهد مكملا:- ساعتها جلنا جلوبنا ف يدنا و كل واحد يبجى سيد نفسه مكنتش اعرف ان دِه لا بمزاچك و لا بكيفك يا واد عمى..
تعجب حازم متطلعا لحمزة فى دهشة و اخيرا همس:- انت وقعت يا حمزة و لا ايه !؟..

ابتسم حمزة متطلعا لابن عمه و همس فى وجع:- وجعت بس !؟.. جول ادهولت يا غالى..
قهقه حازم رغما عنه هاتفا:- معقول حمزة قلب الأسد هو اللى بيقول كده!؟..
هتف حمزة ساخرا:- جلب الأسد مين!؟.. ما راحت عليه خلاص..جصدك جلب الأرنب..
قهقه حازم من جديد هاتفا:- و مين الساحرة اللى عملت المعجزة دى!؟..
هتف حمزة فى تردد:- البت الجصيرة..الشبرواجطع..اللى چوه عنديكم دى..

تطلع حازم اليه فى صدمة للحظة و اخيرا انفجر مقهقها بلا توقف و ما ان هدأت حدة قهقهاته التى أدمعت عيناه حتى هتف فى عدم تصديق:-هدير يا حمزة !؟.. انت بتتكلم جد !؟.. البت هدير اختى !؟..
اكد حمزة ساخرا:- هى الجصيرة دى ام نص لسان.. هى الأخت هدير..
ابتسم حازم رابتا على كتفه مواسيا:- معلش يابنى ربنا يصبرك على ما بلاك..
اكد حمزة مبتسما:- مش كِده برضك.

هتف حازم متعجبا:- طب مطلبتهاش من عمك ليه!؟..
اكد حمزة:- يعنى مكنش ينفع بعد فسخ خطوبتى على تسبيح اروح اطلب هدير بعديها طوالى.. جلت استنى شوية الموضوع يهدى و انت تخرچ بالسلامة.. و بصراحة.. مكسوف و مش عارف ازاى افاتحه..
هتف حازم:- ايه!؟.. مكسوف ده ايه !؟..

و انتفض حازم من موضعه مستطردا فى حماسة:- ده انا اللى هروح اخطبهالك بنفسى دلوقتى.. و خليها متوافقش.. هجوزهالك بالعافية.. هى تطول..
اندفع حازم على قدر وجع قدمه لداخل الفيلا و حمزة يحاول استوقافه و لا فائدة حتى صادف الجميع جالسا فى البهو فهتف حازم متطلعا لزكريا الذى كان يتبادل الحديث مع زينة و ظهرت هدير فى طريقها اليهم قادمة من حجرتها:- بابا.. بقولك ايه !؟.. انت مش ناوى تجوز البت هدير دى و تخلص منها !؟..

هتفت هدير فى غيظ:- و حد قالك انى عايزة اتجوز اصلا !؟.. انا هفضل مع بابا حبيبى طول العمر..
و انحنت تقبل زكريا فى دلال و هى تلقى بنفسها بين ذراعيه و الذى هتف بدوره فى محبة:- ايوه بنتى حبيبتى هتفضل ف حضنى..
ليستطرد حازم فى مشاكسة و حمزة يقف خلفه و قد أوشك على الهرب من شدة الاحراج:- حتى و لو قلت لك يا بابا ان العريس ده يبقى حمزة!؟..

هنا ابتسم زكريا فى سعادة و هو يتطلع الى بن اخيه المحتجب خلفه ولدت والذى ما ان رأه للمرة الاولى حتى تمنى ان يكون من نصيب ابنته زوجا.. بينما انتفضت هدير مشدوهة لا تقو على التفوه بحرف تتطلع لحمزة الذى ذاب توترا و إحراجا و فجأة اندفعت بلا مقدمات صاعدة الدرج بإتجاه غرفتها من جديد فما استطاعت تحمل الفرحة التى اجتاحتها عندما رأت ان حلمها يتحقق اخيرا و ان ذاك المتحجر القلب قد لان اخيرا و اصبح قلبه ملك يدها..و خافت ان تتهور كعادتها معبرة عن مشاعرها فلازت بغرفتها تهدئ من وجيب ذلك القلب الذى كان يرقص فرحا بين جنباتها.

اندفع ذاك الرجل الاخرق بإتجاه دار جاسم هاتفا فى ذعر ما ان طالع محياه:- ألحج يا سى جاسم.. ألحج..
هتف جاسم فى لامبالاة و ذهنه غائب تماما فى نشوة تلك الأدخنة الزرقاء التى تتراقص امام ناظريه من
نرجيلته:- ايه فى يا مخبل !؟.. انطج
هتف الرجل و هو يرتجف خوفا من العقاب الذى شعر انه قادم لامحالة:- كتب كتاب الست هداية النهاردة على اللى اسميه ماهر دِه !؟..

انتفض جاسم فى عنف و ألقى بنرجيلته من يده منقضا على تلابيب الرجل صارخا:- بتجول ايه يا فجرى!؟.. امال انت بتعمل ايه هناك!؟.. انى مش جايل لك بس تعرف الميعاد تاجى تجولى!؟..
هتف الرجل فى ذعر متلجلجا:- ما انى مكنتش موچود و الله يا سى جاسم.. انى كنت ف يد الحكومة و توك ما سيبتنى و لما رچعت عرفت انهم هيكتبوا النهاردة.. ده ان مكنوش كتبوا..

صرخ جاسم بصوت هادر:- كمان!؟
و بتجولها ف وشى عادى كِده !؟..
دفع بالرجل بعيدا عنه فى عنف و حنق بالغ و هتف صارخا لرجاله:- حضروا حالكم جوام..
و ابتسم متشفيا و هو يستطرد فى جزل:- الظاهر الليلة دى چاسم هايبجى عريس.. ما هو العروسة چاهزة و مستنية عريسها..
و أنفجر مقهقها فى نشوة و بصوت جهورى ألقى الرعب فى قلوب رجاله أنفسهم..

كانت تستمع الى الأعيرة النارية التى تنطلق منذ يومين كاملين فرحة من اجل الاستعداد لعقد قرانها و ماجد فى نفس توقيت زفاف ماهر و هداية و الذى كان توقيتهما المتزامن اثر اصرار خالها عاصم على ذلك فقد أراد ان يكون زفاف ماهر اخيها هو يوم عقد قرانها على ولده ماجد.. كان يريد إسعاد امها و ادخال السرور على قلبها بعد كل ما عانت جراء استشهاد اخيها...

كان الجميع على اهبة الاستعداد و بالرغم من مراعاة الجميع لظروف الحزن التى يمرون بها و عدم المغالاة فى مظاهر الفرحة التى كانت على أضيق نطاق على غير عادة الهوارية الا ان الجميع كان فى سعادة فعلية فالعرس هوارى حتى النخاع..

كل هذا الفرح و كل تلك السعادة و لا نصيب لها فيهما بعد ما سمعته منذ ايّام.. لقد عاد اليها.. يبدو انه عاد لحبه القديم و تجددت مشاعره لها بعد ما فعلته به.. و تساءلت فى نفسها لما اذن تقرب اليها.. لما خطب ودها و هتف برغبته فى الارتباط بها امام امه!؟.. تكاد تُجن و تفقد صوابها و عقلها لا يكف عن التساؤل و لا اجابة..

حتى هو لم يفكر و لو للحظة ان يرفع سماعة الهاتف او حتى يأتى لمقابلتها محاولا تبرير ما سمعت.. اى تبرير يريح قلبها و يحفظ كرامتها.. لكنه لم يفعل و الأدهى و الامر انه بالفعل سافر القاهرة منذ يومين.. سافر اليها.. كانت تغلى قهرا و غيرة و حزنا على حالها.. انتفضت تحاول اسكات ذاك الضجيج بعقلها و فتحت المذياع بصوت عال و هى تتجه للنافذة تتطلع منها للغادى و الايب من و الى دارهم من اجل تجهيز الدور العلوى ليكون مخصص لماهر و عروسه..
تنبهت لكلمات الاغنية التى يبثها المذياع لتذرف دمعها بلا وعى منها..

و مقلتليش م الاول ليه
 ع اللى انت مش قادر تنساها
 شوف السكّات وصلنا لأيه..
 بهواك انا و انت بتهواها

كادت ان تغلق المذياع الذى يثير شجونها بكلمات أغانيه الا ان طرقا على الباب جعلها تتوقف فى طريقها للمذياع مغيرة مسارها لتتجه للباب..
فتحته لتجد امها تتوقف امامه
هامسة:- ماچد هنا و عايز يجابلك ضرورى... انا هنادم عليه.. حطى تحجيبتك..
هتفت غير مصدقة:- ماچد !؟..

تطلعت امها هاتفة:- ايوه.. انى استغربت زيك كِده.. ايه اللى چابه دلوجت و كلها كام ساعة و تبجى حلاله و يبجى يجول لك اللى هو عاوزه !؟..
لم تكن ايمان قد أخبرت امها بما بينهما فكان من الطبيعى تعجبها.. لكن تعجبها هى كان نابع من جرأته فى القدوم الى هنا بعد ما حدث منه.. كانت لا تريد ان تعكر أجواء فرح ماهر بما ينغص عليه سعادته فهى للمرة الاولى منذ استشهاد مؤمن ترى ماهر بهذه السعادة..

انه يحب هداية بالفعل.. و هى لن تسمح بأى حدث يمكن ان ينل من فرحة اخيها مهما كان حتى و لو كان هذا على حساب نفسها..
تسمرت فى مكانها و قد وضعت غطاء رأسها و دخل هو متنحنا.. كان لايزل صوت المذياع صادحا بكلماته الموجعة..
 
 دلوقتى ليه جاى تقولى..
 و اعمل لك ايه طب ما تقولى
 طيب.. طيب يا قلبى طيب
طيب و لا فكرت بعدك هعمل ايه!؟
و جرح قلبى طيب..جرح قلبى طيب
و جرح قلبى ازاى انا هقدر عليه.!؟

نظر ماجد للمذياع و توجه اليه ليغلق وجعه المنساب اليها و تطلع الى وجهها المرسوم بالأسى و تلك الدموع التى ما زال اثرها منحوت على صفحة خديها..تقدم اليها بخطوات وئيدة لازال بها بعض العرج الخفيف.. توقف قبالتها و هى منكسة الرأس لا تقو على رفع ناظريها و التطلع اليه حتى لا تفقد رباطة جأشها التى ادعتها ما ان علمت بقدومه لمرأها ليهتف هو بصوت حازم النبرات امرا:- ارفعى راسك لفوق يا ايمان و بصى ف عينى و قوليها.. قولى انك مش عايزة تكملى معايا.. قولى انك مش عيزانى..

غلبتها روحها الحرة و عنادها فرفعت رأسها تطلع اليه كما امرها لكنها لم تستطع التفوه بكلمة فانفجرت باكية رغما عنها..
ساد الصمت بينهما حتى هدأت قليلا فهمس مصرحا:- انا بقى اللى هقول..
انتفضت و رفعت ناظريها لا إراديا تتطلع اليه فى صدمة.. هل بهذه البساطة يتخلى عنها!؟.. هل اتفق مع حبه القديم على استئناف ما كان دون لحظة تفكير واحدة فى من تركها خلفه !؟..

استطرد هو و هو ينظر لعمق عينيها بعشق:- هقول انى مقدرش استغنى عنكِ.. و ان انتِ ف كفة و ستات العالم ف كفة تانية..
ساد الصمت مع ابتسامة على شفتيه بمنظرها المشدوه و المصدوم من اثر كلماته و فجأة انفجرت فى عاصفة جديدة من البكاء.. لكنه بكاء عجيب.. بكاء بطعم الفرحة الممزوجة بالدهشة و المخلوط بالسعادة و المغلف بالجنون..

هتف مشاكسا إياها:- طب يعنى ده منظر واحدة كتب كتابها بعد ساعتين يا ربى !؟.. تطلعى للناس عينك وارمة م العياط يقولوا ايه بس!؟.. واخدها جبر و لا تخليص حق..
ابتسمت رغما عنها لمشاكساته التى تعشقها و التى استمر فيها هامسا:- خدى بالك.. انتِ مديونة ليا.. لازم اقررك كنتِ بتسرحى ف ايه و اول ما اظبطك وشك يحمر.. ميعاد التحقيق قرب يا جميل..

احمر وجهها حياء رغما عنها ليتطلع اليها فى عشق راغبا فى ضمها الى صدره.. عند هذه النقطة شعر انه تخطى النقاط الحمراء و التى ليس من المسوح له تخطيها الا بعد ساعتين من الان.. تنهد فى حسرة هاتفا و هو يهم بالرحيل:- طب انا لازم أمشى دلوقتى.. و نتقابل قدام المأذون يا..
قاطعته متسائلة حتى ترتاح:- روحت تقابلها ليه يا ماچد !؟..

استدار و ابتسامة على شفتيه و تطلع اليها مؤكدا فى ثقة:- رحت أقابلها عشان أكون متأكد انى هنا و انا عايزك.. انى هنا و انا اتخلصت فعلا من كل رواسب قصتى معاها.. و ان هنا.. و اشار لقلبه.. مش لحد غيرك و لا فيه مكان الا ليكِ انتِ و بس..
تطلعت اليه و تراقصت بقلبها دموع فرحة و لم تعقب بحرف ليهمس هو فى عشق:- سلام يا مراتى..

انتشت فى سعادة للقب الجديد الذى اطرب قلبها و أسكر روحها و توجه حيث الباب الذى كان مفتوحا بالفعل و امسك مقبضه و هتف قبل ان يهم بغلقه خلفه:- هسيبك تجهزى عشان انا عايز اشوف اجمل عروسة النهاردة.. انا مش عارف مكنش فرح ليه بالمرة!؟.. صبرنى يا رب..
انفجرت ضاحكة على هتافه الاخير بالصبر و هو يغلق الباب و قد تبدل حالها من حال الى حال بعد ان علمت بل تيقنت انها الوحيدة التى تعتلى الان عرش قلبه بلا منازع و ما كانت لترضى عن ذلك بديلا..

علت أصوات الأعيرة النارية و ذاك المزمار الصعيدى يصدح خارج بيت يونس و العروس تتزين بالأعلى يجتمع حولها النسوة فى سعادة خاصة عائشة التى كانت تطير فرحة لسعادة ابنة عمها التى تظهر جلية على محياها.. فأخيرا إحداهن على الاقل ستجد السعادة التى كانت تبحث عنها و تمنت ان لا تضل طريقها اليها.. اليوم ستكون عروس لماهر الهوارى و ستنتقل لبيت ابيه..

وقفت و تذكرت حالها يوم زفافها و دمعت عيناها كانت تشعر بنفس الفرحة و تنتشى سعادة و سرور فهى ستكون زوجة لمن دق له قلبها.. و تمنت من صميم قلبها ان لا تجد ابنة عمها اى منغصات تذكر مع زوجها المستقبلي مثلما حدث معها مع زوجها العزيز حامد و الذى تفتقده رغم كل شئ حد المجاعة.. ربتت على بطنها المنتفخ و ابتسمت و هى تربت على كتف هداية بالكف الاخرى مازحة:- عقبال ما تحصلينى.. قبل ما أولد عايزة اسمع بخبر حملك.. طوالى كِده سمعانى !؟..

ابتسمت هداية فى حياء غير قادرة على الرد على مزاح عائشة تكاد تذوب خجلا كلما تذكرت انها ساعات قليلة و ستصبح معه تحت سقف بيت واحد بل حجرة واحدة.. زاد وجيب قلبها عند تلك النقطة فقررت التوقف عن الاسترسال فى خواطرها و خاصة عندما انتفضت و تلك الزغاريد تزداد وتيرتها معلنة عن قرب رحيلها عن دار اخيها متوجهة لدار زوجها فى زفة تليق بها حيث بيت ماهر الذى ينتظرها على احر من الجمر بعد عقد القران..

كانت النساء ترقص و تغنى فى نشوة بالأعلى فى انتظار سماع الاذن بالمغادرة فقد حضر يونس و معه المأذون و بانتظار العريس ليعقد القران فى بيت العروس قبل اصطحاب زوجها لها..

اشتعل الرقص حمية و الغناء قوة الا ان الوقت مر دون اى جديد.. حتى اندفعت كسبانة اليها من بين الزغاريد المتدفقة هنا و هناك مؤكدة على انتهاء عقد القران مطالبة إياها بالنزول للامضاء ليتم زفافها حتى بيت زوجها مؤكدة ان القران قد تم عقده و العريس بانتظار زفتها امام داره لتأتى اليه بصحبة اخيها لانه لم يستطع ترك المدعوين بداره..تحركت فى وجل تهبط الدرج من شقة عائشة حيث يُعقد قرانها وتنل صك سعادتها المرتقبة اخرج لها يونس الدفتر و زينته بإمضائها و عاد للمأذون من جديد و تعالت الزغاريد..

هتف يونس بها لتتبعه لبيت زوجها وما ان وصلت لأعتاب الدار الخارجية تحاوطها النسوة منتشيات حتى تعالت فجأة الصرخات من هنا و هناك وهرولت النساء مبتعدة عن طريق ذاك الملثم و جماعته المسلحة الذى اندفع بإتجاهها و رجاله يهدمون مظاهر الفرح التى تقابلهم بطريقهم و يدهسون بسنابك خيلهم الأخضر و اليابس شاهرين الأسلحة فى تحدى صارخ..

وصل الملثم لموضع هداية و انحنى فى جرأة جاذبا إياها ليضعها امامه على صهوة فرسه مهددا الجميع اذا ما تحرك احدهم فسيكون مصيره المحتوم هو القتل..
و اندفع بها منطلقا على فرسه راحلا و صرخاتها بأسم يونس و ماهر تدوى طالبة النجدة..

لم يستطع يونس الوقوف متفرجا على ذاك العار الذى يلحق به دون ان يحرك ساكنا فأندفع خلفه رغبة فى اللحاق به و تخليص العروس من يديه و تعلق بسرج فرسه رغبة فى عرقلة تقدمه مبتعدا و قد تبعته نساء الدار باكيات على انقلاب الحال..

دفع الملثم بيونس مبعدا اياه عن التعلق به و ما ان ابتعد قليلا حتى أستدار فى غيظ و و صوب بندقيته تجاه يونس و حامد الذى لحق بأبيه و اطلق الرصاص حتى يتأكد ان ما من احد يتبعه و استدار فى لامبالاة و رحل..لتدوى الصرخات و سكينة تسقط بين ذراعى ولدها و قد تيقنت ان جاسم ينوى الشر بيونس فجعلت جسدها درعا يصد الرصاص عنه..

ازدادت صرخات النساء دويا و الجمع يلتف حول سكينة المصرجة بدمائها بين ذراعى ولدها..
بكى يونس فى قهر معاتبا:- ليه كِده ياما.. ليه !؟..
ربتت على خده بكفها المرتعش و الملطخ بدمائها هامسة:- ربنا يخليك لشبابك و لعيالك يا ولدى.. انى خلاص هعوز ايه م الدنيا.. دوجت حلوها و مُرها و استكفيت..

و أدارت وجهها باحثة بين الوجوه عن كسبانة و اشارت اليها فتقدمت و دموعها تغرق وجهها و انحنت بالقرب منها هامسة توصيها:- خلى بالك منيه يا بتى دِه ملهوش غيرك.. سيباهولك أمانة ف رجبتك..
انفجرت كسبانة فى البكاء بحرقة شديدة و لم تستطع ان تتفوه بكلمة واحدة و اخيرا همست سكينة فى وهن:- وينها بخيتة !؟..

تقدم حامد الباكى العينين يساعد بخيتة المذعورة على تلمس الطريق حيث ترقد سكينة مضرجة بدمائها وما ان جلست قبالتها حتى تحسست جسد سكينة فى لهفة غير مصدقة ما سمعت حتى لامست كفها لذوجة الدماء و استشعرت سخونتها فهتفت:- سكينة!؟.. انت زينة.. انت مفيكيش شى.. هتجومى.. ايوه هتجومى و تبجى زى الفل..

ابتسمت سكينة فى وهن و هى تمسك بكف بخيتة تجذبها اليها و همست بالقرب من مسامعها:- انى مخيفاش م الموت يا خية.. خابرة ليه!؟.. و ابتسمت مستطردة.. عشان هروح الچنة جبلك زى ما جلت لك و انت مصدجتنيش..
اكدت بخيتة باكية فى لوعة:- ايوه هتروحى.. هتروحى يا حبة عينى..

استطردت سكينة بنظرات زائغة:- اجولك سر يا بخيتة.. انى كنت بصلى و الله.. كنت بصلى من وراكِ و مفوتش فرض من ساعة ما چيت داركم.. ربنا بعتك ليا و انى مسكت و تبت بالجوى.. هتوحشك يا غالية.. ادعيلى كتيير..و افتكرينى بالخير..
قالت كلمتها الاخيرة فى صوت متحشرج و احرف متقطعة و اخيرا أصدرت شهقة قوية و هى تحاول نطق الشهادة بشكل مهزوز و اسلمت الروح..

لينفجر الجميع فى نوبة بكاء هستيرى و أولهم يونس الذى ضم جسد امه لصدره فى لوعة صارخا و انكفت بخيتة تتحسس الجسد المسجى و تتلمس ريحه الطيب الذى ستفتقده للأبد

اندفع جاسم جاذبا اللثام عن وجهه متطلعا لهداية التى كانت تعافر للقفز عن ظهر الفرس مبتعدة عنه حتى و لو فى ذلك موتها..
همس بالقرب من اذنيها فى تشفى:- فاكرة ان ممكن تبجى لغيرى!؟.. يبجى بتحلمى.. دلوجت اخوكِ اللى كنتِ بتتحامى فيه هو اللى هايچى يچرى يبوس يدى عشان اكتب عليكِ و استرك..

هتفت هداية فى صلابة رغم شهقات بكائها و هى لاتزل تعافر:- اموت و لا تمسنى.. اجتل روحى و لا تطول شعرى منى يا نچس..
انفجر ضاحكا فى تجبر و همس فى غل بنبرة تقتر حقدا:- هنشوفوا يا بت عمى.. هنشوف..
نطق جملته الاخيرة ولم يكن يدرى ان هناك بالفعل من يتبعه و لن يجعله يهنأ بأختطاف عروسه فى ليلة عرسهما و خاصة بعد ان اصبحت زوجته شرعا..

فالجميع لم يدرك ان عقد القران قد تم بالفعل فى دار ماهر و الذى ما كان يطيق صبرا حتى يذهب لبيت العروس و خاصة ان اخيها كان بين الحضور..فتعجل يونس و الذى لم يجد غضاضة فى ذلك و كان عليه ان يحصل على امضاء العروس فقط و تم عقد القران بالفعل و انتهى الامر..

وصله خبر اختطاف عروسه سريعا بطبيعة الحال و ما ان علم حتى حزم امره و قرر عودة ماهر القديم ذاك الشقى الذى يضاهى جاسم جرأة و صفاقة و بدأ فى جمع كل من كان يعرفهم سابقا و اندفع فى اتجاه الجبل حيث يدرك جيدا اين يمكن لجاسم و امثاله الاختباء بفعلة قذرة كهذه و انتظر هو و جماعته قدوم جاسم حيث كان يعلم انه لابد و ان يمر بذاك الطريق للوصول لمكان امن بالجبل يتدارى به.. و لم يخب ظنه فقد لمح من البعد جماعة جاسم و هو يتوسطهم و عروسه تكافح فى بسالة رغبة فى الهروب و النزول عن صهوة الجواد..

شعر بالغيرة و الحمية تتأكله وود لو اندفع مطبقا على انفاس جاسم و انتزاعها من صدره انتزاعا الا انه حكم العقل و انتظر مجبرا حتى اقترب الجمع و بدأ هجوم الطلقات يحصد رجال جاسم الذى حاول الفرار لكن ماهر كان له بالمرصاد و اندفع خلفه بفرسه فى غضب قاهر و اطلق الرصاص خلفه حتى ارداه قتيلا..

كادت هداية تسقط عن الفرس بسقوط جسد جاسم النجس الا ان ماهر كان الأسبق ليتلقفها بين ذراعيه و يعود بها على فرسه مندفعا هابطا الجبل فى اتجاه دار اخيها..
ما ان وصلا حتى كان العويل و البكاء حزنا على سكينة يشق السماء وجعا و قهرا..

دخل ماهر حاملا عروسه المختطفة الى داخل دارها و ما ان رأته النساء حتى اندفعن لأطمئنان على العروس التى فقدت وعيها خوفا و ذعرا لما مرت به..
وضعها برفق على اقرب الأرائك و هتف بصوت متحشرج مهزوز موجها حديثه ليونس الذى نهض فى صدمة ما ان رأى ماهر يدخل بأخته حاملا إياها بين ذراعيه:- شرفنا ف الحفظ و الصون يا نسيبى.. مكنش ينفع اختك تبات الا ف بيت چوزها..

هم يونس بالاندفاع نحوه الا ان جسد ماهر انهار فجأة و بلا اى مقدمات ليدرك الجمع متأخرين بقعة الدماء التى كانت تلطخ كتفه..

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة