قصص و روايات - روايات صعيدية :

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثالث بقلم رضوى جاويش الفصل الحادي والعشرون

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثالث رضوى جاويش

رواية ميراث العشق والدموع الجزء الثالث (رباب النوح والبوح) بقلم رضوى جاويش الفصل الحادي والعشرون

انتفضت زهرة فى ذعر من نومها هاتفة:- اعوذ بالله من الشيطان الرجيم..
تململ عاصم بجوارها فى تساءل:- ايه فى يا زهرة!؟..
واستدار متطلعا اليها بعد ان أضاء المصباح المجاور لفراشه ليهتف متطلعا لوجهها الشاحب:- خبر ايه !؟. كنه كابوس چامد.. اشربيلك بج مية طيب..
هتفت كأنها لم تسمعه:- ماجد يا عاصم.. ماجد..

انتفض عاصم بدوره قلقا و استدار اليها بكليته متسائلا:- ماله ماچد..!؟. و تنهد مستطردا يحاول طمأنتها:- تلاجى بس يمكن عشان بجالك فترة مكلمتيهوش يا زهرة و مطمنتيش عليه.. تلاجيه وحشك حبتين.. هو طول الغيبة المرة دى ووحشنا كلنا الصراحة..
لم تعقب زهرة ليربت عاصم على كتفها ناصحا:-جومى صلى ركعتين لله جبل الفچر يمكن تهدى شوية و لا استنى.. و تطلع لساعة جواله مستطردا.. كنه الفچر أدن من ياجى نص ساعة.. جومى نصلوا و اهدى.. وسوسة شيطان..

بكت زهرة فى صمت ليتطلع اليها عاصم عائدا اليها بعد ان قطع نصف المسافة للحمام رغبة فى الوضوء و الصلاة هاتفا:- واااه.. دِه باينه الموضوع كَبير.. بجى حتة حلم يعمل فيكِ كِده يا ام مهران.. و انى اللى بجول عليكِ شَديدة..
و امسك بكفها جاذبا إياها لتسير خلفه هاتفا:- انى هتصل بماچد من صبحية ربنا و اجوله يحاول ياجى ف اجرب فرصة عشان تشوفيه و تطمنى عليه بنفسك يا ستى.. ارتاحتى بجى!؟.. و استدار اليها مقتربا فى مشاكسة هامسا:- و لا اجرب و اجرالك آيتين قرآن من بتوع زمان!؟..

ابتسمت من بين دموعها لذكرى ما كانت بينهما عندما كانت تمرض يقترب منها و يقول لها هجرالك قران و هتبجى عال.. لينتهى بهما الحال كالمعتاد فى احضان احدهما الاخر..
جذبها من جديد خلفه حتى الحمام ليتوضأ كل منهما و يصلى الفجر و كلاهما فى قلبه رجفة قلق يحاول ان يداريها عن رفيقه..

دخلت سكينة المطبخ تسعى لصنع كوب من الشاي لتجد كسبانة تقف امام الاطباق المتسخة بحوض الغسيل دون ان تمسها و لكنها تبكى في صمت دون ان يدرك بحالها احد..
اندفعت سكينة لكنتها هاتفة في لوعة:- واااه.. ايه في يا بتى !؟.. ليه البكا دِه!؟..
مسحت كسبانة دموعها بظاهر كفها هاتفة بصوت مبحوح و انكسار:- لااه مفيش يا خالتى.. مفيش..

صمتت سكينة للحظات تتطلع لها و أخيرا اقتربت منها تربت على كتفها في تعاطف هامسة:- متجلجيش يا بتى.. كل ضيجة بعدها فرچ.. ربك هيعدلها..
هتفت كسبانة في ضيق:- كيف يا خالتى.. كيف !؟.. و دى وصية حمايا الله يرحمه.. انتِ عارفة انى حاسة بأيه دلوجت.. عارفة كل اما اطلع لها و انى شايفة شبابها و جمالها اجول ف نفسى ايه!؟.. انى بموت من چوه و محدش دارى بحالى..انى مبكهرهاش هي ملهاش ذنب..تلاجيها مغصوبة برضك و مش بيدها..بس أعمل ايه ف حالى !؟.. ده انى سألت ولدك هتتچوزها.. يجولى لاااه دى اصغر من حامد ولدى.. طب كيف.. ووصية ابوك!؟..

ابتسمت سكينة و هي تربت على كتفها تهدئ من انفعالاتها التي ظهرت على شكل شهقات بكاء عَلا نحيبها..و أخيرا هتفت:- ليه و انى روحت فين!؟..
تطلعت اليها كسبانة مستفسرة في تعجب:- كيف يعنى !؟..
اتسعت ابتسامة سكينة هاتفة:- هو انتِ مش بتى!.. كيف اشوفك كِده و اجف ساكتة!؟..

تطلعت كسبانة اليها من جديد في تعجب و لم تعقب لتستطرد سكينة في تأكيد:- من ساعة ما چيت البيت دِه و انت مستحملانى و بتعملينى كيف امك و عمرك ما زعلتينى و شيلانى على كفوف الراحة..و انى حبيتك كنك بتى و ربنا العالم و محملش فيكِ اى حاچة عفشة.. حتى و لو كانت من ولدى..
تطلعت كسبانة اليها في امتنان و أرتمت في أحضانها لتهمس سكينة و هي تضمها اليها في محبة حقيقية:- مش انى غازية!؟.. اطلعى بجى على تصاريف الغوازى..

خرجت هداية كعادتها من كليتها تحاول البحث عن عربتهم لتقلها لدار اخيها و تبعتها عائشة تلحق بها بعد انتهاء محاضراتها.. تلفتت كل منهما تبحث عن السيارة لكن بلا جدوى.. لتنتفض هداية في مكانها عند ظهور احدهم هاتفا من خلفها في صفاقة منقطعة النظير:- مش لاجية عربيتكم!؟.. طب و ماله عربيتى موچودة و تحت امركم..

هتفت هداية لماهر في ضيق:- بجولك ايه يا اخ انت..هو ايه.. كل مكان طالع لى فيه كِده زى عفريت العلبة.. و الله لو ما لميت روحك ما هايحصل لك طيب..
هتف ماهر في سماجة:- كل اللى ياجى منيكِ انى جابل بيه..
همت هداية بالصراخ فيه الا ان عائشة كانت الأسرع لتهتف في هدوء:- فارجنا يا اخ الله لا يسيئك احنا مش ناجصين.. روح لحالك و سبنا ف حالنا..

هتف ماهر متعجبا:- واااه.. و انى عِملت ايه يعنى!؟.. هوصلكم ف طريجى للنچع..
هتفت عائشة في ضيق:- هو انت جالب عربيتك الخصوصي توصيل بالنفر !؟.. لو كِده يبجى نركب.. غير كِده يبجى تحل عنا.. احنا منجصينش جورس و فضايح.. روح..

جذبتها هداية عندما أنهت نطق اخر كلمة لذاك الاحمق الذى يلاحقها كظلها في إصرار عجيب و قفزت لأحدى عربات الأجرة التي كانت تتابعها هداية بناظريها متحينة الفرص للهروب من ذاك الماهر الذى بات أشبه بظل لها..و الذى رن هاتفه مرارا و تكرارا فهو لم يعد من البارحة لدار ابيه و ها هى امه لا تتركه لحاله منذ الصباح برنينها الذى لا ينقطع.. جلس خلف مقود سيارته و اندفع بها للنجع و قد عاود هاتفه الرنين من جديد ليتجاهله كالعادة..

اندفع كل من زهرة و عاصم من باب المشفى الذى اُحتجز فيه ماجد و بقية من رفاقه اثر ذاك الحادث الارهابى.. كان المشفى على قدم و ساق و لم يكن من السهل الوصول لمعرفة اين ولدهما الذى حتى هذه اللحظة لا يعلمان ما هى اصابته بالضبط..
اخيرا ظهر احد الأطباء خارجا من احدى غرف العمليات متعجلا ليستوقفه عاصم فى اندفاع:- معلش يا داكتور.. الملازم ماچد عاصم الهوارى.. موچود فين !؟..و اصابته ايه..!؟

اكد الطبيب:- متهئ لى ده اللى ف غرفة العمليات دلوقتى.. انا لسه خارج من عنده عشان استدعونى ف الطوارئ.. إصابته شديدة ادعوله..
تمسكت زهرة بذراع عاصم فى وهن تشعر ان قدماها هلاميتان.. أسندها عاصم و هى مصدومة لا تنطق حرفا و قد شحب لونه بدوره غير قادر حتى على مواساتها..

لا يعلم اى منهما كم ظلا على حالهما حتى انفرج باب غرفة العمليات عن احد الأطباء لتدب العافية فيهما فيندفعان بإتجاه الطبيب الذى بادرهما بالسؤال:- انتوا اهل سيادة الملازم ماجد الهوارى!؟..
هتف عاصم مؤكدا:- ايوه يا داكتور.. خير.. طمنا..
زم الطبيب شفتيه أسفا منكسا رأسه ارضا و اخيرا هتف فى حزن:- انا أسف حاولنا نعمل اللى نقدر عليه عشان ننقذ رجله لكن حالتها كانت سيئة جدا و كان لابد من البتر..

شهقت زهرة فى صدمة متعلقة بعاصم بينما لم يأتِ الاخير اى ردة فعل و اخيرا هتف بعد لحظات من
الصمت:- بتجول بتر يا داكتور!..يعنى رجله راحت!؟.. ولدى بجى عاچز!؟..
ربت الطبيب على كتف عاصم و قد عَلا نحيب زهرة فى وجع و ساد الصمت القاتم للحظات قطعها الطبيب موضحا:- البتر أنقذ حياته و خاصة بعد إصابة الرجل التانية بس الحمد لله قدرنا نتعامل مع الإصابة و بقت بخير.. ادعوله..

استأذن الطبيب و غادر و هما على حالهما امام غرفة العمليات تشملهما الصدمة و لا يستطع اى منهما مواساة الاخر فى مصابه.. حتى ظهرت سهام و معها مهران و حسام لتندفع زهرة بأحضانها صارخة:- ماجد خلاص يا سهام.. ماجد بقى عاجز.. رجله راحت..

شهقت سهام فى صدمة منتحبة على حال بن اخيها بينما اندفع مهران بأحضان ابيه مواسيا لا يعلم ما عليه فعله هل يبكى اخيه ام يواسى ابيه على مصابهم ليهمس عاصم مكررا فى انكسار:- اخوك رچله راحت يا مهران.. اخوك بجى عاچز..
ربت مهران على ظهر ابيه مواسيا يدارى دمعا يهتز على جفونه فى لوعة هاتفا:- نستحمدوه يا حاچ عاصم.. نستحمدوه.. انت متعرفش ان مؤمن استشهد..
زاد نحيب زهرة و سهام وجعا بينما هتف عاصم فى صدمة:- مؤمن واد سمية !؟

اكد مهران فى حزن:- ايوه.. و البلد مجلوبة على رچل.. چالى الخبر بعد ما طلعنا ع المطار چرى وراكم على هنا..
هتف عاصم دامع العينين:- انا لله و انا اليه راچعون..
انفرج باب غرفة العمليات فجأة لتخرج احدى الممرضات دافعة الباب و جاذبة سرير مدولب يتمدد عليه ماجد تدفعه ممرضة اخرى على الجانب الاخر فى سبيلهما لغرفته..

انتفضت زهرة تحاول التطلع لولدها فى لهفة و ما ان طالعها محياه و هو يرقد بهذا الشكل ملئ بالإصابات المتعددة فى أنحاء جسده حتى غامت الدنيا امام ناظريها و ما عادت تراها الا بلون الحزن...

طرقات خفيفة على باب حجرتها جعلتها تدرك على الفور انها أمها تستأذن للدخول فسمحت دمعاتها المنسابة على خدها في سرعة قبل ان تأذن لها معتقدة انها بذلك قد أخفت حزنها عنها..
تطلعت سهير لأبنتها التي لم تغادر حجرتها منذ ذاك الصدام بينها و بين حازم خطيبها.. كانت تعتزل الناس و الدنيا تبكى في الخفاء معتقدة انها لا تشعر بها و هي لا تراها..

خطوات قليلة تقدمتها داخل الغرفة حتى أصبحت بجوار نهلة التي حاولت الابتسام هامسة:- خير يا ماما في حاجة !؟..
همست سهير رابتة على كتف ابنتها في حنو:- اه.. اكيد في.. فيه اللى انتِ عملاه ف نفسك ده..
هتفت نهلة مدعية الدهشة:- عاملة ايه بس يا ماما !؟.. ما انا زى الفل اهو..
ابتسمت سهير متهكمة:- ايوه فعلا.. انت زى الفل قدامى انا و بس.. لكن لوحدك بتقضيها عياط و دموع.. ليه كده يا نونا..احنا مش أصحاب!؟..

ليه تفكرى لوحدك و تزعلى لوحدك.. و انا معاكى..
همست نهلة متعللة:- اصل يا ماما.. انا..
قاطعتها سهير معاتبة:- انتِ ايه يا نهلة بس !؟.. فضلت كتير مستنية انك تيجى تتكلمى براحتك من غير ضغط منى.. لكن للأسف مجتيش.. قلت لا.. مش هفضل سيباكِ كده.. لازم ادخل بقى و اشوف ايه اللى ف دماغك بالظبط.. و استقريتى على ايه!؟..

هزت نهلة كتفيها في تيه هامسة:- مفيش.. و لا اى حاجة يا ماما..
و استطردت بصوت مهزوز ينبئ بعاصفة بكاء تلوح في الأفق:- انا تايهة.. مش عارفة اعمل ايه و لا اختار ازاى.. حاسة انى مسجونة جوه افكارى و مشاعرى و مش عارفة اخد اى قرار.. مش عارفة..
و انفجرت نهلة في بكاء عاصف أدمى قلب أمها اشفاقا عليها لتحتضنها في حنو و لم تتفوه بكلمة احتراما لحزن ابنتها و رغبة في تركها تفرغ كل ما يعتمل بداخلها من اضطراب و توتر.

هدأت نهلة أخيرا و لم يبق من اثر بكائها سوى بعض شهقات متقطعة بين الحين و الاخر..
أبعدت سهير ابنتها عن أحضانها في رفق تزيل اثر دمعاتها من على خديها بأكف حانية و همست في هدوء:- انا عارفة اللى انتِ فيه مش سهل.. ده صراع صعب قووى بين قلبك و عقلك.. بين حلمك و طموحك.. بس كل واحد ف الحياة مر بالاختيار ده و الشاطر هو اللى عرف يختار أولوياته صح عشان ما يندمش بعد كده و يقول يا ريت..

هتفت نهلة مستفسرة:- يعنى ايه يا ماما.. قصدك اسيب الماجستير و الدكتوراه ف السوربون و اتجوز حازم!؟.. و لا اضحى بحازم و حبى ليه و وصية بابا انى اتجوزه عشان طموحى و مستقبلى العلمى..!؟

هتفت سهير:- انا عمرى ما هوجهك لأى اختيار فيهم.. هسيبك انت تختارى اللى يناسبك و يريحك يا نهلة.. بس هكون جنبك و معاكِ مهما كان اختيارك.. بس انت اوعدينى انك عمرك ما هاتيجى على نفسك عشان تحققى حلم حد.. حققى حلمك انتِ يا نهلة لأن دى حياتك انتِ يا حبيبتى.. و اذا كان على وصية بابا.. فكرى بقلبك لو بابا كان لسه عايش كان هيتمنى لك ايه !؟.. بابا عمره ما كان هايتمنى غير سعادتك و بس يا نونا.. و لما فكر ف الوصية دى.. برضه عشان سعادتك.. خليكِ فاكرة ده كويس قوى..

نهضت سهير بعد ان ألقت كلماتها و غادرت الغرفة و هي تغمر ابنتها بنظرات داعمة و ابتسامة هادئة..
لتبادلها نهلة الابتسامة و قد تبدل حالها تماما..

اندفع زكريا لداخل بيت ابيه على قدر ما اتاحت له إصابة قدميه متطلعا في هلع و لوعة لجموع النساء المرتديات السواد و قد تجمعن داخل الدار بهذا الشكل المقبض يولولن و ينوحن في حزن يدمى القلب..

بحث عن اخته سمية بينهن لكنه لم يجدها بل وجد ايمان التى كانت فى حالة يرثى لها و التى يبدو انها استفاقت منذ لحظات من اغماءتها عندما علمت بالخبر و قد ظهرت من بينهمن مندفعة اليه ترتمى على صدره في عدم تصديق:- خالى.. شوفت اللى حصلنا يا خالى!؟.. مؤمن راح.. مؤمن راح يا خالى راح..
شهقت في وجع بين احضانه و هو بدوره لم يستطع كبح جماح دمعه على فقيدهما الغالى ذاك الشاب دمث الخلق الذى أسعده الحظ و ألتقاه مرة واحدة في احد زيارته للنجع و التي وافقت إجازته..

ربت على ظهر ابنة اخته هامسا في تساؤل:- فين امك يا بتى !؟..
اشارت ايمان لأحد الأبواب بالدور العلوى هامسة:- جافلة على نفسها من ساعة ما عرفت الخبر.. و شهقت من جديد.. جاعدة ف اوضته مش راضية تخرچ و لا تجابل حد..

استند زكريا على سُوَر الدرج صاعدا لحجرة الشهيد مؤمن حيث اشارت ايمان.. و ما ان وصلها حتى طرق بابها في رفق طالبا الإذن بالدخول لكن لا مجيب.. فتح الباب في رفق متطلعا برأسه داخل الغرفة و جال ببصره في جميع أنحائها و أخيرا وقعت عيناه على اخته..
ابتلع دمعة كاد يغص بها و سار اليها في خطوات وئيدة و أخيرا ترك عصاه و انحنى يجلس جوارها حيث خزانة ملابس مؤمن التي أفرغتها سمية في عشوائية و جلست بين ملابسه تتلمس ريحه الطيب لعله يخبرها ان صاحبه لازال على قيد الحياة..

جذبها زكريا لأحضانه في لوعة باكيا حالها و هي تحتضن ملابس ولدها بهذا الشكل..كانت جسد متخشب بين ذراعيه.. جسد غادرته روحه.. عيناها شاخصة لإطار ذهبى يحمل صورة ولدها الغائب الحاضر و كفيها تتشبث بملابسه في استماتة تضمها لأحضانها في قوة ترفعها بين فينة و أخرى تغمر فيها وجهها و تملأ صدرها برائحة ولدها التي خلفها..

هتف فيها زكريا و هو يراها على هذه الحالة من الجمود:- ابكى يا سمية.. ابكى عشان ترتاحى..
تطلعت اليه أخيرا و كأنها المرة الأولى التي تراه فيها منذ دخل الغرفة رغم كونها بين ذراعيه هاتفة في تعجب:- ابكى ليه !..و النسوان اللى تحت دوول بينحوا على مين !؟.. دى سنوية عدلى لسه بدرى عليها.. انزل يا زكريا خليهم يكتموا صواتهم مش ناجصين فجر..

تطلع اليها زكريا لا يدرى ما يقول او يفعل وهو يراها على هذه الحالة من الإنكار لإستشهاد ولدها.. صمت و لم يعقب و ربت على كتفها في إشفاق و هو يحاول النهوض متوكزا على عصاه.. وما ان هم بالخروج من الغرفة حتى هتفت سمية متسائلة في تعجب:- بس مجلتش يا زكريا انك چاى !؟.. خير.. ايه في !؟..
تطلع زكريا لها و خفض بصره في أسى و صارع جريان دموعه قدر استطاعته حتى هتف أخيرا:- مفيش يا سمية.. كل خير.. اتوحشتك جلت اچى اشوفك..
ابتسمت في هدوء و جمعت اكبر قدر من الملابس بين ذراعيها ترفعه لتتلمس عبق وليدها من جديد..

مازال النوم يجافيه و هى لا تنام تحت نفس السقف و ما يزوره النعاس الا على فراشها فى احضان ردائها..
فدخل حجرتها من جديد بعد ان ظل يعاند نفسه و لا يطاوعها ليأتى ليتمدد على فراشها ككل ليلة منذ اصبحت تقضى أيامها و لياليها بالأسفل تحت قدمى امه المريضة..

تنهد فى شوق و هو يبحث عن ردائها الذى يضمه لأحضانه حتى ينام لكنه لم يجده موضوعا بمكانه حيث تركه صباحا.. يبدو أنها صعدت و أخذته.. زفر فى ضيق و اتجه لخزانة ملابسها باحثا عن اى رداء لها لعله يستعيض به عن ذاك الذى اختفى.. مد كفه يلتقط احد الاردية من داخل الخزانة لينتفض فجأة على صوتها هاتفا فى تعجب:- ناااصر.. فى حاجة !؟.. بتعمل ايه ف اوضتى !؟..

تمالك أعصابه بأعجوبة و استدار متطلعا اليها و هتف فى غضب متحججا:- هيكون بعمل ايه يعنى !؟.. بدور على ملايات لسريرى.. الملايات بقت زى الزفت و عايزة تتغير من زمن..
تعجبت شيماء هاتفة:- بس انا مغيراهم من يومين!؟..
اضطرب هاتفا فى حنق يخفى اضطرابه:- يعنى ايه !؟.. بكذب مثلا!؟.. بقولك الملاية مش نضيفة و عايزة تتغير..

هزت رأسها بسرعة هامسة فى طاعة:- حاضر حاضر.. هغيرها..
ليستطرد مؤنبا فى غضب:- و بعدين ايه اللى طلعك من جنب امى دلوقتى!؟.. ازاى تسيبيها لوحدها !؟..
هتفت شيماء:- لا.. ما هو..
اندفع يخرج من غرفتها بعد ان شعر بالاختناق داخلها و هى تملأها بمحياها الذى يُذهب بثباته..مستدركا فى غيظ:- ما هو ايه بس !؟.. انت دايما كده مفيش فايدة فيكِ.. اخرك شوية الزواق و الدلع اللى جابوا لك الكافية..

استدارت تتطلع اليه فى وجع و عيونها الدامعة تلومه الف مرة و تجلده بسياط من عتاب على ما تفوه به لتوه مذكرها بحادثتها المشؤومة..
انتبه لما انزلق اليه لسانه دون ان يدرى و دون ان يكون مدرك لما يقذف به كعادته..انه بصدق لم يقصد ان يكون ذاك هو المعنى الذى يصل اليها.. هو نفسه لا يحب ذكر تلك الحادثة و يتجاهل حدوثها من الاساس فكيف فعل ذلك !؟..

تطلع الى نظراتها الموجوعة ووجهها الذى أغرقته الدموع و ما ان هم بالنطق يحاول ان يتدارك فعلته الجارحة حتى اندفعت هى من امامه للأسفل وهى تمسح دموعها مجيبة نداء ابيه:- ايوه يا خالى انا نازلة اهو..

ها قد ظلمها من جديد حينما اتهمها بترك امه وحيدة و قد كان ابيه يتخذ موضعها جوارها حينما صعدت هى الى هنا..
تطلع حوله فى غضب جامح و اخيرا دفع بأحد المقاعد القريبة منه بعيدا فى ثورة لم يعد هناك من سبيل الى إخمادها سوى قربها الذى ما عاد حتى قادرًا عليه او متاح له..

مسحت زهرة دمعاتها المتساقطة على خديها في تتابع و هي تهمس بالقرب من عاصم بوجع:- هتقوله ازاى يا عاصم !؟.. هنبلغه موضوع رجله ازاى !؟.. و خبر استشهاد مؤمن كمان.. يا وجع القلب يا ربى..

تنهد عاصم في حزن:- و الله ما انى عارف.. من ساعة اللى حصل و انى كن عجلى وجف و ما عارف اسوى كيف و لا اجول ايه.. ربنا يلهمنا الصبر و الحكمة.. حمولة تجيلة.. و يا رب يعينك يا سمية على اللى حصل...
شهقت زهرة باكية من جديد و هي تهتف من بين دموعها:- على قولك يا عاصم.. ربنا يعينها يا رب على وجعها و حرقة قلبها على ابنها.. صعبة قوووى يا عاصم.. قوووى..

هتف عاصم:- الحمد لله ان زكريا وياها دلوجتى.. ربنا يصبرها.. الحمل واعر.. و الحمد لله على كل حال..
همت زهرة بالحديث الا انها انتفضت و كذا عاصم على صوت همهمة قادمة من ماجد الراقد متمددا على فراش المشفى.. يبدو انه في سبيله للإفاقة..
هم عاصم بالاندفاع من الغرفة للبحث عن طبيب لكن زهرة استوقفته هاتفة في ذعر:- انت هتروح فين و تسبنى لوحدى!؟.. لا.. خليك معايا يا عاصم انا مش هقدر اواجهه لوحدى باللى حصل..

تسمر عاصم موضعه و لم يجرؤ على الخروج من الغرفة ما ان طالعهما ماجد و هو يفتح عينيه في تثاقل مشوش الرؤية.. لحظات كالدهر مرت عليهما حتى بدأ في استيعاب ما يحدث و شاهد أبواه امام ناظريه بشكل واضح و ما ان هم بسؤالهما عن سبب تواجدهما في ثكنته العسكرية حتى تنبه عقله و بدأ في استرجاع ما حدث قبل فقدانه الوعى فصرخ بصوت كالرعد ليجلس منتفضا هاتفا بأسم مؤمن..

توجه اليه عاصم رابتا على كتفه في إشفاق ليعيده ليستلقى من جديد على وسادته ليهتف ماجد في تيه:- مؤمن كان معايا يا بابا.. انا قلت له خد ساتر.. و لما الانفجارات بدأت كل واحد فينا كان معاه سلاحه.. بس هو كان مرمى غرقان ف دمه و بيضحك.. و الله كان بيضحك.. انا شفت وشه.. و قعدت اندايله بس مردش عليا.. انا مقدرتش اروح له.. حسّيت برجلى تقيلة قووى.. مؤمن كويس.. صح يا بابا !؟.. قول انه كويس..

انفجرت زهرة في البكاء بشكل هستيرى و لم تستطع تمالك نفسها لتسقط على اقرب كرسى غير قادرة على استيعاب ما يحدث بينما تماسك عاصم في أعجوبة محاولا وأد غصات الألم التي ترتع بصدره و دموع الوجع التي تتأرجح بمآقيه..
و هتف في نبرة متحشرجة و حروف مترددة:- الشهيد مؤمن راح للمكان اللى يستحجه..
هتف ماجد صارخا في لوعة:- بتقول شهيد يا بابا!؟.. شهيد..

اكد عاصم بإيماءة من رأسه و ألتقط أنفاسه في تتابع مضطرب مستطردا في ألم يمزقه:- ايوه يا ماچد.. و سبجك للچنة يا ولدى.. هو..
و صمت قليلا ليكمل في وجع:- هو و رچلك..
صمت ماجد في صدمة و كأنه لم يستوعب ما تلفظ به ابوه منذ لحظات
و شهقات امه الموجوعة هناك بأحد أطراف الغرفة تنبئه ان ما يخبره به هو الحقيقة التي يحاول نكرانها..

لحظات من الصمت خلت دون ان يتلفظ احدهما بكلمة لم يقطعها الا صوت نهنهات زهرة المتعاقبة عن قرب.. و أخيرا همس ماجد في هدوء عجيب لا يتناسب مع ما سمعه لتوه من اخبار:- ممكن تسيبونى لوحدى لو سمحتوا!؟..
هتف عاصم:- يا ماچد يا ولدى.. انى..

هتف ماجد بنبرة هادئة مقلقة من جديد:- لو سمحتوا..
تنهد عاصم في حيرة لطلب ولده و أخيرا توجه تجاه زهرة و جذبها من كفها في رفق و خرجا سويا من الغرفة و كلاهما غير قادر على المعارضة و رفض طلب ولدهما..

ما ان أُغلق باب الحجرة حتى تطلع ماجد لموضع قدميه.. هو لا يشعر ان قدمه ليست في موضعها.. ربما هو تأثير المخدر الذى قد يكون مايزل يسرى بجسده..هو فقط يشعر بخدر عجيب موضع قدمه المبتور و التي يجد حيث موضعها الطبيعى فراغ..

انحنى بجسده قليلا و تحسس موضع قدمه المبتور لعله يصدق انها ليست هنا.. تأكد ان فقدها حقيقة ماثلة صوب عينيه و انه لن يعود قادرًا على السير على قدمين كباقي البشر مرة أخرى.. و انه فقد مستقبله العسكرى مع فقده لها..
صمت لبرهة فى صدمة و اخيرا انفجر صارخا في وجع هز أركان المشفى.. فقد ادرك أخيرا الحقيقة التي ستغير مجرى حياته بالكامل..

كان مطأطئ الرأس يضع كفيه على قبر أخيه في صدمة و كأنه ما زال لا يصدق انه رحل بلا عودة و لا سبيل لإعادته من جديد.. كان يشعر بالخزى و العار فدوما كان ذاك الأخ الأكبر الذى لا جدوى من إصلاحه و لا فائدة من وجوده من الأساس..
كان يلقى مسؤوليات البيت و امه و اخته على عاتقيه و لا يبحث هو الا عن المتعة بين أحضان الغوازى و ليالي الانس في الموالد..

لكم يشعر بالعار يكلله وهو يرقد امام قبر أخيه الشهيد و الذى كانت إجازته تمر دون ان يلقاه حتى لمرة واحدة معللا ذلك بإنشغال وهمى و اعذار واهية و كان أخيه العفو دائما و المتسامح ابدا يبتسم متقبلا كل ذلك بصدر رحب غير ساخط على افعاله المشينة التي كان يحثه الابتعاد عنها في اُسلوب مهذب يحمل اللين و الرفق في طياته.. لكن هل استمع !؟.. هل شعر بالاسف و لو مرة على ما يضيع من حقوق.. أولهم حق الله وحق نفسه عليه..
هل استشعر مدى فداحة افعاله التي لم تجلب لأمه و اخته الصغرى سوى الخزى و المذلة!؟..

بكى.. و بكى و هو لا يجرؤ على رفع هامته امام شاهد قبر أخيه الذى يحمل اسمه.. و أخيرا همس في نبرة تحمل أسف الدنيا و حزنها:- سامحنى يا مؤمن.. سامحنى يا خوى.. طب ارچع و انى هبطل كل اللى كان بيضايجك منى.. مش انى الكبير بس و الله هسمع كلامك.. بس ارچع..
انتحب من جديد و هو يلقى بجسده فوق قبر أخيه لعله يستشعر احضانه الدافئة التي ما عاد باستطاعته الحصول عليها..

غابت الشمس فنهض في تثاقل كعادته و هو يهمس لأخيه مودعا:- هرچع لك يا مؤمن مش هسيبك.. من الفچرهتلاجينى عنديك.. مش هسيبك تانى يا غالى.. و ربت على شاهد القبر و غادر يجر أقدامه جرا مبتعدا عن قبر أخيه..
دخل بيت جده مترنحا يشعر بالتيه متوجها لغرفته..

كان زكريا يجلس في احد الأركان في بهو الدار فشاهد ماهر يدخل على هذه الحالة التي تغيرت منذ علم بخبر استشهاد أخيه.. حوقل زكريا في حزن و هو يربت على كتف ايمان التي شهقت باكية ما ان رأت حالة اخيها الأكبر المتردية بملابسه المهلهلة و ذقنه الغبراء التي استطالت و وجهه المترب يسير أشبه بشحاذ مجذوب..

كانت أكثرهم تماسكا على الرغم من انها كانت أكثرهم تعلقا و حبا لمؤمن..
همست ايمان لخالها في وجع:- ماهر حاله اتبدل يا خالى.. بجى ف دنيا تانية من ساعة اللى حصل.. مش كفاية امى و اللى چرى لها و الجفلة اللى جفلاها على حالها لا بتاكل و لا بتشرب من يوميها!؟..
هلت سمية اعلى الدرج هابطة إياه حتى وصلت لموضع جلوسهما و كلاهما زكريا و ايمان مشدوهان مما تراه أعينهما..

جلست سمية و هي ترتدى جلباب ابيض ناصع من جلابيب مؤمن و هتفت بسعادة حقيقة:- مالكم.. بتطلعوا ليه كِده !؟..
هتفت ايمان متعجبة:- ايه اللى انتِ لبساه دِه ياما!؟..
هتفت سمية متعجبة:- هيكون ايه يعنى !؟.. چلبية اخوكى.. بيسلم عليكِ كَتير..
انفجرت ايمان باكية بينما هتف زكريا متعجبا بدوره:- بيسلم على مين..!؟.
هتفت سمية مؤكدة:- بيسلم على ايمان.. دِه كان روحه فيها.. جالى سلميلى عليها وخليها تذاكر عشان عايز مچموع كَبير..

هتفت ايمان من بين دموعها:- بكفياكِ بجى ياما حرام عليكِ..
هتفت سمية متعجبة:- و انى عِملت ايه بس!؟.. و الله شفت اخوكى و جالى كِده.. الحج علىّ انى بجول.. لما ياجينى تانى مش هجولك..
هتف زكريا مستفسرًا:- ياجيكِ فين يا سمية!؟..

هتفت سمية في طمأنينة عجيبة:- ف المنام يا زكريا.. چانى و خدنى ف حضنه زى عوايده و جالى مزعلش و مبكيش تانى.. و انه ف احسن مكان.. و انه هياجينى كَتير يطمنى عليه و جالى اسلم له على أخواته.. و خلانى اجلع العباية السودا اللى كنت لبساها دى من ايّام ابوه ما راح و جالى ألبس الأبيض..
هتف زكريا في سكينة:- سبحان الله.. شكلها وچبت يا بت ابوى..

تطلعت سمية اليه في حيرة لا تدرى ماذا يقصد ليستطرد هاتفا:- الحچ.. هبعتك انتِ و ماهر تحچوا السنة دى.. لو أجدر كنت رحت انى معاكِ.. لكن ماهر محتاچ يروح هو كمان..
هتفت سمية دامعة في امتنان:- هحچ يا زكريا!؟..طب و ايمان..!؟

ربت زكريا على كتفها في محبة:- ايوه يا سمية.. هتروحى.. ربنا يصبر جلبك يا غالية.. و ايمان هاخدها معاى إسكندرية..
هتفت ايمان:- طب و دروسى يا خالى!؟..
هتف زكريا:- خلاص تبجى عند خالك عاصم لحد ما امك و ماهر يرچعوا بالسلامة..
دمعت عينا سمية في سعادة لكنها اغتالت دمعاتها بسرعة فقد تذكرت وصية ولدها الغالى.. ألا تبكى مطلقا..

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة