قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية مشاعر مهشمة للكاتبة شيماء مجدي الفصل التاسع والعشرون

رواية مشاعر مهشمة للكاتبة شيماء مجدي الفصل التاسع والعشرون

رواية مشاعر مهشمة للكاتبة شيماء مجدي الفصل التاسع والعشرون

بعدما أوصلت داليا لبيتها -حيث أصرت أن تبقى بمفردها ورفضت مكوثها معها- كانت تقود سيارتها دون وجهة والعبرات مغرقة حدقتيها بالكاد ترى الطريق من أمامها، لم تتوقع لوهلة أن يقم جاسم بخيانتها وأن ترى أخرى بأحضانه، لم تكن تتخيل أن يحدث ذلك نهائيا، فهي كانت تثق به ثقة عمياء، كانت تثق بحبه لها الذي لم تشك للحظة به، لمَ فعل ذلك!، لم دمر حبهما وجعل علاقتهما تنتهي هكذا بتلك الطريقة الدونية!، لمَ جرحها ذلك الجرح الغائر الذي أصاب قلبها بقوة! حتى تكاد تشعر أنها قاربت على لفظ أنفاسها الآخيرة ومغادرة روحها جسدها.

ظلت تبكي ويزداد نشيج بكائها كلما جاء أمام ناظريها صورته وهو محاوط تلك الفتاة بذراعيه، ارتجف سائر جسدها بقوة وهي تتخيل أن ما بينهما انتهى هكذا وهي التي كانت تتمني مرور الأيام كي يجتمعا معا ببيت واحد، ولكنها على حين غرة توقفت عن البكاء حين وجدت سيارة تميل على سيارته مما جعلها تجحظ بعينيها بوجل، وانحرفرت في مسارها بعجالة لتتفادى الإصطدام المحتوم، ولكنها لاحظت إصرار تلك السيارة على الإصطدام بها مما جعلها تشعر أنه قاصد إيذائها لتسرع قليلا في قيادتها وحاولت قدر المستطاع الإبتعاد عنها متوجهة نحو الجانب الآخر من الطريق، ولكن تبعتها تلك السيارة من جديد وظلت تقترب منها وما إن تكاد ترتطم بها حتي تنحرف هي سريعا وتزيد في سرعتها أكثر.

مدت ذراعها نحو هاتفها الموضوع فوق المقعد بجانبها وهي تنتقل بنظرها بين الطريق وتلك السيارة والهاتف التي التقطته توا وهي تشعر بقلبها يكاد ينخلع من موضعه من قوة خفقاته فقد كان صدرها يعلو ويهبط بقوة من خوفها العارم، جاءت برقم شقيقها سريعا وأجرت الإتصال ووضعت الهاتف فوق أذنها وريثما هي منتظرة إجابته كانت السيارة قد اقتربت منها للغاية ومالت عليها مرتطمة بالجانب الآخر من السيارة لتندلع صرخة منها تزامنا مع رد مجد الذي ما إن استمعت لصوته حتي استغاثت به صارخة ببكاء:.

- مجد، الحقني.

أثناء ذلك وجدت أمامها حجرا كبيرا قد ظهر من العدم أو إذا صح القول هي التي من كثرة التوتر والموقف العصيب الموضوعة به لم ترَه، فغرت عينيها بقوة وأدارت عجلة القيادة سريعا محاولة تفاديه ولكنه كان بعد فوات الأوان وقد ارتطم بأحد الإطارين الأمامين والسيارة تسير على سرعة كبيرة مما تسبب في انقلاب السيارة على جانبها من ناحية عجلة القيادة، لتندلع صرخة قوية منها عند اصطدام رأسها بالنافذة التي تهشمت ما إن لامست الأرض والتي جعلت رفيف تستمع لصوت طنين في أذنها مرافقا له سحابة ضبابية أمام عينيها دام الأمر لأجزاء من الدقيقة والدماء بدأت تسيل من رأسها حتى لم تعد تشعر بما حولها وغابت عن الوعي تماما.

هب مجد من جلسته واقفا بخوف بالغ بوجيب قلب يخفق بشدة فقد هرع قلبه لصوت صراخ شقيقته والذي لم يتسني له معرفة ما يحدث لانقطاع الإتصال، ليقوم هو على الفور بالإتصال عليها من جديد وهو يزم شفتيه محاولا ضبط نفسه التي أصابها الهلع من تطرف هاجسة وقوع شقيقته في مأذق بالغ الخطورة جعلها تصرخ مستنجدة به، تهدجت انفاسه بتلاحق بالغ عندما وجد أن الهاتف قد أغلق.

خلل شعره بقوة بإحدي يديه وباليد الأخرى كان يعيد الإتصال مرة أخرى ليجد أنه مازال مغلق، ليقم بضرب الحائط بجانبه بعصبية عارمة، فهو لا يدري ماذا يفعل الآن وما الذي حدث لها، ليطرأ بفكره بغتة أمرا ما ألا وهو تحديد موقعها عبر الهاتف ليقم بفتح تطبيق تحديد المواقع وقام بخطوات عدة إلى أن استطاع تحديد الموقع بالنهاية، ليغلق هاتفه سريعا ووضعه بجيب بنطاله ثم التقط مفتاح سيارته من فوق المكتب وغادر على عجل.

جالس فوق مقعده بالمكتب متهدل الكتفين محتوٍ رأسه بكفيه المسندتين فوق المكتب بمرفقيه، يشعر بغليان الدماء بعروقه مما حدث وجعل رفيف تراه بتلك الصورة الدنيئة وتعتقد أنه يخونها، يعيد برأسه الأحداث قبل مجيء رفيف بعدة دقائق وتحديدا منذ دخول تلك الفتاة اللعينة مكتبه حتى قدوم رفيف.

بينما كان يتفحص العديد من الملفات أمامه وموجه نظره وكامل تركيزه عليهم دلفت سكرتيرته المكتب بعدما سمح لها بالولوج، ليتساءل وهو مازال ينظر بالملفات ويقلب بها بنبرة صوت جادة:
- ايه يا منال في حاجة؟
أخبرته بعملية ونبرة هادئة وهي واقفة أمام مكتبه:
- مستر جاسم في واحدة بره عايزه تقابل حصرتك
تابع التساؤل وهو مازال لا يوجه نظره إليها منشغلا للغاية بما أمامه رادفا بطيف تعجب:.

- واحدة مين؟ وبعدين مقالتش عايزه تقابلني ليه؟
أجابته برسمية موضحة له ما توصلت إليه منها:
- هي موظفة في شركة قالت اسمها بس مسابقش التعامل لينا معاهم، قالت عايزه حضرتك في شغل ومرضيتش تقول تفاصيل
أغلق الملف الذي كان يتفقده وأبلغها بنبرة طاغي عليها الأمر أكثر منها عملية قائلا وهو يرمقها بوجه جاد:
- طيب دخليها.

أومأت له السركتيرة وخرجت ولم تمضي سوى عدة ثوانٍ ودلفت تلك التي تنتظر مقابلته في الخارج، كانت إمرأة صغيرة في السن لم تتخطى نصف عقدها الثالث، تقدمت إليه بخطوات متهادية ومرتسم فوق ثغرها ابتسامة صغيرة ليبادلها ابتسامته بابتسامة عملية وأشار لها نحو المقعد وأردف بهدوء:
- اتفضلي
ابتسمت ابتسامة منمقة وعلقت بتصقيل مرددة:
- ميرسي
خلل أصابع يديه ببعضهم وهو واضعهما فوق المكتب وهدر باستفسار جاد:.

- حضرتك قايلة لمنال انك عايزاني في شغل، شغل ايه ده؟
شعرت بالتوتر وقامت بفرك يديها ببعضهما ولكن بهدوء لكي لا تثير شكوكه نحوها، بينما هو لاحظ بالفعل ذلك التوتر والذي لم يخمنه سوى أنها جالسة أمام مدير فرع شركة كشركتهم ومن الطبيعي أن تشعر بالتوتر، وبعد برهة لم تتعدى البضع ثوانٍ ردت هي بنبرة مهزوزة بعض الشيء:
- أنا مسؤولة العلاقات في شركة MR Group.

اعتدل في جلسته وهو يظهر على وجهها أمارت التعجب من اسم الشركة التي قالتها توا فهو لم يسبق له أن وقع على سمعه ذلك الاسم من قبل ليردف باستفسار:
- شركة ايه دي؟، مسمعتش عنها قبل كده
زمت شفتيها لجزء من الثانية وهي تزدرد ريقها وعقبت بإيضاح وقد ازداد تحرك يديها في اتجاهات عدة كالعبث في خصلاتها وهندمة ملابسها المهندمة بالفعل وهي تتحدث معبرا عن ربكتها:.

- حضرتك دي أكبر شركة إصدار وتصدير في الشرق الأوسط ورشحوني اني آجي لحضرتك علشان...
لم تكمل كلماتها ووضعت يدها فوق جانب رأسها وامتعضت ملامحها بشدة ليتساءل هو بتعجب طفيف من تبدل هيئتها:
- في ايه؟ انتي كويسة؟
أومأت بالنفي وأجابته بصوت ضعيف وهي تترنح في جلستها:
- مش عارفة، حاسة اني دايخة اوي ومش قادرة اتنفس
نهض سريعا عن مقعده وجلب لها قنينة وكوب وصب لها بعض الماء واعطي لها الكوب وهو يقول:
- طيب خدي اشربي.

وضع القنينة فوق الطاولة بينما هي نهضت عن جلستها وشربت بعضا من الماء ليتساءل هو بتوجس بعدما انزلت الكوب عن فمها:
- حاسة انك كويسة دلوقتي؟
تلاحقت انفاسها وهي تنظر له وردت بخفوت وهي تدنو منه بخطوات غير متزنة:
- لأ، أنا...

اختل توازنها قليلا لتقم بإسناد رأسها فوق كتفه، تفاجأ مما فعلته وعاد للخلف قليلا من تحميلها ثقل جسدها فوق جذعه ليرفع يداه واضعا إياهما فوق ذراعيها لكي يبعدها عن جسده ويقم بإجلاسها على أحد المقاعد ولكن قاطع حدوث ذلك دلوف رفيف الغرفة بشكل مفاجئ.

أوصد عينيه بغضب من غبائه فكيف لم يلاحظ أن تلك الفتاة تتلاعب به ولم تكن قادمة من أجل عمل كما ادعت، فقد اختفت تماما وقتما ذهب خلف رفيف لكي يشرح لها ما حدث ويخبرها انه لم يقم بشيء مما ظنته، ولكنها لم تدع له فرصة لشرح الأمر واستقلت سيارتها وغادرت فور نزولها ولم يستطع هو اللحاق بها، وها هي الآن لا تقم بالرد على مكالماته حتى قامت بإغلاق الخط، ماذا يفعل الآن؟، كيف يبرر لها موقفه؟، وانه برئ من ذلك الإتهام الذي اتهمته به بعينيها الباكيتين الذي يشعر بالبؤس والآسى كلما تذكر هيئتها وكسرة خاطرها التي ليس له أي ذنب بها.

فاق من خضم أفكاره المقيتة على صوت تلقيه رسالة هاتفية، ابعد يديه عن رأسه وقام بفتح هاتفه وهو يسحب نفسا مطولا لرئتيه ولفظه على مهل وملامحه لا يعتريها سوى العبوس الذي تبدل سريعا للهفة عندما وجد أن تلك الرسالة توضح أنه تم فتح هاتف رفيف واصبح متاحا الآن لمهاتفته، ليقم سريعا بجلب رقمها وأجرى إتصالا عليها، ليتفاجأ بصوت رجل هو من أجابه ليتساءل بريبة وقد شعر لوهلة بوجيب قلبه ازدادت سرعته:.

- مين معايا؟، فين صاحبة الرقم ده؟

استمع لذلك الصوت عبر الهاتف وهو يخبره بصوت بادي عليه الأسف:
- حضرتك صاحبة الرقم ده عاملة حادثة واحنا نقلناها المستشفى..
وقعت كلماته كوقوع الصاعقة على سمعه وألجمت لسانه وشعر بأنه قد أصابه التيه لم يستمع لبقية حديثه فعقله لم يستطع أن يستوعب ما قاله، ليفوق من صدمته على صوت الرجل وهو يردف بتوجس عندما لم يجد رد على ما قاله:
- حضرتك معايا؟

رمش بأهدابه عندما استمع لتساؤله وكأن عقله أعطى له إنذارا بضرورة التحرك وبالفعل نهض على الفور عن مقعده والتقط مفتاح سيارته وتساءل بانفاس متلاحقة وهو يهرع للخارج بنبرة معتريها الخوف البالغ:
- مستشفى ايه وفين؟

سدد له لكمة مباغته في فكه عندما ولج المكتب حيث أن أحد رجاله قد أخبره بما حدث حول انقلاب سيارة رفيف ونقلها للمشفي وهي فاقدة للوعي ويبدو أنها بحالة خطرة، وهذا لم يكن ضمن اتفاقه مع رجاله فهو قد أمر ذلك الذي تلقى اللكمة توا أن يجعل سيارتها تصطدم في أي سيارة مقابلة لها أو حائط أو ما شابه بحيث تكون صدمة لا تؤذي من بداخل السيارة وإذا لحقها الأذي لا يتعدي بضع خدوش وكدامات او كسر فى اليد على سبيل المثال، ولكنه لم يرِد نهائيا أن يتسبب بموتها.

تشنج جسده وبرزت عروقه ثائرا بغضب عارم وهو يصرخ بوجهه بكثير من الاستهجان:
- ايه اللي هببتوا ده يا أغبية!، هي دي الخبطة الصغيرة اللي قولتلك عليها، بتقلبوا العربية
تراجع الرجل للخلف ونكس رأسه لأسفل وأردف بصوت مهزوز مبررا خطأهم الغير مقصود متلعثما:
- يا باشا عربيتها اللي خبطت في حجر واتقلبت لواحدها احنا مالناش ذنب
اشتعل وجهه بحمرة الغيظ وحدجه بنظرات مزدرية وقد نعته بسبة نابية وهو يردف بانفعال:.

- انا مشغل معايا شوية *** مبيفهموش حاجة، اطلع برا ومش عايز اشوف وش حد فيكوا نهائي
حاول أن يوضح له أن لا دخل لهم فيما حدث مجددا وأنها هي من ارتطمت بذلك الحجر قائلا بهدوء راغبا في شرح الحادثة:
- يا باشا ا..
اخشوشنت نبرته وهو يقول بشراسة وصراخ جهوري غير سامحا له بالتفوه بحرف إضافي:
- براا.

انصاع الرجل لأمره وغادر الغرفة على عجل خشية منه، لتحتدم ملامحه هو بغضب بالغ مما حدث والذي لم يكن في الأساس سوى رغبة منه بالثأر من كلٍ من مجد و جاسم، فهذا لم يكن سوى ردة فعل منه على سخرية مجد له وإهانته بما قاله في تلك الرسالة البغيضة التي بعثها له، ولتلك اللكمة التي لكمها له جاسم بمكتبه وسبه له وتهديده في صرح شركته وسط موظفيه، فكما اعتاد أن يأخذ حقه منذ صغره دون هوادة فعلها الآن، وهما من ابتدا معه بالندية فليتحملا إذا خصومته ونتاج تحديه.

دلف المشفى مهرولا وبعدما استفسر من الإستعلامات بالأسفل عن غرفة رفيف والذي أخبروه بوجودها بغرفة العمليات حاليا، رأى من على بعد وهو متوجه نحو غرفة العمليات مجد و طيف جالسين بجانب بعضهما و طيف ممسكة بيده و عدي واقفا أمامهما بجانب أسيف وضامما إياها لصدره ليبتلع بوجل وهو يقترب منهم وأحس كما لو أن أعصاب قدميه غير قادرة على حمله أو الحراك.

ما إن أصبح قبالتهم حتى انتقل ببصره عليهم بخوف ودقات خلفه يكاد يجزم أنها مسموعة للجميع وتساءل:
- ايه اللي حصل لرفيف؟، جرالها ايه؟
لم يجيبه احد فالبعض نكس رأسه لأسفل والبعض الآخر منهم ينظر أمامه بنظرات يكسوها الوجل تلمع أعينهم بالعبرات، ليأخذ حينها عدة خطوات نحو مجد الساكن سكون مريب بأمارات وجه لا يعتليها شيء وسأله بنبرة صوت مهزوزة:
- رفيف في العمليات ليه يا مجد؟، ايه اللي حصلها؟

لم يجبه مجد وظل ناظرا أمامه دون أن يتفوه بحرف أو حتى يعبر عما يختلج صدره، ولكن جاسم لم يتحمل ذلك التوتر العصبي الذي يتآكل بكل خلية بجسده ولا ذلك الخوف الذي لا يرحم وجيب قلبه الثائر للغاية، ليهدر بقسمات وجه مرتعدة منفعلا:
- ما حد يرد عليا يطمني انتوا ساكتين ليه؟

تقدم منه عدي الذي أجلس أسيف على المقعد مريحا جسدها قليلا من وقفتها والإرهاق الذي بدأ في الظهور عليها من بكائها المتواصل منذ علمت بخبر الحادث، وضع يده فوق كتفه قائلا بهدوء محاولا طمأنته رغم ما يعتريه من خوف بالغ خاصة بعد ما علموه عند مجيئهم المشفى من إحدى الممرضات:
- اهدى يا جاسم، احنا لسه مش عارفين ايه اللي حصل احنا جينا وهي في العمليات، اصبر لحد الدكتور ما يخرج ويطمنا وإن شاء الله هتبقى بخير.

لم تجدي كلمات عدي معه نفعا فمازال قلبه يخفق ارتعادا وخوفا عليها ليستطرد متسائلا راجيا إياه:
- ماحدش قالكوا اي حاجة، أرجوك يا عدي لو عارف حاجة قولي متخبيش عليا
رأى أن عليه أن يخبره بما علمه من الممرضة ففي جميع الأحوال سيخرج الطبيب ويعلمهم بحالتها وبما حدث معها والذي لديهم خلفية حوله، لينطق عدي والآسى جليا على ملامحه دافعا الكلمات من فيهه خاشيا من أثرها على نفس الآخر عند علمه:.

- سألنا ممرضة من اللي كانوا موجودين ساعة ماجينا، قالت أن الحادثة عملتلها نزيف في دماغها والدكتور عملها شوية فحوصات وحولها للعمليات بعدها علطول.

رمش بأهدابه بعدم تصديق لما وقع على مسامعه وحرك وجهه بإنكار ولكنه لم يستطع التحكم بنفسه وتهاوت دموعه كالسيل الجارف من عينيه وشعر بارتجافة شديدة في قدمية جعلته يخر على الأرض موضعه وهو لا يرى سوى صورتها وهي تبكي وحمل نفسه الذنب كاملا في حادثتها، أخذ يبكي بقوة ونشيج بكائه يزداد كلما تخيل أنها ستضيع منه للأبد وأن حياتها الآن على المحك ليضع وجهه في يديه وهو جالسا على الأرض ساندا ظهره على الحائط ومرفقيه متكأين فوق ركبتيه ويقول بنحيب متضرعا لربه:.

- يا رب، يا رب ماتخدهاش مني أنا ماليش غيرها، يا رب متحاسبنيش فيها على أي حاجة عملتها، انا مش هقدر اعيش من غيرها والله، هموت لو جرالها حاجة يا رب
تفاقمت شهقاته مستمعا إليها جميع من بالرواق ولم يكف عن تكراره لتلك الدعوة بين نشيج بكائه:
- يا رب متاخدهاش مني، يا رب متخدهاش مني.

ازداد بكاء أسيف إثرا لصوت بكائه ليجلس عدي بجانبها وأخذها مجددا بأحضانه وظل يمسد فوق ذراعها محاولا تهدئتها بينما كانت طيف كلما تتساقط دموعها تجففها سريعا لكي لا يراها مجد وينهار وهي تعلم أن تماسكه ذلك ما هو إلا قناع يرتديه أمامهم فقط، لترفع وجهها نحو ملامح وجهه الشاحبة وعينيه اللامعة بدموع حبيسة وتساءلت بخفوت وهي تشتد من قبضة يديها على يده:
- انت كويس؟

أومأ برأسه بحركة صغيرة وهو مازال ناظرا أمامه لتشعر بألم بقلبها لهيئته تلك والتي تعلم أن كتمه لدموعه وتحامله على نفسه ألا يبكي سيؤدي لانهيار حتمي لن تتحمل رؤيته عليه وقتها فهو في حالات ضعفه ووهنه يتقطع نياط قلبها لأشلاء وخاصة عندما لا تستطيع تهدئته أو التهوين عليه.

وجد جاسم أثناء انهياره وبكائه الذي لم يتوقف بعد يدا وضعت فوق كتفه ليبعد يديه عن وجهه ورفع نظره لأعلى ليرى لمن تلك اليد، ليجده هشام لتنهمر المزيد من الدموع من عينيه اللتين أضحتا حمراوتين للغاية وغمغم بوهن بصوت مختنق:
- عمي، رفيف..
قاطع كلماته قائلا بصوت هادئ -رغم قلبه الذي ينزف ألما على ابنته التي لا يعرف ماذا سيكون مصيرها بعد- وهو يربت على كتفه يحثه على النهوض:.

- قوم يابني، قوم نصلي وندعيلها، عياطك مش هيفيد بحاجة، هي محتاجة دعواتنا
أومأ له منصاعا لما قاله ونهض عن الأرض، وسار معه وهو متهدل الكتفين، شاعرا بالأرض تميد به من ذلك الدوار الذي احتل رأسه من كثرة بكائه متحامل على نفسه بصعوبة ألا يفقد وعيه.

كان الجميع فاقدين التحكم على أعصابهم أثناء انتظارهم انتهاء العملية ليمضي الوقت ببطء حيث كانت الدقائق تمر عليهم كأنها سنوات ضوئية عديدة، حتى خرج الطبيب من غرفة العمليات ليقف الجميع عن مقاعدهم مهرولون نحوه ليتساءل هشام بخوف بالغ:
- طمني يا دكتور، بنتي عاملة ايه؟
أنزل الطبيب قناع الجراحة وأجابه بإرهاق بالغ فقد استمرت العملية لأكثر من خمس ساعات:.

- الخبطة اللي اتخبطتها في دماغها عملتلها نزيف تحت الجافية، عملنالها تدخل جراحي فوري وقفنا من خلاله النزيف وقمنا بإزالة الكتلة الدموية اللي اتكونت تحت الجافية، النزيف كان لسه في أوله عشان كده قدرنا نلحقه والتكتل الدموي مكنش كبير، والحمد لله العملية نجحت
شعروا بقليل من الارتياح لنجاح العملية ولكن مازال جزء بداخلهم غير مطمئن، انتبهوا جميعا على تساؤل جاسم بتلهف بعدما وبقلب مازال واجلا:.

- يعني هي كويسة يا دكتور؟
زم الطبيب شفتيه لجزء من الثانية ثم بدأ في الحديث بطريقة علمية بتعبيرات لم تريحهم وكلمات دبت الرعب بقلبهم من جديد:
- الحالة مستقرة لحد دلوقتي بس مخبيش عليكوا العملية خطيرة عشان كده هتفضل تحت الملاحظة التامنية وأربعين ساعة الجايين واللي هنعرف من خلالهم هتدخل في غيبوبة ولا هتفوق بإذن الله وهتبقى حالتها ايه بعد الإفاقة.

أطبق مجد جفنيه بقوة شاعرا بأن أحد غرز نصلا حادا بقلبه وبعدما شعر الجميع بالإرتياح قليلا لنجاح العملية عادت بهم كلماته تلك لنقطة الصفر مجددا وأصبح بداخلهم خوف أبلغ من ذي قبل، لتتكلم طيف موجهة حديثها للطبيب قائلة بترجي:
- ارجوك يا دكتور أول ماتفوق تعرفنا
أومأ بهدوء وقال بتحفز ونبرة رسمية موجزة وهو يشرع في المغادرة:
- إن شاء الله، عن إذنكوا.

كانت حالتهم يرثى لها للغاية قلوبهم تتمزق خوفا عليها لم تتوقف أسيف للحظة عن البكاء حتى كادت يغشى عليها، ليخبر عدي شقيقته بضرورة المغادرة لحالة أسيف المتدنية، والتي اعترضت أسيف في البداية راغبة في عدم ترك شقيقتها ولكن والدها أخبرها بأن الجميع سيغادر لعدم وجود فائدة من بقائهم حيث أن رفيف سيتم نقلها لغرفة العناية المركزة وممنوع الزيارة نهائيا حتى تنتهي الثمانية وأربعون ساعة القادمة، وافقت بالنهاية وانصاعت لما قاله لها والدها.

أخبر هشام جاسم أن يعود معه لبيته ويقضي معه تلك الليلة لكي يأتيا معا في الصباح، وافق دون اعتراض فهو كان يرمقه بنظرات تائهة كما لو كانت منزوعة منها الحياة وسار معه بخطوات متثاقلة، بينما كان مجد بعالم آخر منزوي عن الجميع تلاشى عنه كل شيء، تجمدت نظراته في الفراغ وبدى مغيبا عما حوله، فهو لم ينبث ببنت شفة منذ مجيئه ولا حتى بعد ما علمه من الطبيب، ساكنا سكون مريب حتى شعرت الماثلة بجانبه بخوف عارم عليه لتضع يدها فوق جانب ذراعة قائلة بنبرة هادئة بتوجس رغم ما يعتريها من وجل من حالته التي تنذر بفاجعة قريبة:.

- يلا نمشي!
أومأ لها من جديد دون أن ينطق ليتحركا معا بصمت تام تحت نظرات طيف التي تسترقاها نحوه شاعرة أن تلك الليلة لن تمر مرور الكرام عليه.

أوقف سيارته بمرأب بيته، لتنظر له طيف بطرف عينيها وهي تشرع في فتح الباب ولكنها ثبتت نظرها عليه عندما وجدته ناظرا أمامه ولم يحرك ساكنا ويبدو أن لن يترجل من السيارة، ليعتري ملامحها الآسى عليه وما إن وضعت يدها فوق يده لتحثه على النزول حتى انهمرت الدموع من مقلتيه بكثافة فها هو فك حصاره عنهم آخيرا، والتي لم تتحمل هي دموعه تلك بالطبع ودنت منه محاوطة صدره بيدها ليتكلم هو بحرقة ودموعه تحفر الطريقة فوق وجنتيه مرورا بشفتيه المرتجفتين:.

- أنا خايف اوي، خايف يا طيف
رفعت وجهها نحو وجهه ومسحت بيدها فوق وجنته وقالت بنبر عميقة محاولة تهدئته:
- اهدي يا مجد، اهدى عشان خاطري
ابتلع غصة مريرة تكونت بحلقه وغمغم بصوت منتحب بوجل ورهبة بالغين ودموعه لا تتوقف عن الإنهمار:
- خايف يجرالها حاجة، انا مش هقدر اتحمل أشوفها بتروح مني يا طيف زي ماما ما راحت مني مش هقدر.

هزت رأسها نافية على الفور وقد ترقرقت عينيها بالدموع إثرا لنشيج بكائه وقالت بصوت دافئ محاولة بث الطمأنينة لقلبه:
- مش هيجرالها حاجة، صدقني هتفوق وهتبقى كويسة، ادعيلها انت بس.

أوصد عينيه وملامح وجهه متقلصة للغاية يحاول صرف أي شيء سيء جائز الحدوث عن ذهنه، فهو آخر ما قد يتحمله هو فقدان فردا من عائلته يكفي والدته التي يتعذب لفراقها إلى الآن وجرح تركها له مازال غائر بقلبه لم يندمل بعد بمرور السنين، ليخترق أذنه أثناء محاولته ضبط نفسه وتهدئة وجيب قلبه الذي لا يتوقف عن النبض بقوة من كثرة خوفه الذي لم تقل حدته كلماتها المترددة التي جعلته يبرق بعينيه صدمة من تطرق أمر كذلك لفكره:.

- تفتكر عاصم اللي ورا حادثة رفيف.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة