قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية لعبة عاشق بقلم يسرا مسعد الفصل التاسع والعشرون

رواية لعبة عاشق الجزء الثاني يسرا مسعد

رواية لعبة عاشق بقلم يسرا مسعد الفصل التاسع والعشرون

تخطو خطواتها بالحياة بدقة مدروسة أحيانا تستجيب لانفعالات لحظية وأحيانا كثيرة تتمهل فلا مجال للخطأ ويصعب جبر کل مکسور وبتلك الليالي تعيش حالة من الأرق وسؤال ملح ثقيل بلا معالم واضحة وبلا إجابة يطرح نفسه باستمرار ماذا لو ؟

ويأتيها صوته في صباح اليوم التالي ليمحي شكوك عقلها ويطمأنها أنهما معا على الدرب الصحيح وباقي على موعد الزفاف يومان فقط لاغير تدور کنحلة طنانة تنهي أعمالا ضرورية، حتى يتسنى لها التفرغ التام لشهر عسل كما أخبرها، ثلاثون يوما بالتمام والكمال ولن يقبل حتى بكسر أيام أو أعذار أما الأخرى التعيسة على النقيض تعيش مع نفس السؤال ولازال ضميرها يؤنبها باستغلال حقير لشخص کریم وماذنبه وهي الضائعة بلا مرسی ؟

تمضي أيامها بجمود مجنون، لا تحصل منها على الراحة ولا حتى بالاطمئنان وتشعر دوما بالتعب حتى لاحظت درية أحوالها المتقلبة فبادرتها بسؤال ودود اعتادته بصفتها أم دون منازع:
- مالك باسالي ؟
فيك إيه ؟
رفعت لها سالي عيون فارغة وكذلك لسان لا ينطق وعقل لايستجيب حتى قالت بعد برهة بمرارة صادقة:
- حاسة إني تايهة وضعت درية أوراقها على سطح المكتب وجلست تقابلها وبعيون تنبش في خبايا صدرها:
- أكيد مش عشان الشغل ولا المركز،، تايهة ليه بقا ؟
أغمضت عيناها وهزت رأسها ولاتزال غصتها تجرح حلقها وهي تتساءل:

- هفضل كدة لحد إمتی ؟
بالأمس تعطلت سيارتها واستقلت سيارة أجرة للعمل كانت نجاة تشدو بأغنيتها الحالمة " فاكرة " ولأول مرة لم تستمتع بصوت نجاة قدر استمتاعها بحل أحجية تلك الكلمات أنا فاكرة وناسية حبه بقا ماضي وذكری . . . خلينا في بكرة . . . هو أحلى ما في الدنيا ! بالله عليكم ماذا تريد نجاة؟!
بل السؤال ماذا تريد هي ؟
ابتسمت بسخرية مرارة وأردفت موضحة:

- عارفة أغنية نجاة " فاكرة "، عمري مافهمتها ولا فهمت هيا عاوزة تقول إيه، بس في الوقت الحالي حاسة أنها بتعبر عني بكل كلمة أنا مش فاهمها ابتسمت درية وتراجعت للخلف قليلا وهي تسترجع حالة الشتات التي كانت تعيشها من قبل بعد وفاة زوجها شعرت بالأسف والحزن لرحيله وأحيانا كانت تباغتها نوبات بكاء تنفضها بعقل يخبرها بأنه ليس حبا ولكنه قلقا على مستقبل الأولاد والقلب يأن لأنها بتلك القسوة عاشت سنون عمرها مع رجل لاتستشعر حقا الحزن الدفين لرحيله شعرت بأنها مجرمة وأحيانا أخرى بأنها محقه حتى وصلت بعد معاناة لمرحلة من السلام النفسي وأنه حقا لا بأس بقدر يسير من الأنانية والقسوة كي تتمكن من مواصلة حياتها وتأدية واجباتها تجاه أطفالها، ولا تعارض بين الوفاء وبين حب الحياة وابتسمت وهي تدندن ذاك اللحن الأثير مستدعية ذكريات الماضي، فقد كان زوجها على النقيض منها حالم على الدوام متذوقا لأبيات الشعر، مقدسا لأحرفه، مستمع جيد للموسيقى بأنواعها وهائم بألحان طوال الوقت تأملتها سالي بتعجب فهي ولأول مرة تتخلى عن وجهتها الباردة بل وتتنازل عن تقطيبة وجهها العابسة ويعلو صوتها بغناء حتى قالت بتزق:

- یااه للدرجادي؟!
فهزت درية رأسها بسرعة نافية وقالت مبررة:
- أصلك بتفكريني بنفسي اتسعت عينا سالي بغیر تصدیق وقالت:
- إزاي ؟
أشاحت لها درية بكفها وقالت:
- مش مهم إزاي لكن الخلاصة، ماتستعجليش، تبات نار تصبح رماد وهتلاقي نفسك في الآخر، هتكون حاجة جديدة عليكي عمرك ما اتعودتي عليها بس صدقيني هترتاحي معاها أوي ومش هتقبلي بحد يغيرهالك كانت سالي تستمع لكلماتها بلهفة لهفة الغريق الذي يبحث عن قشة يتعلق بها ليقف في وجه الأمواج التي تصارعه على حياته لهفة التائه الذي يبحث عن موطأ قدم يشبه مثيله في الماضي ليعود لوطنه وأومأت برأسها وهي تصدق قولها رغم أنها لا تملك أدنى فكرة عما تكون البداية وكيف تكون النهاية هي فقط تصدقها بحدس الأنثي وبحدس الأم الذي تمتلکه استقبلت مكالمته بانزعاج بعد مرور ساعة قبیل انصرافها لمنزلها وهي تقول:
- إزاي يعني، ما أنا لسه سيباهم مع نعمات وسلمی کانت زي الفل ؟

رد بصوته الهاديء وهو يخبرها:
- مش عارف والله ياسالي دخلت دلوقت اتطمن عليهم لقيتها سخنة وفكرت أبعت أجيب الدكتور بس قلت يمكن أنت اديتيها حاجة وانه دور برد عادي فاتصلت أسألك لململت أشيائها وهي تحدثه بقلق:
- لا ماتجيبش الدكتور وماتديهاش حاجة لحد ما أجي، أنا مسافة السكة. وعندما وصلت كان الوقت تعدى العاشرة مساءا وأخلدت نعمات للنوم ولم تستطع سؤالها عن حال طفلتها وصعدت الدرجات سريعا نحو غرفة صغيرتها ووقف هو ينتظرها بالخارج وعيناه تلمعان بمكر في الظلام وضعت سالي كفها على وجه صغيرتها ورقبتها واستشعرت حرارتها ثم التفت له قائلة بغيظ هامس:
- حراراتها كويسة جدا ارتفع حاجبيه بدهشة مصطنعة واقترب منها ليضع كفه قائلا بتوجس:
- أكيد؟!

حاسس أنها دافية تهدل كتفيها بتعب ونفثت بضيق وقالت وهي تحاول الانسحاب للخارج فهو يحتبسها بين فراش صغيرتها والحائط المجاور لها:
- زي الفل وأصلا النهاردة كانت بتلعب ومبسوطة ماقعدتش لحظه استيقظت الصغيرة على همس والديها وابتسمت بفرح بعيون لازالت ناعسة وقالت مغمغمة:
- ماما هتبانی معانا في الأوضة ؟
ربنت سالي عليها بحنان وقبلتها وهي تقول:
- أنا قاعدة معاكِ لحد ماترجعي تنامي فردت سلمى بإصرار:

- أحكيلي حدوتة فتنهدت سالي ونظرت بغيظ لجاسر الذي رفع كتفيه وهو يتقمص دور العاجز وانسحب بهدوء ليزيد من حالة الغيظ والغضب التي تكتنفها أضعافا مضاعفة، ومضت بعدها تسرد لها قصة كما طلبت لعلها تستعيد جفونها الناعسة مرة أخرى وبعد مرور الدقائق الطويلة خرجت سالي من غرفة صغارها بعدما وضعت قبلة دافئة على جبينهما بخطوات حذرة واصطدمت به فجأة وقبل أن تشعر كانت بين ذراعيه العاريان بل نصف جسده العاري واحمرت وجنتها بشدة وتراجعت للخلف وقال بمكر يستحوذ عليه:

- فكرتك لسه جوه، قلت أخد شاور وأوصلك للبيت بدال ماتروحي لوحدك فغمغمت بضيق وهي تبتعد عنه ولكن إلى أين فهو وللعنة يجيد حصارها فبالخلف الحائط وأمامها هو يقف والماء يقطر من جسده- معايا عربيتي، ولو سمحت عديني أنا أتأخرت أوي وماما زمانها قلقانة نغمغم بصوت ثقيل الهمس متثاقل:
- وتقلق ليه ؟

أنت هنا مع ولادنا . . . ومعايا وكأنها بحاجة لتتذكر أنها برفقته وبمفردهما في قصر مظلم أفراده بالكامل نائمون حتى لمعت عيناها بغضب والذكرى تعيد فرض نفسها والأجواء متشابهة لحد بعيد لحد مغيظ يشعل الغضب بجوانحها- صح معاك ولوحدنا الاختلاف بس أنه هنا في القصر مش أوضة في فندق ومروة واقفالنا على الباب اتسعت عيناه بدهشة والغضب تشكل تلك المرة بحنايا وجهه وهو لايصدق أنه كان بهذا الغباء عندما استدرجها تلك الليلة فهو أراد أن يشعرها بالذنب قليلا وأن يتلاعب على أوتار الحنين والرغبة بالأنثي داخلها أن يرسم لها ملامح ماضي كانت فيه تستقر بالجوار القريب جدا من أطفالهما حد الاطمئنان عليهما كل دقيقة إن رغبت لا أن يرسم لها خطة مثيلة دنيئة خطط لها عقله الملتو بلحظة غرور وأنانية لم يمر بها من قبل أو من بعد فرفع يده ليهدئها وهي تجتازه قائلة بغضبها الأعمى غير عابئة بصوتها الذي كان يعلو:

- يمكن فعلا في كل مرة بتقدر تجيبني لحد عندك واتحط أنا في موقف أضطر فيه أني أرضخ وأنخ وأرضى في النهاية، لكن مش المرادي يا جاسر، سالي القديمة ماتت وأنت اللي دفنتها أراد اللحاق بها أن يبرر وربما يعتذر ولكنه وقف کتمثال من الرخام جامدا والذي يتحرك بداخله هو بركان من الغضب الخالص وهو يطالع انصرافها وداخله يقسم أنه سيستعيدها حتى وإن أبت وسيوقظ تلك التي توارت تحت الثرى لتعود القديمة أو الجديدة هو لا يبالي هي فقط يجب أن تعود وعادت هي للمنزل الهادیء وداخلها لايزال يضج بأنين الذكريات المتواردة على ذهنها تحي غضبها ألف مرة وتميته بالكاد مرة كل شيء مباح في الحرب والحب- هه حب !

همست لنفسها ساخرة كلمة مستهلكة حتى صارت كالرقعة البالية التي تنظف مساویء أفعاله وجنون كبرياؤه وحمقاء هي إن انساقت خلفها وخلف ما تمنيه نفسها من وراء آمالها بشأنه.

واستيقظت العروس والصباح أبيض مشرق کفستانها الذي يلمع بفصوصه تحت أشعة شروق الشمس البراقة وهي مجرد ساعات ودقائق وتعود لأحضان حبيبها حبيبها المجنون الذي أصر على زفاف في العاشرة صباحا على ضفاف نهر أسوان الرقراق وتكبد تكاليف تذاكر سفر للمقربين فضلا عن تكاليف استئجار حديقة الفندق الأشهر ليقيم الزفاف في الهواء الطلق حرية ونسيم منعش وورودا تتفتح وبراعم نخیل تزهر يعدها بأن تكون تلك حياتهما القادمة ولولا صلة الصداقة التي تجمعهما وأنها لاتنكر فضلها عليها بالماضي لما حضرت اليوم فهي لا تتحشاه هي فقط لا تطيق التواجد بالقرب منه حتى وإن جمعهما الأطفال رغما عنها وصلت بالأمس بعد السادسة واستقبلها صغارها ببهو الفندق بصراخ وتهليل يعبر عن سعادتهما واطمأن هو أنهما برفقتها وانسحب دون حتى أن يلقي السلام عليها فهو رأى بنفسه حركات جسدها المتشنجة بوجوده والنفور من مجرد الاقتراب فرفض بالمقابل دفع مزيدا من الخطوات تجاهها بغرور ذكروري بحت واختفى ومكث الطفلان بصحبتها بل وأخلدا للنوم بفراشها ليلا بعدما أحضرت إحدى العاملات منامات نظيفة وملابس الحفل القريب دون حتى أن تطلب فخمنت أنه من قام باستدعائها وهاهي تمشط شعر صغيرتها الناعم بعدما ألبستها ثوبها الأبيض ذو الشريط العريض القرمزي والتفتت للآخر العنيد الذي أصر على إرتداء حلته في الحمام ثم خرج بكامل هيئته وبهائه وشعره مصفف بعناية وقفت تراقب حركاته المتأنية كأنما تشاهد أبيه بسنوات عمره الأولى لا فارق بينهما عدا أن عيناه الرمادية تشعان بالدفء لها عندما رفع رأسه ليجدها تراقبه واحمرت وجنتاه بخجل طفولي يمتلکه قسرا:

- مالك يا ماما بتبوصيلي كده ليه ؟
فابتسمت له بحنانها الفطري:
- زي البدر المنور ربي يحرسك فهتفت سلمى بغيظ:
- وأنا إيه مش حلوة زيه ؟
فقرصتها سالي من خدها الناعم برفق قائلة:

- هوا البدر وأنت الشمس يا لمضة أتمت وضع اللمسات النهائية على زينتها البسيطة وخرجت من الغرفة وهي تتهادى بثوبها الأزرق الرقيق والمزدان بورود بيضاء وفصوص لؤلؤية متناهية الصغر برفقة صغارها وما لم تحسب حسبانه أن يكون هو بانتظارهما أمام المصعد بربطة عنق زرقاء وسترة كحلية اللون تعلو قميصا ناصع البياض فابتسم بمكر لها وهو يتقدم منها حاملا صغيرته التي وضعت قبلة طويلة على وجنته و ربت هو على كتف صغيره بحنان بالغ وبعد قليل خرجا من المصعد بمفردهما كأسرة سعيدة لم تفترق يوما الأب يحمل الصغيرة الشقية والأم تسير برفقة الصغير الأكبر الذي حظي برعايتها منذ أيامه الأولى حتى اليوم واستقبلهما المقربون بنظرات دهشة وعيون متسعة حتى تعالی صوت إحدى النسوة بالتهنئة والمباركة وتوالت العشرات عليهما واستقبلتها سالي بجبين منعقد وهي لاتدري سر تلك الحرارة في التهنئة التي يتقبلها جاسر بكل هذا الود والألفة فاليوم زفاف زیاد وآشري ولكنها كانت ترجح أنه يستقبل التهاني بزفاف أخيه ولا غضاضة في ذلك حتى سمعته يبرر لأحداهن تغمزهما بضحكة هيسترية بعض الشيء قائلا:

- يعني النهاردة أصلها فرحة زياد وعندها توقفت عن الظن الساذج التي تزينه طيبتها المبالغة واحمرت وجنتيها بغضب فسرته المرأة بخجل عروس لا مبرر له وقالت وهي تقبض على كفها هامسة بنشوة:

- أيوا کده جدعة ماسيبتهوش للتانية تلهفه منك ومن ولادك والتفتت له وحدقت به بغضبها المحترق وبسمته الواسعة تزین وجهه كزوج راض سعيد بعودتهما لأحضان عشهما الدافيء وسارت مبتعدة عنه ولكن إلى أين فلقد لحق بها وكذلك صغارهما وتوقفت هي عند الطاولة التي تحمل مشروبات منعشة وتجرعت نصف الكأس دفعة واحدة حتى أنهته واتبعته بآخر علها تطفيء النيران المستعرة بجوانحها هكذا هو ودون حتى أن يبذل جهدا أيا كان مقداره يجيد حياكة الخطط وربط الخيوط وإحكامها حولها ليصنع بها فخا يقبع بأعماقه آخر وآخر والسلسلة لا متناهية ولا منتهية وهي كالعروس الضعيفة مصنوعة من ورقة هشة تغدو بها الرياح وتعدو لتعود مرة بعد الأخرى خلف أسوار حصنه المنيع وتحت شعار ملكية لن تزول والاسم ل جاسر سليم عدا أنها تلك المرة في نظر البعض إن لم يكن معظمهم، ناجحة ومسيطرة فهي استعادته من قبضة الأخرى السارقة ورقة اليناصيب الثمينة وهي الفائزة، الجائزة التي يجب أن تتبارى عليها النساء هي من تخلت وهي من سعت للعودة، ويالها من محظوظة إذ حازت عليه أخيرا ومن يدري ومن يعلم ومن حقا يعرف أنه كاليم الغادر بصفحته الهادئة الخادعة وأمواجه كاسحة في لحظة أو نارا لن تنطفىء نار الشك والغيرة والسيطرة التي كانت ولا زالت تحرقها وراحة لم تنالها بقربه ولا ببعده وسرابا دوما.

كان يمنيها ببحيرة لا تظمأ بعدها أبدا وهي الظمأی حتى وإن كانت على مجرى نهر عاذب ووقف هو يراقب انفعالات جسدها الذي كان ينتفض بغضبه والتفتت له بعيون دامعة أثارت ضيقه وحيرته ووجهها يحمل معان غامضة، وقف عاجزا أمامها لم يستطع فهمها وصوت تنفسها يعلو كصدرها الذي لا يهدیء واستشعر الصغار غضب أمهم بحدسهم البريء فاقتربوا منها يشدون كفيها ووقف هو كمن ينتظر إما حكما بالإعدام أو العفو حتى اقتربت منه وقالت بهمس لم يسمعه سواه تدندن بلحن حميم قريب وعيناها تتحاشان الاقتراب من مرصده:

- فاكرة أنا ناسية وفاكرة حتى استطاعت رفع عيناها نحوه ولكنها ولسوء حظه محملة بقسوة لم يبصرها بهما من قبل:
- بس أنا الحقيقة فاكرة وكويس أوري وعاملة نفسي ناسية والتفتت حولها وعقلها لا إراديا يعقد تلك المقارنة العادلة والمجحفة بالوقت ذاته جمهور مختلف تلك المرة والمشهد بمنتصف النهار بأرض قريبة للغاية والنتيجة عودة لزواج جبرية بحكم الظنون والحكمة الأثيرة تتردد في عقلها " إن خدعتني مرة عار عليك، وإن خدعتني الثانية عار علي " وتلك المرة لن تنساق خلف الظنون ولن تجبرها للعودة تحت رايته وسار هو لجوارها صامتا ولكن وجهه لازال يحمل علامات التساؤل وعقله غائب في احتمالات بعيدة كل البعد عن مرسی أفكارها بشأنهما فما الذي تحاول تناسيه ذكرياتهما سويا، ماكانت يوما حياتهما ؟

هل تحاول بالفعل تناسي الماضي ولكنها لن تستطيع؟!
أسئلة طحنت الباقية المتبقية من صبره فأمسك ذراعها بحزم ليوقفها هو بحاجة لإجابة شافية حتى لو لم تكن على هواه وصوته ينفث الغضب والقلق والحيرة:
- ولحد إمتى الحيرة دي يا سالي، أنت أمتی تنسي وتسامحي ؟
بتلك البساطة الحياة في نظر جاسر سليم كل مايريد وجل مايريد يكمن بإشارة من إصبعه تمحو ماضيا تطفىء غضبا تمر بذكريات مريرة مرور الكرام ولا يجب أن تستوقفها تلك المرارة ولا أن تنغص عليه هو الباقية من عمره هي بئره الذي يجب أن يبتلع كل شحنات غضبه ورعونة كبريائه وصلفه وغروره والبئر سحيق لا قرار له والحيرة المشتعلة بعيناه ووجهه الذي يبدو كأنما ينتظر حكما بالإعدام نجحا في تهدئتها، فاكتفت ببسمة ودودة للجمع حولهما الذين انشغلو عن مراسم الزفاف السعيد ليراقبا الاثنان الغارقان في دوامة مشاعر لانهاية لها وجسديهما ينضحان بالتوتر ونسمات الهواء هي بالفعل مشتعلة من حولهما ولوحت لاشري بتلك الابتسامة الرقيقة وسارت نحوها تاركة إياه خلفها وصغارهما يلهوان سويا دون أن ينتبها للحرب المشتعلة بدواخلهم وضعت قبلة باردة على وجنة اشري المشتعلة بخجلها وتمنت لها السعادة وتركت الحفل وبقي هو يراقب تحركاتها بقلق مضاعف ولأول مرة بحياته يشعر فعليا بالخوف لقد فقدها حقا ولن يكون هناك سبيلا لاستعادتها إذ تمسك برعونة غروره وكبريائه العقيم لقد نفذ مخزونه من الخطط المدروسة وعليه الآن الإذعان التام وإعلان الخسارة.

ومر الزفاف كنسيم الصباح مفعما بمشاعر الدفء والحب التي تزین وجه العروسين والعريس السعيد لم يتمهل إذ اختطف عروسه على متن قارب كان يرقد على ضفاف النيل لمكان غير معلوم كذلك كان الأوسط يخطو بخطواته نحو مستقبله إذ لمح وجها أنثويا مألوفا للغاية كانت تأشيرة دخوله في اليوم التالي لغرفة واسعة من جدران أربعة والرفقة كانت المجموعة من نساء ورجال والمسميات عديدة علاج جماعي، حلقات علاج نفسية أو تریاق، تریاق روحه للتخلص من آلآم وأشباح الماضي ترأسها هي الطبيبة النفسية الشهيرة ومرة أخرى ترتكز بأبصارها عليه وهي لا تنفك عن المحاولة الدؤوب فهو عازم على التواري خلف قناع المسمتع الذي لا يمل لا ينبت بحرف ولا يصرح عما يدور بخلده ومع ذلك لا يفوت حلقة ولا ميعادا واحدا للقاء اليومي إلى الآن وصوتها تلك المرة حازما ولن يقبل بالهروب إذ قالت بتهدید صریح:
- ماهو ماينفعش الكل يتعرى من أوجاعه وأنت تفضل متمسك بيها وتيجي كل يوم وماتشاركناش رفع عيون حذرة وقال بهدوء:

- أنا بس، حاسس إني اللي هقوله تافه بالمقارنة بيهم، نيفين مثلا مريضة سرطان وجوزها أتخلى عنها بعد ما صرفت كل اللي فلوسها على مشروعه وأمجد . . قاطعته بنفاذ صبر محترف:
- نيفين وأمجد والباقية هنا جايين يتشاركوا، أنت يا أسامة عندك إيه النهاردة تشاركنا بيه ؟
وضعت نيفين تلك الرقيقة رغم المرض الذي يتاكلها كفها فوق کفه وقالت مشجعة له:
- أنا عاوزة أسمعك، كلنا . . ده حقك علينا عبس بحاجبيه ودمعت عيناه رغما عنه وقال بصوت مبحوح وأقرها وللمرة الأولى بصوت مرتفع وشعر بعدها أنه تحرر ولو لوقت ضئيل:

- أنا قتلت مراتي وبنتي ودون أن يدري تخلص بالمرارة العالقة بحنجرته رغم مرور الشهور وأخيرا زالت غصته وبات قادرا على التنفس بشكل يسير ومضى يسرد اعترافه لآخره الذي لا يتمنی بعده عفوا     في اليوم التالي لزفاف آشري وزياد وجدت بمكتبها أو إن صح القول من بداية الممر المؤدي لمكتبها بالمركز الخيري وصولا لغرفتها زهور الجوري الأبيض وكلمة بسيطة خطت بيده فوق ورقة صغيرة " آسف " ونظرة ماكرة من عيون درية لم تخفيها عويناتها السميكة وهمس خصته لأذنيها:
- وأنا اللي عمري ما فكرت أنه ممكن ينطقها حتى فهزت سالي رأسها بسخرية مريرة وألقت بالوريقة بعيدا دون اهتمام قائلة:

- ده العادي بتاع جاسر مستعد يعمل أي حاجة عشان يوصل للي عاوزه وبعد أسبوعان من مراسلات يومية بزهوره التي لم تنقص يوما والتي لم تتوان هي عن إرسالها يوما بعد يوم لملجيء لكبار السن قريب، وجدته بمكتبها بشحمه ولحمه ويبدو أنه لن يتراجع غير أن نبرة الهدنة بصوته جعلتها تستمع له بعد أن كانت على وشك طرده دون هواده والعرض كان المبلغ مالي هائل للتبرع فارتسمت ابتسامتها الساخرة بركن فمها المتنزوي لأعلى وقالت:
- یعني مكلف نفسك وجاي لحد هنا والتبرع كان ممكن يتم عن طريق البنك أو مندوب مثلا و هز رأسه ولأول مرة بحياته ربما يقر:
- أنا جيت أعتذرلك عن يوم الفرح، الشيك ده كان من فترة معايا حتى شوفي التاريخ اللي عليه مرت بسرعة على الشيك المخطوط من أسبوع ماض وقالت دون إهتمام:
- تعتذر عن إيه ؟

فقال بخجل:
- عن سوء الفهم اللي حصل قاطعته هازئة:
- قال يعني ماكنش قصدك فاقترب منها وعيناه تحيطها:
- لاء كان قصدي، بس كان سوء تصرف مني بعتذر عنه هي لم تعهده صریحا إلا لغرض فقالت بنفاذ صبر غاضب فهی لن تتحمل تبدل أدوارهما فهو كالحمل الوديع وهي المستذئب بليل أسود:
- ادخل في الموضوع على طول یا جاسر، جاي عاوز إيه ؟
فابتسم وقال بهدوء:
- ممكن أشرب الشاي عندكوا النهاردة فهزت كتفيها هازئة:

- ليه ماعندكوش في القصر ظل يرمقها بتلك النظرة التي كانت دوما تثير حنقها نظرة الأب الصبور والخائب أمله بطفلته العنيدة التي أساءت كعادتها التصرف فقام وأحكم غلق سترته وقال دون أن ينتظر إجابة:
- الساعة سبعه النهاردة هكون عندكوا     القدر بالفعل له طرقه ونحن من نصنعها ونلوم عليه نتيجة المسار غير أنها في تلك اللحظة لن تلوم سوى نفسها إن عادت لعهدها القديم معه الأطفال بغرفتهم بمنزل والدها والساعة السابعة كما هو الموعد وهاهو يقف بباب بيتهم المتواضع وأمها تستقبله بابتسامة متجمدة فابنتها كمن تخوض حربا وليس مشروع زواج وعودة لأحضان بيتها كما تأمل وتتمني وهي كأي أم القلق والخوف حق مشروع لها حتى آخر أنفاسها وعندما جلسوا في صالون المنزل كانت نبرتها العاجزة تخبرانه:

- وإيه اللي يضمنلي تحافظ عليها تاني يا جاسر ؟
نظر للتي تلبست الصمت فصار ردائها وقال مطمئنا بصدق، فالكبرياء والعند لن ينقذانه:
- عشان أنا أول حد اتجرح يوم ما فرطت فيها وجرحت ولادي معايا وعندما شعرت أمها بالراحة أخيرا انتفضت هي وقالت بعنف لا مبرر له:
- ماما لو سمحتي سيبينا لوحدنا شوية هزت مجيدة رأسها بإذعان وقالت:
- هسيبكم براحتكم وربنا يهدي سركم وقف جاسر احتراما لها وكانت هي متجمدة بمكانها وعيناها كالصقر فوق رأسه فابتسم لها وقال:
- حاسس زي ماكون تلميذ مستني العقاب ولم تنال البسمة من شفتيها ولا حتى بملمح ساخر كما كان يأمل على أقل تقدير ولكنها هزت رأسها وقالت مقرة:
- فعلا، أنت ليك عقاب ولسه ما أخدتوش، أوعى تكون افتكرت أنه اتضحك عليا بالكلمتين الحلوين اللي طمنوا قلب مجيدة، أنا اللي عاشرتك وأنا اللي عارفاك أكثر من أي حد تاني فتنحنح قائلا:

- بس أنا اتغيرت يا سالي هزت رأسها وقالت بنفي قاطع:
- لاء ما اتغيرتش، ده اللي انت بتحاول توهم نفسك بيه وبالتالي ماليش حجة فتنهد قائلا:
- تفتكري لو ماكنتش اتغيرت كنت جيت لحد عندك واعترفت قدام والدتك بغلطتي فابتسمت وتلك المرة بملامح سخرية خالصة:
- ده مجرد تنازل وقتي عن غرور متأصل فيك زي الشجرة اللي جدرها ضارب السابع أرض فتغضنت ملامح وجهه بالألم:
- يا اه للدرجادي أنا كده أقرت بهدوء قاس حاسم:
- وأكتر . أنت بس مستني أرجع وهترجع أنت كمان- جاسر العنيد اللي مافيش حاجة ترضيه غير دماغه الناشفة واللي عشانها يعمل أي حاجة في أي حد والمبررات موجودة ومقنعة لیه هوا لوحده وده لوحده كفاية فقال معترضا:
- وولادنا وأخواتي وأنت؟!
رفعت له سبابتها وقالت:

- صح، کده الترتيب تمام مظبوط بالحرف وأنا اللي في الآخر ثم ابتسمت بل وضحكت وقالت هازئة:
- وتقولي اتغيرت ! فهز رأسه نافيا وتقدم نحوها بجسده وجلس في المقعد المجاور لها وقال بصوت خفيض وهو يعلنها لأول مرة بوضوح:
- لأن دول تكويني وأنت جزء لا يتجزأ من تكويني اللي مالهوش أي ترتيب مجرد ضلع بنقص . . . . . . . وهز رأسه بتيه استشعره لمجرد الفكرة بخاطره وقال بعدها هامسا بصوت متحشرج:

- . . . . . . يعني ضياع لين اجتاح ملامح وجهها واستطاعت السيطرة عليه في غضون ثوان بقسوة رسمتها بوضوح على معالمه وقالت بغتة:
- الشرط الأول رجوعنا صوري، على ورق مالكش عندي أي حقوق زوجية ولم تبالي بمعالم الألم المندهش لقسوة كلماتها التي تخبره أنها ماعادت تطيق قربه ولا حتى لمسته وتابعت بنفس النبرة الجامدة- الشرط التاني هفضل اشتغل ومش هسيب شغلي تحت أي ضغط مهما كان وصمتت وهي تراقب ردة فعله ولكن وجهه تحلى بقناع مظلم متماسك كلماتها فقال ببرود متسائلا:

- والشرط التالت؟!
 تعالت دقات قلبها وهي تسرده عليه وعقلها لمجرد فقط الخيالات التي تغتاله جعل من التنفس أمرا مستحيلا:
- هرجع أعيش معاك في القصر بشرط العفش كله يتغير لم تشعر يوما بضرورة تلك الأمور التافهة بأنظارها فهي مجرد جمادات خشبية لاروح فيها ولا حياة ولكنها الآن باتت تحمل لمسات أخرى تنقلت بين جنباتها ووضعت معظمها بغرفة نومها وعلى جسده الذي أصبحت لا تطيق الاقتراب منه حتى حملت بأحشائها جنينا لاذنب له سوى أنه كان نتيجة لتقارب حميمي يشعل النيران بوجدانها كلما يمر واقعه بطيف خيالها كان ينظر لها أو بالأصح يراقبها وسادت فترة صمت طويل بينهما حتی قطعه قائلا:
- خلصتي شروطك ؟

فهزت رأسها بإذعان وهي لا تقوى على الحديث عندها قال:
- أنا هنفذلك كل شروطك ياسالي بس عاوز أعرف ليه موافقه ترجعي وأنت حتی کارهه لمستي؟!
وترقرت الدموع بعيناها حتى قالت بصوت منکسر:
- لأنك ماكرهتش لمسة غيري فهز رأسه متفهما وقال بعد برهة:
- وده عقابي مش كده فهمست بغل مشتعل بقلبها رغما عنها:
- ویاریته كان كافي وعندها هم بالانصراف وعدل من سترته قبل أن يختفي وقبل أن تعالجه هي بضربة أخرى لم يحسب حسبانها:
- معتصم هيكون وكيلي فالتفت لها وقال مغتاظا:

- أظن كده كفيتي ووفيتي يابنت محسن الطيب فابتسمت ساخرة منه:
- ماقولتلك ماتت وأنت اللي دفنتها فهز رأسه نافيا:
- مهما أعمل، هتفضل كل ذكرى حلوة جواكي سيبهالك هيا اللي تسيطر عليك لآخر وقت وعاد والدها لحياتها مقتحما فهو لن يترك وحيدته في مهب رياح الحياة بمفردها وإن رفضت الاقتران بآخر فلا بأس فسيظل هو يحاوطها وصغارها بالرعاية رغما عن رأسها العنيد وتلك المرة استجابت لتدخله بغير اعتراض بل أطاعته عندما أخبرها بضرورة ترك الكبير يخوض دراسته فيما وراء البحار كما يشاء فهي لن تستطيع حبسه البقية المتبقية من عمره حتى وإن بذلت في سبيل ذلك كل الطرق وأن قلقها لن يتلاشي ولن يندثر حتى وإن كبر في أحضانها فالأفضل أن تدعه يشق مستقبله كما يشاء وهمس لها باعتذار متأخر:

- ماتكرریش نفس غلطاتي معاكي يادرية، سيبي الولد يشوف مستقبله وأقلعت الطائرة نحو الأراضي الألمانية ليدرس كبيرها الهندسة التي وقع بغرامها كأبيه ومضت هي بخطوات متثاقلة برفقة أبيها وصغيرها والأوسط نحو الخارج وارتطمت أبصارها بالعائد لتوه من شهر العسل برفقة عروسه الفاتنة التي تتبطأ ذراعه وهتف بها غير مصدقا:
- مدام درية ! فاقتربت منه مهنئة رغم الدموع المحتبسة بعيناها لفراق ابنها:
- أزيك يا زياد . . ألف مبروك مد يده ليصافحها والتفت لأشري وقال:
- مدام درية كانت مديرة مكتب جاسر فهزت آشري رأسها وابتسمت لها:
- أخيرا اتشرفت بيك سالي مالهاش سيرة غير عنك فعقد زیاد حاجبيه وقال بإندهاش:
- سالي؟!

تنحنحت درية وهي تلتفت لأبيها الذي ينتظرها على مقربة منها وقالت:
- أنا أصلي سيبت الشغل من فترة مع جاسر وحاليا بساعد سالي في المركز الخيري فالتفت لآشري قائلا:
- آه، واضح أنه في تفاصيل كتير فاتتني وأنا مسافر ورفع يده ليحي أسامة الذي كان ينتظره ليقله هو وعروسه لبيتهما والذي تفاجيء بوجود درية بصحبتهما فاقترب منهم بخطوات حذرة مخافة أن يثير ضيقها قائلا بصوته الرخيم العذب:

- حمدالله على السلامة فتوترت خجلاتها إذ تبعثرت النسمات حولها بذبذبات صوته الذي لم تنساه يوما والتفتت رغما عنها وعيناها تبحثان عن أبيها الذي قرر ولسوء حظها التقدم والتعرف على صحبة ابنته الغامضة كم من الوقت مر یا ترى ؟

سؤال لم تجد له إجابة شافية وهي ساكنة في سيارة والدها والذي كان يثرثر لوقت مع حفيديه مسترجعة لحظات اللقاء المشحون الذي عاشته منذ قليل ربما تحدث الجميع وبالأخص والدها الذي اندفع لتهنئة العروسين بعد أن علم الصلة التي تجمعهما بابنته ولكنها هي وهو أيضا كانا ساكنين وبعتاب عيناه تاهت وهي العنيدة المتشبثة برأيها وقراراها أيا ما كان حتى لو كن خاطئا وهي تعلم علم اليقين أنها مخطئة والسيء أنه أيضا يعلم والأسوء بنظرها أنه لن يتحرك ليثنيها عن رأيها وكم تمنت لو فقط تحرك تلك هي الأنثى أحيانا تغضب حينما لا تؤخذ على محمل الجد وتغضب بحق إن أخذت.

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة