قصص و روايات - قصص رومانسية :

رواية لخبايا القلوب حكايا للكاتبة رحمة سيد الفصل الخامس عشر

رواية لخبايا القلوب حكايا للكاتبة رحمة سيد الفصل الخامس عشر

رواية لخبايا القلوب حكايا للكاتبة رحمة سيد الفصل الخامس عشر

بدأت كارما تهز رأسها نافية بهيستيرية، وقع الصدمة كان كمغناطيس سحبها لاتجاه معاكس فجأة حتى اصطدمت به بضراوة وتفتت كل خلية بها مسببة لها وجع لا يُحتمل.

لا يمكنها أن تتحمل هذا الغدر منه، لا تستطع. بدأت تتنفس بصوتٍ عالٍ، أنفاسها ثقلت جدًا، وكأنه مفعول ذلك السكين البارد الذي غرزه ممزقًا احشائها ببطء مثير للشفقة!

ليته نحرها على الفور سالبًا منها الحياة، ولكنه لم يفعل. هو وضعها في بقعة أطلاها باللون الوردي بأكاذيبه وتصرفاته، ثم دون مقدمات أكتشفت أنها في معقل ذبحها؛ ولكنه كان قد غرز سكينه بها وانتهى الأمر!

سقطت ارضًا وهي تشهق فجأة بعنف باكية كأنها تحاول إلتقاط أنفاسها، تبكي بانهيار خذلانها وصدمتها. تبكي قلبها الذي لم يلتفت لصوت عقلها حين حذرها من وجع وبصمة مؤلمة اخرى ربما ستُصيبها بعد الانسياق خلف مشاعرها.

ثم بدأت تهذي بهسيس خافت: -ليه؟ ليه عمل كده، ليه بيحصل معايا كده، ليه مكتوب عليا الوجع والقهرة!
ولا تجد اجابة يمكنها أن تهدئ لظى النيران الذي تشعر به.
فهزت رأسها مرددة بلسانٍ ثقيل مُخدر من فرط الألم: -الحمدلله، أكيد خير. الحمدلله يارب.
ثم تكورت في وضع مشابه لوضع الجنين، تضم قديها لصدرها بقوة، وفشلت في كبح سيلان دموعها...

على الطرف الاخر...
كان عيسى جالسًا على كرسي جوار شقيقه حازم، السيجارة بين أصابعه يخنقها بفعل شياطين الغضب التي تتردد على صدره ك كهف مهجور، ورغم أنه أقلع عن التدخين، إلا أنه لم يجد سواه منفث لغضبه وقهره الذي لم يسعه صدره المنقبض.!

شعور أنه مُرغم على شيء، وهذا الشيء ينسل أوردته نسلًا ببطء، قاسٍ. قاسٍ جدًا وأكبر من قدرته على كتمه.

اقترب منه حازم الذي وضع أمامه كوب الشاي وهو يهتف بهدوء متسائلًا: -مش هتقولي برضو إيه سبب المشكلة اللي بينك وبين كارما؟
أجاب عيسى بملامح مقتضبة وحروف ملكومة: -مش عايز أتكلم في الموضوع ده يا حازم.
هز حازم رأسه مستنكرًا: -بس أنا لازم أفهم في إيه مبقاش زي الأطرش في الزفة، فجأة تسيب مراتك اللي وقفت جمبك وكانت معاك يوميًا في القسم وتقول إنك هتطلقها وتيجي تقعد معايا.

ثم اكمل بتلقائية في استهجان ساخر دون أن يعي: -ماطردتهاش من الشقة ليه بالمرة بما إنك قلبت عليها؟!
رمقه عيسى بنظراتٍ مهتاجة عارمة بالغضب الذي جعله يستدرك ذلة لسانه ويتراجع مغمغمًا بخفوت: -أنا أسف يا عيسى مش قصدي، أنا بس مستغرب أوي ومش لاقي تفسير.

هدر فيه عيسى ولأول مرة لا يكبح غضبه مراعاةً لعمر شقيقه الصغير الناتج عنه هذا التهور: -مش لاقي تفسير لأيه! الشقة هي كده كده هتسيبها، وأحنا مش متفاهمين ومحصلش نصيب وهنتطلق، إيه اللي صعب الفهم في كده؟ هي عشان وقفت جمبي يبقى لازم نعيش مع بعض حتى لو محصلش تفاهم ولا إيه؟
هز حازم رأسه نافيًا وهو يخبره صراحةً: -لا يا عيسى مش لازم، بس ماكنش باين كل ده، بالعكس كانت خايفة عليك، وباين عليها كويسة.

-الظاهر مش كل حاجة يا حازم.
تمتم بها بنبرة اكثر انخفاضًا وعاد لشروده من جديد، لا يدري حتى أيقصد بنفسه تلك الجملة ام هي.!

انتبه لحازم حين سأله من جديد، سؤال أكثر قسوة ومرارة عن سابقه: -يعني خلاص هتطلقها؟
اومأ مؤكدًا برأسه، والاجابة شعر بمرارتها كالعلقم وهي تتحرر من فمه: -ايوه، لازم.
-ربنا يعوضك خير.
قالها حازم وهو يتنهد بقلة حيلة وضيق حقيقي، فهو ظن أن عيسى اخيرًا وجد السعادة فاتحة له ذراعيها واعدة إياه بحياة وردية هنيئة جديدة مع كارما، ولكن يبدو أن الظاهر ليس كل شيء كما قال...

مرت أيام قليلة، كانت كارما تعزل نفسها بالشقة، لم تخرج تقريبًا سوى مرة او مرتين لزيارة والدتها، وكأن الدنيا صغرت بعينيها كثيرًا. حتى لم تعد تراها، فقط ترى نقطة سوداء، ولم تعد تستيغ مذاقها الذي صار كالعلقم.

كانت تغط في نومٍ عميق تهرب به من واقع قسى عليها كثيرًا، حين دخل عيسى المنزل على أطراف أصابعه، بحث بعينيه عنها فلم يجدها كما توقع، فهو تعمد المجيء بوقت متأخر جدًا يضمن به أن تكن نائمة.

دلف للغرفة التي تنام بها، وجدها تفترش الفراش بعشوائية كما اعتادها، ابتسامة حنين صغيرة بلا روح كانت تحلق على ثغره، واقترب اكثر حتى جلس على ركبتيه أمام الفراش مباشرةً، وجهه يُقابل وجهها، مد يده بأصابع مترددة ليمسك بخصلاتها الناعمة وقرّبها من أنفه مغمضًا عينيه يتشمم رائحتها المُسكرة بلهفة عاشق مزقته لوعة الاشتياق.

ابتعد بعدها وبطرف إصبعه كان يتلمس قسمات وجهها البريئة التي يعشقها، اشتاقها واشتاق كل إنش بها حد الجنون، حتى فقد السيطرة على تلك اللوعة المُهلكة وخاطر بالمجيء لهنا كي يراها ويطفئ لهب الشوق الذي اشتعل داخله.
همس بصوت خافت يطن به الألم: -أنا أسف يا كرملة، أسف يا حبيبتي.

ثارت بالشوق واللهفة دماؤه التي بردت كثيرًا مؤخرًا بصقيع البُعد، وإندفعت عواطفه التي عذبته في بُعدها، فاقترب بوجهه من وجهها ببطء، وعيناه مُسلطة على شفتيها التي كانت اكسير الحياة بالنسبة له. فقط قبلة سيأخذها ويغادر لأنه يعلم أنه لن يستطع اخذها وهي مستيقظة مرة اخرى!

واخيرًا مست شفتيه شفتاها، بين شفتاها راحته. جنته على الأرض، قبلها بنهم عطشان وجد بعد مُعاناة ما يروي ظمأه.

ثم اجبر نفسه على الابتعاد مسرعًا كيلا تستيقظ، ثملًا من فرط حلاوة مذاق تلك القبلة التي شابهت النبيذ.
وهمس بصوت متهدج: -وحشتيني، وحشتيني أوي وحاسس إني هتجنن من غيرك.
غاصت عيناه من جديد في كل إنش من ملامحها، وخرت حروفه صارخة بالوجع والقهر وهو يقول: -صعب أوي إني أحرم نفسي منك.
ثم نزع نفسه نزعًا من جوارها، شعوره شابه سلخ الجلد عن الجسد، وروحه فارقته متشبثة بها تأبى الفراق من جديد.

وغادر ثقيل القلب والروح كما أتى، لم تخفف رؤيتها ما على عاتقه، بل أشعرته بفجوة الاشتياق الكبيرة التي تركتها كارما في روحه.

استيقظت كارما بعد قليل، تأثبت وهي تمسك هاتفها متفحصة إياه بعشوائية، ثم توجهت صوب المرحاض، وفي طريقها رأت قطعة ملابس لها موضوعة على المنضدة، زاغت عيناها من حولها سريعًا في شك، وعقلها يسترجع اللحظات التي وضعت بها الملابس، ولكنها لا تستطع التأكد من ذلك. ذاكرتها لا تسعفها.

دارت في الشقة مسرعة، لا تدري علام تبحث، ولكن الخوف داعب قلبها للحظات، أتت صورة عيسى عقلها فرددت داخلها نافرة
لم يكفي أن سلبها الثقة، بل سلبها بغدره أمانها ايضًا!

بعد فترة...
جلست كارما جوار فيروز التي أتت لتزورها، فتفاجئت بصدمة جديدة على رأس كارما المسكينة التي كانت ملامحها خاوية الروح.

أنهت كارما حديثها وهي تتمتم بصوت شاحب كشحوب وجهها: -وماقولتش لأي حد اللي حصل، ومش ناوية أقول ولا أسيب البيت، وهقول إنه مسافر في شغل، وكده كده أنا معايا فلوس جمعية وهنزل اشتغل، لحد ما تعدي فترة وهعلن الطلاق، اصل تفتكري الناس هتقول إيه لما أتطلق بعد أقل من شهرين جواز؟ مش بعيد يقولوا مش مستحمل العاهه المستديمة اللي عندها.

هزت فيروز كتفاها قليلًا وهي تردف بصلابة ظاهرية بينما عيناها ترصد الشرخ الواضح الذي أصاب كارما: -عاهة إيه! اتلهي، طب والله لو أشوفه بس أنا اللي هعمله عاهه مستديمة، ولا يهمك يا بت، إيه يعني. يروح قرد يجي غزال.

إلتوت شفتاها بشبح ابتسامة غادرها سريعًا وهي تتشدق بشيء من الشرود: -بس أنا مش عايزه غزال يا فيروز، أنا كنت عايزاه هو.
لوت فيروز شفتيها بتبرم معترضة: -ما أنتي عشان طول عمرك بومه وبتحبي القرود.

ولكن نغمة الألم والانصهار التي صدحت من كارما، جعلت المرح يتحنى جانبًا على الفور: -أنا تعبت يا فيروز، تعبت بجد، تعبت وأنا بقول لنفسي أكيد ربنا هيعوضني، صبرت لما حبيته وهو مش شايفني، وصبرت لما اتجوزته وهو متفق معايا عشان مصلحته، وصبرت وأنا حاسه إني أقل من إني أكون مراته، بس المرادي مش قادرة أسكت وأصبر، بحاول بس والله ما قادرة.

لم تنطق فيروز وتركتها تفرغ ما بجبعتها علها ترتاح ولو قليلًا، فراحت تواصل بنشيج بكاء خافت: -حتى لما كنت بقاوم مشاعري، وبقول أنتي مش هينفع تأسسي بيت وأسرة زي أي حد، افرضي خلفتي وجيتي في مرة لاقيتي ولادك ماتوا من غير ما تحسي بيهم، وبرضو ماكنتش قادرة أسيطر على مشاعري وأنساه.

ثم نظرت لها نظرة مفعمة بالألم واستطردت: -ليه أنا اديته كل الحب، وهو اداني كل الخذلان والوجع.
تنهدت فيروز قبل أن تضيف بلهجة حاولت أن تضفي عليها الفكاهه رغم افتقادها له حاليًا: -في مقولة بتقولك، او لا مش مقولة هي هبدة قريتها على الفيسبوك بس عجبتني، المهم. بتقولك إيه ياستي؟ إن أنتي بتشوفي الوحش وبتعاني، عشان لما يجي الشخص الصح تحسي بحلاوة الشعور والفرحة دي وبقيمته.

ضحكت كارما رغمًا عنها على طريقة فيروز، فصفقت فيروز بحماس قائلة: -ايوه كده يا شيخه اضحكي اضحكي ربنا يولع فيهم بجاز، اللي مبناخدش منهم إلا النكد.
-اه والله.

تمتمت بها كارما وهي تهز رأسها مؤكدة، فاسترسلت فيروز بدهاء ويقين يصل أطراف حروفها: -وبعدين يا هبلة تزعلي ليه، كل حاجة الانسان بيعملها في حياته بتتردله سواء حلوة او وحشة، بكره هيعرف قيمتك وهيرجعلك زي الكلب، بس ساعتها في مثل شهير عايزاكي تفتكريه كويس، ولا بلاش المثل عشان ما أخدش حياءك، المهم يا حبيبة قلبي تخليه يلف كده حوالين نفسه عشان ترجعيله وأنتي تقوليله لأ، ماذا وإلا، وديني يا كارما لو حصل غير كده لأفضحك.

اومأت كارما مؤكدة بسرعة وهي تحتضنها ضاحكة، دومًا هي الركن المُريح في حياتها وصندوق اسرارها، ومطلع حلول مشاكلها ايضًا.

قطع تلك اللحظات صوت هاتف فيروز الذي صدح معلنًا وصول اتصال، أمسكت به فيروز وأجابت بهدوء، وبعد دقيقة من الصمت هبت واقفة وهي تردد: -أنا جايه على طول.
ثم أغلقت الخط وهي ترتدي ملابسها مسرعة، فأوقفتها كارما، تسألها متوجسة: -في إيه يا فيروز؟
أجابتها فيروز متعجلة: -زينة اختي وقعت ورجليها تقريبًا إتكسرت وودوها المستشفى.

هبت كارما كالملسوعة هي الاخرى وهي ترتدي ملابس الخروج على عجالة: -يا خبر ابيض، خير ان شاء الله ماتكونش كسر.
وبالفعل توجهتا مسرعتان صوب المستشفى التي إلتحقت بها شقيقتها، وحين كانت فيروز في الطريق اتصل بها فارس فأخبرته مسرعة بما حدث.

وصلتا المستشفى، وخرج الطبيب لتسأله فيروز عن حالة شقيقتها: -ها يا دكتور طمني؟ كسر ولا؟
زم شفتيه في أسف معلنًا: -للأسف كسر وهتحتاج شريحة ومسامير.
أغمضت فيروز عيناها وهي تتمتم بصوت مكتوم: -لا حول ولا قوة الا بالله.
ثم فتحت عيناها متنهدة وهي تسأله بثبات: -هتتكلف كام العملية يا دكتور؟
صمت لثوانٍ وكأنه يحسبها برأسه، ثم أجاب بنبرة دبلوماسية: -تقريبًا كده 30 ألف.

صُمت اذان فيروز عن كل شيء حولها وتجمدت وهي تفكر متخبطة. من أين ستحصل على هذا المال؟

هزت رأسها دون معنى، فاستطرد الطبيب بهدوء: -ظبطي دنيتك وانزلي الاستقبال تحت لو هتعملها.
ثم استأذن وغادر تاركًا فيروز التي صارت في مأزق حقيقي تجهل كيفية الخروج منه، فيما اقتربت منها كارما متابعة بصوت حزين وملامح مكفهره: -والله يا فيروز أنتي عارفة فلوس الجمعية اللي معايا ما هتكفي، بس متقلقيش أكيد هنتصرف ونحلها باذن الله.

ربتت فيروز على ذراعها بابتسامة خافتة: -انتي ف إيه ولا ف إيه، إن شاء الله.
بعد قليل، أزهرت فيروزتاها برؤية فارس الذي لم تتوقع مجيئه، اقتربت منه وهي تغمغم بأسمه بتلقائية ودمعة فرت من عينيها بيأسٍ جلي، كطفلة وجدت من تقص عليه شكواها اخيرًا: -فارس.
مستسلمًا لعفويته كان فارس يمسك ذراعيها متسائلًا بنوع من التوجس: -إيه في إيه يا برتقانة بتعيطي ليه؟

اجابته بصوت مختنق: -زينة لازم تعمل عملية المسامير وأنا معيش فلوسها.
زفر متعمدًا بصوتٍ مسموع وهو يقول براحة: -بس كده، يا شيخه خضتيني خير ربنا كتير.
دون انتباه لما قال، وكأنها في عالم آخر تجهل فيه المنقذ من براثن الفقر، أردفت بقلة حيلة: -بقالي ساعة بفكر هتصرف ازاي بس مش عارفه مش عارفه حتى لو خدت سلفة من الشغل مش هتقضي.

عقد فارس ما بين حاجبيه منزعجًا من تجاهلها لدوره في حياتها، ولكنه بسط ما يدور بعقله بصورة مرحة حين تشدق: -عيب والله عيب هذا الكلام، ده أنتي لو ماضية عقد جواز مع كيس شيبسي هيكون في عشم بينكم اكتر من كده.

ضحكت رغمًا عنها ولا تنكر انشراح صدرها التلقائي، وكأن وجود داعم لها يكفي لتطمئن وتهدئ قلة حيلتها، فمسح فارس دموعها المتسربة، بإصبعه برقة وهو يداعبها: -ايوه كده يا شيخة بلاش كآبة اضحكي متبقيش عيوطة.
نهرته بحنق كطفلة في السابعة: -أنا مش عيوطة أنا سترونج اندبندت وومان بس ضعفت شوية.
حرك حاجبيه معًا وواصل مشاكستها: -استرونج اندبندت عيوطة.
-أنا مش عيوطة.

قالتها بعناد، فداعب انفها بأنفه وتابع بعبث صبياني لذيذ: -احلى برتقانة تعيط والله.
تبسمت فيروز على استحياء وعادت خطوتان للخلف وهي تتنحنح قبل أن تقول مغيرة مجرى الحديث الذي لم يعد يعجبها: -بس ع فكره ده سلف وهرجعها من مرتبي.
اومأ مؤكدًا بجدية زائفة: -طبعًا، ولو مادفعتيش هاخد كِليتك متقلقيش.

بعد مرور يومين...
تكفل فارس بدفع مصاريف العملية لزينة شقيقة فيروز، وسط امتنان فيروز الذي لم تستطع حرمانه من التلويح من جام ملامحها.
وبالفعل تمت العملية لزينة، ورافقتها فيروز لمنزلهم ترعاها باهتمام، ولم يبدِ فارس أي اعتراض، بل أحب ذلك الحنان الذي يتدفق منها وتمنى لو كان محل شقيقتها تغمره باهتمامها وحنانها هكذا!

جلست فيروز على الفراش في الغرفة التي خُصصت لها في منزل فارس، شردت فيما كادت تفعله منذ أيامٍ قليلة، حين أخذت ذاك الورق وقت سفر فارس.

تحمد الله أنها لم تفعل وتدمره مستغلة ذلك الورق وأعادته لمكانه كما أخذته، وإلا ما كانت ستسامح نفسها بعدما رأت هذا الوجه اللين العطوف الذي احتواها.

طُرق باب غرفتها فنهضت لتفتحه، ووجدت الطارق فارس الذي ابتسم لها برقة قائلًا: -قولت أعدي عليكي بما إنك رجعتي وأشوفك عامله إيه، وزينة بقت تمام؟
هزت رأسها بابتسامة حلوة مشابهه لخاصته وردت: -الحمدلله زي الفل بتتحسن واحدة واحدة.
هز فارس رأسه متمتمًا: -طب الحمدلله.
وكاد يستدير ليغادر، لولا يد فيروز التي إندفعت ممسكة بذراعه لتوقفه هامسة: -فارس استنى.

نظر نحوها من جديد، خاصةً لكفها الصغير الناعم الذي يمسك ذراعه، هذا أول تخطي للحاجز الذي تبنيه لنفسها دومًا نحوه!

داعبت شفتاه ابتسامة صغيرة ولم ينطق في انتظار ما ستقوله، فتنحنحت فيروز وببطء وحركة غير محسوبة كانت تمسك بكف يده بكفيها، فاستشعرت رجفة المفاجأة التي أصابته للحظة، قبل أن تسترسل بخفوت: -شكرًا على وقفتك جمبي متحرمش منك يارب.
شعر وكأن دقات قلبه صارت كالمفرقعات ضجت معلنة احتفال ضخم بتطور ملحوظ في علاقتهما لم يحسب له حساب.

ولكنه احتوى فرحته داخله ولم يلقيها خارجًا، بل استطرد بذهول مصطنع يشوبه المرح: -إيه ده إيه. أنتي لمستي ايدي!
تمتم فيروز بعفوية قاتلة: -إيه في إيه عندك جرب ولا إيه؟!
ضحك فارس بأريحية: -جرب! لا يا هانم، أنتي لازم تصلحي غلطتك.
عقدت ما بين حاجبيها بعدم فهم وهي تسأله: -اصلح غلطتي ازاي يعني؟

وبحركة مباغتة، كان يدفعها بجسده نحو الداخل، ويحيط بوجهها بين كفيه العريضين، وما أن همت بالاعتراض، حتى ابتلع اعتراضها بشفتيه التي غطت شفتاها الكرزية، لاثمًا إياها بشوق كان يوخزه وخزًا مطالبًا إياه بتذوق شهد شفتاها.

تصنمت هي مكانها للحظات تحاول الاستيعاب، ولكنها مشاعرها كانت الأسرع في الانسجام مع ذلك الاعصار العاطفي، ولم تنفر بل ذابت متلذذة وشفتاه تعبث بمشاعرها وتفعل بها الأفاعيل.

ابتعد فارس بعد ثوانٍ، وأحاط خصرها بتملك، هامسًا بصوت خشن مثخن بالعاطفة: -اخيرًا دوقت البرتقانة.
لم تقل صدمة فيروز التي أخذت ترمش عدة مرات وكأنها تتأكد إن كانت بحلم ام لا، فقال فارس بعبث: -ده عشان شفايفي ماتغيرش من ايدي بس، يرضيكي تغير؟
هدرت ببلاهه: -أنت بتقول إيه؟!

فتابع بنفس العبث الشقي وكأنه عاد صبي وهذا جديد على شخصيته الجادة الصارمة التي عرفتها دومًا: -اه معلش كله إلا العدل والمساواة احنا بنتشعبط في رضا ربنا.
دون تفكير سوى في الهروب من ذلك الموقف الذي جعل وجنتاها تصبح كحبة طماطم، كانت تدفعه مسرعة وتغلق الباب مستندة عليه بظهرها، تسمع ضحكاته الرجولية المجلجلة لأول مرة، وتتلمس بإصبعها شفتاها دون وعي ولازالت في غمرة تلك المشاعر الهائلة.

كانت كارما على فراشها، ممسكة بهاتفها تقلب به بلا هدف، تتعمد السهر لوقتٍ متأخر بعد أن انتابها القلق حيال امكانية دخول أي شخص الشقة بما أنها صارت تعيش بمفردها.
تنهدت وهي تغمض عيناها مفكرة رغمًا عنها بمن حرمها الراحة والأمان!

ولم تنتبه للذي دخل المنزل على أطراف أصابعه، حريص ألا يصدر أي صوت، دخل لغرفتها، فشعرت هي بوجوده، اضطربت أنفاسها واشتدت جفونها التي تتظاهر بالنوم، حتى اقترب منها وصار قرب فراشها، فمدت يدها مسرعة تمسك بالسكين الذي وضعته اسفل وسادتها، وترفعه بوجهه مسرعة، ثم شهقت بفزع حين كتم فمها بيده و...

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة